يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-12-2012, 07:22 PM   رقم المشاركة : 111

 

عبادات يسيرة بأجور كبيرة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 رمضان 1433هـ بعنوان: "عبادات يسيرة بأجور كبيرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإكثار من النوافل بعد شهر رمضان؛ من الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وغير ذلك، وذكرَ العديدَ من الأحاديث الدالَّة على عِظَم أجور الكثير من العبادات اليسيرة؛ كالذكر، والوضوء، والصلاة، وإماطة الأذى عن الطريق، وما إلى ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُعيد المواسم والأعياد، ومُيسِّر طرق الخير ليستكثِر العبدُ من الخير ويزداد، فالحمدُ لله على ما شرَع، والشكرُ له على ما وفَّق، والفضلُ له على ما هدى، إليه المرجعُ وإليه المعاد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شركاء له ولا أنداد، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله وخيرُ العباد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الهُدى والرشاد، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم التناد.
أما بعد:
فالتقوى - أيها المسلمون - التقوى؛ وصيةُ الأنبياء، وحليةُ الأولياء، وخيرُ عُدَّةٍ ليوم اللقاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
أيها المسلمون:
لم يزَل في ثيابنا عبَقٌ من شَذَى شهرنا لم يخِف، ولم يزَل في نفوسِنا طراوةٌ من تراتيل القرآن لم تجِف، ولم تزَل عيونُنا ندِيَّةً على وداعِ رمضان، ومن ذا يلومُها أن تجِف، وما ذاك إلا لما افتقدناه من لذَّة الطاعات، وحلاوة القُرُبات المُقرِّبات، وما جافانا عنه مركبُ الزمان من العبادات الجالِيَة لصدى النفوس ورانِ القلوبِ.
ولو صابرَ الإنسانُ نفسَه، وغالبَ هواه، وواصلَ نوافل العبادات التي اعتادَها في شهر رمضان؛ من صيامٍ، وقيام ليلٍ، وقراءةٍ للقرآن، وصدقةٍ، وخيرٍ لانقلَبَت حياتُه إلى موسمٍ للخير دائم، وتقلَّبَت نفسُه في رياضٍ من القُرُبات مُتصل، وتمثَّل قولَ الله - عز وجل -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162].
أيها المسلمون:
الأرضُ ميراثُ الله لعباده يختارون منازِلَهم من الجنةِ بقدرِ حرثِهم للآخرة، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ[الزمر: 74]، والمؤمنُ الحقُّ سائرٌ إلى ربه يسعى ويحفِد، لا ينِي حتى يكون مُنتهاه الجنة، ولا يقِفُ حتى يُدرِكَه الموتُ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
ولئن انقضَى شهرُ رمضان - وهو شهرُ مُضاعفَة الأجور - فإن اللهَ تعالى هو ربُّ كل الشهور، وفي الحياة آفاقٌ واسعةٌ للعمل الصالح، وأجورٌ تُضاعَفُ هي - واللهِ - المتجَرُ الرابح، وفي شرع الله وهديِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - فِجاجٌ تُوصِلُ إلى الله، ودُروبٌ تُؤدِّي وتهدِي لمرضاته، وأعمالٌ تستجلِبُ مراضِيَ الله ورحماته، ويُكافِئُ عليها بجنَّته. ولكن أين المُشمِّرون؟!
قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبِي فقال: «كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ». وكان ابنُ عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظِر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِر المساء، وخُذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.
وقد دلَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعمالٍ يسيرة، ورتَّب عليها أجورًا كثيرة، وفتحَ لنا أبوابًا واسعةً من الأعمال الصالحة نتزوَّدُ بها ليوم الحِساب، وندَّخِرُها عند لقاء الله ربِّ الأرباب، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء: 19].
عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُصبِحُ على كل سُلامَى من أحدِكم صدقةٌ؛ فكلُّ تسبيحةٍ صدقة، وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وكلُّ تهليلةٍ صدقة، وكلُّ تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، ويُجزِئُ من ذلك: ركعتان يركعهُما من الضُّحَى»؛ رواه مسلم.
والسُّلامَى: هي المِفصَلُ.
وعنه - رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! ذهبَ أهلُ الدُّثور بالأجور، يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصُوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالِهم. قال: «أولَيسَ قد جعلَ الله لكم ما تصدَّقون به؟ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، وفي بُضعِ أحدِكم صدقة». قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: «أرأيتُم لو وضعَها في حرامٍ أكان عليه وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلال كان له أجرٌ»؛ رواه مسلم.
وقد يبلغُ المؤمنُ أعلى المنازِل بعملٍ يسيرٍ لا يظنُّ أن يبلُغَ به ما بلغَ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّبُ في الجنةِ في شجرةٍ قطَعَها من ظهر الطريق كانت تُؤذِي المُسلمين»؛ رواه مسلم.
وفي روايةٍ له: «مرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: واللهِ لأُنحِّيَنَّ هذا عن المُسلمين لا يُؤذِيهم، فأُدخِلَ الجنة». وفي روايةٍ لهما: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجدَ غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّره فشكرَ الله له فغفرَ له».
أيها المسلمون:
وكلمةٌ يسيرةٌ قد يستجلِبُ العبدُ بها رضا ربِّه الكريم، ويشكُرُ فضلَه العَميم؛ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشرَبَ الشربَةَ فيحمَده عليها»؛ رواه مسلم.
أما الوُضوءُ والصلاةُ، وهي المُتكرِّرة في اليوم عدَّة مراتٍ، فاستمِع إلى ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضَّأ العبدُ المُسلمُ - أو المؤمنُ - فغسلَ وجهه خرجَ من وجهه كلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ يدَيه خرجَ من يدَيه كلُّ خطيئةٍ كان بطَشَتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ رجلَيْه خرجَت كل خطيئةٍ مشَتْها رِجلاه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء - حتى يخرُج نقيًّا من الذنوب»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايا ويرفعُ به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغُ الوضوء على المَكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكُم الرِّباط»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائرُ»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفِّ الأولِ ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستهَموا عليه، ولو يعلَمون ما في التهجير لاستبَقوا إليه، ولو يعلَمون ما في العتَمة والصبحِ لأتَوهُما ولو حَبوًا»؛ متفق عليه.
والتهجيرُ: التبكيرُ إلى الصلاةِ.
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - ويُقال: أبو عبد الرحمن - ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن ثوبان - قال: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عليك بكثرة السُّجود؛ فإنك لن تسجُد لله سجدةً إلا رفعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً»؛ رواه مسلم.
وذِكرُ الله تعالى عنوانُ الفلاح، وشارةُ التوفيق والصلاح؛ عن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن شرائِعَ الإسلام قد كثُرَت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به. قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكرِ الله»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهبِ والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذِكرُ الله تعالى»؛ رواه الترمذي، وقال الحاكمُ: إسنادُه صحيحٌ.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍّ فرَجًا، ورزَقَه من حيثُ لا يحتسِب»؛ رواه أبو داود.
وعن شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيدُ الاستغفار أن يقولَ العبدُ: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلَقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفِر لي؛ فإنه لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت. من قالَها في النهار مُوقِنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسِي فهو من أهل الجنة، ومن قالَها من الليل وهو مُوقِنٌ بها فمات قبل أن يُصبِح فهو من أهل الجنة»؛ رواه البخاري.
وفي الإحسان إلى الخلق؛ لا تتردَّد في معروفٍ، ولا تحتقِر خيرًا تُقدِّمه مهما قلَّ؛ يقول عديُّ بن حاتمٍ - رضي الله عنه -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اتَّقُوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ لهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجُمان، فينظُر أيمنَ منه فلا يرَى إلا ما قدَّم، وينظُر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظُر بين يدَيه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجِد فبكلمةٍ طيبةٍ».
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مسلمٍ صدقة». قال: أرأيت إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيديه، فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهوف». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمرُ بالمعروف أو الخيرِ». قال: أرأيتَ إن لم يفعل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ متفق عليه.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله:
والعملُ الصالحُ المُعظَّمُ أجرُه، والسابِغُ ثوابُه يكتنِفُ المجتمعَ المُسلِمَ بكل علاقاته من الوالدَيْن، والزوجةِ، والأقاربِ، والجيران؛ عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! من أحقُّ الناسِ بحُسن صحابَتي؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أبوك»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ: يا رسول الله! من أحقُّ الناس بحُسن الصُّحبَةِ؟ قال: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثمُّ أباك، ثم أدناك أدناك».
وقولُه: «ثُمَّ أباك» أي: ثم بِرَّ أباك. وفي روايةٍ: «ثُمَّ أبوك».
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسَأَ له في أثَره فليصِل رحِمَه»؛ متفق عليه.
ومعنى «يُنسَأ له في أثَره»؛ أي: يُؤخَّر له في أجلِه وعُمره.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
وعن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه»؛ متفق عليه.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليُكرِم ضيفَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليصِل رحِمَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»؛ متفق عليه.
وفي السِّترِ على الناس قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الجنة. قال: «تقوى الله وحُسن الخُلُق». وسُئِل عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النار. فقال: «الفمُ والفرْجُ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ صحيحٌ".


أيها المسلمون:
يا مَن أكرمَه الله بصيام شهر رمضان! إن من السُّنة أن تصُومَ ستَّة أيامٍ من شهر شوال؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صامَ رمضان وأتبَعَه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهرِ»؛ رواه مسلم.
ويصِحُّ أن تصُومَها مُتَّصلةً أو مُتفرِّقةً.
فاستكثِروا من الصالحات، وأديموا الطاعات، وحاذِروا السيئات، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا[النحل: 92]، ومن أعتقَه ربُّه من النار فلا يرجِعنَّ إلى المعاصي، فيعُود إلى رقِّ الذنبِ وإلى الإسار.
ثم صلُّوا وسلِّموا على النبي المُجتَبى، والرسول المُرتضَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِه بالخير على نُصرة قضايا المُسلمين، وسعيِه لتوحيد صفِّهم وجمع كلمتِهم، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم عاجلاً غيرَ آجلٍ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، وارحمهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ دينَك، وأظهِر أولياءَك، وأخزِ أعداءَك، في عافيةٍ لأمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم تقبَّل صيامَنا، وقيامَنا، ودعاءَنا، وصالحَ أعمالنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:30 PM   رقم المشاركة : 112

 

احرص على ما ينفعك
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 شوال 1433هـ بعنوان: "احرص على ما ينفعك"، والتي تحدَّث فيها عن أصلَين عظيمَين جامِعين لكل أسباب التوفيق ومجامع الخير، وهما: الحرصُ على ما ينفع، والاستعانةُ بالله على طاعته والكفِّ عن معصيته.

الخطبة الأولى
الحمد لله الهادي لمن استهداه، الكافي لمن تولاَّه، أحمده - سبحانه - يُبلّغُنا رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ربَّ سواه، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وأمينُه على وحيِه ومُصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرَه واتبع هُداه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
أصلان عظيمان جامِعان لكل أسباب التوفيق ومجامِع الخير، تضمَّنتهما وصيةٌ نبويةٌ عظيمةٌ، جاءت في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِص على ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا لم يُصِبني كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتحُ عمل الشيطان».
عباد الله:
إن الحرصَ على ما ينفع، والاستعانةَ بالله بالثقة فيه، والاعتماد عليه، والتوكُّل واللُّجوء إليه، هما بمنزلة طريقين من وُفِّق إلى السير فيهما كان هو المُوفَّق إلى بلوغ ما يُؤمِّل، والسلامة مما يرهَب، وذلك بإدراك كلِّ خيرٍ في العاجِلة والآجِلة.
وأعلى ذلك وأشرفُه وأعظمُه: الحَظوة برضوان الله، والنظرُ إلى وجهه الكريم في جنات النعيم، وتلك هي الزيادة التي وعدَ الله بها الذين أحسَنوا العملَ وأخلَصوا القصدَ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[يونس: 26].
فقد جمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذين الأصلَين العظيمين أبلغ جمعٍ وأدلَّه على المقصود، حين أمرَ بالحرصِ على الأسباب، وبالاستعانة بالمُسبِّب - سبحانه -، ونهى عن العجز إما بالتقصير في طلب الأسباب وعدم الحرصِ عليها، وإما بالتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.
والدينُ كلُّه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "تحت هذه الكلمات النبوية".
فالحرصُ على ما ينفع أصلُ كل ما يكون به فلاحُه وسعادتُه في دُنياه وأُخراه، والاستعانة بالله تعالى بالثقة فيه - سبحانه -، والالتجاء إليه، والاعتماد عليه أصلُ القبول، وسبيلُ الثواب، وطريقُ الهداية إلى صراط الله المُستقيم، فإذا حرِصَ المرءُ على ما ينفعه، ولا أنفع له في دُنياه من عبادة ربه التي هي غايةُ خلقه، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
والعبادةُ هي فعلُ كل ما يُحبُّه الله، وترك ما ينهى عنه مُبتغيًا بذلك وجهَه، مُتابعًا فيه رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، كما تكون صلاةً، وصيامًا، وحجًّا، وزكاةً، تكون كذلك شُكرًا، وصبرًا، ورضًا، وشوقًا إلى الله، ودُعاءً، وتذلُّلاً، وتضرُّعًا، وإخباتًا، وإنابةً، وخشوعًا له وحده - سبحانه -.
وتكون أيضًا أكلاً للحلال الطيب واجتنابًا للحرام الخبيث، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وبرًّا بالوالدين، وحُسنَ خُلق، وتوقيرًا للكبير، ورحمةً بالصغير والمسكين، وصدقًا في الحديث، وأداءً للأمانة، ووفاءً بالعهد، واجتنابًا للربا، وسائر ما حرَّم الله، وغضًّا للبصر، وحفظًا للفَرج، وصيانةً للعمر من ضياعه في الفُضول من المُخالطة والنظر والكلام والأكل والنوم.
وحجابًا للمرأة، وعفَّةً وعفافًا، ودعوةً إلى الله على بصيرةٍ، وجهادًا في سبيله، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
وإذا استعان بالله وتركَ عبادة ما سِواه، وفي الطليعة من ذلك: عبادةُ الشيطان الذي هو رأسُ الطواغيت الذي قال الله في التحذير من عبادته: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[يس: 60]، وعبادتُه هي طاعتُه فيما يأمرُ به من الكفر بالله والشرك به.
فإذا فعلَ ذلك فقد أخذَ بمجامع أسباب التوفيق، وحظِيَ بيُمن هذه الوصية النبوية، وكان له من حُسن التأسِّي وكمال الاقتداء بسيد الأنام - عليه أفضل الصلاة وأتم السلام -، وصدق الاتباع لهديِه ما يكونُ عونًا له على بلوغ الحياة الطيبة في الدنيا، والظَّفَر بالجزاء الضافِي الكريم الذي أعدَّه الله بالجنة للمتقين المُوفَّقين إلى الخيرات في الأيام الخالية.
فاتقوا الله - عباد الله -، واستَجيبوا لهذا التوجيه النبوي الذي تضمَّنته هذه الوصيةُ العظيمة، فاحرِصوا على ما ينفعُكم في دينكم ودُنياكم، واستعينوا بالله في كل أموركم، واجتنِبوا القُعودَ عما لا يصِحُّ القعود عنه؛ من خيرٍ تُرضونَ به ربَّكم، وتعلُو به درجاتُكم، وتبلُغون به ما ترجون في دُنياكم وأُخراكم.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
ليس للإنسان أن يدَع السعيَ فيما ينفعه الله به مُتَّكلاً على القدر؛ بل يفعل ما أمرَه الله ورسولُه به، فقد أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المُسلمَ أن يحرِص على ما ينفعه، والذي ينفعه - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "يحتاج إلى مُنازعة شياطين الإنس والجن، ودفع ما قُدِّر من الشر بما قدَّره الله من الخير".
وعليه مع ذلك أن يستعين بالله؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن يكون عملُه خالصًا لله، فإن الله لا يقبلُ من العمل إلا ما أُريدَ به وجهُه، وهذه حقيقةُ قولِك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة: 5]، والذي قبلَه حقيقةُ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
فعليه أن يعبُد الله بفعل المأمور وترك المحظور، وأن يكون مُستعينًا بالله على ذلك، وفي عبادة الله وطاعته فيما أمر إزالةُ ما قُدِّر من الشر بما قُدِّر من الخير، ودفعُ ما يُريدُه الشيطان ويسعَى فيه من الشر قبل أن يصِل بما يدفعُه الله به من الخير، قال الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ[البقرة: 251].
فاتقوا الله - عباد الله -، واجعلوا من الحرصِ ما ينفعُكم، والاستعانة بالله على ذلك ديدنَكم وسبيلَكم تبلغُوا مرضاةَ ربِّكم، وتكونوا عنده من الفائزين المُفلِحين.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم النبيين ورسول رب العالمين؛ فقد أُمرتُم بذلك في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم احفظ إخواننا المسلمين في سوريا وبورما وفلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم كن لهم، واجبُر كسرهم، وارحم ضعفَهم، وأطعِم جائعَهم، واكسُ عاريَهم، وكن لهم بمنِّك يا رب العالمين، وأيِّدهم بتأييدك، اللهم أيِّدهم بتأييدك، اللهم أيِّدهم بتأييدك، وانصُرهم بنصرك يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-25-2012, 12:08 AM   رقم المشاركة : 113

