وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)؟
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
ورد في تفسير القرطبي لهذه الآيات
قوله تعالى: "والشعراء" جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء; قال ابن عباس: هم الكفار "يتبعهم" ضلال الجن والإنس. وقيل "الغاوون" الزائلون عن الحق, ودل بهذا أن الشعراء أيضا غاوون; لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة "النور" أن من الشعر ما يجوز إنشاده, ويكره, ويحرم. روي مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلي الله عليه وسلم يوما فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء) قلت: نعم. قال (هيه) فأنشدته بيتا. فقال (هيه) ثم أنشدته بيتا. فقال (هيه) حتى أنشدته مائة بيت. هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته. وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه; وهو وهم; لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلي الله عليه وسلم. واسم أبي الشريد سويد. وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا,
قال ابن العربي: أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد; فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل, وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلي الله عليه وسلم:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول .. متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا .. إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت .. كأنه منهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع, والنبي صلي الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح. وأنشد أبو بكر رضي الله عنه:
فقدنا الوحى إذ وليت عنا . . وودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا .. توارثه القراطيس الكرام
فقد أورثتنا ميراث صدق .. عليك به التحية والسلام
فإذا كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده, فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا. قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهي, وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر, أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا, ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى, فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله; وروي أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم على المنبر يقول: (أصدق كلمة - أو أشعر كلمة - قالتها العرب قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أخرجه مسلم وزاد (وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال: ويلك يا لكع! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي, فحسنه حسن وقبيحه قبيح
وقال ابن شهاب: قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك! فقال: إن المصدور إذا نفث برأ. وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم, فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة, وأشحهم على حاتم, وإن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي, وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء; رغبة في تسلية النفس وتحسين القول; كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبدالملك سمع قوله:
فبتن بجانبي مصرعات .. وبت أفض أغلاق الختام
فقال: قد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: "وأنهم يقولون ما لا يفعلون
وروي إسمعيل بن عياش عن عبدالله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام) رواه إسمعيل عن عبدالله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. وروي عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام). روي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا)
وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا) قال علماؤنا: وإنما فعل النبي صلي الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله, فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد أتخذ الشعر طريقا للتكسب, فيفرط في المدح إذا أعطي, وفي الهجو والذم إذا منع, فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام. وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه, ولا يحل الإصغاء إليه, بل يجب الإنكار عليه; فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما أستطاع, ويدافعه بما أمكن, ولا يحل له أن يعطي شيئا ابتداء, لأن ذلك عون على المعصية; فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض; فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة.
وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معني. قال الشافعي: الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام, يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته, وقد كان عند العرب عظيم الموقع. قال الأول منهم:
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال النبي صلي الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين: (إنه لأسرع فيهم من رشق النبل) أخرجه مسلم. وروي الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلي الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدالله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله .. اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله .. ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا بن رواحة! في حرم الله وبين يدي رسول الله صلي الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل.
.......
وقال أبو الحسن المبرد. لما نزلت: "والشعراء" جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صلي الله عليه وسلم; فقالوا: يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية, وهو تعالى يعلم أنا شعراء ؟ فقال: (اقرءوا ما بعدها "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" - الآية - أنتم "وانتصروا من بعد ما ظلموا" أنتم) أي بالرد على المشركين. قال النبي صلي الله عليه وسلم: (انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات) فقال حسان لأبي سفيان:
هجوت محمدا فأجبت عنه .. وعند الله في ذاك الجزاء
وإن أبي ووالدتي وعرضي .. لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء .. فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه .. وبحري لا تكدره الدلاء
وقال كعب يا رسول الله! إن الله قد أنزل فى الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل). وقال كعب:
جاءت سخينة كي تغالب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا). وروي الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون" منسوخ بقوله: "إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات..
هذا والله اعلم
اسأل الله الهداية لنا ولكم وجزى الله الذي كتب بمعرف جبل العبالةخير الجزاء على نصيحته