الأثنين 1431-09-20هـ
الموافق 2010-08-30م
الدكتور سعيد بن عطية أبو عالي
غازي القصيبي رائد لم يخذل أهله
«أحسن الله عزاءك في غازي القصيبي» هكذا تلقيت العزاء فيه من صديقي المغربي العلامة الدكتور عبدالهادي التازي.. الموت حق على كل إنسان.. وغازي الذي فقدناه كان إنسانا «يأكل الطعام ويمشي في الأسواق» إلا أن عمله وتعامله وإبداعه يرتقي به في بعض الأحيان إلى درجة الإنسان الخارق, وزير يكتب رواية, ومسؤول ينظم شعرا, ورب أسرة يرعى أبناءه وأحفاده, لقد عاش حياة واسعة على امتداد الوطن.
أخلص لدينه وبلاده وقيادته, عمل وزيرا مع ثلاثة ملوك.. في كل مرة كان «غازي» مثال الوزير المحب لوطنه, تشاهد الوزير غازي فتذكر أولئك الوزراء الأفذاذ الذين عملوا مع الخليفة (المأمون) في بغداد أو مع (الناصر لدين الله) في الأندلس، يقضي الساعات الطوال يوميا مع العمل ولا ينقطع عن المطالعة والإبداع في ذات الوقت, وأذكر أنه عندما تولى الوزارة لأول مرة (وزيرا للصناعة والكهرباء) أن صديق صباه الشاعر البحريني عبدالرحمن رفيع بعث إليه قائلا وما علاقة الشعر بالكهرباء فأجابه الوزير المفكر: الكهرباء مثل الشعر فيها حرارة!! وفي كل مواقع عمله حرص القصيبي أن يلبس الكرسي الذي يشغله والعمل الذي يؤديه بلباس الثقافة والإبداع, وأنا هنا أرثي إليكم رجلا أحببته لإخلاصه ونزاهته وتواضعه مما جعله كبيرا في نظري وفي نظر غالبية المواطنين, وهذا ما يجعلني أصفه دائما بأنه «رائد لم يخذل أهله». سمعت عن الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي عندما كنت طالبا في أمريكا عام 1393هـ, وذلك عندما عاد إلينا زميل من إجازته الصيفية فسألناه عن (الجديد) في الوطن فقال إن سمو الأمير فهد بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء آنذاك (ملك البلاد فيما بعد – رحمه الله -) قرب إليه نفرا من أساتذة الجامعات ليستشيرهم في بعض أمور الدولة وذكر منهم الدكتور غازي القصيبي.. عرفنا أنه درس في البحرين وفي مصر وفي أمريكا وتخرج في بريطانيا.
قابلته لأول مرة أثناء محاضرة له في جامعة الملك فيصل بالدمام ليحاضر عن التنمية. وجهت إليه سؤالا من (شقين) فيما يتعلق بالمشروع الوطني للتنمية وعن مدى ثقتنا في أبناء الوطن ليساهموا في تنفيذ خطط التنمية.. وانطلاقا من حسن تعامله مع من حوله قال لي سؤالك من شقين لأن الاختبارات لديكم يا أهل التربية من (دورين) دور أول ودور ثان وكان ذلك على ما أذكر في عام 1399هـ. في صيف العام نفسه توجهت مع ولدي محمد وعبدالله إلى الطائف وبين المستقبلين كان يقف العملاق غازي القصيبي: سلمت عليه مداعبا لماذا تقف مع الفقراء إلى الله في هذا المكان»؟ مفروض أن أراك بسيارة فارهة عند سلم الطائرة فقال مبتسما: جئت أستقبل ابني سهيل وهي فرصة نعرفه على ابنيك محمد وعبدالله.
عام 1400هـ, على ما أذكر هاتفني يطلب مساعدتي في الاتصال بمواطن لقبه (الغامدي) الذي زاره في مكتبه يشتكي ابن عمه الذي أقام مصنعا صغيرا على أرض العائلة.. فنصحه الوزير القصيبي بأن يتصالح مع ابن عمه لأن إقامة مصنع يمثل خطوة في سبيل خدمة الوطن, ولكن المواطن الشاكي بعث برقية مطولة إلى جلالة الملك خالد – رحمه الله – يشكو فيه الوزير القصيبي على تواطئه مع ابن عمه, وبالرغم من هذا طلب مني (غازي) أن أقنع ذلك المواطن بأن إقامة مصنع سيعود عليه وعلى ابن عمه بالخير وأن المشروع في ذاته يمثل خدمة للوطن.
وفي عام 1417هـ، تقريبا نظمت جمعية المعاقين بالمنطقة الشرقية محاضرة عامة للدكتور القصيبي ودعاني الأستاذ سعيد احمد السبتي لتقديم المحاضر والمحاضرة.
قدمته للناس من خلال قصائده المتفرقة في دواوينه.. حيث وجدت أفكاره تتناغم مع سلوكه في عمله (حب للوطن, ثقة بالمواطن, التزام بالثوابت, وتطلع إلى المستقبل) فوصفته بأنه «رائد لم يخذل أهله».
دعاني مع صديقه الشيخ سعيد غدران لحضور حفل زواج ابنه (سهيل) في البحرين وقالت بطاقة الدعوة إن استقبال المدعوين الساعة الثامنة والنصف وينتهي في تمام العاشرة والنصف مساء.
