يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحات الموروث والشعر والأدب > ساحة الأدب الشعبي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-29-2010, 12:38 AM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية العضو

مزاجي:










نزهة المشتاق غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


أنثى

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 11
نزهة المشتاق is on a distinguished road


 

نقطة ضوء
المصدر صحيفة الرياض لعام 1428/8/20
(المغزول) مشري يطرب الحي أخيراً
د. محمد عبدالله الخازم

كدت أقول بأن زامر الحي لايطرب، لولا أنهم قرروا تدارس مسيرته وتكريمه، أخيراً. أن تأتي متأخراً، خير من أن لا تأتي أبداً. كدت اقول بأنهم (المغزلة) وليس هو (المغزول) كما أطلق بعضهم عليه. (المغزول) أو (المصفوق) وجمعها بلهجة أهل الباحة (مغزلة) تعني الشخصية التي تتصرف خارج السياق، بشكل بهلواني أو مستهبل وقد فسرها علي الدميني في مقدمة رواية (المغزول) بالمجنون وذلك ضمن السياق العامي المبالغ في وصف المختلف بالمجنون وليس وفق السياق العلمي لمفردة المجنون. هل عرفتم المغزول؟ إنه زاهر، إنه السروي، إنه العديد من الأسماء التي خلدت حكايات القرية الجبلية الجنوبية، إنه المبدع الكاتب الراحل عبدالعزيز مشري. أخيراً سيكرم مشري على مشارف القرى التي خلد حكاياتها، على بعد مرمى حجر من مسقط رأسه ضمن وقت مستقطع من الندوة الأدبية الكبرى التي ستعقد بمنطقة الباحة خلال أيام.

سيحضر التكريم أهله وبعض أصدقائه، ومنهم أولئك الأوفياء الذين ساهموا في جمع إنتاجه ضمن سلسلة الأعمال الكاملة له،بما فيها الرواية التي نشرت بعد وفاته (المغزول). ستناقش أعماله في ملتقاهم الصيفي بالباحة، أما أنا فقرأت بعضها، ليس بعيداً عن (المحضرة) في وادي (الطلقية) مابين سفوح (الشعابة) و(الحامة) حيث الحزن يغسله مطر (أب). لا بد أن نغسل الحزن ونرثي الشفقه التزاماً بوصية الراحل: " الناس الاكثر تخوفاً من المرض، هم أولئك الذين يرمون أنفسهم مسبقاً وباستعداد فطري للشفقة، ولاستعداء رعاية وعطف الناس، كل الناس، لأنهم مطالبون بسكب عيونهم شبه الضامرة، إليه وكأنما يجلبون على حالته العطف وواجب الرحمة والمساعدة، فهو مريض.... مسكين مريض".

لايريد الشفقة وهو الذي أصبح معلقاً بأجهزة (الديلزة) وبترت رجلاه حتى حمله ممرض النوبة الليلية "كحشرة بلا قدمين ووضعه في السرير". أستمر يدون كلماته حتى وهو ينتظر الموت، الذي قال عنه " هل يجعل المرء نفسه في عرض موت رخيص؟ الموت نهاية حتمية تقييمها يأتي في مفهوم الحياة قبل أوان نهايته.. الإنسان لو كان بلا مفهوم في الحياة سينتهي إلى الموت، ولكن خير الموت ذلك الذي يدرك قبل حدوثه في أي ظرف بأنك تركت شيئاً للحياة يستحق أن يقال عنك قولاً طيباً.. إن الحياة هي تلك التي توجب عليك أن تحترم ثوانيها بإنسانها الذي أنت واحد من جزئياتها المتراكمة التي تشكل وحدة خيرة إنسانية!". لم تنته سيرتك يامشري في عرض موت رخيص، بل تركت الكثير الذي نقول عنه قولاً طيباً...

شكراً نادي الباحة الأدبي و ننتظر أن نرى إنتاج الراحل مشري على رفوف مكتبات الوطن، كافة.

@ الاقتباسات من العمل الأخير للراحل عبدالعزيز مشري ( المغزول).

@ المحضرة، الطلقية، الشعابة، الحامة: أسماء قرى وأودية بمنطقة الباحة، مسقط رأس عبدالعزيز مشري.


malkhazim@hotmail.com

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-29-2010, 12:41 AM   رقم المشاركة : 2

 

نقلاً عن منتدى تيارات ثقافية للدكتوره كوثر القاضي

محمد بن عبدالرزاق القشعمي ـ عشر سنوات على فراق المشري


عبدالعزيز مشري.. ما زلت ماثلا بشموخك أمامي كما عهدتك رغم ما عانيته صحيا بسبب داء السكري المستشري في جسمك على مدى سنوات طويلة.. عرفتك خلال عملك في جريدة اليوم في الدمام عام 1397هـ/1977م، عندما كنت أعمل في مكتب رعاية الشباب في الأحساء..
عشر سنوات على فراق المشري