 

مِعيارُ الحق والعدل
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 20 شوال 1433هـ بعنوان: " مِعيارُ الحق والعدل" عند المؤمن، والتي تحدَّث فيها عن ذم الكثرة في القرآن الكريم، وخطورة أن يكون المسلم إمَّعةً يُقلِّد على غير بصيرةٍ وهُدى، وذكر على ذلك الأمثلة والنماذج.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة،وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة.
أيها الناس:
الحق والحكمة ضالَّة كل مؤمنٍ مُنصفٍ عدلٍ، مُؤمنٍ بخالقه ومولاه، يلتمسُ رضا الله لا رضا خلقه، ويهتدي بهدي الحكيم العليم واللطيف الخبير؛ لأنه - سبحانه - وحده الذي يهدي إلى الحق، أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[يونس: 35].
مِعيارُ الحق والعدل عند هذا المؤمنِ الصادقِ وضابطُ الاتباع والانقياد عنده: قولُ الله - جل وعلا - عن أمثاله: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[آل عمران: 53]، هذا هو المؤمنُ البصيرُ الذي لا يخطفُ بصرَه أطيافٌ جذَّابة، ولا سرابٌ بقِيعة، ولا يستميلُ قلبَه تزويقٌ ولا تدليسٌ، قلبُه قلبُ المؤمن الصادق الذي يرى بنور الله، ويُدرِك أن الإثمَ هو ما حاك في صدر المؤمن وكرِه أن يطَّلِع عليه الناس، يتعامَلُ مع ربه كأنه يراه لإدراكه الجازم بأن ربَّه يراه.
ثم هو بذلك لا يُقيم وزنًا لأمر القلَّة أو الكثرة؛ فلا هو يغترُّ بالكثرة الكاثِرة إذا جانَبَت الصوابَ، ولا هو يستوحِش من القِلَّة القليلة إذا كانت على الحق.
ومثلُ هذا اللبيب يُوفِّقُه ربُّه لأن يعلمَ علمَ اليقين، وحقَ اليقين، وعينَ اليقين، وأن الأمر لله من قبلُ ومن بعدُ، والغايةَ لن تكون إلا لما يُرضِي اللهَ - سبحانه -، وأن الكثرةَ الكاثِرة لن تكون شافِعةً لمن يغشَى الزَّللَ في نهاية المطاف.
ولن تنفع المقولةُ المشهورةُ: الموتُ مع الكثرة رحمةٌ؛ لأنه يُدرِك قولَ الله - جل وعلا - عن صناديد الأمم وأشرافهم وعُتاتهم حينما يُلقون في النار: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ[الزخرف: 39].
لقد ظنَّ بعضُ من لا علمَ عندهم أن الكثرةَ هي معيارُ الحق والصواب، وأن القلَّة هي معيارُ الخطأ والعُدول عن الصواب. وهذا ظنٌّ مغلوطٌ لا بُرهان لصاحبه عند ربه؛ لأن الحق وإن قلَّ تابِعوه فهو كثيرٌ ببراهينه وحُججه لا بأتباعه، ولا تزيدُه الكثرةُ حقًّا، ولا تنقصُه القلَّة عن هذا الحق مثقالَ ذرَّة؛ لأن الحق لا يُوزن بالناس، وإنما يُوزن الناسُ بالحق.
ومن شاءَ فليقرأ قولَ الله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ[الأنعام: 116].
وقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عُرِضَت عليَّ الأمم، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد»؛ رواه البخاري ومسلم.
فها هُم الأنبياء يأتون في القلَّة من الأتباع، وبعضُهم لا تابِع له، ونوحٌ - عليه السلام - مكثَ في قومه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا فقال الله عنه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ[هود: 40]، فلم تكن هذه القلَّة دليلَ نقصٍ في نبوَّاتهم ورسالاتهم، كما أن كثرةَ خصومهم وسوادَ مُخالفيهم لم تكن دليلاً على أنهم على الحق، ولم تمنَعهم من كونهم على الباطل.
ولهذا قال الله عن فرعون وكثرة أتباعه: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ[هود: 98].
وإن من المُؤسِف حقًّا: أن تكون حُجَّة كل مُقصِّر مُفرِّط في جنب الله هي أن أكثر الناس يفعلون كذا، أو يقولون كذا، أو يعتقِدون كذا! مِعيارُهم الوحيد هو ما يفعله الكثرةُ الكاثِرة من الناس، لا ما هو الحقُّ والدليلُ.
وهذه حُجَّةٌ فرعونيةٌ قد أبطلَها الله - سبحانه - في ذكر حوار موسى مع فرعون حينما دعاه إلى توحيد خالقه فقال له فرعون: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى[طه: 51]؛ أي: ما بالُ الكثرة الكاثِرة من الأمم السابقة؟ أهم على ضلالةٍ وأنت على الهُدى؟ قال: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى[طه: 57].
إن من كان هذا صنيعُه فهو أخرقٌ مأفونٌ، إمَّعةٌ لا استقلالَ له، إنما هو غِرٌّ سلَّم قيادَه للعدو لا للرَّشَد، وأرجعَ بصرَه للكم لا للكيف.
وقد قال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "لا يكوننَّ أحدُكم إمَّعةً تقول: إنما أنا مع الناس؛ إن اهتدَوا اهتديتُ، وإن ضلُّوا ضللتُ، ألا ليُوطِّننَّ أحدُكم نفسَه على إن كفر الناس ألا يكفُر".
فالمؤمنُ الصادقُ - عباد الله - لا تغرُره كثرةُ الناس، ولا أن يكون لها رواجٌ في التصحيح والتخطِئة، وادِّعاء أن ما عليه الكثرة هو الصحيح، وما عليه القلَّة هو الباطل.
ولقد أحسن ابنُ قُتيبة - رحمه الله - في وصف مثلِ هذا؛ حيث قال: "والناسُ أسرابُ طيرٍ يتبعُ بعضُها بعضًا، ولو ظهر لهم من يدَّعي النبوَّةَ مع معرفتهم بأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، أو من يدَّعي الربوبية لوجدَ على ذلك أتباعًا وأشياعًا". اهـ كلامُه - رحمه الله -.
ولهذا - عباد الله - لو نظرنا إلى كتاب ربنا - جل وعلا - وما جاء فيه لوَجَدنا ما يدلُّ على أن الكثرةَ ليست مِعيارًا يُعتمَد عليه في تحديد الحق في جوانب كثيرة من أمور الدين:
ففي الجانب الإيماني قال الله - سبحانه -: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[يوسف: 103].
وفي جانب الحق وقبوله يقول - سبحانه -: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ[الزخرف: 78].
وفي جانب القتال والدفاع يقول أيضًا: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ[الأنفال: 19]، ويقول: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا[التوبة: 25].
وفي جانب الشُّكر يقول - جلَّ شأنه -: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ: 13].
وفي جانب المُعاملات المالية يقول - سبحانه -: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ[ص: 24].
وفي جانب صحة الاعتقاد يقول - سبحانه -: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف: 106].
وأما في جانب العِظة والاعتبار أمام الآيات والبراهين يقول - سبحانه -: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[الشعراء: 8، 9].
ففي هذه الآيات - عباد الله - نلحَظُ أن نظرة الإسلام في عددٍ من الجوانب عن الكثرة نظرةٌ سلبيَّةٌ؛ للتدليل على أن الكثرةَ ليست هي محلَّ الاعتبار والاعتماد، لما يترتَّبُ على هذا الاعتماد من المفاسِد والمَيل عن صراط الله المُستقيم، وإيكال الحق إلى الناس لا إلى براهِينه.
وفي الوقت نفسه نجِد أن الإسلام لم يُهوِّن من شأن القلَّة، وربما مدَحها في مواضع كثيرةٍ، أو كان أصحاب القلَّة ممن مدَحَهم الله في كتابه؛ لبيان أنك - أيها المؤمن - كثيرٌ بإيمانك وإن كنتَ وحدك، فقد قال - سبحانه -: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[النحل: 120].
وفي جانب الإيمان قال - سبحانه -: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ[الواقعة: 13، 14].
وفي جانب القتال والمُدافعة قال - سبحانه -: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة: 249].
والحاصِلُ - عباد الله - أنه يتَّضِح لنا مما سبقَ ذِكرُه أن الكثرةَ ليست هي المِقياسَ للحقيقة، وليس هي الوسيلةَ لإعطاء المرء قيمتَه المعنويةَ والإيمانيةَ، وفي الوقت نفسه قد تُحمَدُ الكثرةُ حينما لا تتجاوزُ حدودَها المُعتبرة شرعًا، وربما وافقَت الهدفَ المنشودَ كما في ثناء الباري - سبحانه وتعالى - على من يُنفِقون أموالاً كثيرةً في سبيل الله، وللفقراء، والمساكين، واليتامى، وابن السبيل.
وفي المُقابل: نُدرِك أن القلَّة جاءت في مواطن كثيرةٍ في مقام المدح الإلهي؛ لأنها التعبيرُ الصادقُ عن رفضِ الانسياقِ وراء الأكثرية التي خُيِّل لها أن كثرتَها تجعلُها هي الأحق والأصوَب، ولذا لم تكُن القلَةُ في الأتباع، ولا القلَّة في المال، ولا القلَّة في القتال مانعةً الأنبياء عن وصفِهم أنهم أهل الحق والصواب الذين استحقُّوا الثوابَ والنصرَ والتمكينَ أمام كثرة خُصومهم وسواد أعدائهم.
وما ضرَّ أبا بكرٍ - رضي الله عنه - أن كان معه الحق في قضية قتال المُرتدِّين وهو واحدٌ بنفسه كثيرٌ بالحق.
وما ضرَّ أحمد بن حنبل أن كان معه الحق في فتنة القول بخلق القرآن وهو واحدٌ بنفسه كثيرٌ بالحق.
ما أكثرَ الناس لا بل ما أقلَّهُمُ
اللهُ يعلمُ أني لم أقُل فنَدًا
إني لأفتحُ عيني حين أفتحُها
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدًا
ولقد صدق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيثُ يقول: «إنما الناسُ كالإبل المائة لا تكادُ تجِدُ فيها راحِلة»؛ رواه البخاري ومسلم.
باركَ الله ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-25-2012, 12:09 AM   رقم المشاركة : 114

 



الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أنه بالحق قامَت السماوات والأرض، فاتبعوا الحق وأهلَه حيث كانوا، وتذكَّروا قولَ علي - رضي الله عنه -: "لا تزيدُني كثرةُ الناس حولي عزَّةً، ولا تفرُّقهم عني وحشةً".
فلا تستوحِشوا في طريق الهُدى لقلَّة من يسلُكُه.
ثم اعلموا - عباد الله - أن الله - سبحانه - بيَّن في كتابه حالَ أكثر الناس في قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الأعراف: 187]، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ[المائدة: 103]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ[الرعد: 1]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[البقرة: 243]، وقال أيضًا: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ[المائدة: 49].
وما ذاك - عباد الله - إلا لأن العلمَ يتبَعُه العقل، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت: 43]، ومن علِم فقد عقَل، ومن عقَل آمنَ فشكرَ، ونأى بنفسه عن الفسق والانحراف، ولذا فإن من وقع في الفسق فإن ذلك بسبب نُقصان واحدٍ من هذه الأمور؛ إما عدمُ العلم، أو عدمُ العقل، أو عدمُ الإيمان، أو عدمُ الشكر. وهذا كلُّه مُحبِطٌ للثبات والفلاح؛ لأن هلاكَ الأمم إنما يكونُ بالفسق المُقصِي للعلم، والعقل، والإيمان، والشكر، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء: 16].
وتوافُر العقل والعلم والإيمان والشكر يُولِّدُ - ولا شك - قيمةً مُطلقةً تتمثَّلُ في النُّصح والإصلاح للحِفاظ على كِيان الأمة، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ[هود: 117]، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[ص: 28، 29].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح أحوال إخواننا المُسلمين في سائر الأوطان، اللهم كن لإخواننا المسلمين المُضطهدين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصرهم في بُورما وفي سوريا وفي بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم عجِّل لهم بالنصر والفرَج، واجعل شأن عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وَبال يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين .

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-25-2012, 12:33 AM   رقم المشاركة : 115

 

الفخر باللغة العربية
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 27 شوال 1433هـ بعنوان: "الفخر باللغة العربية"، والتي تحدَّث فيها عن لغتنا العربية وأهميتها ومدى إهمال المسلمين وإغفالِهم لتعلُّمها، وذكرَ كيف كان السلفُ يحرِصون على تعلُّمها وتعليمها لأبنائِهم، ويُعاقِبون ويُثِيبون على ذلك، وسردَ بعضَ الآثار من أقوالهم، وبيَّن كيف أراد الأعداءُ في كل عصرٍ ومصرٍ أن يُغيِّروا اللغةَ ويُحارِبوها ويمحُوها من صدور المسلمين حتى وصَلت الأمةُ إلى ما نراه اليوم.

الخطبة الأولى
الحمد لله، فتقَ ألسِنةَ عباده بالبيان، وأجراها باللغة في كلِّ آنٍ وشانٍ، يصِلون بلُغاتهم إلى قِمَم الإبداع، وذروة الإفهام والإقناع، أحمدُه - سبحانه - ترادفَت نعماؤه وتوالَت نعمُه وآلاؤه.
الحمد لله حمدًا طابَ وانتشرا
على ترادُفِ جُودٍ في الوُجود سَرَى
حمدًا كثيرًا به نرقَى بجنَّته
على منابرِ أُنسٍ نبلُغُ الوَطَرَا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الملكُ والملكوت، وله الأسماءُ الحُسنى وجلالُ النُّعوت، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله طُبِع على رائقِ الكلام، وبديعِ اللفظِ والنظام، تنهالُ المعاني على فُؤادِه انهِيالاً، وتنثالُ المُفرداتُ على لسانه انثِيالاً، فحديثُه العذبُ المُصفَّى والشهدُ المُوفَّى، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه صلاةً:


تندَى عبيرًا ومِسكًا سُحبُها دِيَمًا
تُمنَى بها للمُنى غاياتُها شُكرًا
تُضاحِكُ الزهرَ مسرورًا أسِرَّتُها
مُعرَّفًا عَرفُها الآصالَ والبُكَرا
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أطيعُوا ربَّكم واتقوه، وراقِبوه ولا تعصُوه؛ فإن التقوى خيرُ الزاد في المعاش والمعاد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].
ألا إن تقوى الله خيرُ مغَبَّةٍ
وأفضلُ زاد الظاعِنِ المُتحمِّلِ
ولا خيرَ في طولِ الحياةِ وعيشِها
إذا أنت منها بالتُّقَى لم ترحَلِ
أيها المؤمنون:
المُتأمِّل في تأريخ الأمم والمُجتمعات وتعاقُب الأمجاد والحضارات يُلفِي فيها رُكنًا ركينًا، وقُطبًا من أقطابها متينًا، يُعدُّ من أهم ثوابتها وأُصولها، وسببَ نشاتها وقيامها، ذلكم هو: لسانُها ولُغتُها.
فاللغةُ تُعلِي الرفيعَ عن الوضيع، وأنَّى يُدرِكُ الضالِعُ شأوَ الضَّليع، وإننا أبناء هذه الأمة الإسلامية قد منَّ الله علينا بأفصَحِ لسانٍ، وأبلغ بيانٍ، وأفضلِ لُغةٍ لغةِ القرآن الكريم: اللغة العربية.
وإذا طلبتَ من العلومِ أجلَّها
فأجلُّها منها مُقيمُ الألسُنِ
اللغةُ العربيةُ زهرةُ التأريخ العابِقة، ومُزنةُ النور الوادِقة، وإشراقةُ الدنيا الصادقة، وشهادةُ الأجيال الناطقة، إنها المنهلُ الدَّفوقُ للعلاء والتَّمكين، والبيانُ والتبيينُ للنورِ والحقِّ المُبين، والينبوعُ الثَّرُّ الذي ترتوِي منه العقولُ الصادِية، والسِّراجُ الوهَّاجُ الذي يُضِيءُ المُجتمعاش العاشِية.

