عرض مشاركة واحدة
قديم 12-22-2010, 02:41 AM   رقم المشاركة : 436

 



تقديم
بناء على طلب أبو ياسر وبقية من أشار إليهم من الإخوة الأفاضل يسرني تقديم هذه الحلقة .. مع الإعتذار سلفا عما إذا كان بها تلميح لبعض من السيرة الذاتية لأسرة لها شيء من الطابع الخاص.. إلا أن القصد الأساسي هو الوصف لحياة إجتماعية وتاريخية ودينية لمنطقة من هذا الوطن الغالي قدر لنا أن نعيش بها فترة من الزمن
=======================================

في المشاركة السابقة تحدثت عما كانت عليه بعض جوانب الحياة بمدينة الدمام والظهران وما كان والدي رحمه الله يكابد من أجل الخروج من الكبوة التي نالته في تجارته وأسفاره .. وكان محط رحلته مدينة الدمام حيث استطاع بمؤازرة رجل شهم وكريم قل وجود مثله هو الشيخ : محمد بن قماد من أهالي قرية الباحة (عمدة الباحة في السنوات الأخيرة من حياته 1415) هذا الرجل منح الوالد الدكان الذي أشرت إليه عام 1378 هجرية على أن يتم التسديد مما يكسب .. وكان بمثابة موطئ قدم لقلة الأعمال وقلة النقود .. ومع قلة البيع والشراء إلا أنه كان ملاذا آمنا بالكاد يسد الرمق .. وكان أخي الأكبر صالح بن أحمد يقوم بكل الأعمال التي يتطلبها ذلك العمل وعمره لا يتجاوز الثالثة عشرة .. يدرس كطالب بالمدرسة .. وكرجل مسؤول عن المحل بعد أن ينهي دراسته ظهرا من المدرسة الصناعية .. هنا يكون أغلب وقت الجلوس والمأكل والدراسة حتى أخر االفترة المسائية


بوادر الفرج

أحيانا لا يكون الرزق من المكان الذي تعمل به بل قد يكون وسيلة بتدبير الخالق عز وجل .. ففي تلك الأيام كان يمر علينا الشيخ أحمد بن ثعفود أمد الله في عمره وكان مسؤولا عن الإعلان والدعاية في شركة الكوكاكولا ورئيس الموزعين .. يقوم أحيانا بعملية توزيع المنتج بسيارة مخصصة لهذا الغرض .. ويبدو أنه لاحظ شكل الدكان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع مقارنة بغيره أثناء مروره بالمحلات التجارية .. عندها عرض على الوالد رحمه فرصة وظيفية في نفس الشركة مسؤولياتها أكبر وعملها شاق لكن راتبها ومميزاتها جيدة .. وقد كان الخير والبركة مصدرها توفيق الله عزوجل ثم تلك الخدمة الجليلة التي أسداها الشيخ أحمد بن ثعفود لوالدي حيث تغيربعدها مسار حياتنا تماما ووفق الولد رحمه في الخروج من كل مشاكله المالية وبدأ حياة جديدة من النعمة والبركة ولله الحمد

طبيعة العمل : أمين مستودع الشركة بالقطيف .. والقطيف آنذاك غير مرغوبة لا بالعمل ولا بالسكن .. ومع ذلك يسكنها أعداد هائلة من البشر ( 1380 هجرية ) وبها عشرات القرى وفيها حركة تجارية نشطة تلك العوامل تجعل من تسويق المنتج بها ذا جدوى اقتصادية .. ولذلك كانت ترد للمستودع شاحنات كبيرة تفرغ الحمولات بالمستودع .. ثم تشحن في ناقلات أصغر بواسطة سائقين إلى تلك القرى .. هنا يتم حساب الواردات من المنتج ثم الأعداد المسلمة لكل سائق ومنطقة التوزيع وعند الغروب يجتمع السائقون ويتم تحصيل المبالغ نقدا وإنزال مالم يتم بيعه وكل سائق يخلى طرفه يوميا مشافهة بعد إتمام الحساب .. النقود المعدنية المتحصلة منها تعبأ في أكياس بعدها يتوجه الجميع إلى مدينة الدمام بعد الغروب وفي وسط المدينة يودع الوالد النقود بالبنك العربي .. بعدها تؤخذ الإيصالات إلى مقر الشركة قسم المحاسبة .. وقد تسنت لي أحيانا مساعدة الوالد في كتابة الإيصالات بمكتبه في مستودع القطيف .