محمد بن عبدالرزاق القشعمي

عبدالعزيز مشري.. ما زلت ماثلا بشموخك أمامي كما عهدتك رغم ما عانيته صحيا بسبب داء السكري المستشري في جسمك على مدى سنوات طويلة.. عرفتك خلال عملك في جريدة اليوم في الدمام عام 1397هـ/1977م، عندما كنت أعمل في مكتب رعاية الشباب في الأحساء.. جئت فرحا بنص محاضرة ألقاها الدكتور خالد السيف وكيل جامعة الملك فيصل في الأحساء بعنوان (دور الكمبيوتر في الحياة المعاصرة)، وذلك مشاركة منه في الموسم الثقافي للمكتب.
عرضت الموضوع على الصديق الأستاذ محمد العلي رئيس تحرير جريدة اليوم وقتها وطلبت منه طباعتها في مطابع الجريدة، فرشحك لتتولى متابعة الموضوع وتصحيح تجارب الطباعة، وقد وعدتني أن تكون حلقة الوصل بيني وبين المطبعة وأملتني بانتهاء الطباعة خلال أسبوعين، وعند عودتي في الموعد المحدد لم أجد العمل قد أنجز فهاجمتك وقسوت عليك بشديد العبارة، وقد قابلت هجومي بالصمت المخجل، وبعد مدة تعمقت علاقتي بك حتى أصبحت صداقة امتدت حتى آخر أيامك، فلك الرحمة والغفران.
تعرض المشري لظروف صحية قاسية، ولأمور اضطرته للبقاء في الكويت والقاهرة بعض الوقت حيث تضاعفت آلامه وتعددت مشاكله الصحية فنصحه أحدهم بالذهاب إلى طبيب مشهور في القاهرة يقال إنه الطبيب الخاص بالفنان محمد عبدالوهاب، فأعطاه علاجا أعطب كليته وأعاق توازنه ومنعه من الوقوف أو المشي.
تزوج هناك في عام 1980م، من السيد ناهد، وهي أردنية من أصل فلسطيني، وحيث لم ينجبا نظراً لظروفه الصحية، فقد اختار أن ينفصلا شرعيا ليتيح أمامها فرصة الزواج والإنجاب، وقد انفصلا بعد علاقة استمرت عشر سنوات، وكان من نبله وانسانيته أنه يبعث لها بمرتب شهري حتى تزوجت وأنجبت.
وقد أهدى لها مجموعته القصصية (أسفار السروري) ط1: 1986م، قائلا: «الإهداء: إلى ناهد.. الصمود والوفاء..» اختار أن يترك الإقامة بالدمام وينتقل إلى جدة حيث اشترى منزلا مع شقيقه أحمد، وأقام به بقية حياته.
ورغم إعاقته التامة وتمكن السكر من التغلغل في جسمه وفشل الكلى وفقدان النظر أخيرا مرورا بقطع إحدى أصابع يده اليسرى، ثم قطع رجله اليمنى في الفخذ، وعندما عاث به السكر وتمكن وبدأ داء الغرغرينا يغزو قدمه الأخرى (اليسرى) رفض وقاوم قطعها، حيث أجمع الأطباء، مما حمله على السفر إلى أمريكا لعل وعسى، ولكن فات الأوان.. فقالوا له: لو وافقت على ما طلبه الأطباء هناك لكان أفضل.. وقد سرت الغرغرينا إلى الفخذ مما حملهم على قطعها هي الأخرى.
عاد إلى وطنه واستمر يكتب زاويته بالجزيرة (تلويحة) وبدأ يكتب روايته الأخيرة (المغزول) والذي وافاه الأجل قبل أن تكتمل.
لقد كنت أزوره في منزله في شارع المكرونة في جدة قبل وفاته بسنة وقبل أن يفقد كامل بصره، فكان يمسك بالقلم ويضع مسطرة في آخر الورقة حتى يعرف نهاية السطر وكان يميل السطر وتنتقل نقط الحروف إلى غير أماكنها.. وكان الأستاذ محمد الدبيسي مدير مكتب جريدة الجزيرة في المدينة هو الذي يستلم مقالاته وهو الذي يعرف خطه الصعب، فكان يعيد كتابتها مرة أخرى فيهاتفه ليقرأها عليه مرة أخرى ليصححها قبل إرسالها للنشر.
توفي رحمه الله في جدة يوم الأحد الخامس من شهر صفر 1421هـ الموافق 7 مايو 2000م، وقد ترك سبع مجموعات قصصية وسبع روايات مع مجموعة من الأعمال الفنية واللوحات التشكيلية، كما أن له محاولات شعرية لم تطبع اختار لها عنوان (ترنيمة)، وبحثا مخطوطا باسم (القصة القصيرة في المملكة).
الآن وقد مضى على فراقه عشر سنوات، وكتب عنه الكثير من المقالات والقصائد وأصدرت بعض الصحف والمجالات المحلية ملاحق عنه، إضافة لما خصصته مجلة (أدب ونقد) في القاهرة من ملف غني عنه في عددها 214 لشهر يونيه 2003م، بمناسبة مرور ثلاث سنوات على وفاته.
أقول إن علينا واجبا نحوه وأمثاله من المبدعين في أن نحيي ذكراهم وأن نحتفي بهم وبما خلدوا أنفسهم به من أعمال ستبقى للأجيال القادمة.. فليت إحدى المؤسسات الثقافية تعنى بجمع ما كتب عنه مع إعادة إصدار أعماله وأتقدم بهذه المناسبة للاستاذ عبدالمقصود خوجة صاحب الإثنينية الشهيرة، فلعله يضيف أعمال المشري لأعمال الرواد التي بدأ في نشرها وتوزيعها، علما بأن صديقه الأستاذ الشاعر علي الدميني قد قام بجهد مشكور بإعادة طباعة مجموعاته القصصية والروائية.
ABO-YAROP.KASHAMI_(at)_HOTMAIL.COM

عكاظ-17-1 و منبر الحوار

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-29-2010, 01:53 AM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية أبوناهل
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 12
أبوناهل is on a distinguished road


 


أخي الكريم : سعيدالفقعسي
بارك الله فيك وفيما نقلت عن هذه القامة الفارعة
عبدالعزيز إنسان غارق في السمو ورجل صلب
هل تعلم أنه رغم مرضه كان يحرضنا على الكتابة
ويقول جملته الشهيرة (أكتب ولو لنفسك .. المهم تبوح بهمك )
وهل تعلم انه كان الأكثر إلحاحاً على الصديق / مسفرالغامدي
لطبع ديوانه وفي كل مرة نزوره فيها يقول (متى بتطبع ديوانك ياااامسفر)
فنضحك جميعاً .... رحمه الله وجمعنا به في مستقر رحمته .

 

 
























التوقيع



   

رد مع اقتباس
قديم 01-29-2010, 02:25 AM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية أبوناهل
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 12
أبوناهل is on a distinguished road


 


أختي الفاضلة : بدور
لله درك وهنيئاً للساحات بالمبدعات أمثالك
أشكرك على هذه الإضافات الرائعة والهامة .

يقول المبدع الذي تمنيت لو أنني اعرفه / عبدالله بن وافيه :

( في ذكرى رحيلك العاشر أبكيك وأتذكر حين حملت هديتي المتواضعة متوجهاً صوب مبنى إدارة تعليم الباحة الذي احتضن حفل تكريمك برعاية جمعية الثقافة والفنون بالمنطقة، في ذاك الزمن الذي يمارس ناديها الأدبي الجحود ضد أبناء منطقته ولم يكرم عبالعزيز إلا بعد موته!!)

أذكر تلك الليلة جيداً ليلة التكريم : كان يوم الإثنين 30 / 2/ 1420
أذكرليل التكريم بتفاصيله وأحداثه .

كنا قد إتفقنا ان نفاجيء عبدالعزيز واحمد في الباحة بل وننطلق معه من
سكنه في إحدى فلل فندق قصر الباحة لمقر التكريم
سار الأمر كما خططنا جميعاً وكنا :
من الظهران قدم الحبيب /علي الدميني وحسن السبع وبعده محمدالدميني ومن الرياض
الحبيب / محمد القشعمي (أبويعرب) ومن ابها الغالي / قينان الغامدي
ومن جدة إنطلقت مع الصديقين الحميمين / مسفر واحمد البوق
بعد وصولنا مكثنا قليلاً مع عبدالعزيز ثم سبقنا لمقر التكريم
وعندما هممنا بالخروج أنا وصديقي وقينان فوجئنا بالعملاق الرقيق
والفنان الممتع : طلال مداح يتهيأ للدخول للفندق وعلى الفورعرف
قينان وأخبرناه بسبب حضورنا وذكر لنا انه جاء ليحيي حفلة الباحة الإفتتاحية
وانه لم ينم جيداً وإلا لرافقنا رحمهما الله .
كانت ليلة رائعة فقد بذل الرائع عبدالناصر الكرت ومجموعة من الشباب
حينها منهم د/ علي الرباعي ومحمدهضبان جهوداً جبارة لإنجاح أمسية التكريم
وأذكر أن الأمور سارت كما كنا نود وكما خططت الجمعية مشكورة .

في ملحق نشرته جريدة البلاد عن المبدع عبدالعزيز مشري
يوم السبت 1/7/1418 ه قال الشاعر (مسفرالغامدي) :

حرضني أن اكتب هذي الليلة
كلاماًفي حجم الوردة
ميراثاً للقمح كحد السيف
أن افتح باباً :
لاتدخله -
إلا كي تخرج منه قتيلاً !!
مطعوناً بمئات الأحرف
مزهواً بالعشق الأنبل
حرضني أن اسكن في نفسي
سئمت شوارع هذي البلدة
بيوتاً يدمع اعينها الرمل
عصافير بلا معنى ، تشحب
عجائز ينسجن الأكفان لميتتهن
جباهاً كالأسمال معلقة
في اعلى الأوجه

حرضني ان اسكن في عتمة اسراري
في الأسفار المنسية
الطرقات المهجورة
بين البحر وبين الرمل
أخرجني من هذي البلدة
أدخلني بين السيف وبين الوردة -
أدخلني في نفسي !!)