وصلنا القاعة وكان هو وابنه سهيل وآخرون على بوابة القاعة لاستقبال الضيوف والحفاوة بهم, دخلنا القاعة الفسيحة وكانت تعج بالناس وقوفا وبينهم مناضد مستديرة منثورة في أرجائها على البساط الأحمر لا زرابي مبثوثة ولا أرائك مرصوصة. وفي أحد الأركان ما لذ وطاب من الطعام, ومن ركن آخر تتطاير رائحة الشواء كل يأكل ما يشتهي ثم يغادر, وقفنا برهة وذهبنا إليه نستأذن في الانصراف, رفض ذلك بقينا وعند تمام الساعة العاشرة أطفئت الأنوار الخارجية وخفضت الداخلية وطلب عشاء له ولمرافقيه, تبادلنا معه الأحاديث.
والشاهد أن هذا الحفل المنظم على قصره (ساعتان فقط) جاء إليه في تقديري أكثر من ألفي شخص بمن فيهم الشيخ عيسى بن سلمان أمير دولة البحرين آنذاك.
في احد احتفالات جائرة الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز للتفوق العلمي حضر القصيبي وكان ضمن البرنامج الخطابي قصيدة للشاعر الدكتور خالد الحليبي وقد تجلى الشاعر إبداعا.. وأثناء حفل العشاء جاء من يطلبني لمقابلة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز, بادرت بمقابلة سموه فقال الدكتور غازي يبحث عنك, ذهبت للدكتور غازي وقال: كيف عرفت الشاعر الذي ألقى القصيدة ومن أين هو؟ أخبرته بأني سمعته في إحدى المناسبات وأيقنت أنه شاعر فقال القصيبي: حقا انه شاعر وأتوقع له مستقبلا كبيرا ولذلك أهنئك.
زرته يوم خميس في منزله في البحرين وأيضا مع سعيد غدران وتخلل الغداء أحاديث متفرقة كنت فيها مستمعا مستفيدا, ولكني وجهت له سؤالين: وقال لي مداعبا متى تتخلى عن دورين وسؤالين؟ فقلت له كأنك مازلت تذكر أول لقاء لنا, قال: نعم وكأنه كان البارحة! سألته عن قدرته على مزاولة مسؤولياته بنجاح كما نرى ومثابرته على الإنتاج الأدبي فقال: ذلك يعود إلى التزامي بجدول زمني يومي لا أحيد عنه فأنا أصلي الفجر حاضرا حيثما كنت ثم اجلس للقراءة والكتابة حتى الثامنة صباحا, وهات سؤالك الثاني فقلت: عندما نشرت روايتك (شقة الحرية) هل سألوك؟ قال: من هم؟ قلت: الذين يسألون؟! فأطلق ضحكة عالية قائلا: نعم وأجبت بأن كل ما في الرواية أصبح في خبر كان، علقت على ذلك مبتسما: والآن أنت ناجح وفي الدور الأول؟
زرته في مكتبه بسفارة خادم الحرمين الشريفين في لندن وكانت الساعة هناك الخامسة بعد الظهر.. وقد سبقني إليه سعادة اللواء يوسف السلوم وسعادة الدكتور صالح المالك فطلب مني السلوم أن أكتب مذكراتي فقلت: الذين يكتبون مذكراتهم هم المشاهير وخاصة من قدموا خدمة متميزة لبلادهم وأنا لست أحدهم.. عندها وضع القصيبي قلمه والتفت إلى وقال: اسمع! كل واحد منا قصة حياته أمانة للأجيال القادمة في عنقه, ولذلك فإنني أطالبك وغيرك أن تكتب عن حياتك للأبناء والأحفاد واترك لهم الحكم على ذلك, وتحولت الزيارة إلى ندوة ثقافية حتى السادسة والثلث. وفي مكة المكرمة قبل بضع سنوات حضر غازي اجتماع القادة التربويين بدعوة من معالي وزير التربية والتعليم الأسبق الدكتور محمد الأحمد الرشيد فسرد القصيبي ذكرياته في المدرسة فقدم خير وصف لأحسن تلميذ وكذلك أحسن تأصيل لرسالة المدرس والمربي.. كان حديثه إشارت إلى خطة شاملة مثيرة لتحديث وتطوير التعليم.. وهكذا تجده دائما مع مبادئه (تنمية للإنسان بالإنسان.. تطويرا للتعليم وسيلة التنمية المعرفية والإنسانية. ثقة في بنات اليوم زوجات المستقبل وأمهات الجيل الصاعد).
الدكتور غازي القصيبي الذي فقدناه تولى مناصب عديدة وترك بصمات لا تمحى في مسيرة التنمية الشاملة في بلادنا, كلنا نذكر شعاره (ألف مصنع) وقد تحقق.. وكلنا يعرف أن الكهرباء وصلت إلى كل هجرة وقرية بل إلى كل بيت.. وكلنا يذكر شعاره الذي كافح حتى مات من أجل تحقيقه وهو «موقع عمل لكل شاب».
هذا الرجل (المبدأ) ألا يحق لي أن أحبه؟
هذا الرجل (الموقف) ألا يحق لي أن أصفه بأنه رائد لم يخذل أهله.
رحمه الله رحمة واسعة, وألهم ذويه الصبر والسلوان..
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
هذا مقال لسعادة الدكتور سعيد أبو عالي في صفحة الراي بجريدة اليوم الصادرة اليوم الأثنين 20/9/1431هـ رثا في فقيد الأمة معالي الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي تغمده الله بواسع رحمته وإنا لله وإنا إليه راجعون .
علي بن حسن