الغريب أن كل المتواجدين بالشركة سعوديون ثلاثة حضارم هم المسؤولين بصورة مباشرة عن المصنع : ( سليمان ) أمين المستودع العام و ( محسن ) المحاسب ...والمدير العام حضرمي قليل ممن شاهدت مثله في جديته وأخلاقه وفكره وشخصيته .. إنه الشيخ : عبدالله عمر باخشوين .. والد اللاعب عمر باخشوين .. في تلك الأيام عام 1380 في سنته الأولى من زواجه ومدير أكبر شركة بالمنطقة الشرقية وعمره قد لا يصل الثلاثين وكان يخاطب والدي بأدب واحترام : العم أحمد .. ولقد تسنت لي زيارته عام 1416 إكراما مني لأصدقاء والدي رحمه الله بعد أن عملت موجها في إدارة التعليم .. حيث وصلت إلى مكتبه وسلمت سكرتيره كرت التعريف .. فاستغرب وأخيرا تذكر ذلك الطفل الصغير ( 8 - 10 سنوات ) الذي كان ملازما لولده بالمصنع .. ودار معه نقاش حول تلك الأيام بما فيها من جد وأمانة لصالح أصحاب الشركة .. بينما يتحسر على أن الجيل الحالي من الورثة لم تصلهم معلومات عن تلك الجهود التي قام بها مؤسسوا المصنع .

الشيخ أحمد بن ثعفود له مكانته في الشركة .. والجميع يعمل بإخلاص لا حدود له وأمانة مطلقة ولا حد لوقت العمل .. وصاحبي الشركة ( صدقة وسراج كعكي ) يعيشون بمكة المكرمة لا يحضرون للمصنع ولا يعرفون من عماله سوى أولئك الثلاثة الحضارم .. ويوميا تفرغ في حساباتهم أموال لاتعد ولا تحصى ما شاء الله .. ومع ذلك أجزم بأنهم لا يفقدون هللة واحدة .. بل كل العاملين يعملون فوق طاقتهم

الحياة الإحتماعية في القطيف 1380 - 1382 هجرية

في تلك الفترة كانت تبعد القطيف عن الدمام مسافة ( 18 ) كم غير معبدة والطريق ملئ بالحفر و ( الخفوس ) من تأثير هبوط الأرض الملاصقة للبحر .. نمر أولا على سيهات .. وهي مدينة جميلة على البحر وبها أحياء مشيدة على شكل فلل خاصة بعمال شركة أرامكو .. بعدها تأتي بلدة ( عنك ) التي تقع على راس ربوة رملية .. جميع بيوتها تقريبا مشيدة من أكواخ الصفيح وسعف النخل حيث يسكنها بادية بني خالد أغلبهم يعمل بتكاسي الأجرة ( شفر حمر ) يعني شيفروليه لونه أحمر .. بعدها تبدأ بساتين القطيف في الظهور إذ نجد على مد البصر غابات النخيل تحوي في دواخلها العيون والأبار والمساحات الفاصلة تزرع بها شتى أنواع الخضر والفاكهة .. ولهذا لا نستغرب أن القطيف آنذاك جنة خضراء وبها إكتفاء ذاتي وأغلب سكانها من ذوي الدخل الأقتصادي الجيد سواء العاملين بأرامكو أو المزارعين أو التجار أو صيادي الأسماك .. وفي وسط تلك الواحة تقع مدينة القطيف الرئيسة وحوالها عدد من البلدات والقرى أكبرها القديح والعوامية وصفوى.. ثم تأتي قرى حلة محيش والتوبي والخالدية والجارودية وأم الساهك .. وغيرها .. وفي شق البحر المقابل .. عندما ينحسر البحر ساعة أو ساعتين نمشي في طريق من وسط البحر لا تحيد عنه مترا واحد وصولا لمدينة تاروت ثم سنابس وأخيرا دارين التي قال فيها الشاعر :

يمرون بالدهناء خفافا عيابهم ..... ويأتون من دارين بجر الحقائب


الطفل الصغير يدرس بالقطيف

درست الصف الأول والثاني بمدرسة الدمام الأولى .. ثم خطر على بال والدي أن أرافقه للقطيف .. وكنا نذهب يوميا صباحا من ذلك الطريق السيء الغير مسفلت ونرجع مساء .. لماذا ؟؟

لأن القطيف آنذاك الحياة فيها صعبة جدا ..فلا كهرباء إلا ماندر بواسطة مواطير خاصة لبعض البيوت في الوسط .. والنظافة بها معدومة ولا يوجد بها أي شارع معبد حيث ينتشر الغبار والبعوض والذباب بشكل لا مثيل له وفي الليل ظلام .. والسكان لا يوجد لدهيم ما يسمى ببيت للتأجير كل أسرة تمتلك منزلها الخاص .. تؤجر الدكاكين والمحلات فقط أيضا لا يوجد بها أي أجنبي أو حتى مواطن آخر عدا عدد محدود في إدارات حكومية قليلة هم أيضا يسكنون بالدمام .. صلاة الجمعة يوجد مسجد واحد صغير بجانب القلعة نصلي به أحيانا ولا يزيد العدد عن عشرة مصلين .

سجلني الوالد رحمه الله بالمدرسة الثانية وهناك مدرسة أخرى على الشاطئ تسمى المدرسة الأولى .. فقط هاتين المدرستين بمدينة القطيف ولا يوجد أي مرحلة دراسية بعد الإبتدائية ... مبنى المدرسة حكومي جميل على الشارع العام بجوار المستودع .. المدير من بني هاجر على ما أظن وهناك مدرس سعودي تبدو على ملامحه أنه من البادية .. وبقية المعلمين فلسطينيون .. والمدرسة كبيرة جدا بمقياس ذلك الوقت ( 450 طالبا عام 1380 )
حقيقة كان وجودي بينهم ( فاكهة ) فأنا الوحيد بالمدرسة الذي يختلف شكلي ولهجتي عنهم فهم يعرفون أنني لا أنتمي لمذهبهم .. لكنني مستمتع بوجودي بينهم فلا أذى ولا مضايقة بل أنني أقدر فيهم ذكاؤهم وترابطهم وحسن تعاملهم .. حتى أنهم تجمعوا أولئك الصغار حولي ذات مرة في حوش المدرسة وسألوني : تحب أبو بكر والا عمر؟؟ وأن بالصف الثالث لم أدرس التاريخ .. وأول مرة أسمع بهذين الإسمين ولا أدري ماذا تعني ولا أتذكر ما ذا أجبت .. كان لنا بالمدرسة أرقام ورقمي ( 333 ) وإذا سألوني : شم رقمك ؟؟ يعني ( كم رقمك ) أقول : ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين .. فيستغربون من نطقي لحرف الثاء .. هم ينطقونها ( فلافمائة وفلافة وفلافين ) .. لقد بقيت صداقتي مع بعضهم إلى قريب ومنهم محمد على المرهون _ أستاذ وعالم رياضيات على مستوى العالم ..وحاليا برفسور بجامعة البترول .. ومنهم ميرزا محمد القطري .. وغيرهم

مغامرة وأسلوب الخروج من المآزق

كان وضعي الشخصي غير مستقر نسافر صباحا للقطيف بسيارة محملة بصناديق الكوكا كولا والسكن بنفس المستودع مع وجود الزبائن وإدارة المستودع وغيرهم وفي المساء نصل إلى الدمام ومن ثم إلى المصنع ونعود آخر الليل للسكن بالعزبة بالدمام حيث لا وجود للأسرة ولا الوالدة .. فقط أنا والولد والأخ صالح وبعض الضيوف العزاب .. ولهذا كانت نتيجتي الرسوب في مادتين : القرآن والإملاء.. عندما بدأت الدراسة في السنة الجديدة خارت قواي لمشاهدتي طابور من طلاب الصف الثاني جلسوا بجواري منقولين وناجحين للصف الثالث وأنا مكاني وشعرت بإهانة وحرج شديد لا يمكني تقبله .. فهؤلاء أصغر مني ومعي في الفصل .. لم أستطع تحمل هذا الموقف .. عندها بدأت تجري في دمي ما تعلمت مع ميليشيات رحبان بالصغر وعلى الفطرة : أساليب الخروج من المآزق . . خرجت في السيب وقابلت ذلك المعلم السعودي الوحيد وقلت له : ( أنا ناجح وأبغى الصف الرابع ) ولم يسأل عن شيء ولا يعلم .. فأخذ بيدي بلطف وأدخلني الصف الرابع (ب) . عدت على خير .. وأنا واثق من نفسي تماما ولم يخالجني أدنى شعور بالخوف .. ومحدثكم عليها إلى هذا اليوم .. لا سؤال ولا جواب ولعلي طبقت نظام التقويم الشامل ( النجاح الآلي ) قبل حوالي خمسين عاما .


الحياة الدينية بالقطيف عام 1380 هجرية

لديهم أيام معينة يسمونها تحاريم .. لا يحضر الطلاب للمدرسة وإدارة المدرسة تتعاطف مع معتقداتهم بكل أريحية .. والجميع في الشوارع يلبسون ثيابا سودا خفيفة لكن الوضع العام هدوء والمتاجر مفتوحة والناس من حالهم في شأنهم .
الولد رحمه الله أصبح معروفا لدى أغلب الجتمع المحلي في مدينة القطيف ويعاملونه معاملة كلها تقدير واحترام يفوق كل وصف ويسمونه : أبو عبدالله .. لمرافقتي له دائما .. وهناك مسؤولين محليين في تواصل مع الوالد منهم عمدة القطيف : محمد الفارس رحمه الله كان عالما في التاريخ والأدب ولديه متحف يضم تراثا ضخما من المقتنيات.. يزورنا بالمدرسة ويقدم هدايا للطلبة المتفوقين .. وقد أهدى لأخي صالح عندما قابله لأول مرة كتابا أدبيا اسمه : ( ديوان عبدالله الفرج )
الوالد يتلقى منهم دعوات خاصة ومحدودة في مناسباتهم وهم كرماء جدا وبسطاء .. أهم شيء لا تجيب سيرة أو تتدخل في المعتقد الديني .. هم ورثوا ماتعلموه من سادتهم .. ولن يتغيروا قيد أنملة .. وكما نعتقد أننا على حق فيما نعتقد بحكم ما تعلمنا .. هم أيضا يعتقدون أنهم على حق بحكم ما ورثوا من علم على يد ساداتهم .. ولهذا فإن النقاش والمنازلة في هذا الشأن لا تورث سوى العداوة والفتنة .. في المدرسة يحفظون ويسمعون ما هو مقرر .. و ببساطة يقولون : إحنا ياستاد نؤذن هكذا ونعمل كذا .. فطالما أن المناهج والمقررات الوطنية أدت دورها .. فكل انسان مسؤول عن ذنبه وعما تعلم .

الوالد رحمه الله قرر ذات يوم الدخول للحسينية في الشارع الخلفي للمستودع .. وجلس معهم فترة بسيطة للمشاهدة والإستطلاع ولم يستنكروا عليه طالما أن في حدود التقاليد .. كنت اسمعه يصف المشهد : يوجد خطيب وهم جالسين يستمعون وفي حزن لكن لا يوجد أي مظهر خلاف ذلك إلا أنه لاحظ أن الحزن مؤقت بظرف وقتي أثناء سماع الخطبة فقط أما بعد الخروج فكانوا يشربون الدخان وسوالفهم وحياتهم طبيعية .. لم تكن هناك أية مظاهر غير ما أشرت إليه

=======================================

هذا ما جادت به يداي يا ابا ياسر .. ولولا رغبتي في عدم إرهاق الإخوة المتصفحين وتشتيت أذهانهم في مواضيع متفرقة لأوردت فصولا من تلك الأحداث التي مر عليها خمسون عاما ..آمل أن تحوز على رضاكم .

.. ولي أمل أخير بأن حرية الكلمة متاحة لمن أراد التعقيب .. دون المساس بأي فئة أخرى مذهبية أو غيرها .. فالحديث هنا مني كان وصفا وذكريات لمشاهد خاصة بطالب صغير لا يتعدى التاسعة والعاشرة من عمره ..قدر له أن يعيش فترة من الزمن على بقعة تنضم تحت لواء هذا الوطن الغالي والكبير