لغةٌ إذا وقعَت على أسماعنا
كانت لنا بردًا على الأكبادِ
ستظلُّ رابطةً تُؤلِّفُ بيننا
فهي الرجاءُ لناطقٍ بالضادِ
لقد كان العربُ قبل الإسلام أمَّةً مُمزَّقةَ الإهاب، مُفترسَة الجَناب، تعيشُ في يَبابٍ وتَبابٍ، ولكن جمعَتهم أواصِرُ الفصاحةِ الهُمامة، وألبَسَتهم أثوابَ المُروءةِ والشهامة، فعلى بِساط اللغةِ يجتمعون، وفي وَريفِ ظلِّها يُبدِعون، ويُبدِي كلٌّ ما في وِطابِه ويكشِفُ عما حوَى في جِرابه من نثرشها وشِعرها، ونحوِها وصَرفِها، وبلاغتها واشتِقاقِها؛ فبَين فخرٍ وهِجاءٍ، ومدحٍ ووصفٍ ورِثاءٍ يُمتِعون أسماعَ الزمان، ويُبهِجون مُقَل الأكوان بسَلسَالٍ من بديع الألحان، وعَذبِ الكلماتِ الحِسان. فاللغةُ كانت نبعًا ثَرًّا يُؤلِّفُ بين قبائل العربِ في مجالسِهم ومُنتدياتهم.
سرَت كالمُزنِ يُحيِي كلَّ أرضٍ
ويُبهِجُها سُهولاً أو وِهادًا
وما للهجةِ الفُصحَى فَخارٌ
إذا لم تملأِ الدُّنيا رشادًا
إخوة الإيمان:
إن اللغةَ العربيةَ الشريفةَ لها حقٌّ علينا حقيقٌ؛ فمن بعضِ حقِّها:
أن نبُلَّها ببِلالِها، وأن نرعَى قدرَها في كلِّ منسوبٍ إليها، وأن نسعَى لنجدَتها كلَّما مسَّها ضُرٌّ، أو حَزَبَها أمرٌ؛ فلُغتُنا العربيةُ اليوم وفي عصر أنماط العَولَمة، وغلبَة عامِّيِّ اللهَجات، وثورة التِّقَنات، وانفجار المعلومات، وفضائيِّ القنوات والشبكات رِباعُها مجفُوَّة، وقِصاعُها مكفُوَّة، ورِقاعُها غيرُ مُلتامةٍ ولا مرفُوَّة، بعدما كانت عذبَة التغاريد، حسنةَ الألفاظِ والمفاريد، رضِيَ بها الأسلافُ في المفاخِر والمنافِحِ، وصَقَلُوا بها الأذهانَ والقرائحَ، وكانت تُرجمانًا صادقًا لكثيرٍ من الحضارات المُتعاقِبة، وكانت سببًا لتقارُب الأمم التي دخلَت في دين الله أفواجًا، فتمازَجَت أذواقُهم، وتوحَّدت مشارِبُهم، وأعلَى الدينُ شأوَها، ورفعَ شأنَها.

فما أهوَى سِوَى لغةٍ سَقَتْها
قريشٌ من براعتِها شِهَادًا
وطوَّقَها كتابُ الله مجدًا
وزادَ سَنَا بلاغتها اتِّقادًا
أمةَ الإسلام:
لقد أضحَت اللغةُ العربيةُ لدى كثيرٍ من المُسلمين في خُفُوت، ورياحُها الشذِيَّةُ العبِقةُ في هُفُوت، بما يُلِحُّ أن نُدندِنَ حول ذَيَّاك المَعينِ السَّلسَال، ونلِجَ هذا النَّميرَ المِنهالَ، لنُحيِيَ شقاشِقَ اللغةِ الهادِرة، ونعبُر دياجيرَ العُجمةِ الغامِرة، فلقد حرَبْنا العربيةَ معانِيَها اللِّطافَ، وألبسناها ثوبَ السنينَ العِجاف.
ولقد كان سلفُنا الصالحُ - رحمهم الله - يُعنَون بالعربية، ويُعاقِبون صِبيانَهم على اللَّحنِ، ويُثِيبونَهم على الفصاحَة والبيان.
يقول الفاروقُ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: "تعلَّموا العربيةَ؛ فإنها تُنبِتُ العقلَ، وتزيدُ المُروءةَ".
وكبَ كاتبٌ لأبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - خطابًا لعُمر فبدأَه بقوله: "من أبو موسى"، فكتبَ إليه عُمرُ: "أن اضرِبه سَوطًا، واستبدِله بغيره".
الله أكبر، ويا لله! ما أعظمَ غيرتهم على لُغة القرآن، فلله درُّهُم.
سمِعَ الأعمشُ رجلاً يلحَنُ في كلامِه فقال: "من الذي يتكلَّم وقلبي منه يتألَّم".
وكان الحسنُ البصريُّ - رحمه الله - يقول: "ربما دعوتُ فلَحَنتُ فأخافُ ألا يُستجابَ لي".
وكان أيوبُ السِّختيانيُّ - رحمه الله - إذا لحَنَ استغفرَ اللهَ.
وسِعَ الخليفةُ المأمونُ بعضَ ولده يلحَنُ، فقال: "ما على أحدِكم أن يتعلَّم العربيةَ، يُصلِحُ بها لسانَه، ويفُوقُ أقرانَه، ويُقيمُ أوَدَه، ويُزيِّنُ مشهَدَه، ويُقِلُّ حُجَجَ خصمِه بمُسكِتات حِكَمه".
الله أكبر، إن اللغةَ العربيةَ - يا رعاكم الله - هي كما قالَ الإمام الشافعيُّ - رحمه الله -: "أوسعُ الألسِنة مذهبًا، وأكثرُها ألفاظًا، ولها مكانتُها العُظمى في هذا الدين".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "اللغةُ العربيةُ من الدين، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ؛ فإن فهمَ الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ".
ويقول أيضًا - رحمه الله -: "ومعلومٌ أن تعلُّمَ العربية وتعليمَها فرضٌ على الكفاية".
فنحنُ مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استِحبابٍ أن نحفظَ القانونَ العربيَّ، ونُصلِح الألسِنةَ المائلَةَ عنه.
وقد عبَّر الشاطبيُّ - رحمه الله - عن هذا المعنى بقوله: "إن الشريعةَ عربيةٌّ، وإذا كانت عربيَّةً فلا يفهمُها حقَّ الفهمِ إلا من فهِمَ اللغةَ العربيَّةَ حقَّ الفهمِ، فإذا فرضنا مُبتدِئًا في فهم العربية فهو مُبتدِئٌ في فهم الشريعة، أو متوسِّطًا فهو متوسِّطٌ في فهم الشريعة، فإن انتهى إلى درجة الغايةِ في العربية كان كذلك في الشريعة".
أمة الإسلام:
لقد زادَت الشريعةُ اللغةَ العربيةَ مكانةً وأهميَّةً؛ حيث أصبَحت ثانِيَ اثنين لأقوى هُوِيَّة: الهوِيَّة الإسلامية؛ لأنها كما قال الإمامُ ابنُ كثيرٍ - رحمه الله -: "أفصحُ اللُّغات، وأجلاها، وأحلاها، وأعلاها، وأبينُها، وأوسعُها، وأكثرُها تأدِيةً للمعاني التي تقومُ بالنفوس، فلهذا أُنزِل أشرفُ الكتبِ بأشرفِ اللُّغات".
وهي من أهمِّ الوشائِجِ لرَفوِ الرَّتقِ، وإحكامِ الآصِرة في وجه الفتنِ العواصِف، والمِحَن المُتراكبةِ القواصِف، لذا تنمَّرَ لها الأعداءُ، وكشَفُوا عن مِرَّتهم السوداء، وقال قائلُهم: "إننا لن ننتصِرَ على المُسلمين ما دامُوا يقرأون القرآنَ ويتكلَّمون العربيةَ، فيجبُ أن نُزيلَ القرآنَ من وجوهِهم، ونقتلِعَ العربيةَ من ألسِنَتهم".
وأعلَنوا عليها حربًا ضَروسًا، وأظهَروا لها وجهًا عَبوسًا، وأنفَقوا الغالِيَ والنَّفيس لتغريبِ اللسانِ العربيِّ وقطعِه عن منابِعِ البلاغة، واللَّجاجة به في العُجمة والمَغاغة.
وأثارَ هؤلاء الجَعاظِرةُ العَكُوبُ، وصَعفَقُوا في الآفاقِ والضُّروب، ولكن انعكَسَ عليهم الأملُ، واستنوَقَ فيهم الجملُ، وصارَت فِعالُهم ضِغثًا على إبالَة، وسقطَت أحلامُهم في سِفالة، وارتدَّت أعمالُهم على وجوهِهم خاسِئة، واشتدَّت لُغتُنا فكأنما هي ناشِئة.
وما على العنبَر الفوَّاحِ من حرجٍ
أن ماتَ من شمِّه المأفونُ والنَّتِنُ
معاشر المسلمين:
ومع كلِّ التحديات والمُتغيِّرات فإن اللغةَ العربيةَ محفوظةٌ بحفظِ الله تعالى لكتابه العزيز: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر: 9]، وإن تراكَمَت عليها العُكابات، وتكاثَرَت عليها السِّهامُ الحاسِرات، وظنُّوها عِظامًا نخِرات، وأيقَنوا فيها البِلَى والممات، وظلَّت طويلاً غريبةَ النفس واليدِ واللسانِ في مرابِعها؛ فإنها قامَت وستقومُ فتِيَّةً قويَّة، شامِخةً عفِيَّة، مُشمَخِرَّةً حفِيَّة، وشمَّرت عن ساقِها، وجلَّلَت نورًا على أرواقِها، وألجَمَت أفواهَ عِداتها.
ولله درُّ القائل على لِسانها:
وسِعتُ كتابَ الله لفظًا وغايةً
وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيفَ أضيقُ اليوم عن وصفِ آلةٍ
وتنسيقِ أسماءٍ لمُخترعاتِ
وبعدُ، أمة اللغة والضاد:
إنها ذِكرى للذاكرين، وهَتفةٌ لتنبيه الغافلين؛ فتمسَّكوا بلُغتكم، وربُّوا عليها أبناءَكم؛ لتظفَروا بالغُنم والكرامة في الدنيا ودار الخُلد والمُقامة.

أئمةَ اللغة الفُصحى وقادتها
ألا بِدارًا فإن الوقتَ كالذَّهَبِ
ردُّوا إلى لُغةِ القرآن رونَقها
هيَّا إلى نصرِها في جحفَلِ اللَّجِبِ
حفِظَ الله لغتَنا من كل مكروه، وحيَّا اللهُ أهلَها وذوِيها، وأبقاهم لها ذُخرًا يصُونون عِرضَها، ويحفَظون أرضَها، ويسترِدُّون قرضَها، ويجمَعون شتاتَها، ويُحيُون مواتَها، إنه جوادٌ كريمٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[إبراهيم: 4].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله، جعلَ القرآنَ عربيًّا غيرَ ذِي عِوَج، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تحدَّى بفصاحةِ القرآن العربَ ذوِي الحُجَج، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بالفصاحةِ منعوتٌ، وبالبلاغة مبخُوت، صَلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبِهِ العُدولِ الثُّبُوت، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، والزَموا لغةَ دينكم تسعَدوا في الدَّارَين، وتفوزوا بخير الجزاء في الدنيا ودار الخُلد والبقاء.
معاشر المؤمنين:
وفي هذه الاضطراباتِ التي تجتاحُ أمَّتَنا، والنَّعَرات التي تُهدِّدُ وحدتَا، والسَّعَراتِ التي تُناوِشُ لمَّتَنا، في خِضَمِّ هاتِيكَ الأمواج، وزخَّارها الثَّجَّاج، لا بُدَّ من الاستِمساك بهُويَّتنا الإسلامية، ولُغتنا العربية، وربطِ الأجيالِ بها، وفَطمِ أنفُسنا عن مراضِع العُجمةِ المَقيتة، وهَجر الألفاظ الأجنبيَّة اللَّقيطة، وأن نُقبِلَ على لغتِنا، وننأَى بها عن اللَّحن فيها.
ولعلَّ أبناءَنا الذين يبدأون هذه الأيام عامَهم الدراسيَّ الجديدَ يجِدون في هذه الذِّكرى شحذًا لهِمَمهم في الاعتزاز بلُغتهم، وكونِهم قُدوةً لغيرهم.
كما أن اعتِزازَنا بلُغتنا الأمِّ لا يُنافِي حاجةَ الأمة إلى تعلُّم اللغاتِ الأخرى لتحقيقِ رسالتِنا العالميَّة بلا نِدِّيَّة، ولا مُزاحمةٍ ولا انهزاميَّة، كما أن رسالةَ الإعلام ووسائل الدِّعاية والإعلان عظيمةٌ في هذا الشأنِ المُهمِّ.
يا فِتيةَ الضادِ! حان الوقتُ فاطَّرِحوا
هذا الوَنَى وانهَضوا فالناسُ قد طارُوا
سِيروا على نهجِ آباءٍ لكم سلَفوا
فإنهم في طريق المجدِ قد سَارُوا
وإن العزمَ لا تثنِيهِ عادِيةٌ
عن المُضِيِّ ولا يُضْفِيه إعصارُ
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خير الورَى، كما أمرَكم بذلك ربُّكم - جل وعلا -، فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
صلَّى عليك اللهُ يا علَمَ الهُدى
ما ناحَ طيرٌ أو رفَّت الأشجارُ
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين: نبيِّنا وقُدوتنا وحبيبِنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمةِ المهديين ذوي الشرفِ العلِيِّ، والقدرِ الجلِيِّ: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمانَ، وعليٍّ، وارضَ اللهم عن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعن الطاهرات أمَّهات المُؤمنين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، واخذُل الطغاةَ والظالمين وسائرَ أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم وفِّق المُسلمين لنُصرة دينك، ونُصرة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - يا رب العالمين.
اللهم إنا نبرأُ إليك ممن استَهزؤوا بدينك، وأساؤُوا لنبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم عليك بالشانئين المُغرِضين المُتنقِّصين لجنابِ حبيبِك وخليلِك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم إنك قلتَ - وقولُك الحق -: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3]، اللهم فانتقِم لحبيبِنا وقُدوتنا ممن أساء إليه، واستهزأَ بجنابه، وسخِرَ بأتباعه وأحبابِه.
إنا لنعلمُ أن قدرَ نبيِّنا
أسمَى وأن الشانِئينَ صِغارُ
ما نالَ منك مُعانِدٌ أو شانِئٌ
بل منه نالَت ذِلَّةٌ وصَغارُ
لكنَّه ألمُ المُحِبِّ يزيدُه شرفًا
وفيه لمن يُحبُّ فَخارُ
اللهم خُذ بأيدي المُسلمين للأفعال الحكيمة، وجنِّبهم رُدودَ الأفعال العَنيفة، واكفِهم شرَّ استِفزازاتِ أعدائِهم يا حيُّ يا قيُّوم، يا حيُّ يا قيُّوم، يا حيُّ يا قيُّوم برحمتك نستغيثُ، فأصلِح لنا شأنَنا كلَّه ولا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفةَ عينٍ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمنَ والاستقرارَ في دِيارِنا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه.
اللهم وفِّق نائبَ خادم الحرمين الشريفين لكلِّ خيرٍ، اللهم وفِّقهم وإخوانَهم وأعوانَهم إلى يه صلاحُ البلاد والعباد.
اللهم أصلِح حالَ إخواننا المُسلمين في كلِّ مكان، اللهم أصلِح شأنَ إخواننا المُسلمين في كلِّ مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهايِنة المُعتدين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من براثِن الصهاينة اليهود المُعتدين.
اللهم كن لإخواننا في سوريا، اللهم كن لإخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم طالَ ليلُ ظُلمهم، ففرِّج عليهم بإصباحٍ فيه النصرُ للإسلام والمُسلمين يا رب العالمين.
اللهم انتقِم من الطُّغاة الظالمين المُفسِدي يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كن لإخواننا في بُورما وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا وجميع المُسلمين والمسلمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-25-2012, 12:38 AM   رقم المشاركة : 116
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية العضو

مزاجي:










ابوحاتم غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم .. كيف تكون؟
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 5 ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم .. كيف تكون؟"، والتي تحدَّث فيها عن عظمة أنبياء الله ورسله، وأعظمهم خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ ما تعرَّض أعداء الإسلام بالإساءة لمقام النبي - عليه الصلاة والسلام -، وبيَّن الواجبَ على كل مُسلمٍ تجاه مثل تلك الأفعال الرَّعناء بضرورة استِغلالها وعدم تشويه صورة الإسلام ونبيِّه والمُسلمين.

الخطبة الأولى
الحمد لله المُتفرِّد باسمِه الأسمَى، المُختصِّ بالمُلكِ الأعزِّ الأحمَى، ليس دونه مُنتهى ولا وراءَه مرمَى، وسِع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأسبغَ على عباده نِعمًا عُمَّى، وبعثَ فيهم رسولاً من أنفُسِهم أنفَسُهم عُرْبًا وعُجمًا، والحمدُ لله كثيرًا كما يُنعِمُ كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه أرجحُ الخلائقِ عقلاً وعلمًا وحلمًا، وأزكاهُم نفسًا وفهمًا، زكَّاه ربُّه روحًا وجسمًا، وحاشاه عيبًا ووصمًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالتقوى - أيها الناس - التقوى؛ لازِموها سرًّا وجهرًا، وأعِدُّوا لما يُنجِيكم يوم العرضِ على الله، فكلُّنا إليه صائِرون، وليس ثَمَّ سِوى حضرةِ النعيم، أو عذاب الجحيم، والمُوفَّق من استنقَذَ مُهجَتَه، وأعدَّ للأمر العظيم عُدَّتَه، جبَرَ الله صدعَ قلوبنا، وغفرَ عظيمَ ذنوبنا، وهدانا لما يُنجِينا من عقابه، ويُقرِّبُنا زُلفَى إلى رحمته وبابِه.


أيها الناس:
البِقاعُ والبشر، والكتب والكلِم قد تتساوَى في أصلِها المُجرَّد، فإذا أُضِيفَت فإنها تكتسِبُ قيمتَها من قيمة ما أُضيفَت إليه، وأعظمُ وأجلُّ وأخطرُ إضافةٍ هي الإضافةُ إلى الله الأعظم؛ فكتبُ الله تاجُ الكتب، وبيوتُ الله أطهرُ البيوت، وكلامُ الله أعظمُ الكلِم، ورُسلُه هم غُرَّة البشر وزينةُ الدنيا.
اصطفاهم الله خيارًا من خِيارٍ، وعصَمَهم قبل النبوَّة وبعدها، وتمثَّلَت كمالات البشر في ذواتِهم، وسُمُوُّ الإنسانية في أرواحهم، وأقومُ السُّبُل في هداياتهم.
رُسُل الله وأنبياؤُه هم خيرُ من وطِئَ الثَّرى، وأكرمُ وأبرُّ الورَى، لا سبيلَ للجنة إلا بطاعتهم، ولا نجاةَ من النار إلا بتصديقهم، ولا وصولَ إلى الله الأجلِّ الأكرم إلا بإرشادِهم. عظمةُ الرسول من عظمةِ من أرسلَه، وتكريمُه من تكريمِ من بعثَه، ومقامُهم عند الله عظيمٌ.
وإن اللهَ يغارُ على أنبيائه ويُدافِعُ عنهم، كم من أُمم أُبيدَت بدعواتِ أنبيائِها عليها، وكم من ديارٍ قُلِبَت وصُعِقَت ورُجِفَت بسبب تكذيبهم لرُسُلهم واستِهزائهم بهم، وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الأنعام: 10].
وما زالَ الأنبياءُ والرُّسُل لهم المكانةُ العُظمى في الشرائع والرسالات، كلما جاء رسولٌ صدَّق الرسولَ الذي قبلَه، وبشَّر برسولٍ بعده، واجتمعَت بشاراتُ الرُّسُل لأقوامهم برسولٍ يأتي من بعدهم اسمُه: (أحمد)، هو خاتمُهم وإمامُهم، وفي الخير مُقدَّمُهم، وإن كان آخرَهم في الزمان - صلى الله عليه وصلَّى على أنبيائه ورُسُله وأتباعهم أجمعين -.


أيها المسلمون:
تقصُر العباراتُ والمدائحُ، وتغيضُ المعاني والقرائِح أمام عظمة النبي الكريم والرسول العظيم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشميِّ القُرشيِّ العربيِّ، ولن تبلُغ شأوَه المنابِر، ولن تُوفِيَ قدرَه المحابِر. وليست السيرةُ الشريفةُ بحاجةٍ إلى تعريفٍ؛ فالقدرُ عالٍ والشأْوُ مُنيفٌ.
كيف ترقَى رُقِيَّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاوَلَتها سماءُ
أيها الناس:
إن العالَم من أزَله إلى أبَده لم يعرِف بشرًا مُصفَّى المعدِن، زكِيَّ السيرة، بهِيَّ الخلائق، صلبَ الجهاد، شديدَ التعلُّق بربِّه مثلَ ما عرَفَ في النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
ولم يعرِف العالَمُ إنسانًا شقَّ طريقَ الكمالِ، ومهَده للناس تمهيدًا، ودعاهُم إليه أحرَّ دعوةٍ، وشرحَ معالِمَه لهم أرقَّ شرحٍ، وتحمَّلَ في ذات الله ما لم يتحمَّل أحدٌ مثلَ ما عرَفَ عن النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وقد يعرِفُ طرفًا من عظمة هذا الرسول العظيم من درَسَ فلاسِفة الأخلاق والاجتماع، وساسَةَ الشعوب، وقادةَ الجيوش، ومُؤسِّسي الحضارات والدول، فإذا فرغَ من هذا الدرسِ المُستوعِبِ لعُظماء الأرض، وانتهى من استِعراضِه لمُبرِّزين من قادَة البشر وقفَ بكلِّ ما لديه أمام أمجاد الإنسان الكامِل: محمدِ بن عبد الله، ليرى أن عباقِرة الأرض تلاشَوا في سَناه، وأن آثارَهم تضاءَلَت أمام هُداه، وأن امتيازَهم على أقرانِهم تحوَّل صفرًا أمام شمس النبوَّة الطالِعة وهالتِها الرائِعة.
إن حقيقةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق ما يصِفُ الواصِفون، والأيادي التي أسدَاها تجعلُ كلَّ مُؤمنٍ مدينًا له بنورِ الإيمان الذي أضاءَ نفسَه وزكَّاها، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ[الشورى: 52، 53].
إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جاء في أعقابِ نُبوَّاتٍ أعقبَ الشيطانُ ثمارَها، وكانت بعثتُه كلمةَ السماء الأخيرة، فكانت ضمانًا يمنعُ العِوَج، ويقِي من الانحراف، لتصُونَ مُستقبَلَ الإنسانيَّة الطويل، وفي القرآن الكريم: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[النحل: 63، 64].
لقد وُجِدت دياناتٌ مُفتعلَة، ومُعتقَداتٌ نسبَت إلى الله ما لا يليقُ، وقوَّلَته ما لم يقُل، وبلغَ من رُسوخ هذه وتلك انها قاوَمَت الحقَّ أشدَّ مُقاومةٍ لما جاءَها، ولم يكسِبِ العالَمُ منها إلا الشقاءُ، لذلك قال الله - عز وجل -: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ[الزمر: 32- 34].
إن بعثةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كانت ميلادًا للحق في أبهَى صُوره وأزهى أشعَّته، وكان شُرُوقُ هذا الحقِّ إيذانًا بزوالِ الحيرَة السائِدة والشقاء المُخيِّم.
لقد جاء الإسلام ليُعلِنَ عن إلهٍ واحدٍ خلقَ كلَّ شيءٍ، وتنزَّه عن مُشابهة كل شيءٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[الشورى: 11، 12].
والتوحيدُ المُطلقُ هو الحقُّ الذي غالَى به الإسلام، وبسَطَ آياته في كل أُفُق، لقد كانت بعثةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنقاذًا من هذا الإلحاد وعواقِبِه الشائنة، ورفعًا ودفعًا للظلم واستِعباد الإنسان للإنسان، وتلك أولَى آيات الرحمة العامَّة التي بُعِثَ بها صاحبُ الرسالة العُظمى، يلِي ذلك العملُ والسلُوكُ؛ فإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى الاجناسِ كافَّةً بدينٍ يأمُرُهم بالمعروف، وينهاهُم عن المُنكَر، ويُحِلُّ لهم الطيبات، ويُحرِّمُ عليهم الخبائث. إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صناعةٌ إلهيَّةٌ لم تتكرَّر، فسُبحانَ من أبدعَ محمدًا.
أيها الناس:
وليس المقامُ اليوم مقامَ إحاطةٍ بمكانةِ الرسُل وفضلِ خاتمهم - صلى الله وسلم عليهم أجمعين -، ولا إثباتًا لصِدقِ نُبُوِّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وصحَّة رسالتِه؛ فهذا مما لا يٌجادِلُ فيه إنسانٌ يحترِمُ عقلَه، وقد توافَرَت اليوم أسبابُ المعرفة بطرقٍ هائِلةٍ. ولكن ثمَّةَ وقفاتٍ وإشاراتٍ حول ما شغلَ الناسَ من إساءةٍ لجَنابِ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ومَساسٍ بديننا الخاتِم مما جاشَ في الصدور، وغلَت منه القلوبُ كما تغلِي القدور، ولا خيرَ في أمةٍ تُؤذَى في نبيِّها فلا تغضَب، ولا خيرَ في غضبةٍ لرسول الله تُؤدِّي إلى غضبٍ من الله ورسوله.
ويستحيلُ أن يحقِدَ على محمدٍ رجلٌ له ثقافةٌ مُحترمةٌ أو عقلٌ بصيرٌ. لماذا يحقِدُ عليه؟! ألِأنَّ كتابَه يصِفُ الخالقَ الأعلى فيقول: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ[البقرة: 255].
محمدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم وبارَك - بأبي هو وأمي ونفسي - يتبَعُه اليوم مليارٌ وخمسمائة مليون من البشر أو يزيدون، هو أحبُّ إليهم من أنفُسهم وأموالهم وأولادهم والناس أجمعين، أنفُسهم لنفسَه فِداء، وأعراضُهم لعِرضِه وِقاء، كلُّهم يقول بقولِ حسَّان:
فإنَّ أبي ووالدَه وعِرضِي
لعِرضِ مُحمَّدٍ منكم وِقاء
وسُؤالٌ لمُدَّعي الحُرِّياتِ: لمصلَحةِ مَن تُثارُ هه النَّزَغات؟! ولمصلَحةِ مَن تُصادَمُ الحضاراتُ والثقافات؟! ومتى كانت حُريةَ التعبير تعنِي العُدوانَ بلا حدودٍ أو قيودٍ؟!
ألا فأين حُرية التعبير عند إنكار مذبَحة اليهود قبل عقود والتي فرَضَتها السياسةُ أكثرَ من حقائق التاريخ؟! لن يجرُؤ فردٌ في العالم أن يُنكِرَها أو يُشكِّك فيها حتى تُلاحِقَه مُنظماتُ العالَم وحُكوماتُه ومحاكِمُه وساسَتُه، اما الرسولُ العظيمُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فالحديثُ عنه مُباحٌ، وحريةٌ يكفَلُها القانون! ما لكم كيف تحكُمون؟!
إن على السَّاسة وصُنَّاع القرار أن يُدرِكوا أن رُدودَ أفعال الشُّعوب طوفانٌ لا يُمكِن ضبطُه، وجحيمٌ مُتفجِّرٌ لا يُمكِن توقِّيه، وربما أفلَت الزِّمامُ، فلا كلمةٌ تُسمَع، ولا حِكمةٌ تنفَع، وبخاصَّةٍ إذا اُهينَت الأمةُ في رمزِها المُقدَّس.
لذا على الحُكماء منعُ السُّفهاء، وعلى السَّاسة منعُ الذين يُشعِلون الحرائِق، ولن يقبَلَ أحدٌ في دينه عُذرًا.
إننا نُنادي بالحوار والتفاهُم والتسامُح، ولكنَّ هذا كلَّه لا يُجدِي إذا بقِيَ أولئك الناسُ يتوارَثون إحَنَ القُرون، ويطوُونَ أفئِدَتهم على بغضاء لا قرارَ لها نحو الإسلام ورسوله وأمَّته.
أين القانون الدولي والمُعاهدات الدولية التي تُجرِّمُ الدعوةَ إلى الكراهية والتمييز العُنصريِّ، وبخاصَّةٍ حين تُشكِّلُ تحريضًا مُباشِرًا على العُنف؟!
إننا نُطالِبُ العالَمَ الذي يدَّعِي بمجموعه وضعَ الضوابِط لحماية الجميع أن يُصدِرَ ميثاقَ شرفٍ، ويسُنَّ قانونًا مُلزِمًا يُحرِّمُ ويُجرِّمُ الإساءَة للأنبياء والرُّسُل، ورسالاتهم السماوية.
وقد نادى بذلك خادمُ الحرمين الشريفين في كل محفلٍ، وسعى إلى مدِّ جسورِ الحوارِ بين أتباع الديانات السماوية، والثقافات الإنسانية، حتى تكون العلاقةُ بين أُمم الأرض مبنيَّةٌ على أُسس التعارُف والعدالَة والمرحمة، ويتحوَّل العالمُ من صِدام الحضارات إلى حوارِ الحضارات، والدعوةِ إلى الحقِّ بلا صدٍّ ولا تشويهٍ، فهذا مبدؤُنا مبدأُ الإسلام، فيه احترامُ الأنبياء كلِّهم، والإيمانُ بهم كلِّهم، واتباعُهم، ونشرُ الخير والأمن والسلام.
وفي وصفِ الله لنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، قد قلتُ ما أسلَفتُ، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله:
قيل لأحد السَّلَف: إن فلانًا اغتابَك. قال: "لقد رماني بسَهمٍ لم يُصِبني، حتى جئتَ أنت وحملتَه إليَّ".
فأنبياءُ الله - عليهم السلام - لم يزَالوا يُؤذَون ويُستهزَأُ بهم وبأتباعهم، ويحدثُ هذا في كلِّ عصرٍ ومصرٍ، وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الحجر: 11].
ولئن بدَا ذلك من أدنى البشرية قَدرًا وأسوأهم حظًّا في الدَّارَين فإن الواجبَ على من سمِعَ بشيءٍ من ذلك ألا بنشُرَه ولا يحدِثَ به إلا لذِي سُلطةٍ قادرٍ يمنَعُ المُتجاوِزَ.
ولقد ضاعَ شِعرُ المُشركين في هِجاء سيد المُرسَلين مع كثرته وتغنِّي القٍيان به، وماتَت تلك القصائِدُ في حينها حين لم يحفَل بها المُسلِمون ولم يتداوَلُوها بينَهم، ولم يعُد لأكثرها ذِكرٌ في دواوين الشِّعر وأخبار العرب.
دينُكم - يا عباد الله - ظاهرٌ، ونبيُّكم مكفيٌّ ومنصورٌ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[التوبة: 33]، ولن يلحَقَ مقامَ الأنبياء شيءٌ لتطاوُل مُلحِدٍ سفيهٍ أو كافرٍ مخذولٍ، والله تعالى يقول: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95].
فمقاماتُ الأنبياء محفوظةٌ، وأقدارُهم عزيزةٌ مصُونةٌ، وإنما المُتطاولُ هو المسكينُ الخاسِر، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3].
ولعلَّ في هذا مرهمًا لنفوس المكلومين، وترطيبًا لقلوب المُؤمنين الغَيورين، ترشيدًا لغيرتهم المشكورة، ونُصرتهم المأجورة.
أيها المُسلِمون:
في حادِثة الإفك المشهورة قال الله - عز وجل -: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[النور: 11]، وفي حادِثة هذه الأيام هاجَت مشاعِرُ طالَما كانت بارِدةً في نفوس بعضِ المُسلِمين، التفَتَت أنظارٌ غيرُ مُسلِمةٍ لهذا الدين ونبيِّه الكريم، وحرَّكَت ماءًا راكِدًا لدى المُسلمين وغيرهم.
ولو أحسنَ المُسلِمون استِغلالَ هذه الحادِثة لكان بها فتحٌ وعِزٌّ، وإن أساؤُوا التعامُل معها صارَت نكسةً وتنفيرًا.
إن الخيريَّةَ الموصوفة بها هذه الأمة خيريةٌ مطلقةٌ لا تتجزَّأ، فيجبُ على المُسلمين إظهارُ خيريَّتهم في رُدود الأفعال؛ فليس من الخيريَّة قتلُ الأبرياء، وتدميرُ المُمتلكات، ولا الغوغائية في التعاطِي مع الأحداث.
ولو أظهرَ المُسلِمون زيادةً في التمسُّك بهَديِ نبيِّهم واقتِفاءِ أثره، ونشرِ سِيرتِه والتعريفِ به؛ مُستَفيدين من المواقع العالمية للتواصُل - كما فعلَ كثيرٌ من المُسلمين مشكورين - لكان هذا أبلغَ ردٍّ على المُتطاولين، ولبادَرَ خُصومُهم لمنعِ تكرارِ الإساءَة لما يُشاهِدونَه من نشاطٍ دعويٍّ مُضادٍّ؛ فإن هذا الردَّ هو الأنكَى لمن أساء، وهو مُعاملةٌ بنقيضِ القصد.
أما الانجِرارُ وراء كل من يُريدُ بهذه الأمةِ شرًّا إما بإشغالِها عن حالِها الذي ابتُلِيَت به في هذا الزمان، أو لاستِفزاز الجالِيات المُسلِمة في بلاد الغربِ إلى أفعالٍ غير مسؤولةٍ ليُبرِّؤوا بها طردَهم، كما تُنادِي الأحزابُ اليمينيةُ في تلك البلاد، أو لتكون تلك الأفعالُ مُبرِّرًا لمنع ومُحاصَرة كل نشاطٍ دعويٍّ في بلاد الغرب، بعدما أحسُّوا بأن الإسلام حاضِرٌ في كل زوايا بلادِهم، وأن المُستقبَل له.
إن على المُسلمين أن يُدرِكوا أنهم ليسوا في حاجةٍ إلى حوادِث جديدةٍ ينحسِرُ بها مدُّ الإسلام وتضيعُ مكاسِبُه. إن على المُسلمين أن يكونوا على مُستوى من الوعي والنُّضج، وألا تتكرَّر الأخطاءُ، وإن الحياةَ للإسلام أوقعُ على خُصومه أحيانًا من الموت له.
إن نُصرةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تعنِي الخروجَ عن سُنَّته، ولا عملاً يُخالِفُ هديَه، إن حادثةَ الإساءة يجبُ ان تزيدَ الأمةَ تمسُّكًا بدينها، وحمِيَةً لنبيِّها، وعودةً لاتباع سُنَّته في الرضا والغضب، والضعف والقوة، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[الروم: 60].
اللهم صلِّ على الرحمة المُهداة، والنعمةِ المُسداة، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِه بالخير على نُصرة قضايا المُسلمين، وسعيِه لتوحيد صفِّهم وجمع كلمتِهم، وموقفه الحازِم لمنع كل الروابط والمواقع المُوصِلة إلى نبيِّنا الكريم، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم وفرِّج عنهم كربَهم، اللهم وفرِّج عنهم كربَهم.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماك بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا رب العالمين، ويا أرحمَ الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-03-2012, 09:21 AM   رقم المشاركة : 117
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

من وصايا القرآن الكريم
[color="rgb(139, 0, 0)"]ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 12 ذي القعدة 1433 هـبعنوان: "من وصايا القرآن الكريم"، والتي تحدَّث فيها عن الحضِّ على التدبُّر والتفكُّر في كتاب الله تعالى والعمل بما فيه، وذكرَ وصيةً من وصاياه، وهي: تحكيمُ الشريعة المُطهَّرة وعدم اتباع أهواء المُشركين والمُخالفين.


الخطبة الأولى

الحمد لله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم، أحمده - سبحانه - على فضله العَيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له البرُّ الرؤوف الرحيم، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحبُ النهج الراشدِ والخُلُق العظيم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا أنكم مُلاقوه، موقوفون بين يديه؛ فالسعيدُ من أعدَّ لهذا الموقف عُدَّتَه، مُتزوِّدًا بخير زاد، سالِكًا إلى الله كلَّ وادٍ، كادِحًا إليه من كل طريقٍ، مُبتغِيًا إليه الوسيلةَ بكل قولٍ وعملٍ، راجِيًا منه القبولَ والمغفرةَ والرضوان.
أيها المسلمون:
فيما جاء من عِظات القرآن ووصاياه من الهداية للتي هي أقوم، والدلالة إلى سبيل السعادة في العاجِلة، والفوز والحَظوة برضا الربِّ الرحيم ونزول رفيع الجِنان في الآجِلة ما يبعثُ المُوفَّقين أُولي الألباب عل إدامة التفكُّر في آياته، ومزيد التدبُّر لمعانيه، والكشف عن أسراره؛ استِجابةً لأمر الله القائل: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29].
ومما جاء في هذا الكتاب المُبارَك: ذلفك الحديثُ الضافِي عن فضل هذه الشريعة المُحمدية المُبارَكة، وكونها الحق الذيب لا يجوزُ العُدولُ عنه، ولا استبدالُ غيره به من أهواء الذين لا يعلَمون.
وإذا كانت الأهواء أسوأ مُتّبع، وأقبَح مُطاع، وأضلَّ دليلٍ؛ فكيف بأهواء الذين لا يعلمون، وهم الجاهِلون بالحق، الضالُّون عن سبيلِه، العامِلون بضدِّه من المُشركي أهل الجاهلية وغيرهم ممن نهَجَ نهجَهم، وارتضَى طريقتَهم في أعقاب الزمن، إن اتباعَ أهوائهم ليس طريقًا إلى الفشل والخُسران فحسب؛ ولكنه مع ذلك دليلٌ بيِّن على سُوء اختيار المرء لنفسه وفَداحة غبنِها.
فإن هؤلاء الجاهلين بالحق العامِلين بالباطل لن يُغنوا عمن اتبع أهواءَهم من الله شيئًا حين يُعرَضون عليه يوم القيامة، ولن يرُدُّوا عنه غضبَه وعقابَه وأليمَ عذابه.
وهم أيضًا لا يملِكون أن يضُرُّوا غيرَهم شيئًا، كما قال - عزَّ اسمُه - مُخاطِبًا أشرفَ خلقه - صلوات الله وسلامه عليه -، آمرًا إياه باتباع هذه الشريعة المُبارَكة وتحكيمها، والمُداومة على ذلك، مُحذِّرًا إياه من اتباع هذا الفريق: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 18، 19].
بل إن هؤلاء الجاهلين لَيُعلِنون البراءة ممن اتَّبَعهم وانساقَ لأهوائهم، كما أخبرَ - سبحانه - عنهم بقوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166] أي: الصِلاتُ التي ارتبَطوا بها في الدنيا من القرابَة والدين والمصالح وغير ذلك.
مثلُهم في هذا: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر: 16].
ولا يقِفُ الشيطان معهم عند هذا الحد؛ بل يزيدُ عليه توجيهَ اللوم والتقريع تبكيتًا تعظُم به الحسرة، وتشتدُّ به الندامة، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22].
إنهما - يا عباد الله - سبيلان لا ثالث لهما، فإما هُدى الله ودينُه وشرعُه، وإما أهواءُ الذين لا يعلمون؛ فأيُّ السبيلَين يسلُك اللبيبُ الناصِحُ لنفسه المُريد الخير لها؟ وإلى أي الوجهتَين يُولِّي وجهَه؟
ل ريبَ أن هُدى الله هو الهُدى، وأن دينَه هو الدينُ الحق الذي لا يقبَل من أحدٍ سِواه، وأن صراطَه هو الصراطُ المُستقيم المُوصِلُ إلى رَضوانه ونزول رفيع جِنانه، وأن اتباعَ غيره ما ه إلا اتباعٌ للأهواء التي حذَّر الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - منها مُبيِّنًا له أن اتباعَها ظلمٌ مُبينٌ للنفس: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 145].
وأمرَه أن يُبيِّن لهم أنه - سبحانه - قد نهاه عن بادة ما يعبُدون من دون الله من أوثان، وأنه لو اتبَع أهواءَهم بعبادتها لكان عاقبةَ ذلك الضلالُ عن صراط الله المُستقيم، قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام: 56].
كما بيَّن له أنه - سبحانه - أنزل إليه هذ الكتابَ بالحق ليحكُم بين الناس بحُكم الله الذي أنزلَه فيه، ونهاه أن يتَّبِع أهواء أهل الكتاب الذين جاؤُوه مُحتَكمين إليه، وحذَّرَه أن يفتِنوه فيصُدُّوه عن بعض ما أنزلَ الله إليه من حُكم كتابه فيحمِلوه على ترك العمل به، واتباع أهوائهم، فقال - عزَّ اسمُه -: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 49].
ولما أمرَه بدعوة الناس كافَّةً إلى الاستِمساك بدينه الذي شرعَه لأنبيائه كافَّةً ووصَّاهم به، وبالاستقامة والثبات عليه، قرَنَ ذلك بالنهي عن اتباع أهواء المُشركين به الضالِّين عن سبيله، فيما اختَلقوه وافتَروه من عبادة غيره - سبحانه - وما أعرَضوا به عن هُداه، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15].
فاتقوا الله - عباد الله -، واستمسِكوا بما جاءَكم من ربكم من البيِّنات والهُدى، وحذارِ من اتباع الأهواء حذارِ؛ فإن اتباعَها أصلُ الضلال، وسبيلُ الزيغ، وطريقُ الخيبة في الدنيا، وسببُ الخُسران المُبين في الآخرة.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في بيان فضل هذه الشريعة المُحمدية المُبارَكة وآثار تحكيمها في حياة الناس: قولُ بعض العلماء: "إن في شريعة الإسلام وتحكيمها صلاحَ المُجتمعات؛ فهي العدالةُ الحقَّة التي لا جَورَ فيها ولا ظلمٌ، وما ضاقَت هذه الشريعةُ عن بيان حكم أي مسألةٍ من مسائل شُؤون الحياة، ولا وقَفت في سبيل مصلحةٍ أو ريق عدالةٍ؛ بل تضمَّنَت كلَّ مصلحةٍ أو عدالةٍ ووسِعَت مصالحَ الناس على اختلاف أجناسِهم وأزمانهم.
لقد كانت الدولةُ الإسلامية في عُصورها الأولى تمتدُّ رُقعتُها من بلاد الصين شرقًا إلى المغرب الأقصَى غربًا، وكانت رايةُ الإسلام تخفِقُ على جميع ممالِكها المُخلفة التي ضمُّ أجناسًا مُتباينةً من البشر في الأجناس والعبادات والعادات.
فنظَّمَت الشريعةُ بدولتها الإسلامية شُؤونَ هذه الأمم والشعوب على أحسن نظامٍ وأدقِّه وأعدله، وكلما فتحَ الله على المُسلمين بلادًا أو أقاليم أو استجدَّ فيها أشياء ونوازل لم تُعهَد قبل ذلك أوجدَ علماءُ الشريعة باجتِهاداتهم واستِنباطاتهم من الكتاب والسنة ما يُقدِّم الحلولَ لجميع المُشكلات، ولم يقصُروا عن تحقيقِ مصلحةٍ، أو يصطدِموا بأي وسيلةٍ تهدِفُ إلى غرضٍ سامٍ يُحقِّقُ مصلحةً عامَّةً خاليةً من الجَور والظلم.
لقد عاشَ مع المُسلمين وتحت ظلِّهم أناسٌ لم يدينوا بالإسلام فشمِلهم عدلُه، ووسِعَتهم شريعتُه، فلم يظلِمهم ولم يهضِم حقوقَهم؛ بل كان خيرًا لهم، وأرحمَ بهم من كثيرٍ ممن ولِيَ أمرَهم من أهل دينِهم وبني جِلدتهم".
فاتقوا الله - عباد الله -، واجعَلوا من استِمساككم بهذه الشريعة المُبارَكة وتحكيمها والعمل بما جاءت به خيرَ دعوةٍ تدعُون بها إلى دين الإسلام، وتُرضون بها ربَّ الأنام.
وصلُّوا وسلِّموا على خير لق الله مُحمَّد بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ. اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم إنا نسألك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفِر لنا وترحمَنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتونين. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

[/color]

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-09-2012, 10:32 AM   رقم المشاركة : 118
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية العضو

مزاجي:










ابوحاتم غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

[COLOR="Re

حماية جناب الإسلام
d"]
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة19ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "حماية جناب الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وما يتعرَّض له هذه الأيام من حملاتٍ شرسة واستِهزاءٍ وسُخريةٍ، وقد وجَّه كلامَه بضرورة اتخاذ الإجراءات الدوليَّة لحماية جناب الإسلام وعِرض الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وأشادَ بالتحرُّكات الإيجابيَّة في نُصرة سُنَّة سيد البشريَّة - صلى الله عليه وسلم - من خلال توسِعة الحرمين الشريفين.

ا
لخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله حمدًا لا يُدانَى ولا يُضاهَى، تبارك ربًّا وجلَّ إلهًا، أحمده - سبحانه - خصَّنا بشريعةٍ عمَّ الإنسانية سَناها، وأشرقَ بالرحمات الصيِّبات دُجاها.
فالحمد لله حمدًا لا نفادَ له والشكرُ لله في بدءٍ ومُختَتمِ
فلا تُعدُّ ولا تُحصَى محامِدُه ولا تُقاسُ بمنثورٍ ومُنتَظَمِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُبلِغُ النفوسَ هُداها وتُقاها، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله جلَّى مُحكمات الحقِّ وأبانَ ذُراها وصُواها، اللهم يا ربَّنا فصلِّ وسلِّم وبارِك عليه المبعوث للعالمين رحمةً مُهداة، ونعمةً مُسداة، جلَّت خصائصُها ومزاياها، وآله وصحبِه الأُلى بلَغوا من الأمجاد مُنتهاها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به سرًّا وإعلانًا، جُموعًا ووحدانًا: تقوى الإله ربِّنا ومولانا؛ فتقواه - تبارك وتعالى - مِشكاةُ الأنام في الدجِنَّة، ومرقاةٌ لأعالي المنازلِ في الجَنَّة، وبُرهانٌ للاستقامة ومئِنَّة، وإنها - وايْمُ الحقِّ - خيرُ الزاد للقلوب المُطمئنَّة، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197].
أهلُ التُّقى أبدًا عِزٌّ ومفخرةٌ من جدَّ في السيرِ يُدرِك ما تمنَّاهُ
حيِّ الخِصالَ مع التقوى إذا اجتمعَت ذاك الجمالُ الذي قد سرَّ مرآهُ
أيها المسلمون:
في خِضمِّ أمواج الفتنِ العاتِية، والتحديات الغاشِية، واستِفزازاتِ الحريات القاتِمة العاشِية، وخلخلةِ الوشائجِ الإنسانية الراسِية؛ لزِمَ إيضاحُ مقاطع الحق الذي دعَت إليه شرائعُ ربِّ البريَّات، فقامت على أصولها شُمُّ الحضارات، وبسَقَت على أطنابِها الأُممُ الباهِرات، والمُجتمعاتُ الزاهِرات، استِدناءً من دلالات الخير والسداد، واستِكناهًا لمعاني التعايُش الإنساني بين العباد، المُضمَّخ فحواه بعبير الحقِّ التِّبهاج، المُوشَّى مرآه بالوِئام الوهَّاج.
أيها المؤمنون:
من أجلَى خصائص شريعتنا الإسلامية الزكيَّة: جمعُها جوهرَ الشرائع السماوية، وخُلاصةَ الرسالات الإلهية التي تبني أمجادَ المُجتمعات الإنسانية، وشوامِخَ الحضارات العليَّة، ولُبابَ القِيَم السنِيَّة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
فهي رسالةٌ ربانيةٌ عالميةٌ، شمسُ الهُدى والحقيقة لكل البريَّة والخليقة، حتى غدَت من الأحداق بُؤبُؤَها، ومن الأصداف لُؤلُؤَها، في أزكى أرومةٍ وغِراسٍ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110].
وفي ضوء سَناها، ونور هُداها تسترِدُّ الإنسانيةُ المُضرَّجة المُعنَّاة في لفظِها ومبناها، وجوهرها ومغزاها بريقَ نقاوتها، وعِزَّ كرامتها؛ وذلك بانتِحاء تعايُشٍ دوليٍّ خيِّر، وشراكةٍ إنسانيَّة جازِمة تتغيَّؤُ المُحكمات والمُسلَّمات، والتكافُل الذي يُحقِّق حوار الحضارات وتكامُلها، لا صراعَها وتظالُمها.
دينُ السلام على البسيطةِ كلها دينٌ أقامَ العدلَ في ساحاتها
عدلٌ ومرحمةٌ وحُسنُ تعايُشٍ بين الشعوبِ على اختلافِ فِئاتِها
إن الذبَّ عن المُشترك الدينيِّ، والحثَّ على القاسم الإنسانيِّ: شريعةٌ مُحكَمة أمرَت بها الشرائعُ الإنسانيَّة، وكفَلَتها الدساتيرُ الأرضية، وما وُصِف القانون الدوليُّ بالإنساني إلا لاستِهدافه الإنسانيَّةَ في معناها التكريميِّ والقِيَميِّ والحقوقيِّ والتوافُقيِّ، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70].
أيها المسلمون:
وهذه المُبادراتُ النديَّة، والمفاهيمُ الجليَّة تُبحِرُ بالإنسانيَّة في أمداء الحياة الآمِنة الأجمل، ومُستقبلها الوارِف الأكمَل؛ إذ ليس للمُجتمعات الإنسانية المُعاصرة الضارِبة في يَهْماءِ العُنجُهيَّة، والنظرات الذاتية والإقصائية، ليس لها بديلٌ عن الحوار والالتِقاء إلا التِّيه والعناء، إلا يفعلوه كانوا كالمَرْخ والعَفار، كلما احتكَّ أسفرَ اللهيبَ والنارَ، وباءُوا بالهُون والخَسار.
وليس لها دون مدِّ جُسور الثقة والائتلاف إلا التسافُكُ والاختلافُ، وما مآلُ التعايُش والاعتراف إلا النَّهَلُ من معينِ السلام والاغتراف، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].

إخوة الإيمان:
ومن أعظم وأجلِّ القواسِم التي تهُبّ على الأمم بأطيَب النواسِم: عبادةُ الله وحده لا شريك له، والإيمانُ بجميع الأنبياء والرُّسُل - عليهم الصلاة والسلام -، وعدمُ التطاوُل على مقام أحدٍ منهم، يقول - جلَّ شأنُه -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران: 64]. وتلك أعظمُ المناقِب، وأسمَى المراتب، ومُنتهاها صَفوُ الوِفاق، ومحضُ الاتفاق.
هذا، ولما تمرَّد فِئامٌ من المُجتمعات على أُصول الشريعة الربَّانيَّة، وهتَكوا الأعرافَ الدوليَّة، وتجرَّأوا بكل صفاقةٍ وفَدامةٍ دون ارعِواءٍ أو ندامةٍ، ونالوا - يا ويْحَهم - من جَنابِ رسول ربِّ العالمين، وقُرَّة عيون المُسلمين، بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
أمَا قرأتُم في التوراة هيئتَه ألم يُبشِّر به الإنجيلُ عندكمُ؟
أمَا علمتُم بأنَّ اللهَ ناصِرُه؟ يكفيه هُزءُ شرارِ الناسِ دُونَكمُ
لذلك وجبَ على الفورِ دون إمهالٍ أو تراخٍ: البِدارُ في غيرةٍ دينيَّةٍ ما لها انشِداخ لسنِّ القوانين والضمانات التي تُجرِّمُ دون مَيزٍ أو ثَنِيَّةٍ التطاوُلَ على الدين والشرائعَ السماويَّة، وثَلْمَ جنابِ النبوَّات والرسالات بالإفكِ والبَذاءات؛ تنكيلاً بالعابثين وإيلامًا، وتشريدًا لمن خلفَهم وإفحامًا، وتبيانًا للعالَمِ وإفهامًا، وأنَّ ذلك قدحٌ في قُدسيَّة رسالات الله كلِّها في أشخاصِ مُبلِّغيها من الأنبياء والمُرسلين - عليهم الصلاة والسلام -، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285].
شاهَت وجوهُ الشانِئين وكُلِّ مَن قد خاضَ في العِرضِ الشريفِ ولاكَا


أمة الإسلام:
وتأكيدًا لمُحكمات التعايُش الإنسانيِّ الحضاريِّ، وإعلاءً لكلمتها، وتقويةً لشوكتها تحتَّم التوارُد على قيمةِ العدلِ بين العالمين، فبِه أمرَ الحَكَمُ العدلُ - سبحانه - في جميع الشرائع، لتحقيق أسمَى المعاني الحياتيَّة البدائع، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل: 90].
والتآلف على نبذِ الظلم والقهر؛ لأنه أصلُ البلايا والنِّقَم، ومسلَبَةُ الرخاء والنِّعَم، وهنا تتقصَّف الأقلام، ويصطرِخُ كلُّ أبِيٍّ هُمام، أين العدلُ على ثرَى فلسطين؟ أين بيارقُ العدل في سُوريا التي تجاوزَ فيها الظلمُ والطغيان ما يُعجِمُ اللسان ويُعجِزُ البيان، مجازرُ ودماءُ، ورُضَّعٌ تحت الدمارِ وأشلاء.
أين مُشتركُ الوفاءِ بالعهود والمواثيق، وإنه لآكَدُ العُرَى وأوثقُ الخصائص التي تبسطُ من العدل والتراحُم رُواقَه، وتُشِعُّ في الدُّنَى ائتلاقَه. فمتى استعانَت الأممُ بهذا القاسم الوثيق طاشَت هيبتُها في قعرٍ سحيقٍ، وعمَّها الفناءُ كهشيمِ الحريق.
إن الأُمم التي ترومُ السلام العالميَّ المنشود، وتبذُل للتصافِي الإنسانيِّ كلَّ الجهود لن تُدرِك أمنِيَها إلا بسَديد الأقوال، وشهيدِ الفِعال، المُجرَّدة عن كل اعتبارٍ ذاتيٍّ أو قوليٍّ، أو عنصريٍّ أو عِرقيٍّ، يُذكِي التعصُّب والكراهِية، ويُؤجِّجُ الصراعَ والعُنفَ والعُدوانيَّة.
بل إنما هو التسامِي الإنسانيِّ في أروع جماله الإحسانيِّ، وهل ينسى التعايُش الإنسانيُّ المنشود مأساةَ بُورما وأراكان، وهما يتجرَّعان من صُنوف الظلمِ والبُؤسِ كُؤوسًا دِهاقًا، ويُقلَدان من ألوان الاستِبداد الأرعَنِ أطواقًا، في تعتيمٍ إعلاميٍّ أغلَف، وتأهُلٍ دوليٍّ مُجحِف.
هو الإسلامُ ما أسخاهُ غيثًا لهذا العالَمِ الموبوءِ غدرًا
فلا صُفرٌ به تعلُو زُنوجًا ولا بيضُ الأديمِ تُبيدُ حُمرًا
فيا هؤلاء وأولئك! يا عُقلاء العالَم! يا شُرفاء الإنسانية! إننا نُناشِدُكم التصديَّ لكل من يُحاول المِساسَ بالرسالات السماوية والثوابت والرموز الدينية، أحيُوا العدلَ العالميَّ وانشروه، ودكُّوا التباطُؤَ والتصامُم وارمِسوه، يلتئِم عقدُ المُشتركات الإنسانية والحضارية، مُعتبِرين أنَّ إنسانيَّة الجميع رهينةُ الجميع؛ إعلاءً لشأن القِيَم الفاضِلة التي نهَلَ رادَةُ الحضارات ونحاريرُ المُبادرَات من نبعِ مكارمِها السَّلسال، وارتشَفوا من مَعينها الذي جرَى وسالَ.
يقول - عليه الصلاة والسلام - الرحمةُ المُهداة، والنعمةُ المُسداة -: «إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ صالحَ الأخلاق»؛ أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأحمد في "المسند".
وقد شهِد - عليه الصلاة والسلام - في دار عبد الله بن جُدعان حِلفَ الفضول، وبُرهانُه: إشاعةُ الخير والنعماء بين ذوي الخصاصَة من بني الغَبراء، والقضاءُ على المسغَبة والفقر والأسقام والأدواء، والأخذُ على يدِ الظالِم، ونُصرة المظلوم، وذلك مِعراجٌ لرعاية المُشتركات الإنسانيَّة حقَّ رعايتها، وحفظها في سُموِّ مكانتها.
وبعدُ:
فثمَّة ملحظٌ مهمٌّ - يا رعاكم الله -، ألا وهو: أنه متى أُسِّس التوافُق العالميُّ على المُساواة والمُماثَلة لا على الفوقيَّة والمُفاضَلة والكيلِ بمِكيالَين، وسِيسة القضاء المهمات والنوازل المُدلهِمَّات بقوَّة الحق المجلُوَّة، لا بحقِّ الأنا والقوَّة؛ كان لهذا التوارُد مِلاكُ الشموخ، ومِساكُ الثبات والرسُوخ، وسينطلقُ العالَمُ - بإذن الله - إلى أفياءِ المحبَّة والرحمةِ والوِئام، والإنسانيَّة الزاخِرة، بالتقارُب والاحترام والسلام؛ بل وما أجمل هنا بل سيُعظِّم العالَمُ رسالات الملكِ العلاَّم وأنبياءَه ورُسُلَه الكرام، وفي ذُؤابَتهم سيدُ الأنام: محمدُ بن عبد الله - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام -.
وحينئذٍ ستهتِفُ الدنيا: ما أروعَ الحق حين ينتصِرُ ويأتلِق، وما أجملَ السلام حين يسُودُ ويتدفَّق، وما أبهَى العدل حين يسُوسُ ويتفتَّق، وما أبدعَ الأمن حين يعُمُّ العالَمَ ويترقرَق، ويومئذٍ يسعَدُ الجميعُ بالعَيش في ظلِّ عالَمٍ يسُودُه الأمنُ والاعتِدالُ والسلام، وتُرفرِفُ على جَنباتِه راياتُ الخير والتسامُح والوِئام، ذاك الرجاءُ والأمل، ومن الباري - تبارك وتعالى - نستلهِمُ خالِصَ القول وصوابَ العمل، والعِصمةَ من الخطأ والزَّلَل، إنه جوادٌ كريمٌ.
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيمٌ.

الخطبة الثانية

الحمد لله، أسبغَ علينا نعمًا غامرةً عِظامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدَّس إجلالاً وإعظامًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُجتبى من العالمين رسالةً ومقامًا، اللهم صَلِّ على نبيِّنا وحبيبنا وقُدوتنا وسيدنا محمدِ بن عبد الله، وآله البالغين من محبَّته السنامَا، وصحبه المُقتفين لسُنَّته التِزامًا واعتِصامًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ النيِّران وداما.
أما بعد، فيا أيها الناس:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن تحقيق نُصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والوفاء: اتباع هدي الرسول المُصطفى دون غلوٍّ أو جَفا - عليه الصلاة والسلام - جهرًا أو خفَا.
إخوة الإيمان:
ومن غُرَر المكارِم والخِلال، والحِكمةِ المُكتنِزة بسَديد الردود ورواجِح الفِعال: ما تطرَّزت به حضارةُ الإسلام في هذا الأوان، وإلى مديد الأزمان، بمناقب الفضلِ والجودِ الهتَّان، في الدفاع عن نبيِّنا وحبيبِنا سيدِ ولد عدنان، وذلك بالخُطوات العمليَّة الحضاريَّة، والمشروعات الإنسانيَّة الإيجابيَّة.
ومن تلك النماذج المُشرِقة: إرساءُ أكبر وأفخَم وأعظم توسِعةٍ تأريخيَّة للحرم المكي المُنيف، ومسجدِ الحبيبِ المُصطفى النبويِّ الشريفِ، وهذا الردُّ الحضاريُّ الرشيدُ إنما مُتِح من الروح المُترَعة بحبِّ سيدِ البريَّة - عليه أفضلُ الصلاة وأزكى التحيَّة -، وتعظيمٌ لشأن الرسالات السماوية، وإنها لرسالةٌ للمُجتمعات الإنسانية جهيرةٌ ناطقة، لكنها بالرشاد والحنكَة والأناةِ وادِقة، ولآلِئُ تلك الرسالة: لن تطولوا قدرَ حبيبِنا، وهذه نُصرتُنا له الحقيقيَّة الحضاريَّة - لا الغَوغائيَّة - في أجلَى معانيها وأسمَى مبانيها.
إن هذه التوسِعات التي دبَّجَها الحبُّ الشَّفيفُ هي رحمةٌ للحُجَّاج والعُمَّار والزوَّار من قاصِدي بيت الله الحرام، ومسجدِ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، كي ينعَموا بأجواءٍ إيمانيَّةٍ فريدة، مِلؤُها السَّكينةُ الضارِعة، والأمنُ والطُّمأنينةُ الخاشِعة، دون نصَبٍ وزِحام، ومشقَّةٍ والتِدام.
وهذه التوسِعةُ ونظيرتها في المسجد الحرام المبرورةُ الشاسِعة المُترامِيةُ المكان - ولله الحمدُ والمنَّة - هي أسمَى ما يُتوَّجُ به شرفُ الزمان، في استِقبال طلائعِ حُجَّاج بيت الله الحرام الذين يتوافَدون هذه الأيام.
فمرحبًا بهم وأهلاً، وطِئتُم وهدًا وسهلاً، تشرُفُ بكم بلادُ الحرمين الشريفين، رُعاتُها ورعيَّتُها، في جامعة الحجِّ العظيمة التي تتجسَّدُ فيها المنافعُ والمقاصِدُ الشرعيَّة، والمصالِحُ والقواسِمُ والمُشتركاتُ الإنسانيَّة، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج: 28].
في نأيٍ تامٍّ بهذه الفريضة العظيمة عن كل ما يُعكِّرُ صفوَها، أو يخرُجُ بها عن سَنَنها، وذلك برفع الشِّعارات، أو تنظيمِ المسيرات والمُظاهرات، ونحوِها من المُخالفات.
وها هُم المُسلِمون في مشارقِ الأرض ومغاربِها وقد أُثلِجَت صدورُهم، وابتَهَجت قلوبُهم مسرَّةً وحُبورًا، وتبريكًا وسرورًا، لَيرفَعون أكُفَّ الضراعة للمولَى - سبحانه وتعالى - أن يجزِيَ من يقِفُ وراء هذه الإنجازات العظيمة في الحرمين الشريفين عن الإسلام، وعن نبي الإسلام، ونُصرة قضايا المُسلمين، وخدمةِ الحرمين الشريفين أعظمَ المثوبةِ والمنَّة، وأعالِيَ درجات الجنَّة، دُعاءٌ لا يزالُ يتكرَّرُ ويتعدَّد، ويزكُو ويتجدَّد أن يجزِيَه خيرَ الجزاء وأوفاه، وأعظمَه وأسناه، إنه سميعٌ قريبٌ، كريمٌ مُجيبٌ.
آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ حتى أُضيفَ لها ألفًا
فلعلَّه دُعاءٌ أصابَ الإجابةَ وألفَى.
ألا وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على الرسول المُصطفى، والحبيب المُقتفَى، كما أمرَكم بذلك المولَى - جل وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
يا ربِّ صلِّ على المُختار قدوتِنا محمدٍ خيرِ مبعوثٍ إلى الأُممِ
أزكى صلاةٍ وتسليمٍ وتكرِمةٍ والآل والصحبِ والأتباعِ كلِّهمِ
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمةِ المهديين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين والزائرين، واحمِ حوزةَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، واجزِه عن الإسلام والمُسلمين خيرَ الجزاء وأوفاه يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم احفظ على هذه البلاد عقيدتَها وقيادتَها، وأمنَها واستقرارَها ورخاءَها يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة المُسلمين، اللهم اجعَلهم لشرعك مُحكِّمين، ولسُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعين، ولأوليائك ناصِرين يا رب العالمين.
اللهم انصُر إخوانَنا المُضطهدين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم انصُرهم في بلاد الشام، اللهم انصُرهم في سوريا، اللهم انصُرهم في بُورما وأراكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتّت شملَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبرين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحَم موتانا، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، وارحَم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمسلمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
[/COLOR]

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-20-2012, 02:34 AM   رقم المشاركة : 119

 

الحج عِبر وعِظات

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 26ذي القعدة 1433هـ بعنوان: " الحج عِبر وعِظات "، والتي تحدَّث فيها عن استِحضار العِبَر والعِظات التي تضمَّنتها فريضةُ الحجِّ؛ من تذكُّر بناء البيت العتيق وكيفية ذلك، وسعي هاجر – عليها السلام – بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء لابنها الرضيع، ووقوف النبي - صلى الله عليه وسلم – على الصفا والمروة في غير موضعٍ، وبيَّن بعضَ مقاصِد الحجِّ ولطائفه.

الخطبة الأولى
الحمد لله ذي العِزَّة والجلال، والقوة والكمال، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفِره، له الحمدُ كلُّه، وبيده الخيرُ كلُّه، وإليه يُرجَعُ الأمرُ كلُّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه من خلقه، خيرُ من صلَّى وزكَّى وحجَّ وصام، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ إذ ما خابَ من اتقاه، ولا أيِسَ من رجاه، ولا ذلَّ من أعزَّه، ولا عزَّ من أذلَّه، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة: 100].
أيها الناس:
حُجَّاج بيت الله الحرام! لقد حلَلتم أهلاً، ووطِئتُم سهلاً في بيت الله الحرام مكة المُكرَّمة البلد الأمين، أم القرى، دعوةِ أبينا إبراهيم - عليه السلام -: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[إبراهيم: 37].
فها هي أفئدةٌ من الناس تتقاطَرُ إلى هذا البيت العتيق، تهوي إليه أفئدتُهم قبل أجسادِهم، يفِدون إليه رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميقٍ.
إن من تأمَّل قصةَ هذا البيت العتيق وما مرَّ به عبر القرون والعصور، وهو شامخُ البُنيان، ثابتُ الأركان، بدأ في وادٍ غير ذي زرعٍ، لا ماءٌ به ولا شجَرٌ ولا شيءٌ، خلاءٌ بلقَع، ليس به أنيسٌ ولا جليسٌ، ونراه اليوم بيتًا معمورًا، لا تمرُّ لحظةٌ إلا وفيه طائفٌ أو راكعٌ أو ساجدٌ.
بلدٌ كان لا يقصدُه القاصِد إلا ووصيَّته مكتوبةٌ عنده؛ لأن شدَّ الرَّحل إليه مظِنَّةٌ من مظانِّ الهلاك؛ إما تيهًا، أو جوعًاوعطشًا، أو قطعًا للطريق، وربما كان يُقال عنه قديمًا: الذاهبُ إليه في عِداد المفقود، والعائدُ منه كالمولود؛ لبُعد المسافة، ووعورة الطريق، وقلَّة الزاد والرَّاحِلة.
وقد أشارَ إليه المولَى بقوله: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ[النحل: 7].
قال المُفسِّرون: "هي مكة".
وتتوالَى نعمُ المولَى - سبحانه - على عباده، فيخلُق ما لم يكونوا يعلمون به ولا يحتسِبون، فيُذلِّلُ لهم رَكوبَ ثبَج الهواء والبحار والبراري، ويُؤمِّنُ لهم الطريق، ويُنعِمُ على عباده بالمَركب الرَّخِيِّ، والرزقِ الهنِيِّ، والمسكن السلِيِّ، ويُكرِم عبادًا حمَّلَهم خدمةَ الحرمين الشريفين ليُفيضُوا فيه مما أفاءَ الله عليهم، يُسخِّرون نعمةَ الله خدمةً لوفود بيته الحرام، في صورةٍ لو ذُكِرت لأسلافنا لوُصِف راويها بالخَبال، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34].
ومع ذلكم كلِّه - عباد الله - فإن السفرَ قطعةٌ من العذاب، وورود عرَصات المناسِك بأركان الحجِّ وواجباته وسُننه لم يأتِ في شريعتنا الغرَّاء في دائرة الترفُّه أو التنعُّم، كلا؛ بل إن الحجَّ عبادةٌ تميَّزَت باشتراك الجهد البدنيِّ والماليِّ فيه، ومهما بلَغَت وسائلُ الراحة والترفُّه مبلغَها في هذا العصر فلن يُعفِيَ أحدًا من التفَث والشَّعَث والمشقَّة؛ إذ عرَصاتُ المناسِك إنما هي امتحانٌ للمرء المُسلم أيصبِرُ أم يضجر.
وما مُنِع الحاجُّ مما كان حلالاً عليه قبل الإحرام إلا لحكمةٍ يعلمُها - سبحانه -، تُشعِرُ الناسِك بالنَّصَب والوَصَب والمشقَّة في ذات الله - سبحانه -، وإلا فما معنى المنع من قصِّ الشعر وتقليم الأظافر والطِّيب ولُبس المخيط، والخِطبة والنِّكاح، ومُعاشَرة الزوجة، إن لم يكن من أجل استِحضار نعمة الله على العبد حالَ الترفُّه وترادُف النعم.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: «إنما لكِ من الأجر على قدر نصَبكِ ونفقَتِك».
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 29].
وحينما يمتنِعُ الحاجُّ والمُعتمِر عما حرَّمَه الله عليه حالَ النُّسُك - وهي كلُّها من وسئل الترفُّه - ليرسُخُ في أفئدتِهم مبدأُ الوقوف عند حدود الله، والسمع والطاعة له فيما أباح وفيما حرَّم، لا يُجادِلون في حُرمة ذلك، ويتلقَّونَه بعين الرِّضا، والتعبُّد للواحد القهَّار الذي منعَهم من مُزاولة ومُلابَسة ما نهاهم عنه، فيُدرِكون أن الحُكمَ لله وحده، والأمرَ لله وحده، وأنه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله.
إذ لك - أيها المرء المسلم - أن تُجادِل كلَّ من منعَك حقَّك، أو أراد أن يُجرِّدَك من ثيابك، أو يمنع عنك زوجَك، أو يمنعَك من قصِّ شعرك وتقليم ظُفرك إلا الله - سبحانه -؛ فإنه لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون.
وبمثل هذا تُصقَل النفوسُ المؤمنة من خلال توثيق الصِّلَة بالله في الحجِّ، وتجديد الولاء له بالتوحيد في صيغة التلبية: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريك لك، وفي صيغة التهليل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وفي صيغة التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، عند الإحرام، وفي عرفة، وعند رمي الجِمار.
وكأنَّ ذلك التوحيد علامةٌ على أن من أراد أن يغفِر الله له فليُوحِّده حقَّ تويده، وليجعل الأمرَ كلَّه لله خلقًا وعبادةً، وأمرًا ونهيًا، لا مُبدِّل لكلمات الله، ولن تجِد من دونه مُلتحدًا.
ولهذا - عباد الله - كان جزاءُ من أقام شعائر التوحيد في الحجِّ ولم يرفُث ولم يفسُق أن يرجِع كيوم ولدَتْه أمُّه، كما صحَّ الخبرُ بذلكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا كان الباري - سبحانه - قد جعلَ اجتِنابَ الكبائر سببًا في كفَّار الذنوب، كما في قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا[النساء: 31]، فإن تركَ الشرك بالله - أكبر كان أو أصغر - وإقامة التوحيد من بابِ أولَى، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، والصلاة والسلام على نبيِّه الداعي إلى رِضوانه.
وبعد:
فاعلموا - عباد الله - حُجَّاج بيت الله الحرام أن من مقاصِد الحجِّ: إقامةَ ذكر الله بالتوحيد؛ فتارةً يكون بالتلبية، وتارةً يكون بالتهليل، وتارةً يكون بالتكبير، وكلُّها أذكارٌ تُؤكِّدُ انفرادَ الله في رُبُوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته.
وهكذا تظلُّ جُموع الحَجيج تجأرُ بذكر الله، لها هذيرٌ لا ينقطِع، يُستحبُّ لهم ذلك كلُّهخ حال القيام والقعود والمشي والركوب، والاضطجاع والنزول والسير، للمُحدِث والجُنُب والحائض، في الليل والنهار، وعند الأسحار، وفي أدبار الصلوات؛ فقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الحجِّ أفضلُ؟ فقال: «العَجُّ والثَّجُّ»؛ رواه الترمذي.
والعَجُّ: هو رفعُ الصوت بالتلبية. والثَّجُّ: هو نحرُ البُدْن.
وفي الحديث الآخر مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جُعِل الطوافُ بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجِمار لإقامة ذِكر الله»؛ رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود.
ومما يدلُّ على ذلكم، وأن أعمال الحج معمورةٌ بذِكر الله: أن الله - سبحانه - حينما ذكرَ رميَ الجِمار في كتابه العزيز أتَى بلفظِ الذِّكر؛ حيث قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ[البقرة: 203].
وفي السعي - عباد الله - يقِفُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ثم وحَّد اللهَ وكبَّرَه، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجزَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحده».
ومن هنا يستحضِرُ كلُّ مؤمنٍ مُوحِّدٍ أن الله سيُنجِزُ وعدَه لمن وعَد، وأنه لا يفُلُّ كيدَ عدُوِّهم ويُفرِّقُ شملَهم إلا هو - سبحانه -، فهو القاهرُ فوق عباده، وهو على كل شيء قدير، وأن النصرَ من عند الله ينصُر من يشاء وهو العزيزُ الرحيمُ، وأما العباد فلا حول لهم ولا طَول إن لم يكن لهم نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ[آل عمران: 126، 127].
ولعلَّ من اللطائف في كون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختارَ موضعَ الصفا والمروة ليذكُر فيه نعمةَ النصر وإنجازَ الوعد: أنه هو الموضع التي كانت تقطعُه هاجَر أم إسماعيل - عليهما السلام - تبحثُ فيه عن الفَرَج وكشف الكُربة، تبحثُ عن الماء لابنِها الرَّضيع، فيكشِفُ الله غُمَّتَها، ويُفرِّجُ كُربتَها.
ومن اللطائف أيضًا: أنه - صلى الله عليه وسلم - حينما ضُيِّق عليه في مكة وأُخرِج منها، وقفَ بالحزورة - قيل: إنها عند الصفا -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «واللهِ إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ»؛ رواه أحمد.
فحريٌّ بكل حاجٍّ أن يستلهِمَ هذه العِبَر والعِظات، وأن يستحضِر وهو يقِفُ على الصفا والمروة ما كان يقولُه - صلى الله عليه وسلم -، مُعطَّرًا بالفأل الحسن، وتغيُّر الحال من الضعف إلى القوة، ومن الاضطهاد إلى الصر.
هذا هو الحجُّ - عباد الله -، يبدأُ بالذكر، ويتوسَّطه الذكر، ويُختَتم بالذكر، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 200- 202].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم سلِّم الحُجَّاج والمُسافرين، اللهم تقبَّل منهم إنك أنت السميعُ العليمُ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-20-2012, 02:41 AM   رقم المشاركة : 120
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

وقفاتٌ وتأملاتٌ في نُصرة المصطفى
- صلى الله عليه وسلم –
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 3 ذي الحجة 1433هـ بعنوان: "وقفاتٌ وتأملاتٌ في نُصرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -"، والتي تحدَّث فيها عن الحملات الشعواء التي طالَت خير البشر ونالَت منه - عليه الصلاة والسلام -، وبيَّن المنهجَ الربانيَّ الذي علَّمنا الله إياه في الرد على مثلِ هذه السُّخرية والاستهزاء الذي يتوالَى من لدُن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى قيام الساعة، في وقفاتٍ مهمةٍ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد باسمه الأسمى، أحمده - سبحانه - وسِع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأُثنِي عليه وأشكرُه أسبغَ علينا آلاءً وأفضالاً ونِعمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصةً تكونُ لبلوغ رِضوانه سُلَّمًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله فتحَ به أعيُنًا عُميًا، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًلا صُمًّا، وآتاه من فضله علمًا وحكمةً وحُكمًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه هم الأرجحُ عقلاً وحلمًا، والأوفرُ علمًا وفهمًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله - حقَّ تقواه؛ فالمغبونُ من جعلَ أكبرَ همِّه دُنياه، والمخذولُ من اتخَذَ إلهَهُ هواه، والخزيُ والحسرةُ لمن كان في النار مثواهُ، فانظروا في العواقبِ؛ فالسعيدُ من نظرَ في عُقباه، وتأهَّبُوا للعَرضِ الأكبر يومئذٍ تُعرَضون حُفاةً عُراةً، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[لقمان: 33].
أيها المسلمون:
حُجَّاج بيت الله الحرام! ها أنتم حلَلتم الديارَ المُقدَّسة في مكة المكرمة مولد رسول الله - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - ومبعثه، وفي المدينة النبوية المُنورة مُهاجَر الحبيب محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومنزله «ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة».
حلَلتُم أهلاً، ووطِئتُم سهلاً، وعلى الرَّحبِ والسَّعة في الحرمين الشريفين مُتنزَّل الوحي، ومهبِط الرسالة، ومنبَع الإسلام، ومُنطلَق الدعوة. وتقبَّل الله منا ومنكم، وجعلَ حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.
حُجَّاجَ بيت الله! وأنتم بين هذه الشعائر والمشاعر تستحضِرون مقامَ نبيِّكم محمدٍ - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم -، وما يجبُ له من التوقير والتعظيم والنُّصرة، وقد حاولَ أن يتطاولَ عليه من يتطاوَل، وينالَ منه من ينال.
وفي هذا وبين شعائركم ومشاعِركم - حفظكم الله - ينبغي أن تعلَموا أن الإساءة إلى الدين الحقِّ، والتطاوُل على مقامات النبيين والاستهزاء بالمُرسلين، وتنقُّص ما جاؤوا به، وازدراء ما بُعِثوا به، هذا هو دَيدَنُ المُكذِّبين عبر التاريخ.
فالأفَّاكون الظالِمون يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرُفَ الإساءة وأنواع السُّخريات، والتي تتجدَّدُ بتجدُّد الأحداث والوسائل، ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ليس بِدعًا من الرُّسُل، مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ[فصلت: 43]، فقد طالَته الإساءة، ونالَته التجاوُزات من أول يومٍ بدأ فيه دعوتَه؛ فقالوا: سَاحِرٌ كَذَّابٌ[ص: 4]، وقالوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا[الفرقان: 5]، وقالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ[النحل: 103]، وقالوا: وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ[الفرقان: 4]، وقالوا: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا[الفرقان: 8]، وقالوا: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ[المنافقون: 8]، في أقوالٍ وأفعالٍ وأكاذيب وأساطير وتحريضاتٍ لا تقِفُ عند حدٍّ.
وأمام ذلك - عباد الله - كان للقُرآن منهجُه وطريقتُه في توجيه نبيِّ الله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وتثبيتِ فُؤادِه، وإرشاد أتباعه لما ينبغي من مواقف.
وهذه - رعاكم الله وحفظكم - وقفاتٌ وتأملاتٌ في هذا المنهج:
فمن الوقفات والتأمُّلات: أن هذا هو ما تعرَّض له الأنبياءُ من قبل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كما قال - عزَّ شأنُه -: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الأنعام: 10]، وقال - جل وعلا -: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا[الأنعام: 34].
ومن التأمُّلات: أن من انتقصَ من الأنبياء أو استهزأَ بهم أو أهانَهم أو نالَ منهم فهو المخذولُ، وهو الأبترُ، وهو مقطوعُ الذِّكر، وهو الأدحرُ والأحقرُ. وهذا أمرٌ مشهورٌ ومعروفٌ مُتقرِّرٌ طِوالَ التاريخ بصورةٍ باهرةٍ واسِعةٍ.
إن الإيمان بالحق والخير والفضل لا يُمكن أن يكون أبتَر، وإن مقاييس الله غير مقاييس البشر؛ أين الذين كانوا ينالُون من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - طِوالض التاريخ منذ أول يومٍ من البعثة إلى يومنا هذا إلى ما شاء الله؟! هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[التوبة: 33].
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3]، إن شانِئَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ومُبغِضَه والمُستهزِئَ به ومُبغِضَ ما جاء به من الوحي العظيم والشرع الكريم هو الأذلُّ، وهو المُنقطعُ من الخير، المقطوعُ من طيِّبِ الذِّكرِ، المقطوعُ دابِرُه. أما محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فمرفوعٌ ذِكرُه، وعالٍ أمرُه، ومُنتشرٌ دينُه، ومُنتصرٌ أتباعُه.
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[الكوثر: 1]، عجيبٌ هذا التقابُل الباهِرُ بي ما أُعطِيَه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من الخير الكثير الوافِر وغير المُنقطع في الدنيا والآخرة، وما عليه أعداؤُه وشانِئُوه ومُبغِضوه من انقطاع الذِّكر، والذلِّ والصَّغار!
تأمَّلوا - رحمكم الله - هذا الحديثَ العجيبَ، وهذا التوجيهَ النبويَّ الكريمَ للصحبِ الكرام، ولمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة؛ ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا ترَونَ كيف يصرِفُ الله عني شتمَ قريشٍ ولعنَهم؟! يشتُمون مُذمَّمًا ويلعَنون مُذمَّمًا، وأنا مُحمدٌ!»، فنزَّه الله اسمَه ونعتَه عن الأذىن وصرَفَ ذلك إلى من هو مُذمَّم.
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "قوله: «يشتُمون مُذمَّمًا» كان الكفارُ من قريش من شدَّة كراهتهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُسمُّونَه باسمِه الدالِّ على المدحِ، فيعمَدون إلى ضِدِّه، فيقولون: مُذمَّم، وإذا ذكرُوه بسُوءٍ قالوا: فعلَ الله بمُذمَّم، ومُذمَّم ليس هو اسمَه - عليه الصلاة والسلام -، ولا يُعرَفُ به. فكان الذي يقعُ منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره".
وعليه - أيها المسلمون -؛ فتلك الرُّسوم والأفلام والصور من أشباهها إنها قطعًا لا تُمثّلُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نبيَّنا، لا في اسمِها ولا في رمزِها؛ فمحمدٌ هو الضياءُ، وهو الطُّهرُ، وهو البهاءُ، وهو الإجلالُ والتقديرُ والرِّفعةُ، وهو الرحمةُ، مرفوعٌ ذِكرُه، عالٍ أمرُه، ومُنتشرٌ دينُه، ومُنتصرٌ أتباعُه.
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[يس: 30].
من أجل هذا كلِّه؛ فإننا نحن المسلمين نعلم أن دينَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يكسَبُ كلَّ يومٍ عقولاً وقلوبًا وديارًا، وأن غيرَه في انحِسارٍ وانبِتارٍ وانقِطاعٍ.
ومن الوقفات والتأمُّلات: الاستمرارُ في الدعوة، والعملُ لدين الله، وسيرُ القافِلة، وعدمُ الالتفات أو الاكتراث لنعيقِ الناعِقين، قال - عزَّ شأنُه -: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 94، 95]، وقال - عزَّ شأنُه -: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[الكوثر: 2]، وقال - جل وعلا -: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 98، 99].
غير مُلتفتين إلى ما يقومُ به المُعادُون الأعداءُ من أسباب الإعاقات والسُّدود والحواجِز، فاللهُ حافِظُك وكافِيك ومُؤيِّدُك وناصِرُك، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[البقرة: 137].
يكفيه بما شاء من أنواع العُقوبات، فما تظاهَرَ أحدٌ بالاستِهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به إلا أهلَكه أشدَّ هلاكٍ، وخذَلَه أعظمَ خُذلان، وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الأنعام: 10].
ومن التأمُّلات: قولُه - عزَّ شأنُه -: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ[الحجر: 97]؛ فالرسولُ - عليه الصلاة والسلام - بشرٌ لا يملِك نفسَه أن يضيقَ صدرُه وهو يسمعُ الشِّركَ بالله والاستِهزاءَ بالرسالة ودعوةِ الحقِّ، فيغارُ على الدعوة، ويغارُ على الحق، ويضيقُ بالضلال والشِّرك والباطلِ. وهذا تنبيهٌ إلى أن العواطِفَ البشريةَ مُقدَّرة، وهي دافِعةٌ، لكن لا ينبغي أن تكونَ قائدةً.
فالحماسُ والإثارة والاستِثارة لا ينبغي أن يُتجاوَزَ بها حُدود الحلال والمشروع، وهذا يتطلَّبُ شجاعةً ونزاهةً، مما يجبُ معه التحلِّي بالحكمة والتثبُّت وحفظ التوازُن، والرجوع إلى أهل العلم والعقل والرأي والحكمة، والحذرُ من سلوك مسالِك تضرُّ بمصالح الدين والمُسلمين، والحذرُ كذلك أن يكون المُحرِّكُ للعقول هي السواعِد؛ بل السَّواعِدُ يجبُ أن تضبِطَها العقولُ.
وبقدرِ ما يكونُ الفِكرُ عاقلاً واعيًا هادِئًا تكونُ النتيجةُ مُؤثِّرةً مُثمِرةً - بإذن الله -.
ومما ينبغي لفتُ النظر إليه الابتعادُ عن التصرُّفات غيرِ المُنضبِطة وبخاصَّةٍ إذا استحضرَ المُسلِمون أن الآخرين يرقُبُون التصرُّفات، ويرصُدونها؛ بل يُوظِّفُونَها في تداعِياتِها وآثارِها؛ فمواقفُنا تعكِسُ أخلاقَنا، وأخلاقُنا نابِعةٌ من ديننا، وهُدوؤُنا وسكونُنا سكونُ عِزَّةٍ وإباءٍ، وليس سُكونَ ضعفٍ ولا جُبنٍ ولا خَوَرٍ.
فنحنُ لا نقبل ولا نرضَى ولا نسمَح أن يتطاولَ أحدٌ على مقام نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أو ينالَ من ديننا، أو كتابِ ربِّنا - عز وجل -، وكل هذه الأحداث تزيدُنا تمسُّكًا بديننا وحُبِّ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الوقفات والتأمُّلات - حُجَّاجَ بيت الله -: أن مفاهيم الحق والباطل، ومبادئَ العدل والظلِ، وحُدودَ الصحيح والخطأ شكَّلَها في نفسيَّات الشباب والمظلومين في العُقود الأخيرة، شكَّلَتها هذه المظالِمُ التي يرَونَها تُرتَكَب من القوى الكُبرى، ومن كِيان إسرائيل - الدولة المُحتلَّة -، وما يُتابِعُه هؤلاء الشباب من العَبَث بالاتفاقات الدولية والمُعاهَدات والتعسُّف في تفسيرِها وتطبيقِها، والتستُّر على الظالِمِ، وغضِّ النظر ع بعض التصرُّفات؛ بل الانحيازُ إلى الظالم والدفاع عنه، والكَيل بمِكيالَيْن؛ بل بمكاييل، والسياسات الظالِمة، والمواقِف الجائرة، وتغليبِ المصالِح الضيِّقة، وإهانةِ الشُّعوب وعدم احترامِها.
كلُّ ذلك مما يُولِّدُ الشعورَ بالقهر، ويُثيرُ الاستِفزازَ والاشمِئزازَ، نفاقٌ سياسيٌّ دوليٌّ يستنكِرُ متى شاء، ويسكُتُ ويغُضُّ الطرفُ متى شاء.
والذين يلُوذون بحريَّة التعبير يتجاوَزون كلَّ الاتفاقيات والمواثيق والمُصطلحات إذا رأَوا أنهم بحاجةٍ إلى ذلك، أو أن مصالِحَهم تُمسُّ أو تُنتقَص.
على أن نهجَ الإنصافِ - رحمكم الله - والاعتدال الذي علَّمنَاه إيَّاه دينُنا يُؤكِّدُ أن في الآخرين مُنصِفون وعقلاء، وفيهم مُدافِعون عن الحق، وباحِثون عن الحقيقة، وفيهم جاهِلون ومُغرَّرٌ بهم، وفيهم مفتونون.
وحاشَ لله أن يكون كلُّ هؤلاء في خِطابٍ واحدٍ أو في كِفَّةٍ واحِدةٍ؛ فنُقدِّرُ لكل ذي قدرٍ قدرَه، والمُسلِمون - ولله الحمدُ - عندهم المعايير مُنضبِطة لتمييز المُحِقِّ من المُبطِل، والجائرِ من (..).

معاشر المسلمين:
حُجَّاج بيت الله! ومن الوقفات: قولُ الله - عز وجل -: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، وقولُه - جل وعلا -: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[الممتحنة: 5].
كم هو عقلٌ وأناةٌ أن ننظُرَ إلى أن بعضَهم مفتونون بأحوال بعضِ المُسلمين وأوضاعِهم؛ فتراهُ حين يرى ما في المُسلمين من مظاهر ضعفٍ وتخلُّفٍ، قد يقولُ: لو كان محمدٌ نبيًّا حقًّا ولو كان دينُه صحيحًا لوجَدنا أتباعَه في أحسن حالٍ من حُسن السياسة، والانضِباط، وحُسن السلوك، والتدبير والتصرُّف، ولتفوَّقوا، ولبَرَعوا.
أما أن يكونوا غيرَ حضاريين ضِعافًا مهزوين قوةً وعلمًا، وإدارةً واقتِصادًا، إلى غير ذلك من أمثال هذه المقولات، فهذه - يا إخواني - مما يجعلُ أهلَ الإسلام في مواقع الفتنةِ، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85].
نعم - حفظكم الله -؛ جميلٌ وحقٌّ أن نغضبَ لمن يُحاوِلُ النَّيلَ من ديننا ونبيِّنا، ولكن من الحقِّ والعقلِ أن نُراجِعَ أنفُسَنا وألا نغضبَ من قُصورنا وتقصيرنا في الاستِمساك بديننا والالتزامِ بسُنَّة نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ونُحاسِبُ أفعالَنا وتصرُّفنا. وأين نحنُ من القيام بمسؤوليَّاتنا والأمانة في أداء أعمالِنا؟!
ينبغي أن نغضبَ حين نرى الإهمالَ والمُهمِلين، والتقصيرَ والمُقصِّرين من أهلِنا وقومِنا، وكما تُخاضُ معركةُ الموت تُخاضُ معركةُ الحياة، وكما نموتُ في سبيل الله نحيا في سبيل الله.
لا بُدَّ من أخذ الدروس والعِبَر حتى لا نكون فتنةً للذين كفروا، لا بُدَّ أن نُثبِتَ أننا أمةُ الخيرية الوسطيَّة، تُؤمِنُ بكتاب ربِّها، وتسيرُ على خُطى نبيِّها، وتأخُذُ بكلِّ أسباب القوَّة والعِزَّة، ووسائل العلمِ، والتقدُّم، والتقنِيَّة، مما يُحقِّقُ صلاحَ الأمةِ وفلاحَها، ويحفَظُ لها تُراثَها وعِزَّتَها وأصالتَها وهويَّتَها، ويرقَى بها، وتنشُرُ رسالتَها رحمةً للعالمين.
نحتاجُ إلى أن نكون أمَّةً مُنتِجةً مُبدِعةً صانِعةً، ومن لا يملِكُ قُوْتَه لا يملِكُ حرِّيَّتَه في إصلاح التعليم والسياسة والمُجتمع والاقتِصاد، وكل وجوه الإصلاح.
ومن حُسن الإفادة من مثلِ هذه الأحداث: مزيدٌ من الدعوةِ إلى الله، ومزيدٌ من الانتِصار للنبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ بالتعريفِ به، ونشر سيرتِه، وشمائلِه، في أحسن عرضٍ، وقُوَّةِ بلاغٍ، وبلاغةِ حديثٍ، وإبرازِ الوجهِ الحضاريِّ لديننا، بالحوار والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ، ودفع السيِّئة بالحسَنة،ونبذ مسالِك الغلُوِّ والانفِلات والإفراطِ والتفريطِ.
وبعد:
فهذه كانت بعضُ الوقفات والتأمُّلات مع يقيننا وإيماننا أنَّ نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لن تضُرَّه سُخريةُ الساخِرين، ولن ينالَ منه استِهزاءُ المُستهزِئين؛ فهو من جمَعَ المحامِد، وحازَ المكارِم، وهو خاتَمُ الأنبياء، أكمَل الله به الدينَ، وأتمَّ به النِّعمةَ، فمولدُه فتحٌ، ومبعثُه فجرٌ، وهجرتُه نصرٌ، أغنَى به بعد العَيْلَة، وكثَّرَ به بعد القِلَّة، وأعزَّ به بعد الذِّلَّة.
وما تحرَّك هؤلاء وما زادَ استِفزازُهم إلا لما يرَونَه من انتشار هذا الدين، وإقبال الناس عليه وقبوله، وتلكم من البشائر لأهل الإسلام؛ حين يرى الأعداءُ أنوارَ الإسلام تُبدِّدُ ظُلماتِ الجهل والجهالة، وتقِفُ أمام مكر الماكِرين، وتظلُّ سائرةً رغمَ حقدِ الحاقِدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 92- 99].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله رفعَ قدر أولي الأقدار، وحطَّ بفضله عن التائبين الأوزار، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على فضلِه المِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجِي من عذاب النار، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة الطيبين الأطهار، وعلى أصحابه البَرَرة الأخيار المُهاجِرين منهم والأنصار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
إن الاستِنكارَ وإظهارَ الغضب شيءٌ مشروعٌ؛ بل هو مطلوبٌ؛ لأنه من إنكار المُنكَر، وبخاصَّةٍ إذا زادَ انتشارُ الخبر، وتمادَى المُخالِفون في غيِّهم وبغيِهم.
ومن هنا؛ فإن على الأمة بحُكَّامها وشُعوبِها، وساسَتها وعلمائها، ورجال أعمالها وإعلامِها، وربِها وعجَمها، وأقلِّيَاتها وجالياتِها أن يهُبُّوا جميعًا لنُصرة نبيِّهم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بهُدوءٍ وفاعليَّةٍ وعملٍ مُنظَّمٍ، تُباشِرُه هيئاتٌ وجهاتٌ مُتخصِّصة، تكونُ مسؤوليَّتُها وضعَ المناهِج والخُطَط لما ينبغي من مواقِفِ في مثلِ هذه الأحوال والأوضاع، وتكونُ لها صلاحيَّاتُ اتَّخاذُ المواقفِ اللازمة، والاتصالاتِ المُلائِمة، والرُّدود المُحكَمة، وفقَ أُطُرٍ نظاميَّةٍ وقانونيَّة، مع التأسيس لمنهجيَّةٍ فاعِلة، محليَّةٍ ودوليَّة، لتوضيح حقائق ديننا، والدفاع عنه، وكشف المُتطاوِلين على الإسلام والمُسلمين، وأنهم ضحايا التشويه والظلمِ والتعسُّف.

معاشر المُسلمين:
وفي أسلوبٍ إسلاميٍّ عمليٍّ حضاريٍّ حين تسابَقَ مُلُوك العالم ورُؤساؤُه إلى منبَر الأمم المُتَّحِدة ليقولَ كلٌّ ما يُريدُ أن يقولَه حولَ ما يهمُّه من شأنٍ توجَّهَ وليُّ أمرِنا خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ عبدُ الله بن عبد العزيز إلى طيبَة الطيِّبة المدينة النبويَّة المُنورة، توجَّه إلى منبَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقولَ - حفظه الله -: "إيمانُنا بالحقِّ تعالى نستمِدُّ منه عزيمتَنا وقوَّتَنا في الدفاع عن شريعتنا وعقيدتنا وعن نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، في وجهِ كلِّ حاقدٍ أو كارهٍ أو مُبغِضٍ، وسنبقَى كذلك ثابتين على ذلك، لا نتراجَعُ عنه إلى يوم الدين - إن شاء الله -".
قال ذلك - حفظه الله - وهو يأذَنُ بالتوسِعَة الكُبرى لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نُصرةٍ لهذا الدين، وإظهار قوَّته، والاعتِزاز بخِدمتِه، والافتِخار بالانتِساب إلى شريعةِ نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ونحن السعوديُّين نعلمُ أن هذه التوسِعَة قد أُقِرَّت منذ فترةٍ، ولكنَّ توقيتَ الأمر ببدئِها هو الذي يُجسِّدُ هذا الهدفَ العظيمَ، وإعلانَ القوَّة والعِزَّة.
فلله الحمدُ والمِنَّةُ.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالإسلامُ ومُستقبلُه أعظمُ وأكبرُ من كل المكائِد، ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، وهو غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن السِّبطَين الطاهِرَين الحسنِ والحُسَين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا وفي بورما، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، واجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم عليك اللهم بالطغاة الظلمة في سوريا وفي كل مكانٍ، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، الله فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعَل ما أنزلتَه قوَّةً لنا على طاعتِك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا بذُنوبنا فضلَك، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، ليس بنا غِنًى عن سُقياك، فلا تمنَع عنَّا بذُنوبنا فضلَك، اللهم واجعل ما أنزلتَه عونًا لنا على طاعتِك.
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا[الممتحنة: 4]، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:06 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir