اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالرحيم بن قسقس
المهم ان هذه الحلقة من ذكرياتك لم تتجاوز خروجك من القرية التي كنت تدرس وتسكن فيها ووصولكإلى الطائف حيث استضافك الأخ أحمد سرور الزهراني
يعني بعد تعلمنا في حلقة جديدة بيوم صحيت الصبح وكيف وصلت الطائف وهكذا
يا نافدا الخنافر على قول أبو ياسر ----------------------------------------------------------------
مادام المسألة فيها يا نافدا الخنافر ولأني من خمسين تقريبا ما سمعتها فلا مانع من إضافة حلقتين مدمجة حتى يكتمل المعنى ,, وإن شاء عما قريب تتضح السيرة والصورة تماما في مجال أرحب وأوسع مع تقديري لمشاعرك ومشاعر الأخ عبدالحميد حيال ما كتبت , طبعا الرد واحد والعلم واحد لكما بالتساوي :
الاستعداد لوظيفة ( معلم )
كما يبدو تختلط على الإنسان عدة مشاعر بعد التخرج من المعهد ما بين الشعور بالرجولة وأن الواحد أصبح معلما مع راتب جيد , ومابين مشاعر من الألم بالتوقف عن الدراسة النظامية , و قلق آخر مخيف جدا يقض المضاجع حول مسألة التعيين والاستقرار , فالواسطة هي المعيار الأول ونحن القرويون لدينا قدر كبير من الخجل , والدليل أنني ذهبت للمسئول عن التعيين الذي كان اسمه متداولا على لسان كل معلم بصفته المتحكم المباشر لمسألة التعيين , فهو يوازن الأمور حسب الفراغ والاحتياج الموجود لديه وحسب ما يرد من تعليمات وأوامر قوية من جهات أعلى , فيبدأ بسد الثغرات البعيدة بأمثالي مستخدما أساليب ذكية في إقناع المعلم الجديد وتخويفه , فأنا مثلا عرض علي مدرسة تبعد خمسين كيلومتر بطريق غير مسفلت تعتبر منفى , وأخرى تبعد مائة كيلومتر , قائلا : ترى هذه القريبة ( بتروح ) عليك , خذها قبل ما يجئ واحد يأخذها عليك , وما يبقى عندك إلا تلك البعيدة , وبدون جدال استسلمت لتلك النصيحة الغالية بدون أن أنطق حرفا . بعدها بأيام وجدنا الطلاب النافذين وبالذات من يسمون ب ( أهل البلد ) تم تعيينهم في وسط المدينة وضواحيها , ونحن على ما بنا من مآسي سابقة زادت عليها مآسي البعد عن المدينة والعمل في قرية نائية متخلفة .
معلم الصبيان في القرية
سألت عن الموقع وطريقة الذهاب إليها , فأخبرونا بأن هناك موقف بالشهداء لسيارات ( الخضرة ) ويعنون بها السيارات التي تفد من القرى لتنزيل الفاكهة – كل الفواكه تسمى خضرة – اعتليت سطح شاحنة سيارة فورد مليئة بصناديق فارغة , عصر ذلك اليوم , مع عدد من الركاب الجالسين على الصناديق ( الهواري ) مستمسكين بالعوارض الحديدية للشاحنة , الركاب القرويون يمازحون بعضهم ويتطالبون من باب التمثيل وتمضية الوقت لا يشغلهم هم ولا حزن , وأنا من جانب أرصد تلك العادات والسوالف الأصلية للسكان القرويين من ضواحي الطائف , ومن جانب آخر أفكر في المجهول الذي أقدمت عليه بهذا السفر إلى قرية نائية مجهولة من باب المغامرة فالوقت مقترب من الليل بسبب الموعد المتعارف عليه لتحرك السيارات لتلك القرى والذي يكون غالبا بعد العصر .
أنا في حالة لا أعلم ماذا أجد أمامي ؟ وأين أسكن وأين أنام ؟ ولا سبيل للعودة في الوقت الذي أرغب . قبيل الوصول للقرية كان الركاب متعاطفين معي جدا لمعرفتهم أنني تعينت معلما بهذه القرية , وكانوا يتناقشون واحد يقول : ودوه عند أديب والله أنه طيب , وما بيلقى أحسن منه – أديب معلم لبناني معروف لديهم – وآخر يقول : ودوه عند الزهراني , على اعتبار الزهراني أقرب للغامدي , وفعلا اقتربنا من القرية بعد رحلة شاقة وجبال عالية . فاخترت بيت الزهراني بعد أن دلوني قبيل صلاة العشاء مع ظلام دامس لا كهرباء ولا أي حركة , لا يوجد معي لا شنطة ولا أية أغراض خاصة , طرقت الباب وعرفته بنفسي وهو ساكن بعائلته , فأبدى ترحيبا ولطفا وعطفا علي من هذا المصير لأنه من المعهد القديم وبالتالي هو أكبر مني سنا , بالرغم أن الوقت محرج جدا وغير مناسب , ومع ذلك فقد دبر أموره معتذرا لي بأن الوقت ليل ومتأخر لكن الجود من الموجود , أكثر ما يشغل بالي في تلك اللحظة مسألة المبيت وفي النهار سيتم حل كل الأمور , بت تلك الليلة لدى الزميل الشهم الأستاذ علي بن معدي الزهراني , في اليوم الثاني صباحا كانت لي البداية مع أولى أيام الوظيفة ( الغصب ) معلم الصبيان .
وجدت بالمدرسة ستة معلمين أجانب لبناني وسواداني والبقية فلسطينيين وثلاثة سعوديين أنا أحدهم , جلست مع المعلمين الأجانب وأنا كلي ثقة أشاركهم الحوارات السياسية والمعلومات العامة والطرائف , كانوا مثقفين جدا ومتعلمين مقارنة بنظرائهم من المعلمين الوطنيين خريجي المعاهد القديمة والمعاهد الثانوية الجديدة , وفي أدائهم التعليمي كانوا متميزين وجادين بلا حدود , إضافة إلى مظهرهم وقوة شخصياتهم , حتى رواتبهم كانت عالية وتقترب من رواتب المعلمين الوطنيين .
تلك الفترة تسمى عودة المعلمين والطلاب يفدون بعد عدة أيام , ساعدني على تدبير أمر السكن أولئك المعلمين الوافدين وعلى رأسهم معلم فلسطيني غزاوي , جاد ومرح كأنه من أهل البلد اسمه ( محمود بركة ) فاستأجرت بيتا مناسب جدا ونظيف يحتوي على غرفتين ومطبخ وحوش بدون كهرباء - هذا يعتبر نصف المنزل يخصني - ونصف أخر مماثل يسكنه خوي مع أسرته يعمل بمركز أمارة مجاور للقرية , المنزل يعود لمزارع كبير يمثل النظام الإقطاعي بكثرة أملاكه ومزارعه وشدته , بإيجار شهري قدره أربعون ريالا . كما تم الاتفاق مع العم صالح لكي يحضر لي كل ثلاثة أيام تنكتين من الماء على حماره المخصص لنقل الماء , بخمسة عشر ريالا شهريا , وشعرت بنوع من الرضى والقناعة بالأمر الواقع , علي أن أبدأ حياتي من جديد لإصلاح تعثر الثلاث سنوات السابقة التي قضيتها بمعهد المعلمين على غير رغبة مني .
استأذنت من المدير على لمدة يومين على أساس إحضار أغراضي الخاصة من الباحة فلم يعد لدي أي ارتباط بأي سكن في الطائف , فلوى المدير براطمه معتذرا بالقول :
- (والله ييييييي ما أقدر .. ما أقدر والله .. واللهي ما أقدر
كانت تلك أول بادرة ومواجهة مع مسئول في أول يوم من عملي .
- طيب شوف أنا ما علي غير ثوبي واحتاج أحضر أغراض السكن
- ( والله ييييييييي .. ما أقدر )
بالكاد وافق على يومين بالرغم أن الدراسة لم تبدأ ولا يوجد أي ضرر من غيابي والأمر ضروري جدا بالنسبة لي .
لدى المدير من تلك الممانعة سبب وجيه , فقد كان في الأعوام السابقة طيبا متسامحا , مهملا في السماح للمعلمين بلعب كرة الطائرة في الفسحة والحصة الرابعة أيضا , مع اقتطاع جزء كبير من الحصة السادسة الأخيرة والانصراف قبيل انتهاء الدوام الرسمي , ولما حصل سوء تفاهم مع مدرس فلسطيني ضخم الجثة , جهوري الصوت , توجه ذلك المعلم إلى الإدارة متقدما بشكوى ضد المدير , بشأن تلك التسهيلات التي كان يستفيد منها الفلسطيني وكان أكثرهم صراخا وتشجيعا أثناء اللعب اعتبرها بعد الاختلاف في وجهات النظر أعمالا غير نظامية . والإدارة تقف دائما مع النظام فحصل لوم ولفت نظر للمدير , مع نقل المعلم لمدرسة قريبة مجاورة يداوم إليها بدباب ( موتور سيكل ) , لهذا بدأ المدير بداية جديدة غير متسامح مع أي ظرف .
بالمناسبة هذا المعلم الفلسطيني لديه كامل عدة إصلاح الدوافير , سواء لأهالي القرية أو المعلمين وهوايات إصلاح روادي وغيرها , وفي وقت لاحق بعد عدة سنوات عرفت مصادفة عندما كان لي محل خاص ( خطاط ورسام ) بشارع 25 بالطائف أنه يسكن بجوار محلي هذا , ويقوم من منزله بعمل وسائل إيضاح ورسومات مطلوبة في المدارس للطلاب والطالبات والمعلمات , ينفذها بشكل بعيد كل البعد عن أي ذوق أو فن , فلا يوجد لديه فرق بين رسم لوحة فنية وبين إصلاح دافور , لكن أكثر الناس ممن لا يعرف أصول الخط والرسم يقبلون بأي شيء , لهذا تجد سوقه ماشي , والرزق على الله
بعد أخذ الموافقة من صاحب السيادة مدير المدرسة في صباح ذلك اليوم جلسنا ننتظر لساعات وصول أي شاحنة أو ونيت يمر مصادفة من جوار المدرسة , ونتحسس أي صوت لموتور السيارة من بعيد فالصوت يصل قبل صورة السيارة المختفية بين الجبال والوديان , حتى أن الزميل الزهراني وقف بجواري يتحسس معي لعل وعسى نسمع صوت سيارة , ومن لطفه وشيمته قال المعذرة لو وقفت معك انتظر قدوم سيارة . حيث أن أصول الضيافة لا تجيز للمضيف أن يساعد أو يسهم في خروج الضيف من منزله .
وصل بالكاد ونيت فورد حظيت بالركوب في الغمارة لأنني معلم والمعلم في القرية له شيء من الاعتبار والتقدير يسمونه ( اللستاد ) والمجموعة ( اللستادين ) في ذلك المشوار وجدت الركوب مريح جدا في غمارة السيارة الفورد بشكل خيالي ورومانسي , بعكس الشاحنة التي ركبت بها سابقا أثناء قدومي للقرية , فالونيت يتمايل ولا تجد أدنى إحساس بالتعب أو الإجهاد . جوانب الأبواب الداخلية كما جرت العادة مزينة بصور فنانات ذلك الزمن أمثال سميرة توفيق وصباح وشاديه , السائق ( دخيل الله ) شاب مهذب وسيم الطلعة , طول الوقت يغير شريط الكاسيت من أغنية إلى أخرى كلها للمطربة الذائعة الصيت في تلك الفترة ( توحة ) أغانيها تتوالى واحدة بعد أخرى وأغلبها أغاني زواجات منها :
يا ماشي الليل فين رايح ........ تزل حارتنا بالعاني
تراك ممنوع بالموجب ........ في هذا الحارة خلاني
---------------------------------------------
أسألك بالله هل هذا صحيح .... قلبك الطيب بلاني يا مليح
لا تجاملني معي خلك صريح .....قولها كلمه وخليني أستريح
-------------------------------------------
عاش من شافك ......... يا كامل أوصافك
نورت حارتنا ............ والليلة فرحتنا
نكايد العزال .. .........أهلك وأحبابك
تلك الكلمات واللحن يزيد من السباحة في عالم الخيال لشاب محطم الآمال , فإذا صرفنا الآن النظر عن الصوت , فإن الكلمات فعلا كانت صادقة في التعبير عن المعاناة والوجد والكمد , وهو أمر ما كنت سالما منه