يستمر أبوضياء في هذا النص الساحر إلى ان يقول :
( سأحيل ركام الليلة إلى دعة للأحرف
وسأختار مكاني دوماً :
حليغاً للضوء
مغسولاً بيانبيع الكلمات !! )


للنص بقية ولكنني أكتفي بما نقلت .


 

 
























التوقيع



   

رد مع اقتباس
قديم 01-28-2010, 09:59 PM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

السماء … والحناجر محترقة



اتشحت أوراق اللوز بخضرة مذهبة .. رفرفت كأجنحة الطير، وفي خفة وبطء كانت ترسل حفيفاً مثرثراً وسط هذا الصمت وكان يسيل على الصخور .. شجر الطلح .. الطريق المنساب الخالي .. : صمت دقيق وشفاف ، الهواء يهب بارداً وخفيفا .. رائحة النسيم تظلل كل شيء .
الأشياء نائمة .. هادئة في حين بدأ النور يتسلل في كسل وخجل .
العم عاطي يطل بوجه متغضرف، وأنف كالضفدع المسلوح .. من النافذة الخشبية كأنه صورة شيطان في إطار عتيق .
أطل بنظرة متراخية وغائمة .. شملت بيوت القرية .. وهي تبدو كحبات تئن متناثرة على خوان أصفر، بين البيوت الصخرية : تقافزت عواميد متفرعة من الأشجار الهزيلة .
الأنظار جميعاً ترقب السماء .. والسماء تظهر مجدورة ، ثم تكنسها الرياح .
والأرض ترقب ..
والأرض تلهث والزرع .
لكن الرياح تصنفر هذا الوجه الرغوي فيبدو حليقاً .. شاحباً ..
كان العم عاطي يطل بوجهه .. ويرى الخلجان فاغرة جافة ومغبرة .
كانت الحشائش كشعر ماعز .. إبراً لا حياة فيها .. جافة هشة .
وكانت تتثنى ثم تسقط متكسرة .. رياح السحاب تحمل عواءً وتتسرب جافة .. حارقة .
العم عاطي ..
يسقي زرعه من البئر المجاورة .
ثوره حبيش ينتزع الماء من البئر .. يشف ماء .. البشر ترشفه ببطء .. يتدرج ليصبح وشلاً .
العم يجرجر ثوره حبيش ذا السنام المائل كأذن القرد .. مع ابنثاق النهار الجديد .
تنقط على لثام السكون المرطب بالنسيم .. أظلافه القبقابية .. خفوتاً طرياً .. يتفرع صوت العم عاطي.. يصطفق بالحجارة المتساندة على حافتي الطريق .
يا مقسم الأرزاق ..
الصباح رباح ..
يا عيال الحلال ..
الصباح رمادي .. غائم .. واقتم و .. قاتم هذا الصباح .. ممتقع ! السماء مغلفة بالكحل .. تزحف مثقلة .. تمني بماء اسود .
(الثور حبيش .. يحمل على ظهره حياة هذا الزرع .. ويحمل غرباً كبيراً .. كبيراً ومملوءاً بماء البئر ويحمل دلائل مهذبة .. ينزعه من البئر .. ويحمل حبالاً من جلود إخوته .. بطول البئر .. يحمل أحزمه وأكتافاً من الخشب .. وحلقاً حديدية .. عدة المجرة لنـزع الماء) .
حبيش ..
يحمل مؤونة.. تعب العم عاطي .. وعنايته حبيش يحمل غرباً كبيراً ومثقلاً بالماء يعلهي به كل يوم .
تغدو البئر قاعاً .. تنفث رائحة الجفاف .
الزرع لم يعد يمد أكفا خضراء.. يتسارق القبل .. يتمايل في غضون .. لم يعد .
تيتم الزرع ..
رائحة الجفاف تنفث ..
والبئر قاع صفصف .
هذا الصباح ممتقع ..
السماء مكتحلة .. والعم عاطي ..
لا .. إنها مكنسة منظفة وقوية .. الرياح ..
يا مقسم الأرزاق ..
الصباح رباح ..
يا عيال الحلال ..
وهذا اليتيم يمد حناجر جافة يابسة .. ويشغر إلى السماء يبسط عروقاً .. ويفتش عن ندى ، الزرع ..
تتهدل أذرعته الرطبة الخضراء .. تتفصد من شرايينها الحياة .. تيبسها الرياح، تقف شاحبة .. وتمد حناجر جافة ومحترقة ..تشغر إلى الأعلى .. الأذرع تشيخ خضرتها وتصفر .
العم عاطي .. السماء .. الزرع ،
حبيش .. مؤونة العيال .. الأذرع تقف شاحبة .. جافة ويابسة .. تبث حزناً مسحوقاً وحارقاص .
يا مقسم الأرزاق ..
.. يا مقسم .
الأوعية .. الأنظار ، السماء ،
… والرياح مكنسة قوية منظفة .
وهذا الصباح ممتقع
الصباح رباح .. يا عيال الحلال ، والسماء .. ما كل هابطة رحمة ..
أمطرت مرة حجارة .. ومرة أمطرت ذهباً، لكنها تزحف وتحمل .
الصباح رباح .. الرباح .. الصباح، والصباح ممتقع .. أجهم الوجه .. غضب ،
السماء .. تقيء.. وتنهمر .. وتقيء ماء قوية وكثيفة .
أمطرت مرة ..
ومرة أمطرت .
ما كل هابطة رحمة .. والسماء ..
تقيء حصباء ..
وتقيء ماء .
تمايلت رؤوس جافة ..
ترجرجت .. تمايلت وتهافتت ..
مهجورة .. عفنة .. الأوراق الصفراء ..
وتذوب في الماء الأسود ..
كان يمضغ لسانه ..
كان يلوكه في امتعاض وقسوة .. و
كان قلبه يمتليء بالسخام ، العم عاطي.


عبدالعزيز مشري

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس
قديم 01-29-2010, 12:22 AM   رقم المشاركة : 6

 

رحم الله عبدالعزيز بن مشري

فيلسوف الألم ورائد شماريخ الأدب القصصي والبوح الشفيف

عاش ورحل وهو يرسم بسمة ويمسح دمعه ويدندن بالآهات شوقاً إلى كل منعرج ورابية

أبوناهل بورك فيك وفيما جئت به عنه رحمه الله وأطال في الخير عمرك أخي

ود وعبق ورد

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-30-2010, 06:48 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 20
إبن القرية is on a distinguished road


 



نتابع بصمت .. هذه الأطروحات الراقية

أبو ناهــــــــل

فكر راقي .. وذائقة أدبية رائعة

دمت بخير


 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس
قديم 01-30-2010, 07:05 PM   رقم المشاركة : 8

 


أشكرك أستاذي الكريم واخي الفاضل : إبن القرية
وأعتبرإشادتك دافعاً لي لمواصلة مابدأت به
... قد اتأخر لأنني أكتب بعض القصص في حين
اجد بعضها في بعض المنتديات وقصة (الوانيت)
اقوم بكتابتها بنفسي لذلك لم أوردها كاملة وسأستكملها
هذه الليلة بمشيئة الله .

 

 
























التوقيع



   

رد مع اقتباس
قديم 01-30-2010, 07:55 PM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية أبوناهل
 
إحصائية العضو











أبوناهل غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 12
أبوناهل is on a distinguished road


 

---- تابع قصة الوانيت ----


شهر مضى بأيامه الثلاثين، كما تنفرط حبات القلادة من حبلها العتيق ، وحان على (أبوعبدالله)
ان ينقد صاحب معرض السيارات قسطه الشهري الأول . و(عبدالله) الذي ينفق عزّ وقته في أول
الشباب ، مع السياره ، فيختلق المشاوير، ويطيل عن البيت في الغياب : فكان ماكان من نتيجة
الدراسة (ولم يكتب الله) لغير ذي الإجتهاد نصيباً في النجاح .
فامتدت يد الأب إلى غنيمات بقين من القطيع ، ولصاحب المعرض ، أوفى بدين التقسيط ،
وإذا كانت (الأولات الروابح) فلله في تدبير شأن العباد مع بوادي الأيام ، شأن سيكون جديد .
وقالت ( أم عبدالله) ، حين هاج وماج صدر الشايب بالحسرة والغضب :
لاتثقل يامخلوق على ولدك ، أنظر إبن فلان وإبن فلانه .. يدرأ اهلهم عنهم الرياح ، ومازالت
بنواعم الكلام ، و(إحتمال مائلة الزمن في إنتظار خير الولد ) .
فازدرد (أبوعبدالله) مع خبزة العشاء تلك الليلة ، سباباً لم يخرجه من صدره ، وتوضأ وصلى العشاء ،
وسجد سجود السهو ، ولعن (الوسواس الخناس) وطوى سجادته .. ثم التف بالغطاء في مكان ناء ،
وعلى عدد من دعوات ماقبل النوم في السر أطبق جفنيه ونام .
إنجرد عن (شعبان) شهره ، ودلف بالصوم (رمضان).. فيه خير الأجر، وضعف الحسنه ، وفيه
(العمرة) بثوابها كمن نال مغفرة (الحج) قال (أبوعبدالله) في حضرة زوجته ، من بعد إفطار
يوم رمضاني في العشر الأواخر من (الشهرالفضيل) ..أظن مثلي لايضيع حالة هيأت له مع
الولد والسيارة : (عمري " ياالله ، حسن الخاتمة " البياض في يفتك بكل سوداء ، وليس لآمن
الأيام أمان ، غداً مع الفجر نحزم النيه بعد "السحور" وركعتي الصبح ، ونوجه عزيمتنا بإذن
الله إلى "بيت الله " : نطوف ونسعى ، ونشرب من ماء " زمزم " وندعو الله بدعوات فيهن
طلب الصلاح للولد ، وإستزادة طيب الخير ، والمغفرة من كل ذنب على الإنسان إقترافه ،
بقصد او بدون قصد ) .
رات الزوجة في رأي شيبتها الخير ، ومتى كانت لاترى في رأيه الراي ، ولو في معصية : فكيف
في دعوة إلى مرضاة الرب ، وفيها الفسحة والأجر ، ونفس المدن المدن الحارة البعيدة؟!
سمعت هجعة القرى في الليل (مدفع السحور) ، من مركز سوق القبائل ، وكان (أبوعبدالله)
منذ بلغ الشهر عشرته الخيرة ، يؤدي بحسن العبادة (صلاة التراويح) فأوتر البارحة ،
ونام بلسان يلهج بذكر الله والرغبة في طيب الأجر والجزاء .
وعندما أيقظته على الموعد (أم عبدالله) .. قام على جهد ركبتين تنودان بطقيق اوجاعهما
وعلى نفس مثقلة بالنعاس ونفاذ الشهية ، وتبلع لقيمات السحور ، مع الزوجه والولد .
كان عليهم ان يودعوا نفر الأسرة من الأطفال .. عند خالتهم في القرية القريبة .. وعلى مضض العاجل
المتعب اوقضوهم .
خلف صلاة الصبح .. ركبوا في " وداعة الله " سيارتهم ، ولم تفتح شمس النهار عينها ، إلا وهم في
مقطع من الطريق الأسود الطويل . كانوا صامتين ، وكان لكل صدرمع خواطره في جهامة الأسفلت
اسفاراً وكان (عبدالله) قد تململ في السكون المسكون بهدير السياره ، فحرك بإصبعه مفتاح الراديو ،
الذي بث كلاماً ليعني ابويه في شيء ، لكنه كان يهلهل الركود المثقل بالسخام ورائحة الأفواه الصائمة .
------------- ------------------ --------------------
والدان ، وإبن إسمه (عبدالله) .. أدوا واجب العمره ، وتطوفوا بالبيت ، وسعوا ، وشربوا من ماء
" زمزم " حتى فاضوا بالروي . ودعوا الله بكل الدعاء في السر والعلانية ، وعمرت نفوسهم بالرضا ،
وبقي ان ينفض الشايب مخابيء الثوب ليشتروا لأطفالهم مايرضي نفس الطفل المنتظر .
ورغبت الزوجة في حمل " جالون " البلاستيك المعبأ بماء زمزم .. فنالته وبقي ان يهيئوا مسيرتهم
إلى حيث جاءوا .
في الطرق الأسود الضيق .. كان الليل يدعم بسواده على السواد ، وبين غمضة عين وانتباهتها ..
يشع في العين نور سيارة قادم .. فيخطف بصر الرائي ويبتز خبرة " الغشيم " وحينما حانت
لحظة الفصل ، تقابل شعاعان ، فعميت العيون ، وضربت قوة الحديد في الحديد .
أذن اليوم التالي ، على جماعة كثيرين ، ونساء كالغربان بالعباءات يتجمعن في الغرفة
الداخلية .. بينما كان إلى حافة الجدار جثتان مسجيتان ، وقد غسلتا وهيئتا للدفن .
أما (عبدالله ) فقط إنطفأ دمه بعد أيام ثلاثه ، بقسم الطواريء بمستشفى كبير له نوافذ زجاجية
عالية ، وأشجارسهامية صامة بمدينة يخلفها المغادرون إلى الجنوب حين يعودون إلى قراهم .

7 / 8 / 1991 م – جده .

 

 
























التوقيع



   

رد مع اقتباس
قديم 01-31-2010, 12:55 PM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية أبوناهل
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 12
أبوناهل is on a distinguished road


 


في البدء سأضع مايشبه التوطئة المنقولة عن الرواية الأخيرة
للقاص والروائي المبدع : عبدالعزيز مشري
هذه المقدمة والتي إتفق عليها أصدقاء الإبداع (أصدقاء مشري)
لايجوز لي بأي حال أن استبدلها لأنني اعتبرها جزء مهم من النص
وذلك نقلاً عن منبرالحواروالإبداع .



عبد العزيز مشري
رواية " المغزول"





أنجز الكاتب مسوداتها الأولية في مايو عام 2000م

الطبعة الأولى :بيروت – أواخر عام 2005م
دار الكنوز

تصدر الرواية ضمن سلسلة الأعمال الكاملة، بإشراف :

أصدقاء الإبداع
أصدقاء عبد العزيز مشري



كتابة الألم ...و ثقافة الأمل

علي الدميني

(1) : تلويحة الغياب
قبل أن يموت عبد العزيز مشري كتب وصية الغياب، وتدرب على الاقتراب من حافة الموت والفناء ، فأخبرنا عما يشبه العدم القابع خلف كل النهايات التراجيدية ، ولذا فرغم الغيبوبة الطويلة التي سكنها قبل وفاته، إلا أننا كنا ننتظر خروجه منها ، لأنه عودنا على مفاجآت العودة بعد الرحيل ، ولكنه هذه المرة كان جاداً في ذهابه المبكر ... ولأننا تدربنا بشكل كامل، وعبر عمر طويل، على حضوره الواقعي والرمزي، فقد قررنا ألا نضعه في قبور النسيان.
كان آخر ما خطه قلم عبد العزيز في هذا العمل- وأظنه خاتمة ما دونه في حياته- فقرة بالغة الدلالة لتوديع الحياة ، حيث كتب عن بطل النص "زاهر": "لم يكن أحد قد منحه أدنى المسامع، وكان يصرخ، وعندما جفت بلاعمه وشحب صوته... جاءه ممرض النوبة الليلية ، غاضباً، وهو يردد بإنجليزية أمريكية مضغوطة:
Don't use your voice… Be quite …Be quite
ثم حمله كحشرة بلا قدمين ، ووضعه في السرير..."
هذا ما حدث له في غيبوبته الطويلة الأولى في أمريكا ، ولعل ذلك ما شعر به أيضا، في غيبوبته النهائية في أحد مستشفيات مدينة "جدة".
وحين نبحث عن موقع للقراءة المقارنة بين المشهدين، يمكننا الذهاب إلى أن هذه الجملة السردية القصيرة، تتضمن معنيين دالين، ظاهرهما يشي بنتيجة انتهاء معركة "زاهر " مع المرض بانتصار الأخير عليه، حين بلغ في صراعه الطويل معه فقد القدمين( والواقع أنه أصبح بلا رجلين كاملتين) ، ومن ثم لم يعد بإمكان الفارس أن يواصل معركته مع غريمه، مما سهّل إمكانية حمله كحشرة بلا قدمين إلى سرير النهاية.
أما المعنى الأكثر عمقاً، فإنه يستبطن ما عبرت عنه الرواية من تفاصيل مقاومة المرض المستبد الدائم، مترافقة مع لغة احتجاج عالية ضد سطوة السياسة الأمريكية في المنطقة العربية، وكأنما كانت تلك السطوة صنواً لعنف المرض وقسوته، ومن هنا جاءت النهاية التراجيدية ... نهاية بتر الساق حتى منتصف الفخذ على يد الطبيب الأمريكي... مصحوبة بأدوات القمع السلمي- لسلسلة احتجاجات مثقف عربي يهذي- علي يدي ممرض أمريكي، يأمره بصوت غاضب ، بأن يصمت!

* * *
و "المغزول" ،عنوان الرواية، كلمة تستخدم بلهجة منطقة الباحة –الواقعة في الجزء الأعلى لجنوب المملكة،وتعني المجنون، وقد استخدمها الكاتب لبناء عمل سردي، كان قد بدأ في كتابته قبل رحلته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال خاتمة عمليات البتر الجسدي التي اضطر لخوضها، و أكملها بعد المجيء إلى الوطن ، وكأنما أراد بهذا العمل أن يكون خلاصة تجربة حياة طويلة تعايش فيها مع أمراضه، بل وقهرها جميعاً، بصلابة الإرادة وعمق البصيرة، وشجاعة المواجهة.
كما أراد من جهة ثانية تخليق مناخ سردي يمنح بطل الرواية "زاهر المعلول" قبولاً اجتماعيا ورقابيا ، لينفذ من خلاله إلى كشف بعض مكونات البنى العميقة للألم ، التي تحفل بها حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، فأفسح المجال واسعاً أمام هذيان "المغزول " أو حكمته ، أو صدقه ، -لأن المجنون قد رفع عنه القلم- للتعبير عن كل ما أراد مقاربته.
وحين كان يجالد "الغرغرينا" التي فتكت بقدمه اليسرى، وجد أن اندماجه في كتابة عمل سردي هو أقوى أسلحته المضادة للتغلب على قسوة الألم، وقد شجعه الأصدقاء على الاستمرار في كتابتها رغم عدم قدرته على قراءة ما يكتب، وقد بذلت " فوزية العيوني" جهداً كبيراً في تشجيعه على استمرارية الكتابة ، حيث كان يكتب مسوداته ثم يرسلها لها بالفاكس من جدة إلى الظهران، فتقوم بقراءة النص عليه هاتفياً ، ويتم عبر المهاتفة إجراء التصحيحات أو التعديلات التي يراها عبدالعزيز مناسبة.
وبعد عودته من سفر العلاج ، كان قد تخلّص من آلام الرجل التي بُترت، فاستأنف العمل على إكمال روايته، بروح جذلة أمدته بالقوة على إنجاز "المغزول" بمساعدة أخيه الوفي " أحمد مشري ".

* * *
كان مثل هذا العمل السردي الطويل بحاجة إلى جهد المراجعة لضبط إيقاعه القائم على تداخل الأزمنة ، والحالات ، وإلى صبر على التدقيق وربط الجمل، وضبط بعض النبرات العالية التي قد لا تتسق مع السياق التحليلي والتأملي المتماسك في جل هذا النص، ولكن يد القدر ، لم تمهل الراحل الكبير لمراجعة عمله والتدقيق فيه كما عهدناه، فقام بهذا الجهد الشاق شقيقه أحمد، وتوّجه بصف النص على الكمبيوتر.
وحين قادتني الصدف لأن أكون آخر الأصدقاء الذين يستمتعون معه بقضاء ليلته الأخيرة ، لم أكن قد قرأت النص بعد، ووجدت أحمد مشري يعمل على تصحيحه و طباعته.
كان جالساً مع ممرضته ، وأخيه ، ووالدتهما، في حوش بيته أمام حوض الريحان وشجيرات "الكاذي" الصغيرة، وقد ابتهج كثيراً برؤيتي...سهرنا حتى منتصف الليل ، وتحدثنا حول طباعة أعماله الكاملة ، والتي كنا قد بدأناها بإعادة صف مجموعاته القصصية، وتوقفنا عند بعض الأجزاء الصغيرة التي قد لا توافق عليها الرقابة المحلية ، مثل الفصل المعنون "أحمد يتعلم أشياء جديدة" الوارد في رواية الوسمية، وبعض ما تضمنته رواية " في عشق حتى"، وكذلك ما سيرد في "المغزول"، بحسب ما فهمته من أخيه .
وكنت و أحمد نميل إلى تعديل تلك الفقرات القصيرة ، أو إعادة صياغتها، ولكن عبد العزيز، كعادته، لم يرض بالتنازل عن حق العمل الفني في البوح عن المسكوت عنه، لأن ذلك في نظره ، يعدُ مناط خصوصية العمل ، وسرّ تفرده، وقال لنا: ألا تتذكرون ما تحفل به الثقافة الشعبية في الجنوب من حكايات وأمثال يستخدمها الناس في مخاطباتهم اليومية رغم ما تحفل به من مضامين تتجاوز ما أوردته في رواياتي سواء في الجوانب الجنسية او الثقافية أو غيرها؟ وأردف متسائلاً بغضب: إذا حذفنا فصل " أحمد يتعلم " من رواية " الوسمية"، فماذا يتبقى منها؟
كان سؤالاً حاسماً حمل إجابته معه، ووجدنا الحل في نشر المجموعات القصصية، والجزء الأول من المجوعات الروائية، المجازة محليا، داخل المملكة، أما التي لم تقدم للرقابة المحلية أصلاً، ومنها المغزول، وما قد يضيفه إليها لاحقاُ، فبإمكاننا طباعتها في بيروت، وتوزيعها في معارض الكتاب العربية.
بدا عليه التعب وتحامل على احتمال وطأته، و لم يدخن المعسّل معي كما اعتدنا، و حدثني عن بداية التهاب في المسالك البولية، يخشى معه انتقال الفيروس إلى الكلية، ...وعلى العشاء الذي حرص على أن يكون تعبيراً عن احتفاء خاص بي، صنعت والدته لنا "عصيدة" ، فأكل معنا بشكل جيد، وشجّع ممرضته المغربية "فائزة" على تذوق هذه الأكلة، وحثها على تعلم صنع "العصيدة" للأصدقاء الجنوبيين –أمثالي - في الزيارات القادمة .
وعقب العشاء تناقشنا حول أمور تتعلق بطباعة أعماله، ومنها حجم المجلد، وصورة الغلاف، ودار النشر، إلا أننا اختلفنا حول حجم الكتاب، وحين اخترت صورته المعلقة على الحائط لتكون على الأغلفة، قال: ليكن حجم الصورة هو حجم الكتاب، ( ويا لدقة عبد العزيز، فقد وجدت فيما بعد، أن مقاس الصورة متناسب تماماً مع الحجم الذي أصرّ عليه! ).
في الواحدة نمت لكي أصحو في الخامسة للحاق بالطائرة، وحين أفقت، وجدت ممرضته "فائزة" تبكي، وأشارت إلى أن عبد العزيز مرض البارحة، وحمله أخوه أحمد إلى المستشفى، ولم يعودا حتى الآن.
هاتفت أحمد عصراً للاستفسار عن حالة عبد العزيز، فأبلغني أنه في غيبوبة، ولكن أحمد كخبير في حالات مرض أخيه، طمأنني بألا أقلق عليه، وكان يردد دائماً ، كلما اتصلت به: لا تخف ...إنني واثق أنه سيخرج من هذه الغيبوبة، وأنه لن يموت ، لأنه كالقطط ... بسبعة أرواح، ويكمل مؤكداً: إنني أعرف قدراته جيداً ، فقد عايشت حالات غيبوباته من الدمام إلى الرياض، إلى أمريكا.
رغبت بعد أسبوع أن أزوره في المستشفى ، ولكن أحمد أكدّ لي أن الأطباء يمنعون الزيارة عنه حرصاً على راحته النفسية، لأن زيارة الأصدقاء تشعره بعجزه، مما يؤثر على استقرار حالته، فقبلت كلامه على مضض، مثلما قبل كل المحبين لعبد العزيز ، وتركناه في رعاية الله.
وفي الساعة السادسة من مساء يوم الأحد /5/2000م ( بعد أربعين يوما من بدء الغيبوبة) ..... هاتفني صديقه الوفي، القاص والكاتب المعروف، سعد الدوسري من المستشفى، وهو يغالب حشرجة البكاء، وقال لي: لم أجد أحداً أقرب منك لعبد العزيز لكي يشاركني حزن هذه اللحظة... وأضاف: بعد قليل سينزع الأطباء عنه أجهزة التنفس الاصطناعية، وسيمضي إلى رحمة ربه.
كانت زوجتي قريبة مني، فصرخت باكية، أما أنا فقد تحجر الدمع في عيني، وبقيت متماسكا حتى ونحن نواريه الثرى في جدة، ولكن غصة الفقد والحنين ظلت معلقة في صدري... ورأيت أن أفضل عمل أقوم به لمغالبة الحزن، هو متابعة تصحيح بروفات أعماله الكاملة.
انهمكت في تصحيح مجموعاته القصصية، وفي كتابة مقدمة لها، وكنت أجد العزاء في قراءة تلك الأعمال، وأحسه بجانبي يحدثني، ويمطرني بوافر سخرية الحكايات، ولم أشعر بحقيقة فقده إلا بعد أن أكملت تلك البروفات... وقمت بدفعها إلى المطابع... وحينها ... وحينها فقط... أحسست أنني فقدت عبد العزيز إلى الأبد، فبكيت عليه كما لم أبك في حياتي.

* * *
أدركت ، بعد قراءة رواية" المغزول" أننا أخطأنا في عدم الأخذ بالرأي القائل بضرورة دفنه في مقبرة القرية، ذلك أن هذه الرواية التي سجلت حالة غيبوبته في أمريكا وإحساسه بالموت، قد تضمنت ما يشبه الوصية، حيث ذكر فيها " أسألوا أمه أن تقود سيارتها وتحمل جثمانه إلى مقبرة القرية".
لقد كان من اللائق بعاشق القرى ، أن يتوسد في موته رائحة المكان الذي أحب، والشجر الذي عشق، وأن يكون له قبر معروف يمكن لمحبيه أن يأتوا إليه لقراءة الفاتحة على روحه، لا أن يدفن في مقبرة واسعة لا يعرف لقبره منها موضعا.
وها نحن الآن ، نعاود جمع الحروف من جديد ، بعد أن تأخرنا في إخراج هذه الرواية من مخزنها ، وذلك لأننا كنا نود إصدارها ضمن الجزء الثاني من الأعمال الروائية، غير أن الظروف القاسية التي مررت بها قد أعاقت صدور الجزء الثاني لمدة تقرب من العامين، ولذا رأينا إصدارها الآن بشكل منفرد.
والآن، لا يقلقنا أكثر من حرصنا على إخراج هذا العمل بأقل قدرٍ من الأخطاء، لأننا قد خبرنا حرص الكاتب على دقة متابعته لنصوصه، وغضبه لأتفه الهفوات، ونسأله أن يسامحنا على ما قد يصيب النص من تصويبات أو اجتهادات بسيطة قد لا يوافق – عبد العزيز- عليها لو كان بيننا.
وقد بذل شقيقه احمد مشري كل جهده، للوفاء للنص الأصلي، كما قمت أنا وزوجتي فوزية بمقابلة النص المطبوع بأصله في المخطوطة ، للتأكد من بعض الكلمات ، أو الفواصل، أو الأجزاء الواردة بالبنط الأسود، وقد بالغنا في الحرص على الوفاء للنص الأصلي،ولكن صديقه الشاعر محمد الدميني الذي صحح البروفة ما قبل النهائية، كان أشجع منا، أو أكثر تحرراً من قيد تلك المعرفة اللصيقة بحرص عبد العزيز على صياغاته، واستخدامه لبعض الكلمات في غير موضعها عن قصد، فأجرى محمد قلمه بالكثير من التصويبات ، وأبدى بعض الملاحظات البنائية والجمالية ، التي أخذنا بالكثير منها، إلا ما أدركنا - بحكم الخبرة- أن المرحوم لا يمكن أن يقبل به، سواء من الناحية الفنية أو الناحية الرقابية.


(2) : قراءة عابرة
شكّل الكاتب في هذا العمل بناءً فنياً مغايراً لما ألفناه في سردياته السابقة، حيث خرج من نسق "خطية " الحدث وتلازماته الزمنية التعاقبية النامية، واستبدله بنسق تداخل الأزمنة والأحداث، وهذا عمل شاق على كاتب لا يستطيع – لضعف نظره - قراءة ما يكتب بيسر وسهولة. وكان هاجسه منصبّاً على البحث الشخصي عن إمكانية تطوير شكل خطابه الروائي، تعبيراً ودلالة ، وان يقارب بصنيعه هذا مناطق شائكة، كان قد حرص على تجنبها ، بعد عمله الروائي الأول" الوسمية " .
و قد استطاع الكاتب أن يحول تجربة حياتية واقعية إلى عمل فني ينطوي على كثير من الغرائبية تفوق في تفاصيلها مهارات التخييل الفني والفنتازيا، فلم يكن بحاجة لتركيب حياة متخيلة توهمنا بحياة حقيقية، بل أن كل ما فعله هو استعادة أجزاء متشابكة ومتعارضة في تجربته هو مع المرض وسجون المستشفيات، لينجز، هذا العمل الشديد الخصوصية والشفافية والصدق.
إن ما عايشه الكاتب ليس مهما بحد ذاته ولكن الأهم هو كيفية التعاطي مع تلك التجربة الخاصة، والعصية على التكرار، حتى بدا الواقع أكثر سريالية من جهد التخييل والابتكار؟
لقد أفاد عبد العزيز من ممكناته الثقافية ، ورؤيته النقدية، وحساسيته الخاصة للغة، واستخدام لعبة الزمن الدائري، واستنفار ما ينطوي عليه من مقدرة على استخدام فن السخرية، من أجل صياغة نص يغلب عليه طابع التأمل، والمكاشفة ، وتسمية بعض الحقائق – المستورة بحجاب هش- بأسمائها، و ليسهم مع غيره في طرح الأسئلة ، ودفع المناخ الاجتماعي والثقافي في المملكة إلى حالة نسبية أرقى من ذي قبل، للقبول بالحوار،والمكاشفة، ونبذ العنف، و تقبل نقد ثقافة التشدد والإقصاء والتكفير.
ولو كان القدَر قد أسعفه بحياة أطول لتلمس بيديه مصداقية ما ذهب إليه، ولتنفس معنا هواء أكثر نقاء وقبولاً للمغايرة، وأقل تسمماً من ذلك الفضاء الخانق الذي احتملناه منذ نهاية الثمانينيات وحتى أحداث تفجيرات " المحيا" وغيرها بالرياض.

* * *
تبدأ رواية "المغزول" بهذه الجملة: ("أين رجلي ...أعيدو لي رجلي" ... هكذا كان "زاهر المعلول" وقت إذ مد يده ليمسك موضع تنمّل شديد في إصبع قدمه اليمنى".
وتنتهي الرواية بعبارة ( وحمله كحشرة بلا قدمين، ووضعه في السرير).
فالبدء بتر للرجل اليمنى ( وتعني القدم والساق والفخذ)، و النهاية بتر للرجل اليسرى حتى أصبح كحشرة بلا رجلين، وتم حمله إلى السرير. وما بين حالتي البتر تتعالق أحداث تضم بدء المرض في مرحلة الطفولة، وتلتف السيرة بطريقة دائرية كحبال مختلطة، لا بدء لها ولا نهاية، لكنها سيرة حياة طويلة وغنية، أصيب بطلها بمرض السكري في بيئة لا تعرف للأمراض علاجاً إلا قراءة الفقيه أو رقية المداوي، ولا تتوقع أن يصاب شاب ناحل في بيئة فقيرة "بداء الملوك"... وينتج عن ذلك المرض الأصل، سلسلة من الأمراض تشمل النظر، والفشل الكلوي، وغسيل الدم " الديلزة"، وفقدان التوازن، وضغط الدم، ومعاقرة أمراض مزمنة لا برء منها، ولذا يغدو المرض والمريض توأمان سياميان لا انفصال لأحدهما عن الآخ، ويغدو المستشفى سجناً مؤبداً، بدون تهمة محددة، بل يمكن أن يكون السجن العادي أكثر رحمة بنزيله من مريض المستشفيات، لأن السجين يقضي مدة عقوبته مفعماً بأمل الخروج منه والبدء في حياة جديدة.
فكيف تعاطى الكاتب مع توأميه :المرض وسجن المستشفيات في حياته وإبداعه؟
استطاع الراوي في هذا العمل التغلب على عنف المرض، من خلال التعامل العقلاني معه، فيقول :" المرض المزمن يخاف من الابتسامة، وحب الناس وحب الحياة... يخاف من الذين يتعاملون معه بعلمية، ويكافحونه بعدم التصديق للشائعات ، والدعايات الرائجة".
إن الكاتب يحيل المرض إلى مصدر للمعرفة ، ومختبر لفضح مركبات الجهل والخرافة والدجل، ويخلق من مقاومته معادلاً للسعي في استرداد الكرامة والحرية، حيث يقول: " ليست كل العذابات المرضية أكبر من انتزاع كرامة الإنسان ، وليست الأوجاع الليلة بأقسى من مصادرة حرية المرء". ويذهب إلى أن يرى في المرض تحدياً إيجابياً لشحذ القوى الكامنة في الإنسان لمعاندة كل أشكال البطش والهوان، فيقول: استذكر"زاهر" شيئا جوهرياً ...يمد إليه يده كلما وقع في أمر صحي جديد. إن الإنسان لا يقهره شئ، وأنه يكون قد تهيأ لمرحلة تبرز فيها قواه التي لم يكن يدرك فجأة تحمّلها، ثم إنه يراها في قبضة تحكّمه وإرادته، وأنها سهلة أمام تغلبه عليها، حتى ولو كانت أصعب من الخيال".
والكاتب في عمله مثلما في حياته، امتلك القدرة على النظر إلى مرضه كمساحة للتأمل، ليخلص إلى القول بأن : المرض في حياة الإنسان ليس سوى فرصة لتهذيب العناء ، واكتساب الخبرة من وطأة عناء التجارب"، بل إن عبدالعزيز قد أحال المرض إلى سياج يحمي الذات من" مخالطة من لا طاقة له على احتماله من الناس"، لكي يحقق لذاته نزوعها الدائم نحو التأمل والانفراد بالنفس، ويهبها الزمن الكافي للقراءة والكتابة و الإبداع بالقلم و ريشة الرسم، وريشة العزف على آلة العود!
لم يشتك عبدالعزيز من المرض ،ولم يضعف أمام جبروته، بل كان يفلسفه ويطبق في واقعه فلسفة القدرة على احتماله، مؤكداً دائماً على أن المرض حالة يومية اعتيادية، كالنوم ،والأكل والاستمتاع. ولقد كان أقسى ما يزعجه ، ما يراه من نظرات شفقة باردة من بعض المحيطين به، ولذا كان المرض عنده مصهراً لتطهير الروح ، وملاذاً للانفراد بالنفس وحب الحياة بكل تفاصيلها، حيث يوجه خطابه لكل مريض :" لا تخف من الموت... ليس لأنك لن تموت، بل لأنك لا تزال تدرك معنى الحياة".
أكثر من غيره ، قاسى مؤلف "المغزول " نوازل المرض المزمن، حتى بلغ في رحلته العلاجية في أمريكا حافة الموت او خيّل إليه أنه قد تجاوزها، ووصل حالة العدم ولم يجد شيئاً، ولكنه كان يمتلك رغبة كامنة في الحياة ويوما موعودا لم يحن بعد، فعاد من موته إلينا من احد مستشفيات الولايات المتحدة، ليدوّن لنا واحدة من أهم الشهادات الإنسانية التي يمر بها مريض دخل غيبوبته، وشارف على الموت، ثم تجاوزها ثانية إلى الحياة.
وحينما نقف أمام هذه الإرادة الفولاذية والرؤية المتماسكة للتعايش مع عدو ما من ملازمته بد، فكيف نفسر ضعفه وعدم قدرته على احتمال "التنويم " في أي مستشفى ، ولو لليلة واحدة؟
لقد حفل هذا العمل، مثلما حفلت حياة كاتبه ،بشعور عدائي مضخّم إزاء "التنويم "في المستشفيات، جعله لا ينظر إليه كضرورة يجب التعاطي معها بعقلانية،بل إلى " فوبيا" نفور وكره للمستشفيات ،لا يقل عن رعب الإنسان من احتمال دخوله للسجن ، حتى أن هذا الخوف من المستشفى قد حمل كاتبه لتصويره سجناً حقيقياً، فنجده يصف الحياة في داخل عنابر المشافي ومعاناة النزيل، وثقل الزمن، وقسوة الممرضين والممرضات، وبعض الأطباء، بما يوازي ما يعانيه المسجون في زنزانته.
إن كاتبنا يكره القيد ويعشق الحرية ، و يفزع من احتجازه رهيناً للعلاج في عنابر المشافي، وربما يعود ذلك إلى حبه للوحدة وعشقه لمكانه الخاص وغرفته الخاصة التي تشكل له عالما بديلا لكل ما عداه، حيث يجد فيها ملاذا من قسوة الآخر ، وباباً يفتحه على ثقافة العالم ، وموقعا أليفا للقراءة والإبداع، ولعلنا – القريبين منه – نعرف عنه حبه للعزلة، وزهده في الرحلات، واعتذاره عن حضور الكثير من المناسبات الخاصة، تعلقاً بعالمه الإبداعي الخالص ووفاءً له.
وهذا الإحساس العارم بالرغبة في امتلاك الحرية من خلال العزلة – ولعلها سمة العديد من المهمومين بالكتابة بشكل عام - ، قاد الكاتب للهرب المستمر من المستشفيات، حتى أنه كان يهرب – مع مرافقه – من مستشفى الرياض إلى بيته في الدمام ليلاً، ويعودان إليه قبيل الفجر، بعد أن يقطعا مسافة ثمانمائة كيلومتر ذهاباً وإياباً، من أجل التمتع بسويعات خاصة في جنة غرفته الصغيرة. وذلك ما جعل من كتابه هذا مديحاً في مقاومة المرض، وهجاء لا حدود له للمستشفيات، و هو ما يفتح النص لقراءته كمحتوى أدبي، لا يختص بالمرض وحده بل وبالسجون أيضاً.
وإذا كان التشوف للحرية سبباً كافيا لتبرير هجاء المستشفيات، فإن هناك سبباً آخر لا يقل أهمية في التعرف على دوافع ذلك الكره ، ومرده إلى ما ينطوي الكاتب عليه من حس إنساني بالغ الرهافة والشفافية، يدفعه لتجاوز حالته المرضية إلى التعاطف مع حالات المرضى الآخرين، والإنصات بحب وألم لأنينهم الذي يتسلل إلى أعماق الروح.وكان ذلك مدعاة لمضاعفة ألمه حين لا يستطيع شحنهم بثقافة المواجهة التي تدرب عليها , ولا يتمكن من مساعدتهم في غياب عناية الممرضين والأطباء، ونقص الرعاية والعلاج. ومن هنا تجئ دلالة استدعاء الكاتب لشخصية "السليك ابن السلكة" ، أحد زعماء فقراء الصعاليك، الذين كانوا يتحسسون الفوارق الطبقية وغياب العدالة الاجتماعية، فيذهبون إلى تطبيقها بأنفسهم، لينهبوا الفائض من أموال الموسرين ليردوه إلى فقراء البلاد، حتى وإن لم يجدوا إلا "جملاً أجرباً " تركه صاحبه بعيداً عن خيمته.
ولم يكتف الكاتب باصطحاب تجربة "سليك" وحدها كتعبير عن ذلك المعنى التاريخي المبكر للمفهوم الإيجابي للصعلكة، والكامن في ضرورة قيام الفرد بمسئولياته لتحقيق قيم العدالة، وإنما حمل معه هموم الفقراء والمحتاجين في الوطن، وعذابات المشردين في المنافي أو تحت وطأة الاحتلال،وعبّر عنهم في مرافعاته الساخرة ضد قوى التعسف والاحتلال، حتى بلغت نبرته علو ذروتها في نهاية الرواية، حين لم يترك شيئا دون نقد أو احتجاج.
وبالرغم من تأكيده في مواقع من النص على لسان "الراوي" : " لست شعارياً ولا مناهضاً عاطفياً وراء القيادات المعادية في عالم التنمية الثالث، ولست عدواً لأحد، ولا مباركاً لأحد، غير أن عظامك قد تكونت بفتافيت ذراتها على نبذ كل ما هو فتاك بالإنسانية في الدنيا"، إلا ان النبرة العالية في نهاية الرواية قد تحولت إلى انفلاتة عبارات وجمل احتجاجية صاخبة ، أخلّت بالإيقاع المتدرج في نبرة الخطاب، و خرجت من لغة الحكمة و التعقل في توصيف أحوال "زاهر "ورؤاه، إلى هذيان محموم /"مغزول" ، لم يعد يفد معه غير صوت مضاد عالِ يقول له بغضب: أصمت .. أصمت
لم تمد الحياة عبد العزيز ليكمل ما بعد الهذيان، لكي يعقلن الاندفاعية المكبوتة، أو لكي يوسع من آفاق تحليلها والتأمل في مقاربتها، أو مقارعتها، ولعل محاولتنا لتبريرها يجد منطقه حين نٍنظر إليها على أنها الصرخة الأخيرة التي يطلق فيها الموجوع أو المظلوم صوته، قبل أن يقاد إلى حبل المشنقة أو حد السيف، أو الاقتراب من حافة الموت.

(3) :خاتمة
هذا كتاب في هجاء التألم من الألم، ومديح للقوى الخفية في الإنسان، واستنهاضها لتعينه على مواجهة قدره، فردياً كان أو جماعياً، ثقافياً كان أو سياسياً،ولعل أهم ما ينطوي عليه العمل ، هو ما يوحي بالمشابهة بين المرض الفردي الصحي المزمن الذي يعانيه " المغزول"، وبين أمراض الفقر والجوع والقهر والتخلف التي ينؤ تحت أثقالها ، عالمنا العربي الكبير.
ولعل قدرة "زاهر" وإرادته على تحويل الضعف إلى قوة، هي بنية المعادل الرمزي المتخفية في قاع النص، والتي تنبهنا إلى أهمية الاعتداد بالذات، والثقة في النفس، ومقاومة الأمراض العديدة التي تتغلغل في أبداننا , و أفكارنا , وأوطاننا.
إنه كتاب ، وحكمة معاً...ً
كتاب في كتابة الألم ، يحتاجه المرضى ليتعلموا كيفية مواجهة المرض والتغلّب عليه، وما أحرانا بتوفيره لنزلاء المستشفيات والسجون معاً، ليعيدوا اكتشاف تلك القوى الكامنة في كل إنسان، والقادرة على الاحتمال، والنظر بعين باسمة إلى حياة أكثر عدالة، وحرية ، و عافية و بهاء.
وهو حكمة أيضاً ، في بعده الرمزي المحرض على زرع ثقافة التفاؤل والأمل ،ليس في الأجساد المتعبة و القلوب الكليلة وحسب، وإنما في الأوطان المنهكة ، والشعوب المقهورة، لتكتشف مكامن قوى المقاومة فيها، و مقدرتها على حب الحياة، وصنعها أيضاً!


الظهران 1/12/2005

علي الدميني



من أسرة

أصدقاء الإبداع
أصدقاء عبد العزيز مشري .

 

 
























التوقيع



   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:49 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir