يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-25-2012, 12:19 AM   رقم المشاركة : 91

 

وسوسة إبليس لبني آدم

ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 27شوال 1433هـ بعنوان: "وسوسة إبليس لبني آدم"، والتي تحدَّث فيها عن الوسوسة وبعض صُورها وأشكالها، وذِكر بعض الأحاديث المُحذِّرة من الانسياقِ خلفَها، ونبَّه على ضرورة التحصُّن بالأذكار والانشغال بالقرآن ردًّا لكيد الشيطان.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدُنه، احمدُه حمدًا لا انقطاعَ لراتِبه، ولا إقلاعَ لسحائِبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سيمعٌ لمن يُنادِيه، قريبٌ ممن يُناجِيه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والسائرين على ذلك السبيل، وسائر المُنتمين إلى ذلك القَبِيل.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
الوسوسةُ صنعةُ إبليس وشُغلُه وطريقتُه لإضلال بني آدم، يرمِي بها من أطاعَه بالشُّكوك والأوهام والظُّنون، ويقذِفُه في الهواجِسِ والخيالات، ويُردِيه في حالةٍ من الاضطرابِ والارتِياب، ويدفعُه إلى التكلُّف والتشدُّد والتنطُّع، والغلوِّ والزيادة على القدر المشروع.
ومن كيده ووسوسته: ما يُلقِيه من التشكيك والتضليلِ في كيفيَّة الخلق والبعث والاستِواء والعرشِ وغيرها من قضايا الإيمان؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقولُ: من خلقَ كذا، من خلقَ كذا، حتى يقولَ: من خلقَ ربَّك؟ فإذا بلغَ ذلك فليستعِذ بالله ولينتَهِ»؛ متفق عليه.
وفي لفظٍ لمُسلم: «فمن وجدَ من ذلك شيئًا فليقُل: آمنتُ بالله».
ومن كيدِه ومكرِه: الوسوسةُ في الوضوء والطهارة؛ فترى أحدَهم يغسِل ويُكرِّرُ كثيرًا ويدلُك دلكًا عنيفًا، ويتشكَّكُ فيما غسَلضه، ويظنُّ أنه لم يغسِله، فيعودَ إليه مرَّةً بعد مرَّةٍ.
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: "لا يزيدُ على الثلاثِ إلا مُبتَلَى".
وعلاجُ ذلك: أن يُعرِضَ عن تلك الشُّكوك والأوهام، ولا يلتفِتَ إليها، وينهَى عنها.
ومن كيدِه بأهل الوسوسة في الوضوء والغُسل: أن جعلَهم يُنكِرون الموجودا، ويجحَدون الأمورَ المحسوسات.
ذكرَ ابنُ الجوزيِّ عن أبي الوفاء ابن عَقيل أن رجلاً قال له: أنغمِسُ في الماء مِرارًا كثيرةً، وأشكُّ هل صحَّ لي الغُسلُ أم لا؛ فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخُ: "اذهَب، فقد سقطَت عنك الصلاة". قال: وكيف ذلك؟ قال: "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رُفِع القلمُ عن ثلاثة: عن المجنون حتى يُفيقَ، وعن النائمِ حتى يستيقِظ، وعن الصبيِّ حتى يبلُغ»، ومن ينغمِسُ في الماء مِرارًا ويشُكُّ هل أصابَه الماءُ أم لا فهو مجنونٌ".
ومنهم من يُطيلُ المُكثَ في الخلاء بلا حاجةٍ؛ فتفوتُه الجماعة، وتضيعُ مصالِحُه، فكيف يليقُ بعاقلٍ أن يُطيلَ المُكثَ في حُشوشٍ مُحتضَرة تأوي إليها الشياطين والنفوسُ الخبيثة.
ومن وسوسته - أعاذنا الله وإياكم منه -: الوسوسةُ في انقِطاع البول أو في التنجُّسِ به، لذا يُستحبُّ للمُسلم أن يرتادَ لبَوله مكانًا رِخوًا، وألا يبولَ واقِفًا ولا مُستقبِلاًَ الريحَ لئلا يرتدَّ عليه رشاشُ البول، فيُنجِّسَه ويُدخِلَ عليه العنَتَ، ويفتحُ عليه بابَ الوساوِس.
ويجبُ أن يستفرِغَ أخبَثَيْه، ويستبرِئَ من بولِه لئلا يقطُر عليه، ويحذَرَ من بدع أهل الوسوسة؛ كالسَّلْتِ ونحوه.
ومن وسوسة إبليس: الوسوسةُ في الصلاة؛ فمن الناسِ من يجهَرُ بنيَّةِ الصلاة ويُكرِّرُها، ويُجهِدُ نفسَه في التلفُّظِ بها، ويرفعُ بها صوتَه بثُقلٍ ومشقَّة، ولربما دخلَ في الصلاة ثم قطَعها لشكِّه في النيَّة.
والجهرُ بنيَّة الصلاة بِدعةٌ، وتِكرارُها وسوسة، ورفعُ الصوت بها إيذاءٌ للناس، والتعبُّد بها بِدعةٌ.
ومنهم: من يُعيدُ تكبيرةَ الإحرام كثيرًا، ويُردِّدُ الفاتحة مِرارًا.
ومنهم: من يُكرِّرُ بعضَ الحروفِ والكلمات، حتى ربما فاتَتْه الركعة وتخلَّفَ عن إمامه.
ومنهم: من يُوسوِسُ له الشيطانُ بانتِقاض طهارته أثناء الصلاة، فيُخرِجُه منها، ويصدُّه عنها.
ويرُم على المُصلِّي أن يُخرُج من الصلاة إذا لم يتيقَّن الحدَثَ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا وجدَ أحدُكم في بطنه شيئًا فأشكلَ عليه أخَرَج منه شيءٌ أم لا، فلا يخرُجنَّ من المسجدِ حتى يسمعَ صوتًا، أو يجِد ريحًا»؛ أخرجه مسلم.
فاقطَعوا الأوهام، وادفَعوا الشُّكوكَ، وردُّوا وساوِسَ إبليس، ولا تُبطِلوا أعمالَكم، ولا تُفسِدوا عباداتكم، ولا تُضيِّعوا صلاتَكم.
أعاذنا الله جميعًا من الشيطان وهمزِه ونفخِه ونفثِه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
كلما طرقَت وساوِسُ إبليس فادفعُوها بالاستِعاذة، واقهَروها بالمُخالفة والمُضادَّة، وحارِبوها بالعلم والسنَّة، وتحصَّنوا بالأذكار، وأكثِروا من الدعاء، واشتغِلوا بالتلاوة، وحافِظوا على الصلوات، واهجُروا مجالسَ المُنكر، وجُلساء السوء، ومزاميرَ الشيطان، وحاذِروا الروائح الخبيثة، والأماكن المُنتِنة، واستجيروا بالله من إبليس ونزَغَاته، واستعِيذوا بالله من نفخِه ونفثِه وهمَزاته، ومن يعتصِم بالله فقد هُدِي، ومن يتوكل على الله فقد كُفِي، ومن يلتجِئ إلى ربه فقد وُقِي.
ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ بشير الرحمة والثواب، ونذير السَّطوة والعذاب، الشافع المُشفَّع يوم الحساب، اللهم وارضَ عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى وم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك وإحسانِك يا أكرمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَه لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والرحمةِ بشُعوبهم يا رب العالمين.
اللهم انصر أهلَنا في الشام، اللهم انصر أهلَنا في الشام، اللهم انصر أهلَنا في الشام على الطُّغاة المُجرمين، والقتَلَة المُعتدين، والخُرافيِّين المُبتدِعين الضالين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين يا رب العالمين.
اللهم عليك بمن نالَ من عِرضِ نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم عليك بمن نالَ من عِرضِ نبيِّنا وحبيبِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم عليك بمن نالَ من عِرضِ نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أرِنا فيهم عجائبَ قُدرتك يا قويُّ يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-25-2012, 12:26 AM   رقم المشاركة : 92
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 5 ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم"، والتي تحدَّث فيها عن واجب جميع المُسلمين حالَ إيذاء النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن في خُطبته أن الصراعَ بين الحق والباطلِ قائمٌ إلى قيام الساعة، وأن الحق هو المنصور مهما علَت أصواتُ الباطل، وذكرَ أن نُصرَته - عليه السلام - لا تكون إلا باتباع سُنَّته واقتفاء أثره.

الخطبة الأولى
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه النبي المُجتبى، والرسول المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ أهل الفضل والتُّقى.
أما بعد، فيا أيها المُسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -.
أيها المسلمون:
في كل زمانٍ ومكانٍ يتصارعُ الحقُّ والباطلُ، ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها: أن الحقَّ يثبُت ويستقرُّ ويعلو، والباطل يضمحِلُّ ويزولُ وينتهي؛ قال ربُّنا - جل وعلا -: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[الإسراء: 81].
وإن من سُنن الله في عباده المُؤمنين: أن يبتلِيَهم كلاًّ أو بعضًا بأهل الطغيان والفُجور والعلوِّ والفساد؛ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[العنكبوت: 2].
كل ذلك لحِكَمٍ عظيمةٍ وغاياتٍ جليلةٍ ينتظِمُها قولُ الله - جل وعلا -: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت: 3]، وينتظِمُها قولُه - سبحانه -: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[آل عمران: 140].
وإن على بناء الأمة الإسلامية أن يعلَموا أنهم أصحاب رسالةٍ خالدةٍ، وأهل عقيدةٍ صحيحةٍ مهما تعدَّدت وسائلُ الطغيان المُوجَّهة للمُسلمين، ومهما بلَغت المِحَن والفتنُ والمصائب، فلدينا عقديةٌ راسِيةٌ رُسُوَّ الجبال: أن العاقبة للمُتقين، وأن النصرَ للمُؤمنين، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[آل عمران: 120].
فسُنَّةُ الله - جل وعلا - ماضِيةٌ بهذا المعنى لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّر وإن ظنَّ الناسُ أن البلِيَّة لا نهايةَ لها، وأنه لا يلوحُ في الأُفُق المخلَصَ منها؛ فربُّنا - جل وعلا - يقول: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[يوسف: 110].
ولنستمِع بقلبٍ حاضرٍ إلى قول الله - جل وعلا - عن موسى - عليه السلام - حينما اشتدَّ فرعون لموسى ومن معه، يقولُّ الحقُّ - سبحانه -: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف: 128].
إنها عقيدةُ المُؤمن المُستقرَّة في القلوب بأنه ليس هناك إلا الملاذَ الأوحَد، وهو الملاذُ الحَصينُ الأمينُ، وذلك بالتوجُّه الصادقِ للمولَى - جل وعلا - القويِّ المتينِ؛ فإن البشرَ مهما علَت قوتُهم، وعظُم مُلكُهم فما هُم إلا نُزَلاء في أرض الله، والله - سبحانه - ذو القوَّة النافِذة يُورِثُ الأرضَ من يشاءُ من عباده وفقَ سُنَّته وحِكمته.
فمهما اشتدَّ الأذى بالمُؤمنين في أي زمانٍ أو في أي مكانٍ فليعلَموا وليستيقِنوا أن العاقبةَ الحميدةَ في الدارَيْن لأهل الإيمان والتقوى مهما طالَ الزمنُ أم قصُر، ولكنَّ الشأنَ أن يتعلَّقَ رجاءُ المُؤمنين بربِّهم، وأن يُحقِّقوا التقوى والخشيةَ لمولاهم، فلا يخشَون أحدًا إلا الله، ولا يثِقون بأحدٍ سِواه، لا يتوكَّلون إلا عليه، ولا يطلُبون النصرَ والعِزَّة إلا منه - سبحانه -، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ[آل عمران: 173، 174].
إنه المشهدُ الذي لا يتبدَّل في قضيةِ صِراع الحقِّ مع الباطل، إنها نهايةُ الظلم والاستبداد والطغيان، تهاوِي التعالِي والتطاوُل والاستِكبار إلى الهَوْيِ في الأعماق والأغوار؛ فقد كانت عاقبةُ موسى ومن معه مع فرعون وقومه ما أخبرنا به ربُّنا - جل وعلا -: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْأي: من فرعون وقومه، فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ[الأعراف: 136، 137].
إن من الحقائق المُتيقَّنَة عند أهل الإيمان: أن النصرَ من عند الله وحده، وأنه إنما يتنزَّل - أي: النصر - عندما تبذُل الأمةُ المُسلِمةُ آخر ما في جُهدها البشريِّ، ثم تكِلُ الأمرَ إلى الله - جل وعلا -، فالنصرُ قد يُبطِئُ لحِكَمٍ عظيمةٍ؛ منها:
أن تُقوِّيَ الأمةُ المُؤمنةُ صِلتَها بالله - جل وعلا -؛ فالنصرُ مُتأكِّدٌ لمن حقَّق التقوى، وتدرَّع بالسلاح - بسلاح الإيمان الحق بالله - جل وعلا -، قد تتضاعَفُ من أجل هذا النصر التضحياتُ، وتزايَدُ له الآلام، ولكنَّ الظَّفَر في النهاية للذين آمنوا واتَّقَوا، للذين وثَّقوا صِلَتهم بالله، واتجهوا إليه طائعين خاضِعين مُسلِمين، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 40، 41].
فيا أيها المُستضعَفون من المُؤمنين في كل مكانٍ! ثِقوا بنصر الله - جل وعلا -، اذكُروا اللهَ كثيرًا لعلَّكم تُفلِحون، اعلَموا أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعدَكم بوعدٍ حقٍّ صادقٍ، فقال: «واعلم أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكرب، وأن مع العُسر يُسرًا».
إخوة الإسلام:
إن مما أغاظَ كلَّ مُسلمٍ وغمَّ كلَّ مُؤمنٍ ذلكم التطاوُل الوقِح، والاستِهزاءُ الآثِمُ المُجرِم ضِدَّ خير خلقِ الله أجمعين نبيِّنا محمدٍ - عليه أفضلُ الصلاة وأتم التسليم -، إنه تطاوُل من حُثالةٍ حقيرةٍ لا يُنبِئُ هذا التطاوُل إلا عن حقدٍ دفينٍ، وبُغضٍ مَكين ضدَّ هذه الرسالة المجيدة الخالِدة التي جاء بها هذا النبيُّ العظيمُ، التي أغاظَت الشياطين وأعوانَهم في كل مكانٍ، وأغاظَت الطغاةَ وأذنابَهم، ولكنَّهم - بإذن الله - مقطوعون من كلِّ خيرٍ، مبتورون من كلِّ نصرٍ وعِزٍّ وتمكينٍ وسعادةٍ وحياةٍ طيبةٍ.
ألم يقُل الله - جل وعلا -: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 1- 3]؟!
فليخسَأ الخاسِئون، وليَمُت بغيظِهم الحاقِدون، فلقد امتنَّ ربُّ العِزَّة والجلال على النبي المُصطفى أن رفعَ له الذِّكرَ المجيدَ في العالمين في الأولين وفي الآخرين، فهو سيدُ الأنبياء والمُرسلين، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[الشرح: 4].
أعطاه ربُّه - جل وعلا - ما لم يُعطِ أحدًا من الأولين والآخرين، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى[الضحى: 5].
إن الله - سبحانه - وهو الخالقُ القادِر العزيزُ المُنتقِم، هو من تكفَّل بالدفاع عن نبيِّه من كلِّ مُجرِمٍ عنيدٍ وآثمٍ مريدٍ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95].
ذكرَ المُفسِّرون عبرَ التأريخ نماذج من القَصص المشهورة التي تُفيدُ وقوعَ المَثُلات المُتناهِية، والعقوبات الدنيوية لمن نالَ من المقام الأعظم مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذلكم في الدنيا فضلاً عما أُعِدَّ لهم في الآخرة من العذاب الأكبر.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ومن سُنَّة الله: أن من لم يتمكَّن المُؤمنون من أن يُعذِّبوه من الذين يُؤذُون اللهَ ورسولَه فإنَّ اللهَ - سبحانه - ينتقِمُ لرسوله ويكفِيه إياه ..."، إلى أن قال: "فكلُّ من شانأَه وأبغضَه وعاداه فإن الله يقطعُ دابِرَه، ويمحَقُ عينَه وأثَرَه". انتهى كلامُه المتين.
معاشر المُسلمين:
إن الدفاع عن مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضٌ على كل أحدٍ بحسب الوُسع والطاقة، فذلكم من أعظم الجهاد في سبيل الله - جل وعلا -، فعلينا جميعًا الدفاعُ عن مقامه العظيمِ بكلِّ وسيلةٍ مُمكنةٍ يترتَّبُ عليها تحقيقُ المصالِح ودفعُ المفاسِد والمخاطِر.
لا بُدَّ من الدفاع المبنيِّ على العلمِ الصحيحِ والطريقةِ السديدةِ لا المبنيِّ على مُجرِّد العاطِفة الجيَّاشة فحَسب مما يُفضِي إلى فتنةٍ عظيمةٍ ومفسَدةٍ أعظَم من الصبر على أذاهم.
حسبُنا الله ونِعم الوكيل على كل من تطاوَل. وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ[الأحزاب: 48].
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل رهطٌ من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السَامُ عليكم. قالت عائشةُ: ففهِمتُها، فقلتُ: وعليكم السَّامُ واللعنةُ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مهلاً يا عائشة؛ إن الله رفيقٌ يحبُ الرِّفقَ في الأمر كلِّه». فقلتُ: يا رسولَ الله! ألم تسمَع ما قالُوا؟ قال: «قلتُ: وعليكم»؛ متفق عليه.
فكلُّ حالةٍ بحسبها في شرع الله - جل وعلا -، إن الواجبَ علينا - معاشر المسلمين - أن يزيدنا تطاوُل الأقزام على المقام النبويِّ العظيمِ أن يزيدَنا تمسُّكًا بحبِّه - صلى الله عليه وسلم -، وعملاً بسنَّته، وأن نبذُل كلَّ غالٍ ورخيصٍ في نشر رسالتِه العظيمة، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 94، 95].
إن الفرضَ المُحتَّم علينا على حُكَّامنا، وعلى محكومينا، على العلماء والعامَّة، على المُثقَّفين وأهل الإعلام أن نسعَى لنشر مبادئ هذا الدين وأخلاقه العظيمة، ومحاسِنه الكريمة، وأن نُبيِّن للعالَم ما يحمِلُه هذا الدينُ من صلاحٍ وإصلاحٍ وسعادةٍ وفوزٍ في الدارَيْن، وأن نُعلِّم الجاهلَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أكملُ العالَم خُلُقًا، زكَّاه ربُّه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4].
إن الواجبَ علينا: أن تُمِدَّنا تلك التهويشاتُ الطائشةُ المُجرِمة من أعداء البشرية أن تُمِدَّنا بطاقةٍ إيمانيَّةٍ تمسُكًا بهذا الدين، وعملاً به، وافتِخارًا بأحكامه ومبادئه، فضلاً عن الدعوة إليه بالحِكمة والموعظة الحسنة.
ولقد نعلمُ في آخر السورة التي ذكرَ فيها ربُّنا - جل وعلا -: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، قال له ربُّه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 97- 99].
لنحرِص ألا تجُرَّنا تلك الاستِفزازاتُ الهَوجاءُ والتطاوُلات الرَّعناء أن تُخرِجَنا عن مبادئِ هذا الدين الذي من قواعِده العُظمَى ومبادئه المُثلَى: لا يجنِي جانٍ إلا على نفسه، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[الأنعام: 164].
بارك الله لنا فيما نقول وما نسمَع، أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فهي وصيةُ الله للأولين والآخرين.
أيها المسلمون:
إن من أُصول الإسلام العُظمى: أنه لا يتحقَّقُ إيمانُ امرئٍ إلا بتحقيق المحبَّة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، محبَّةً أعظم من محبَّة النفس والولد والأهل والمال والناس أجمعين؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «والذي نفسي بيده؛ لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين».
فحقِّقوا الإيمانَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلبًا وقالَبًا، ظاهرًا وباطنًا.
واعلموا أن من أفضل الأعمال: الإكثارَ من الصلاةِ والتسليمِ عليه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّدنا ورسولِنا وحبيبِنا وقُرَّة عيوننا محمدٍ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه ما تعاقبَ ليلٌ ونهار، اللهم وارضَ عن الآلِ والصحابةِ أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم عليك بأعداء هذا الدين، اللهم عليك بأعداء هذا الدين، اللهم عليك بأعداء هذا الدين، اللهم عليك بمن تطاوَل على النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم -، اللهم اجعله عبرةً وآيةً للعالمين، اللهم اجعله عبرةً وآيةً للعالمين يا حي يا قيوم.
اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المسلمين، اللهم انصر إخواننا المُسلمين المُضطهدين في كل مكانٍ، اللهم احفظ المسلمين في سوريا، اللهم احفظ المسلمين في سوريا، وفي فلسطين، اللهم فرِّج همومَهم، اللهم نفِّس كُرباتهم، اللهم عجِّل لهم بالنصر والتمكين، اللهم عجِّل لهم بالنصر والتمكين، اللهم عجِّل لهم بالنصر والتمكين يا قوي يا متين، يا قوي يا متين، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك يا ربَّنا.
اللهم أرِنا في كل طاغيةٍ وفي كل ظالمٍ ما يسُرُّنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ عليهم من يخافُك ويتَّقيك، اللهم ولِّ عليهم من يخافُك ويتَّقيك، اللهم ولِّ عليهم أهلَ التقوى، اللهم ولِّ عليهم أهلَ التقوى، اللهم ولِّ عليهم أهلَ التقوى، اللهم واكفِهم شِرارَهم، اللهم واكفِهم فُجَّارَهم يا حيُّ يا قيوم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والمُعتمِرين، اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والمُعتمِرين، اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والمُعتمِرين، اللهم واجعلهم من يبوءُ بالفوز العظيم يا حي يا قيوم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّ وترضَى.
اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-03-2012, 09:15 AM   رقم المشاركة : 93

 

كيف [color="rgb(139, 0, 0)"]نشكر الله تعالى على نعمه؟
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 12 ذي القعدة 1433 هـبعنوان: "كيف نشكر الله تعالى على نعمه؟"، والتي تحدَّث فيها عن نعم الله تعالى على عباده ووجوب شكرها، وكيف يكون ذلك، ونبَّه على أعظم النعم التي أحاطَ الله بها عبادَه وامتنَّ بها عليهم.


الخطبة الأولى

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، له الحمدُ في الدنيا والأخرى، لا نُحصِي ثناءً على ربنا هو كما أثنى على نفسه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العِزَّة والجَبروت، لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المُصطفى المبعوثُ بالرحمة والهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك وخليلك محمدٍ، وعلى آله وصحبه البَرَرة الأتقياء.
أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون - بفعل ما أمرَكم به، وترك ما نهاكُم عنه؛ فمن اتقى الله وقاه، وصرفَ عنه من المهالكِ والشُّرور ما يخشاه، وأحسنَ عاقبتَه في دُنياه وأُخراه فجعل الجنةَ مأواه.
أيها الناس:
إن نعمَ الله علينا لا تُعدُّ ولا تُحصى، قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18].

ونعمُ الله على الخلق منها ما يعلمُه العباد، ومنها ما لا يعلمونه، وشُكرُ نعم الربِّ - جل وعلا - بمحبَّة المُنعِم - تبارك وتعالى - من القلب الصادق، وبدوام طاعة الله وترك معاصِيه، وبالثناء على الربِّ - تبارك وتعالى - بما أنعمَ، وتعظيم النعم والتحدُّث بها تواضُعًا لله واعترافًا بفضل الله - عز وجل -، واستعمالها فيما يُرضِي الله - تبارك وتعالى - وعدم الاستعانة بها على معاصِي الله - عز وجل -.
فمن آمنَ بالله - سبحانه - وابتعدَ عن معاصِيه فقد شكرَ ربَّه العزيزَ الوهابَ.
وهذا الشكرُ على لرسالة السماوية بالإيمان أعظمُ أنواع الشُّكر، وأعظمُ أنواع الحمد لله رب العالمين.
ثم يكون بعد ذلك شكرُ كل نعمةٍ بخُصوصها إلى أصغر وأقل نعمةٍ، وليس في نعمِ الله وآلائه صغيرٌ ولا قليلٌ؛ بل كل نعم الله جليلةٌ وعظيمةٌ، يُوجِبُ الله بها على العبد الحمدَ والشكرَ، فلربنا العزيز الوهاب الثناءُ الحسن، والحمدُ والشكرُ على نعمه كلها التي نعلمُها والتي لا نعلمُها، حمدًا ينبغي لجلال وجه ربِّي وعظيم سُلطانه، حمدًا يُوافي نعمه ويُكافِئُ مزيدَ فضله.
ومن يكفر بالإيمان ويركَب المعاصي فقد كفرَ بنعمة الرسالة التي منَّ الله بها على المُكلَّفين، وكفرُ نعمة الرسالة السماوية أعظمُ أنواع الكفر.
ثم يأتي بعد ذلك: الكفرُ بكل نعمةٍ بخصوصها، قال الله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 2، 3].
ومن شكرَ نعم الله تعالى زادَه، ومن كفَر بنعم الله تعالى عاقبَه، قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال في أول يومه: اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك من نعمةٍ فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ؛ فقد أدَّى شُكرَ ليلته، ومن قال ذلك حين يُمسِي فقد أدَّى شُكر يومه»؛ وهو حديثٌ حسنٌ.
وهل أعظمُ من نعمة الإيمان والإسلام والقرآن؟!
فيا أيها المسلمون:
اشكُروا الله تعالى واحمَدوه على هذه النعمة المُهداة، والمنَّة المُعطاة، واشكُروه على نعمه العظيمة وآلائه الجَسيمة.
ومما منَّ الله به علينا في هذه البلاد: نعمةُ الإيمان والأمان وعُموم الأمن والاستقرار، ومما خصَّ الله به هذه المملكةَ الحرمان الشريفان منبعُ الإسلام، وموطنُ نزول القرآن الكريم، وبُزوغ شمس الإسلام على البشر بالتوحيد والرحمة والعدل والسلام وكرامة الإنسان، قال الله تعالى في نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأنزلَ عليه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
ومن النعم التي أُعلِنَت بالأمس: توسِعةُ المسجد النبوي الشريف التوسِعةَ النافعةَ المُباركة، الضافِية الكافِية، وهي نعمةٌ من الله على جميع المُسلمين في كل مكانٍ عمومًا، وعلى أهل المدينة خُصوصًا، والتي وضعَ حجر أساسِ هذه التوسِعة خادمُ الحرمين الشريفين: الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله ووفقه -.
ومن قبلها قريبًا: توسِعة المسجد الحرام زيادة على التوسِعات السابقة من آل سعودٍ المُوفَّقين الكُرماء على الحرمين، القائمين على مصالح المُسلمين - وفقهم الله تعالى لما فيه عِزُّ الإسلام -، ونفع الله بهذه التوسِعة المُسلمين وباركَ فيها.
وجزى الله تعالى خادمَ الحرمين الشريفين الجزاءَ الأوفى على ما قدَّم ويُقدِّم لشعبه ووطنه وللإسلام والمُسلمين.
والحرمان الشريفان بركتُهما ونورُهما ونفعُهما للمُسلمين وغير المسلمين، فالله تعالى يدفعُ بالعبادة فيهما الكوارِثَ والنوازِلَ عن أهل الأرض كلها، أو يُقلِّل العقوبات النازِلة على الأرض ببركة العبادة في الحرمين الشريفين، وببركة العبادة في الأرض لله رب العالمين، قال الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251].
ومجيءُ خادم الحرمين الشريفين من إجازته التي كان فيها خارجَ المملكة إلى المدينة النبوية أولاً وقصدًا لزيارة المسجد النبوي الشريف والسلام على سيد البشر - صلى الله عليه وسلم -، والسلام على صاحبَيْه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - له دلالاتٌ عظيمةٌ؛ منها:
أن البدءَ بزيارة المسجد النبوي الشريف والتشرُّف بالسلام على خير البشر نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والسلام على صاحبَيْه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، ثم إقامة حفل وضع حجر الأساس لتوسِعة خادم الحرمين الشريفين للمسجد النبوي في ساحة المسجد النبوي والمنقولة للعالَم. البدءُ بهذا في المجيءِ من السفر من الردود الصائِبة المُوفَّقة التي تردُّ على المُتطاولين والأراذِل من البشر الذين ينتقِصُون سيدَ ولد آدم نبيِّنا وحبيبِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والذين يُريدون أن يحجُبوا شمسَ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بجناح الذُّباب، أو يُريدون أن يقتلِعوا الجبلَ الطودَ الشامِخَ بنفخةٍ من أفواههم.
قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32].
ومن أعظم الردود على المُتطاولين على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التمسُّك بسُنَّته من كل مسلم، وتطبيقُ شريعته، وعدم الانسياقِ وراء أعمالٍ لا يُقِرُّها الإنسان.
والتمسُّك بالتوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له في العبادة، والدعوة إلى مشر محاسن الإسلام، ودعوة الناس إليه.
ومن نُصرة الله - تبارك وتعالى - ونُصرة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن نُصرة الله: أن يستقيمَ على شرع الله - تبارك وتعالى -، وأن يدعُو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن ينصُر الله في كل حالٍ.
ومن دلائل هذه الزيارة: اهتمامُه - حفظه الله - بأهل المدينة جيران رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أوصَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برعاية حقوقهم، وعظَّم حقوقَهم على الأمة في أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وليعلَم العالَمُ أن دينَنا أعزُّ علينا من كل شيءٍ، ونحن بغير الإسلام لا دُنيا لنا ولا آخرة، ولا عِزَّة ولا كرامة، قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: 5].
فتذكَّروا - عباد الله - نعمَ الله عليكم، واشكُروه على آلائه وفضله، واستقيموا على دينه، وانصُروا اللهَ في أنفُسكم، وادعُوا إلى الله - تبارك وتعالى - بهديِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباع سُنَّته، والتمسُّك بشريعته، قال الله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 151، 152].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المُرسَلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الحليمُ العظيمُ، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
عباد الله:
اعملوا الأسبابَ التي يرضى بها عنكم ربُّكم - تبارك وتعالى -، واجتنِبوا الأسبابَ التي تُغضِبُ الله عليكم؛ فليس بينكم وبين الله سبب إلا بالعمل الصالح، قال الله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37].
وفي الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحلالُ بيِّن والحرامُ بيِّن وبينهما أمورٌ مُشتبَهات، فمن اتَّقى الشُّبهات فقد استبرَأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشُّبُهات وقع في الحرام». ولا يهلِك على الله إلا هالِك.
واعلموا أن الله هو الذي يُدبِّر الكونَ كلَّه علويَّه وسُفليَّه على ما يُريد، قال الله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 107].
فعلى المُؤمن أن يعمل بأسباب النجاة، ويجتنِب أسبابَ الهلكَة، وعليه أن يثِقَ بالله ويتوكَّل عليه ويشكُر الله على السرَّاء والضرَّاء، ويصبِر على النعم، فلا يبطُرها ولا يكفُرها، ويصبِر على الضرَّاء بالاحتِساب لله - عز وجل -.
وليعلَم المسلمُ أن كل قضاءٍ يقضِيه الله عليه خيرٌ له في العاجل والآجل، إذا عمِل بالطاعة، وترك المعاصي، ولله تعالى أن يبتلِيَ عبادَه، وليس للعباد أن يمتحِنوا ربَّهم، وفي حديث سلمان - رضي الله عنه -: «عجَبًا لأمر المؤمن إن أمرَه كلَّه خيرٌ، إن أصابَته سرَّاء شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاء صبَر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن».
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدنا وحبيبِنا سيدِ الأولين والآخرين، نبيِّا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة سادات الأمة أجمعين اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحْب أجمعين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وارضَ عن الحسن والحُسين، وارضَ عن أمهما البتُول فاطمة بنت الرسول سيدة نساء العالمين، اللهم وارضَ عن ذريتها المُبارَكين إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عن آل بيت رسولك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - المُبارَكين، اللهم وارضَ عن زوجات رسولك - صلى الله عليه وسلم -، وعن آل بيته الذين قال الله فيهم وفي زوجات رسوله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33].
اللهم اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمورنا، وثبِّت أقدامَنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعِنَّا على ذِكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم ألهِمنا رُشدَنا وأعِذنا من شُرور أنفُسنا، اللهم أعِذنا من شُرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا، وأعِذنا من شر كل ذي شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم أعِذنا من الشيطان الرجيم ومن نزَغاته ومن وساوسه، اللهم واحفَظنا وذرياتنا والمُسلمين من إبليس وجنوده وشياطينه يا رب العالمين.
اللهم اجعل بلادَنا آمنةً مُطمئنة، رخاءً سخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّ في أوطاننا، اللهم أصلِح وُلاةَ أمورنا، اللهم أصلِح وُلاةَ أمورنا، اللهم وفِّقهم لما تُحبُّ وترضى، ولما فيه الخيرُ والعزُّ للإسلام والمُسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق عبدكَ خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، ولما فيه عِزُّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعِنه على ما فيه الخيرُ وما فيه الصلاحُ ولفلاحُ لشعبه وللمسلمين يا رب العالمين ولعِزِّ الإسلام، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إنا نسألك أن تُغيثَنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، برحمتك إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم اغفِر لأمواتنا وأمواتِ المسلمين، اللهم اغفِر لأمواتنا وأمواتِ المسلمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[/color]

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-09-2012, 10:22 AM   رقم المشاركة : 94

 

تعلَّم قبل أن تعمل
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 19 ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "تعلَّم قبل أن تعمل"، والتي تحدَّث فيها عن العلم وفضله ووجوب تعلُّمه، لا سيَّما ما يهمُّ المُسلم من توحيد الله تعالى، والتفقُّه في دينه؛ من معرفة كيفية الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ، وغير ذلك، وبيَّن أن ذلك فرضٌ على كل مُكلَّفٍ أن يتعلَّمه ولا يعبُد اللهَ على جهلٍ.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي حكَم فأحكَم، وحلَّل وحرَّم، أحمدُه على ما عرَّف وعلَّم، وفقَّهَ في دينه وفهَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين مُتلازِمَيْن إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فبالتقوى تحصُل البركة، وبالعلمِ تندفِعُ الهَلَكة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
أيها المسلمون:
الفقهُ في الدين أنفسُ ذخيرةٍ تُقتَنى، وأطيبُ ثمرةٍ تُجتَنى، وعلمُ الفقهِ من أشرف العلوم قدرًا، وأعظمها أجرًا، وأتمِّها عائِدة، وأعمِّها فائِدة، وأعلاها مرتَبة، وأسماها منقَبة.
وإني لا أستطيعُ كُنْهَ صفاته ولو أنَّ أعضائي جميعًا تكلَّموا
فعن مُعاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يُرِد اللهُ به خيرًا يُفقِّهْه في الدين»؛ متفق عليه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "نِعمَ النساءِ نساءُ الأنصار؛ لم يمنَعهنَّ الحياءُ أن يتفقَّهنَ في الدين"؛ أخرجه مسلم.
وقال - جلَّ في عُلاه -: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122].
ومعرفةُ أحكام الشريعة فضيلةٌ عظيمةٌ، ومرتبةٌ شريفةٌ، وجليلةٌ وفريضةٌ، والجهلُ بأمور الدين نقيصةٌ وخطيئةٌ.
فبالعلمِ النجاةُ من المخازي وبالجهل المذلَّةُ والرَّغامُ
ومن عبَدَ اللهَ بلا علمٍ ولا فقهٍ ولا سُنَّةٍ ولا اتباعٍ هامَ في ضلالته، ولجَّ في إساءته، وشقِيَ في جهالته، وما انتفعَ بشيءٍ من عبادته.
قال عمرُ بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -: "من عبَدَ اللهَ بغير علمٍ كان ما يُفسِد أكثرَ مما يُصلِح".
وقال الثوريُّ - رحمه الله تعالى -: "تعوَّذوا بالله من فتنةِ العالِم الفاجرِ، والعابِد الجاهل؛ فإن فتنتَهما فتنةٌ لكل مفتونٍ".
وهل ظهَرت الفتنُ والمُخالفات، وانتشَرت الخُرافات والخُزعبلات، والبدعُ والضلالات، والزيادات والمُخترَعات إلا بسببِ ترك التفقُّه في الدين؟!

أيها المسلمون:
وليس يكفِي في العبادات صُورُ الطاعات؛ بل لا بُدَّ من كونها على وفق الكتاب والسُّنَّة.
قال بعضُ السلف: "لا يستقيمُ قولٌ إلا بعملٍ، ولا قولٌ وعملٌ إلا بنيَّة، ولا قولٌ ولا عملٌ ولا نيَّةٌ إلا بمُوافقة السُّنَّة".
لذا كانت معرفةُ ما كان عليه النبي المُكرَّم والرسولُ المُعظَّم نبيُّنا وسيدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في عباداته أولَى ما اشتغلَ به المُسلم، واستغرقَ الأوقاتَ في تحصِيله، وبذَلَ الوُسعَ في إدراكِه.
وعلى المُكلَّف تعلُّمُ ما لا يتأتَّى الواجبُ الذي تعيَّن عليه فعلُه إلا به؛ ككيفية الوضوء والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغيرها.
ويتعيَّن على من أراد بيعًا أو نِكاحًا وشِبهَهما ألا يقدُمَ على شيءٍ من ذلك إلا بعد تعلُّم كيفيَّته ومعرفة شرطِه، ويجبُ أن يكون العلمُ مُقدَّمًا على العمل؛ لأنه يحرُسُ العملَ عن الفساد والاختلال، والانحِرافِ والضلال.
وحريٌّ بمن قصَدَ الديارَ المُقدَّسةَ لأداء فريضة الحجِّ وهجَرَ بلادَه، وتركَ أهلَه وأولادَه، وأنفقَ مالَه وحلالَه، وتجشَّمَ المشاقَّ لأداء فرضه، حريٌّ به أن يبذُل وُسعَه وجهدَه في طلب فقهِ حجَّته، ومعرفة صفات أدائها، وشروط إجزائها، وما يجبُ لإتمامِها وإكمالِها، ومعرفة كيف حجَّ سيدُ الخلق مُحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - القائل: «خُذوا عني مناسِكَكم».
ليُؤدِّي فريضتَه على وفق الكتاب والسُّنَّة، ويحظَى بشرف المُتابعة، ويفوزَ بالرِّضا والقبول.
ولا يسألُ الحاجُّ عن أمور حجِّه إلا من يثِقُ في دينه وأمانته وعلمِه، ولا يستفتِ مجهولاً أو غريبًا لا يعرفُ أهلِيَّتَه وقُدرتَه وتمكُّنَه.
وعلى العُلماء والفُقهاء أن يعقِدوا الدروسَ والحِلَق ومجالِسَ الفقه والذكر في أشهُر الحجِّ، ويُعلِّموا الناسَ فقهَ المناسِك، وأحكامَ الحجِّ، وآدابَ الزيارة، ويُؤدُّوا زكاةَ علمِهم وفقهِهم.
تفقَّه فإن الفقهَ أفضلُ قائدٍ إلى البرِّ والتقوى وأعدلُ قاصِدِ
هو العلَمُ الهادي إلى سَنَنِ الهُدى هو الحِصنُ يُنجِي من جميع الشدائدِ
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
وأنفسُ العلوم وأجلُّها قدرًا: علمُ التوحيد وهو الفقهُ الأكبر، سمَّاه بذلك الإمامُ أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -.
وإذا أردتَ من العلوم أجلَّها نفعًا وأزكاها وأعلى المَطلَبِ
فعلومُ توحيدِ الإلهِ وبعدَهُ فقهٌ بدينٍ فهو أعلى المكسَبِ
ومن عرَفَ اللهَ حقَّ معرفته لم يسجُد لمخلوقٍ مثلِه، ولم يخِرَّ راكعًا له ولو كان عالِمًا أو إمامًا أو ملِكًا؛ فعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يصلُح لبشرٍ أن يسجُد لبشرٍ»؛ أخرجه أحمد.
ومن عبَدَ اللهَ حقَّ عبادته لم يطُفْ بقبرٍ أو ضريحٍ؛ لأن الطوافَ لا يُشرَعُ إلا بالكعبةِ المُشرَّفة، ولم يذبَح لقبرٍ أو جنٍّ أو شياطين، ولم يُعلِّق تمائمَ وعزائِم وخيوطًا وحروزًا على صدره وبدنه يعتقِدُ نفعَها وتأثيرَها.
ومن عظَّمَ اللهَ حقَّ تعظيمه لم يسأل أمواتًا مددًا، ولم يتَّخِذ أضرِحةً ورُفاتًا عونًا وسنَدًا، يرجُو منهم العافيةَ والشفاءَ، والوصلَ والعطاءَ.
وكيف يُنادَى مخلوقٌ ميِّتٌ؟! وكيف يُستغاثُ به ويُتَّخذُ وسيطًا واللهُ هو الحيُّ الغنيُّ الوليُّ، السميعُ البصيرُ، القادِرُ القاهِرُ، المُدبِّرُ للكون ومن فيه، يسمَعُ نداءَ من ناداه، ويرفَعُ عنه ضُرَّه وبلواه، لا إله إلا هو، ولا معبودَ بحقٍّ سِواه.
فتفقَّهوا في دينِكم، وحاذِروا الجهلَ؛ فإنه رأسُ البلاء وأساسُ الشقاء.
ثم صلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وسيِّدِنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك يا كريم.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر إخوانَنا في سُورية على القوم المُجرمين، والقتَلَة المُعتدين يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجس يهود، اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصِبين، والصهايِنة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك يا رب العالمين.
اللهم عليك بمن تعرَّض لجنابِ سيد الخلق محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم عليك بمن آذانا وتعرَّضَ لنبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم شُلَّ أركانَه، اللهم شُلَّ أركانَه، اللهم شُلَّ أركانَه يا قويُّ يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطان المُسلمين بالأمن والرخاء يا رب العالمين.
اللهم اجزِ خادمَ الحرمين الشريفين خيرَ الجزاء وأوفاه على عمارتِه للحرمين الشريفين وتوسِعتهما وتطوير المشاعِر المُقدَّسة، وخدمتِه للحُجَّاج والزوَّار والمُعتمِرين يا رب العالمين، اللهم متِّعه بالصحةِ والعافيةِ، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والزوَّارَ والمُعتمرين، اللهم سلِّم الحُجَّاجَ والزوَّارَ والمُعتمرين، اللهم تقبَّل مساعِيَهم وزكِّها، وأعلِ درجاتهم وأعلِها، اللهم وأعلِ درجاتهم وأعلِها، اللهم واكتُب لهم القبولَ والعِتقَ من النار يا سميعُ يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-20-2012, 02:21 AM   رقم المشاركة : 95

 

عز العبد في عبوديته لله تعالى
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 26ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "عز العبد في عبوديته لله تعالى"، والتي تحدَّث فيها عن العبودية لله تعالى، وأن العبد لن يصِل إلى رضا مولاه، والفلاحِ في الدارَين إلا بها، وذكرَ شيئًا من علامات تيسير الله على عباده في شرائعه وأنه لم يشُقَّ عليهم ولم يُكلِّفهم ما لا يُطيقون.

الخطبة الأولى
الحمد لله الغني عن العالمين، لا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضُرُّه معصيةُ العاصِين، من عمِل الطاعات فهو الفائزُ بثواب المُحسنين، ومن عمِل المعاصي فهو مع الخاسرين، ولن يضُرَّ اللهَ شيئًا وسيجزي الله الشاكرين، أحمدُ ربي وأشكره على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الخلق أجمعين، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله بعثَه الله بالهُدى ودين الحقِّ فجعلَه رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك وخليلك محمدٍ، وعلى آله وصحبه المتقين.
أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون - بفعل ما يُرضيه من الطاعات، وترك ما يُغضِبُه من المُحرَّمات.
واعلموا - عباد الله - أن عزَّ العبد في عبوديَّته لربِّه - عز وجل -، وقوَّةَ المُسلم في توكُّله على مولاه، وغِناه في مُداومة الداء برفع حاجاته كلِّها إلى الله تعالى، وفلاحَه في إحسانه لصلاته، وحُسن عاقبته في تقواه لرب العالمين، واشنراح صدره وسروره في برِّ الوالدين وصِلة الأرحام والإحسان إلى الخلق، وطُمأنينة قلبه في الإكثار من ذكر الله المُنعِم - جل وعلا -، وانتظامَ أمور الإنسان واستقامةَ أحواله بالأخذ بالأسباب المشروعة وترك الأسباب المُحرَّمة، مع تفويضِ الأمور كلِّها للخالق المُدبِّر - سبحانه وتعالى -، وإنجازَ الأعمال في أوقاتها بلا تأخُّرٍ ولا كسَل.
وخُسرانُ العبد وخِذلانُه في الرُّكون إلى الدنيا والرضا بها، ونسيان الآخرة، والإعراض عن عبوديَّة الربِّ - جل وعلا -، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يونس: 7، 8]، وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ[السجدة: 22].
وقد جعلَ الله لكم عبَرًا في الأمم الماضية والقرون الخالية؛ فقد أعطاهم الله تعالى طُولَ الأعمار، وجرَت من تحتهم الأنهار، وشيَّدوا القصورَ وبنَوا الأمصار، ومُتِّعوا بقوَّة الأبدان والأسماع والأبصار، ومكَّن الله لهم في الأرض وسخَّر لهم الأسبابَ، فما أغنى عنهم ما كانوا فيه من القُوى والنعيم، ولا دفعَت عنهم الأموال والأولاد، قال الله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الأحقاف: 26].
والسعيدُ من اتَّعَظ بغيره، والشقيُّ من وُعِظ به غيرُه، فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[لقمان: 33]، واستعِدُّوا للقاء الله بما تقدِرون عليه من الأعمال الصالحات، ولا تغُرَّ أحدَكم الدنيا وطول الأمل، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون: 99، 100].
واعلموا - عباد الله - أن اجتماعَ الخير كلِّه في عبادة لله وحده لا شريك له، على ما وافقَ سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع الإخلاص ومحبَّة الله تعالى ومحبَّة رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، ولن ينالَ أحدٌ رِضوانَ الله - عز وجل -، ولن يدخُل جنَّتَه، ولن يسعَد في حياته وبعد مماته إلا بعبادة الله - تبارك وتعالى -.
وللعبادة خُلِق المُكلَّفون، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، ولرضا الربِّ - عز وجل - بالعبادة وفرحه بها وحُبِّه لها، وكثرة منافعها للمُكلَّفين، وعموم بركتها، وسُبوغ خيراتها في الدارَين أمرَ الله بها في الليل والنهار، وجوبًا أو استحبابًا، مُقيَّدةً أو مُطلقةً؛ ليستكثِرَ منها السابِقون، وليلحَق بركبِ العُبَّاد المُقصِّرون.
وكمالُ العبادة هو كمالُ محبَّة رب العالمين، وكمالُ الذلِّ والخُضوع للمعبود - سبحانه وتعالى -، مع موافقة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن رحمة الله - عز وجل -، ولُطفه بعباده، وسَعة جوده وكرمه: أن شرَعَ العبادات للمُكلَّفين كلِّهم، يتقرَّبون بها إلى الله - سبحانه -، ليُثيبَهم، وبيَّن لهم الأوقاتَ الفاضِلة التي يتضاعَفُ فيها ثوابُ العبادات، ليتسكثِروا من الخيرات، ولو لم يُبيِّن لهم الزمانَ الفاضلَ لم يعرِفوه، قال الله تعالى: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[البقرة: 151]، وقال تعالى: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[البقرة: 239].
وإذا شرعَ الله عبادةً دعا المُكلَّفين إلى القيام بها والتقرُّب إلى الله بها، فإذا لم يتمكَّن بعضُ المُكلَّفين من فِعلها فتحَ الله للمُكلَّفين أبوابًا من الطاعات، وشرعَ لهم من الطاعات من جِنسِ ما فاتَهم من العبادات، لينالَ العبادُ عزَّ الطاعات، وثوابَ القُربات؛ فمن لم يُدرِك والدَيه فقد شُرِع له الدعاء لهما، والصدقة عنهما، والحجُّ عنهما، وصِلة رحِمهما، وإكرامُ صديقهما، ومن أدركَهما ثم ماتا فكذلك يستمرُّ على برِّهما.
عن أبي أُسيد الساعدي - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! هل بقِيَ من برِّ أبَوَيَّ شيءٌ أبرُّهما بعد موتهما؟ قال: «نعم؛ الصلاةُ عليهما - أي: الدعاء لهما -، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصِلة الرَّحِم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرامُ صديقِهما»؛ رواه أبو داود.
والخالةُ بمنزلة الأم، عن اب عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا؛ فهل لي من توبة؟ قال: «هل لك من أم؟». قال: لا، قال: «فهل لك من خالةٍ؟». قال: نعم، قال: «فبِرَّها»؛ رواه الترمذي.
ومن لم يجِد مالاً ليتصدَّق منه فليعمَل بيده وينفع نفسَه ويتصدَّق؛ عن سعيد بن أبي بُردة، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مُسلمٍ صدقة». قال: قيل: أرأيتَ إن لم يجِد؟ قال: «يعتمِلُ بيدَيه فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قال: قيل: أرأيت إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهُوف»، قال: قيل له: أرأيتَ إن لم يستطع؟ قال: «يأمُر بالمعروف أو الخير»، قال: أرأيتَ إن لم يفعَل؟ قال: «يُمسِك عن الشر؛ فإنها صدقةٌ»؛ رواه مسلم.
وفي الحديث: «من صلَّى الفجرَ في جماعةٍ، ثم جلسَ في مكانه يذكُر الله حتى تطلُع الشمسُ فصلَّى ركعتَين، انقلَبَ بعُمرةٍ وحجَّةٍ تامَّةٍ تامَّةٍ».
ومن قضَى فريضةَ الحجِّ ولم يتطوَّع بعدَها أو لم تتيسَّر له فريضةُ الحج، فقد شُرِع له صيامُ عرفة، وفي الحديث أنه: «يُكفِّرُ السنةَ الماضِية والآتية»، شُرِعت له الأُضحية؛ فهو يُشارِكُ الحُجَّاج في عرفة، وفي القُربان، وشُرِع له التقرُّب إلى الله بأنواع العبادات في عشر ذي الحجَّة؛ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله منه في عشر ذي الحجَّة». قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ولم يرجِع من ذلك بشيءٍ»؛ رواه البخاري.
وأنتم - معشر المسلمين - في أيامٍ فاضِلةٍ من أيام أشهر الحجِّ، وذِكر الله - عز وجل - من أفضل الأعمال وأجلِّ القُربات، وقد كان السلفُ الصالحُ يجهَرون بذِكر الله في عشر ذي الحجَّة، وكان ابنُ عمر وأبو هريرة يُخرُجان إلى السوق فيُكبِّران ويُكبِّرُ الناسُ بتكبيرهما.
وفي حديث عبد الله بن بُسْر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله! إن شرائعَ الإسلام قد كثُرت؛ فبابٌ نتمسَّك به جامعٌ؟ قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكر الله».
وأفضلُ الذكر: تلاوة القرآن العظيم؛ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[الأحزاب: 41، 42]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران: 133].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المُرسَلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يعلمُ السرَّ وأخفَى، له الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لربِّنا الأسماءُ الحُسنى، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المُجتبَى، وعلى آله وصحبِه ومن بهديِه اقتدَى.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
عباد الله:
إنكم في أيامٍ من أشهُر الحجِّ، ومن أيام الأشهُر الحُرُم؛ فمن كان حاجًّا فليحمَد اللهَ على توفيق الله له أن يسَّر له الأسبابَ لأداء الحجِّ، فليُلزِم نفسَه بما أرشدَه إليه القرآنُ الكريمُ، قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة: 197].
وفي الحديث: «من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ من ذنوبِه كيوم ولدَتْه أمُّه»، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة.
وعلى الحاجِّ أن يتحرَّى في حجِّه السُّنَّةَ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خُذوا عني مناسِكَكم».
وليسألَ الحاجُّ أهلَ العلم الذين تصدُر عنهم الفتوى ويُوثَقُ بعلمِهم ويعرِفون ويعلَمون مناسِكَ الحجِّ، ليسألَ الحاجُّ أهلَ العلم عن تفاصيل أحكام الحجِّ ليستوفِيَ أعماله، وليفوزَ بالقبول.
وعلى الحاجِّ أن يبذُل الخيرَ ويكُفَّ شرَّه وأذِيَّته عن المُسلمين، ومن لم يُقدَّر له الحجُّ فليلِج أبوابَ الخيرات التي شرعَها له ربُّه؛ ليفوزَ بسعادة الدنيا ونعيم الجنات.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين يا رب العالمين، اللهم ودمِّر أعداءَك أعداء الدين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيّك يا رب العالمين.
اللهم تولَّ أمر كلِّ مُسلمٍ ومُسلمة، وأمر كلِّ مؤمنٍ ومُؤمنة يا رب العالمين.
اللهم احفظ دماء المسلمين، اللهم احفظ دماء المسلمين وأعراضَهم وأموالَهم ونفوسَهم يا رب العالمين، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام، اللهم احفظ إخواننا المسلمين بالشام من ظلم الظالمين، واعتداء المُعتدين، وعُدوان الغاشمين يا رب العالمين.
اللهم كُن لهم ولا تكن عليهم، اللهم إنا نسألُك أن ترحم ضعفَهم، وأن تلطُف بهم يا رب العالمين، اللهم وأنزِل الدائرة على المُعتدين عليهم والظالمين لهم يا رب العالمين.
واحظ المسلمين في كل مكانٍ، وأعِذهم من شرِّ الظلَمة الذين لا يتعدون عليهم من الكافرين يا رب العالمين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم وُلاةَ أمورنا، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، ولما فيه الخيرُ يا رب العالمين لشعبه ووطنه وللمسلمين، إنك على كل شيء قدير، اللهم أعِنه على كل خيرٍ يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا، اللهم وارحمنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا رب العالمين، اللهم إنا خلقٌ من خلقك ولا غِنى بنا عن رحمتك، اللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، اللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا، اللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا يا رب العالمين، ولا إلى الناس فنضيعُ، فإنك أنت الله لا إله إلا أنت مولَى المؤمنين.
اللهم إنا نسألُك أن تُصلِح ذريَّاتنا، اللهم أصلِح ذريَّاتنا يا رب العالمين، اللهم وأصلِح ذريَّات المسلمين، اللهم أعِذنا من شُرور أنفُسنا، وأعِذنا من شر كل ذي شرٍّ يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ[النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-20-2012, 02:27 AM   رقم المشاركة : 96

 

فضل الحج والعشر من ذي الحجة
ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة 3 ذي الحجة 1433هـ بعنوان: "فضل الحج والعشر من ذي الحجة"، والتي تحدَّث فيها عن الفضائل العديدة التي أعدَّها الله لحُجَّاج بيته الحرام، ووجَّه النصائح المُفيدة لكل من نوى الحجَّ أن يأخُذ بها، مُلتزِمًا في ذلك بسُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مُنبِّهًا على عِظَم هذه الأيام العشر الأُوَل من ذي الحجة؛ لما وردَ فيها من فضلٍ عظيمٍ وخيرٍ عميمٍ.

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أمرَنا بطاعته، ونهانا عن معصِيَته، وعدَ الصالحين جنَّتَه ومُستقرَّ رحمته، وتوعَّدَ العُصاةَ بدار نِقمته وزوال نعمتِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له السيدُ المُطاع، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه إلى خير أمَّةٍ وأتباع، اللهم صلِّ وسلِّم على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ البيِّ المُختار، وعلى آله وصحابته وأتباعه الأبرار.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وراقِبوه في السِّرِّ والنَّجوى، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
وفدَ هذه الجُموعُ إلى هذه البِقاع الطاهِرة تلبِيَةً لدعوة إبراهيم - عليه السلام - منذ آلاف الأعوام إلى أن يرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، مُلبِّين ضارِعين مُكبِّرين مُهلِّلين.
بنظرةٍ واحِدةٍ إلى هذه الجُموع لمُؤمنة، والحَجيج الخُشَّع المُتجمِّعين من كل حدَبٍ وصَوبٍ، تتجلَّى حقيقةُ أن هذه الأمة مهما بلغَ الكيدُ لها،والبمكرُ بها، فإنها أمةٌ خالدةٌ بخُلود رسالتها وكتابِها، باقيةٌ ما بقِيَ الليلُ والنهار، هي أفضلُ الأمم بأعمالها ومبادِئها وإيمانها، بتراحُمها وعدالتها.
إن الوافِد إلى بيت الله قد تكفَّلَ اللهُ بحفظِه وسلامته، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ في ضَمانِ الله: رجلٌ خرجَ إلى مسجدٍ من مساجدِ الله، ورجلٌ خرجَ غازِيًا في سبيل الله، ورجلٌ خرجَ حاجًّا».
أخي الحاجُّ! إن لك بكل خُطوةٍ تخطُوها أجرًا لا يُجلِّيه إلا قولُ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «ما ترفعُ إبِلُ الحاجِّ رجلاً ولا تضُ يدًا إلا كتبَ الله تعالى بها حسنةً، أو محا عنه سيِّئةً، أو رفعَه بها درجةً»؛ أخرجه البيهقي.
وحين تنطِقُ بنداء التوحيد: لبَّيك اللهم لبَّيك؛ فإن الكونَ كلَّه معك، يُردِّدُ توحيدَ الخالق، ويُسبِّحُ بحمده، تُلبِّي الأحجارُ، ويهتِفُ المَدَرُ والأشجارُ، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مُسلمٍ يُلبِّي إلا لبَّى مَن عن يمينه أو عن شِماله من حجرٍ أو شجَرٍ أو مَدَرٍ، حتى تنقطِع الأرضُ من ها هُنا وها هُنا»؛ أخرجه الترمذي.
هذا جزاءٌ عاجِلٌ؛ فكيف بالآجِل؟!
إذا سمِع الحاجُّ حديثَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجَه البخاريُّ ومُسلمٌ: «الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة»، تشتاقُ نفسُه لهذا الأجر الجَزيلِ والفضلِ العظيمِ، فيتسائلُ: كيف يُحقِّقُ الحجَّ المبرورَ؟
الحجُّ المبرورُ - عباد الله - يتطلَّبُ إخلاصًا لله؛ فمن خرجَ من بيته مُتطلِّعًا إلى المدح والثناء والسُّمعة والمُباهاة حبِطَ عملُه، وضلَّ سعيُه، قال الله تعالى في الحديث القُدسي: «من عمِل عملاً أشركَ فيه معيَ غيري تركتُه وشِركَه»؛ رواه مسلم.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُحذِّرُ من ضِدِّ ذلك، فيدعُو مُستعينًا بربِّه قائلاً: «اللهم حجَّةً لا رياءَ فيها ولا سُمعةً»؛ أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
المُتلبِّسُ بالحجِّ - أيها الحاجُّ - يكونُ في غايةِ الذلِّ بين يدَي الله، مُطهِّرًا قلبَه من آفةِ العُجبِ بالعمل؛ بل إنه يرَى عملَه مهما عظُمَ صغيرٌ جدًّا أمام ما أنعمَ الله عليه من النِّعَم، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34].
تُقام - عباد الله - شعائرُ الحجِّ في مشاعِر عظيمة، وأماكن لها قُدسيَّتها، ومن برِّ الحجِّ احترامُها، فضلاً عن الفساد أو مُقارفة شيءٍ فيها.
وإن من الفَظاعَة وشُؤم الحالِ أن يستغِلَّ أصحابُ النوايا السيِّئة هذه المُناسَبَة العظيمةَ ويتدثَّروا بقُدسيَّتها، فيقدُموا إلى بلاد الحرمين لتهريبِ السُّموم الفتَّاكة، ونشرِ المُعتقَدات الفاسِدة، وترويج الأفكار المُضلِّلة، ونهبِ الأموال، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الحج: 25].
ومن برِّ الحجِّ: الاجتهادُ في مُوافقته لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قلَّ أو كثُر، وعدم مُخالفته لشيءٍ من سُنَّته - عليه الصلاة والسلام -، وقد نُقِلت سُنَّتُه لأمَّته في كل موقفٍ وقولٍ، وكان يقولُ - صلى الله عليه وسلم -: «خُذوا عني مناسِكَكم».
والساهُل بالسُّنَن قد يُؤدِّي إلى التساهُل بالواجبات والأركان، وقد تتوالَى الأخطاء التي قد تُفسِدُ الحجَّ، والخيرُ كلُّ الخيرِ في تعلُّم هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومن برِّ الحجِّ: التسليمُ للشارِع والانقيادُ لأوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحُسن الاتباع فيما لم يُكشَف عن معانيه ولو لم تُعلَم الحكمةُ فيه.
ها هو الفاروقُ - رضي الله عنه - يُقبِّلُ الحجرَ الأسودَ ويقول: "أما واللهِ؛ إني لأعلمُ أنك حجرٌ لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، ولولا أني رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استلمَك ما استلمتُك". فاستلَمَه؛ رواه البخاري.
مالُ الحجِّ المبرور يجبُ أن يكون حلالاً طيبًا؛ لأن النفقةَ الحرامَ من موانع الإجابة، وفي "الطبراني" مرفوعًا: «إذا خرجَ الرجلُ حاجًّا بنفقةٍ طيِّبةٍ ووضعَ رِجلَه في الغَرزِ فنادَى: لبَّيكَ اللهم لبَّيك. ناداه مُنادٍ من السماء: لبَّيكَ وسعدَيْك، زادُك حلال، وراحِلتُك حلال، وحجُّك مبرورٌ، وإذا خرجَ بالنفقةِ الخبيثة، فوضعَ رِجلَه في الغَرزِ، فنادَى: لبَّيْك. ناداه مُنادٍ من السماء: لا لبَّيكَ ولا سعدَيكَ، زادُك حرام، ونفقتُك حرام، وحجُّك غيرُ مبرورٍ».
أيامُ الحجِّ المبرور تُحيَى بذِكرِ الله، وتُضاءُ بتلاوة آيات من القرآن، وتُطهَّرُ بالاستغفار وبذلِ المعروف، والدعوةِ إلى الله - عز وجل -، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الغازي في سبيل الله، والحاجُّ والمُعتمِر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم»؛ رواه ابن ماجه.
وسُئِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحجِّ المبرور، فقال: «إطعامُ الطعام، وإفشاءُ السلام».
مَلؤُ الأوقات بالطاعات تُحصِّنُ الحجَّ من الآفات المُهلِكة ولُصوص الحسنات، وتزيدُ الحجَّ برًّا؛ فالأيامُ فاضِلة، وتلك البِقاعُ مُفضَّلة، وفيها تتضاعفُ الأجور، وقد كان سلفُنا الصالحُ إذا تلبَّسُوا بهذه العبادة عطَّروا أوقاتَها بذِكرٍ وتسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ.
سِمةُ الحاجِّ في هذه البِقاعِ العظيمةِ: السَّكينةُ والطُّمأنينة، وسُلوك أدب هذه الشَّعيرة بخفضِ الصوت، وعدم الإزعاج وأذِيَّة المُسلمين، والهدوء في العبادة والدعاء.
التلبيةُ في الحجِّ: ذِكرٌ لا ينقطِع، فلها معانٍ لو استقرَّت في سُويدَاءِ القلبِ فإنها تصبُغُ حياةَ المُسلم وتُقوِّمُ مسيرتَه، وتُهذِّبُ سيرتَه؛ إنها إعلانُ العبوديةِ والطاعة والتذلُّل لله - تبارك وتعالى -: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلكَ، لا شريكَ لك.
الصُّحبةُ الطيبةُ في الحجِّ تُقوِّيكَ إذا ضعُفتَ، وتُذكِّرُك إذا نسيتَ، تدُلُّك على طريق الخير، وتُحذِّرُك طريقَ الشرِّ، من رامَ حجًّا مبرورًا امتثَلَ قولَ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه البخاري -: «من حجَّ لله فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَتْه أمُّه».
نعمن من تطلَّع إلى حجٍّ مبرورٍ أدَّبَ جوارِحَه، فلا تنظرُ العينُ نظرةً فاحِشة، ولا ينطِقُ اللسانُ بألفاظٍ طائِشة، ولا تمتدُّ اليدُ بأذًى إلى أحد، ولا ينطوِي القلبُ على بغضاء أو حسَدٍ.
حجٌّ مبرورٌ يُوقَّرُ في الكبير، ويُرحَمُ الصغيرُ، ويُواسَى الضعيفُ، ويُحافَظُ فيه على نظافة البدَن والثوب، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[البقرة: 222].
خُلُقٌ إسلاميٌّ رفيعٌ، هذا الذي ترويه عائشةُ - رضي الله عنها - فتقول: "كنتُ أُطيِّبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين يُحرِم، ولحِلِّه قبل أن يطُوفَ بالبيت".
وعنها - رضي الله عنها - قالت: "كأنِّي أنظُر إلى وبيصِ الطِّيبِ في مفارِقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحرِم"؛ أخرجهما البخاري.
هذا هو المُجتمع الذي يُحافِظُ فيه كلُّ فردٍ على مشاعر إخوانه، يتجنَّبُ ما يُؤذِيهم ولو كان بالرائحة، يُعاشِرُهم بالمظهر الحسنِ والمخبَر الذي يسُرُّ القلبَ، ويُرضِي النفوسَ، ويجلِبُ الألفةَ والمحبَّة.
ومن أجل هذا؛ كان الغُسلُ للجُمعة والعيدَيْن سُنَّةً من سُنن الإسلام، ومطلبًا من مطالبه.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تابِعوا بين الحجِّ والعُمرة؛ فإنهما ينفِيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفِي الكيرُ خبَثَ الحديد والذهب والفِضَّة، وليس للحجَّة المبرورة ثوابٌ إلا الجنة»؛ أخرجه الترمذي.
بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يسَّر الحجَّ إلى بيته الحرام، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى، قال - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
لله تعالى في بعض الأيام المُباركة نفحَاتٌ ينالُها المُوفَّقون من عباد الله، ومن تلك الأيام: أيامُ عشر ذي الحجَّة؛ روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما العملُ في أيامٍ أفضلَ منها في هذه». قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجلٌ خرجَ يُخاطِرُ بنفسه ومالِه فلم يرجِع بشيءٍ»؛ أخرجه البخاري.
كان السلَفُ إذا دخَلَت أيامُ العشر من ذي الحجَّة يجِدُّون في البرِّ والطاعة، ويُكثِرون من الذِّكر والدعاء وتعظيم الله.
ومما هو مشروعٌ في هذه الأيام: الإكثارُ من صلاةِ النافِلة، والتهليل والتكبيرِ والتحميد، وقراءة القُرآن، والصدقة على الفُقراء والمُحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وبرِّ الوالدَين، وقيام الليل، إلى غير ذلك من الأعمال الصالِحة.
صومُ غير الحاجِّ ما تيسَّر له من أيام العشر، خاصَّةً صيامُ يوم عرفة؛ لما في "صحيح مسلم" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أحتسِبُ على الله أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه».
ومما يُشرَع: تكبيرُ الله تعالى وتعظيمُه في جميع الأوقات من ليلٍ أو نهارٍ.
ومما يُشرَع: إعدادُ الأُضحية، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجَّة، وأراد أحدُكم أن يُضحِّيَ فليُمسِك عن شعره وأظفاره».
ألا وصلُّوا - عباد الله - على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وأزواجه وذريَّته، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، وبارِك على محمدٍ وأزواجه وذريَّته، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.
اللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، ونعوذُ بك من النار وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألُك الهُدى والتُّقى والعفافَ والغِنَى، اللهم أعِنَّا ولا تُعِن علينا، وانصُرنا ولا تنصُر علينا، وامكُر لنا ولا تمكُر علينا، واهدِنا ويسِّر الهُدى لنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظ حُجَّاج بيتك الحرام، وجنِّبهم الشُّرورَ والآثام، اللهم رُدَّهم إلى ديارهم سالمين غانِمين مُستبشرين يا رب العالمين، اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملاً صالحًا مُتقبَّلاً مبرورًا يا رب العالمين.
إلهَنا وخالقَنا ورازِقَنا، يا قوي يا عزيز يا جبَّار، اللهم إنك تعلمُ ما لَّ بإخواننا في سوريا، اللهم إنك عليمٌ بما حلَّ بإخواننا في سوريا، وقادرٌ على كشفِه يا رب العالمين، اللهم ارحَم ضعفَهم،واجبُر كسرَهم، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، وعُراةٌ فاكسُهم، ومظلومون فانتصِر لهم، ومظلومون فانتصِر لهم، ومظلومون فانتصِر لهم.
اللهم إن عدوَّهم قد بغَى وبطَشَ وسفَكَ وقتلَ وأسرفَ في طُغيانه، اللهم مُنزِل الكتاب، مُجرِيَ السحاب، هازِمَ الأحزاب، اهزِم عدوَّهم يا رب العالمين، اللهم اهزِم عدوَّهم وعدوَّك يا رب العالمين، اللهم اهزِم عدوَّك وعدوَّهم يا رب العالمين، يا قوي يا جبار يا عزيز، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّق إمامنا لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-01-2012, 04:39 PM   رقم المشاركة : 97
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

أيام التشريق .. فضائل وأحكام
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 10 ذي الحجة 1433هـ بعنوان: "أيام التشريق .. فضائل وأحكام"، والتي تحدَّث فيها عن يوم النحر وأيام التشريق وما فيها من فضائل وأحكام، وذكَّر ببعض وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم – في حجَّة الوداع، مع إشارته بتذكُّرنا إخوانًا لنا في شدَّةٍ ولأواء في عددٍ من بُلدانِ المُسلمين.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستهديه ونستغفرُه، ونعذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].



أما بعد، فيا أيها المُسلمون:
إن هذا اليوم يومٌ عظيمٌ عند الله - جل وعلا -، أعلى مكانتَه، ورفعَ قدرَه، وبيَّن فضلَه ومكانتَه في الدين، وسمَّاه: "يوم الحجِّ الأكبر"، وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أعظمُ الأيام عند الله يومُ النَّحر».
وهو من الأيام المعلومات الفاضِلة التي قال ربُّنا - جل وعلا - فيها: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ[الحج: 28].
وفي "المسند" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أيامٍ أعظمُ عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهنَّ من هذه الأيام - يعني: أيام العشر -، فأكثِروا فيهنَّ من التهليل والتحميد والتكبير».
ألا فلنتَّخِذ من هذا اليوم موسِمًا للتقرُّب بالطاعات، والعمل بالصالحات إلى الممات، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ[الحديد: 21].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوة الإسلام:
في هذا اليوم العظيمِ يتقرَّبُ المُسلِمون إلى مولاهم بإراقة الدماء؛ استِجابةً لقول المولى - جل وعلا -: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[الكوثر: 2].
ألا إن أهمَّ ما ينبغي أن يعلمَه المرءُ أن أبرزَ المقاصِد العُظمى لشعائر الإسلام كلِّها: إسلام الوجه لله - جل وعلا -، وتحقيقُ توحيده، والوصولُ إلى كمال محبَّته وغاية التذلُّل لله - عزَّ شأنه -، ولهذا يقول ربُّنا - جل وعلا - لنبيِّه: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
وفي ثنايا بيان أحكام الحجِّ وأحكام الهدايا يقول الله - جل وعلا -: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[الحج: 34، 35]، وبذلك يصِلُ المرءُ إلى العبادة الحقيقية التي أمَرَ الله - جل وعلا - عبادَه بها، وخلقَهم من أجلِها.
يقول ابن القيِّم - رحمه الله -:
وعبادةُ الرحمن غايةُ حبِّه
معادٌ لآبِدِه هما قُطبان
وعليهما فلَكُ العبادة دائرٌ
ما دارَ حتى قامَت القُطبان
ومدارُه بالأمر أمرِ رسولِه
لا بالهوى والنفسِ والشيطان
ولهذا، فيا عباد الله:
أعظمُ حِكَم مشروعية الأضاحي: تحقيقُ توحيد الله - جل وعلا -، وتعظيمه وإجلاله والمهابة منه، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ[الحج: 37].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوة الإسلام:
في هذه الأيام العظيمة التي يتقرَّبُ الحُجَّاجُ إلى ربِّهم في مناسِك الحجِّ المُتعدِّدة في أمنٍ وأمانٍ ورغَدٍ، ولله الحمد والمنَّة، وفي هذه الأيام التي يعيشُ أهلُ الإسلام في سائر البُلدان بالتقرُّب إلى الله - جل وعلا - بإراقة الدماء، تقرُّبًا إلى المولى - عز وجل -، فرِحين مُستبشِرين.
فإنه ينبغي أن يعلمَ كلُّ مُسلمٍ أن من الفرض اللازم على كل أحدٍ بحسب طاقته، أن يعلَم أن مسؤوليَّته عظيمةٌ عند الله - جل وعلا - في الوقوف مع إخوانٍ له في الإسلام في بُلدانٍ أصابَ المُسلمين فيها من اللأواء والضرَّاء والبلاء ما لا نشكُوه إلا إلى الله - جل وعلا -.
إخوانٌ لنا أحاطَت بهم المصائبُ في أنفسهم وأموالهم وأعراضِهم، فإن من الواجبِ على حُكَّام المُسلمين، وعلى علمائهم، وعلى مُجتمعاتهم أن يقِفوا صفًّا واحدًا لإقامة العدل، ورفع الظلمِ عن المُسلمين، فإن من قواعد الإسلام العُظمى: قول الله - جل وعلا -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات: 10].
ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث الصحيح: «مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَل الجسد الواحد، إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى».
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤمنُ للمُؤمن كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا».
ألا وإن لنا إخوانًا في الشام، وفي فلسطين، وفي بورما يُصيبُهم ما يُصيبُهم من اللأواء والضرَّاء، فنسألُ اللهَ - جل وعلا - أن يُفرِّجَ كُرُباتهم، وأن يحفظَهم في أنفسهم وفي أموالهم وفي أعراضِهم، وأن يُعجِّل برفع هذه الغُمَّة عنهم، إنه على كل شيءٍ قديرٌ.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون:
في مثل هذا اليوم العظيم يتذكَّرُ المُسلِمون تلك الحجَّة العظيمة حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - المُسمَّاة بـ "حجَّة الوداع"، والتي قرَّر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصولَ الإسلام العُظمى، وقواعدَ الدين الكُبرى.
ألا وإن مما عهِدَ به لهذه الأمة إلى يوم الدين: وصيةٌ عظيمةٌ تكفَلُ السعادةَ والحياةَ الطيبةَ، والعيشةَ الرضِيَّةَ في الدنيا وفي الآخرة، تكفَلُ لهذه الأمة - وهي تعيشُ حياة الذلِّ والهوان - تكفَلُ لهم إن أقاموا بهذه الوصيَّة، وأخذُوها بجِدٍّ وقوةٍ ونشاطٍ وهمَّةٍ وعزيمةٍ، فإنها تضمنُ لهم - بإذن الله - العِزَّةَ والكرامةَ والرِّفعةَ والسُّؤدَدَ.
ألا وهي وصيةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في خُطبة الوداع: «ألا وإني قد تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضِلُّوا: كتابَ الله»، وبدون ذلك فستعيشُ الأمةُ في حياة الذلِّ والهوان، وسيتخطَّفُها الأعداءُ من كل جانبٍ، ولن تصِلَ إلى سعادةٍ، ولا إلى رخاءٍ، ولا إلى رغَد عيشٍ؛ بل ستعيشُ في ضنكٍ وشقاءٍ وعناءٍ.
يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "تكفَّلَ الله لمن قرأَ هذا القرآنَ وعمِلَ به ألا يضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ قول الله - جل وعلا -: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[طه: 123، 124]".
بارك الله لنا في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدي والبيان، أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
إن الثلاثة الأيام بعد هذا اليوم المُبرَك هي أيامُ التشريق، وهي المُرادةُ بقول الله - جل وعلا -: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ[البقرة: 203]، وهي التي أمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُظهَر فيها شعائرُ الله من الذِّكرِ والشكرِ لله - جل وعلا -. يقول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم -: «أيامُ التشريق أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ لله - جل وعلا -».
وفي "المسند": «لا تصُوموا هذه الأيام؛ فإنها أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ لله - جل وعلا -».
وإن مما يُشرعُ فيها: الذِّكرُ المُطلقُ في سائر الأوقات، وكما يُشرعُ فيها أيضًا: الذِّكرُ المُقيَّد، التكبيرُ المُقيَّد بأدبار الصلوات المفروضات، وتستمرُّ هذه الشعيرةُ إلى صلاةِ العصرِمن آخر يومٍ من أيام التشريق.
فالهَجُوا بذِكر الله والحمد له والتعظيم له - عزَّ شأنه -.
ثم إن الله - جل وعلا - أمَرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّدنا وحبيبِنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعن الصحابةِ أجمعين، وعن الآل ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المسلمين، اللهم فرِّج كُربات المُسلمين في الشام وفي فلسطين وفي بُورما وفي كل مكانٍ يا حي يا قيوم، اللهم اكشِف الغُمَّةَ عن المؤمنين، اللهم اكشِف الغُمَّةَ عن المؤمنين، اللهم ولِّ على المُسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خيارَهم، الهم واكفِهم شِرارَهم يا حي يا قيوم.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمين أمرنا لما تُحبُّ وترضَى.
الهم احفَظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم احفَظ حُجَّاج بيتك يا ذا الجلال والإكرام، ورُدَّهم إلى أهلِهم سالمين غانِمين يا حي يا قيوم.
اللهم اغفِر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم اسقِنا يا حي يا قيوم، اللهم يا غني يا حميد مسَّنا الضرُّ وأنت أرحمُ الراحمين، اللهم فاسقِنا، اللهم فاسقِنا، اللهم فاسقِنا، اللهم اسقِ قلوبَنا بالإيمان، اللهم اسقِ جوارِحَنا بالطاعة، اللهم اسقِ أرضَنا بالمطر المِدرار يا حي يا قيوم.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-18-2012, 08:28 AM   رقم المشاركة : 98

 

ا

لمصائبُ والأمراضُ بقَدَر الله تعالى

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 17 ذي الحجة 1433 هـ بعنوان: "المصائبُ والأمراضُ بقَدَر الله تعالى"، والتي تحدَّث فيها عن قدَر الله - جل وعلا -، وأن كلَّ ما يُصيبُ الإنسانَ إنما هو بقضاء الله وقدَره، وحذَّرَ من نهجِ سبيل المُشركين؛ إذ كانوا يتطيَّرون ويتشاءَمون، ويعتقِدون أن الأمراضَ تُعدي بطبعِها، وأن الإسلامَ أبطلَ كلَّ ذلك، وذكَّرَ بوجوب التوكُّل على الله تعالى في كل الأمور.

الخطبة الأولى

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله لا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن تقوى الله هي الوسيلةُ إلى خيرٍ في هذا الدار وفي دار القرار.
أيها المسلمون:
فوِّضُوا أمورَكم كلَّها إلى الله، وتوكَّلوا عليه؛ فمن توكَّل على الله كفَاه، وبلَّغَه جنَّتَه ورِضاه، واعمَلوا بالأسباب التي أرشدَ إليها الشرعُ الحكيمُ، والأسباب التي عُلِمَت باتجارب المُباحة الصحيحة، فمن حكَّمَ الشرعَ في أموره كلِّها كان من المُفلِحين، ومن أعرضَ عن كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان من الخاسرين.

عباد الله:
إن ربَّكم - تقدَّست أسماؤه - قد كتبَ المقادير، وقضى الأمور قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قدَّر الله المقادير قبل أن يخلُق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»؛ رواه مسلم والترمذي.
والله تعالى يفعل ما يشاء، له القدرةُ التامَّة، والمشيئة النافِذة، والحِكمةُ البالغة، والعلمُ المُحيط، والرحمةُ العامَّة، الخلقُ خلقُه، والأمرُ كلُّه راجعٌ إليه، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23].
لقد أراد الله تعالى أن تكون هذه الحياة الدنيا جامعةً بين الخير والشر، وأن يكون هذا الخيطُ المُشاهَد جارٍ على سُننٍ أوجدَها الله باقيةً إلى أجلٍ مُسمَّى.
قدَّر الله تعالى في هذا الوجود الحياةَ والموت، والمحبوب والمكروه، والخيرَ والشر، والفرحَ والسرور، والحزن والهموم، والصحةَ والمرض، والعافية والبلاء، والطاعة والمعصية، والكربَ والفرَج، والعُسر واليُسر، والكمال والنقص، والعجز والكَيس؛ ليعلمَ الخلقُ أن لهذا الكون إلهًا عظيمًا مُتَّصفًا بصفات الكمال كلِّها، مُنزَّهًا عن صفات النقص، ليعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وليرغَبوا إليه - سبحانه - في طلب كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وليستعيذوا بربِّهم من كل سوءٍ ليصرِفَ عنهم كلَّ شرٍّ في الدنيا والآخرة؛ فإن الربَّ - تبارك وتعالى - هو القادرُ على ذلك كلِّه، قال الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 107].
ومن يتصوَّر أو يظنَّ أن هذا الكون المُشاهَد يمكنُ أن يتحقَّق فيه الخير بدون أن يُوجد شرٌّ في الوجود فقد تصوَّرَ ما لا يكون، وظنَّ ما لا يتحقَّقَ وجودُه؛ لأن هذا الكون المُشاهَد لو وُجِد فيه خيرٌ وطاعةٌ من غير وقوع شرٍّ ومكروهٍ لكان وجودًا وكونًا آخر، له سُننٌ أخرى، وأسبابٌ أخرى، والله على كل شيءٍ قدير.
وأما في الآخرة فالخيرُ الخالصُ كلُّه، والنعيمُ كلُّه في الجنة، والشرُّ كلُّه بحذافيره والعذاب بأنواعه في النار؛ فمن دخلَ الجنةَ لم يحزَن ولم يندَم على ما فاتَه من الدنيا، ولا يتحسَّر على ما أصابَه من المصائب، ومن دخلَ النار لم ينفعه ما جُمِع له في الدنيا من المسرَّات.
عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤتَى بأنعَم أهل الدنيا من أهل النار، فيُصبَغُ في النار صبغةً ثم يُقالُ: يا ابنَ آدم! هل رأيتَ خيرًا قط، هل مرَّ بك من نعيمٍ قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ، ما مرَّ بي نعيمٌ قط. ويُؤتَى بأشدِّ الناس بُؤسًا من أهل الجنة فيُصبَغُ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابنَ آدم! هل رأيتَ بُؤسًا قط، هل مرَّ بك من شدَّةٍ قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ، ما مرَّ بي بُؤسٌ قط، ولا رأيتُ شدَّةً قط»؛ رواه مسلم.
ومع ما جُبِلَت عليه الدنيا من كَدَرٍ، وما قُدِّر فيها من المصائب والمكارِه، فالإيمانُ والإسلامُ ضامنٌ لصاحبِه حُسن العاقبة، وخيرَ المآل والمُنقلَب؛ بزيادة النعم، والثواب على الشكر، وبتكفير السيئات، والثواب على الصبر.
عن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجَبًا لأمر المُؤمن إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمُؤمن؛ إن أصابَته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له»؛ رواه مسلم.
والأمراضُ مما ابتُلِيَ بها العباد، والله تعالى يخلُقُها بسببٍ وبغير سببٍ، ويُعافِي من يشاءُ منها بسببٍ بغير سببٍ، قال الله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج: 15، 16]؛ فمن ابتُلِيَ بشيءٍ من ذلك فليصبِر وليحتسِب، وليتداوَ بما أباحَ الله له من الأسباب؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تداوَوا؛ فإن الله تعالى لم يضَع داءً إلا وضعَ له دواءً، غيرَ داءٍ واحدٍ، وهو الهرَم»؛ رواه أبو داود، والترمذي من حديث أسام بن شريك - رضي الله عنه -.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أنزلَ الداءَ والدواءَ، وجعلَ لكلِّ داءٍ دواءً، فتداوَوا ولا تداوَوا بالحرام»؛ رواه أبو داود.
والدعاءُ يرفعُ الله به مما نزلَ ومما لم ينزِل، وهو من الأسباب الجالِبة لكلِّ خيرٍ، والدافعةِ لكلِّ شرٍّ، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
وقد عرفَ الناسُ أمراضًا إذا شاءَ الله انتقلَت من المريض إلى الصحيح - بإذن الله -، وقد كان أهلُ الجاهلية يعتقِدون أن هذه الأمراض تُعدي بطبعِها، فتنتقِلُ بذاتِها من المريضِ إلى الصحيح، فيُعدي المريضُ الصحيحَ بالمُخالَطة والمُلاقاة لا محالَةَ، فأبطلَ اللهُ اعتقادَ أهل الجاهلية، وأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا عدوَى، والنفيُ أبلغُ من النهي في إبطال العدوَى.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوَى، ولا طِيَرة، ولا هامَة، ولا صَفَر»؛ رواه البخاري ومسلم.
والطِّيَرة هي التشاؤُم بمرئيٍّ أو مسموعٍ، وهي من أعمال المُشرِكين في الجاهلية؛ فقد كانوا يتشاءَمون بالطيور في اتجاه طيرانها وبأصواتها، ويتشاءَمون ببعض الأيام، وببعض الحوادث والمخلوقات التي تعرِضُ لهم، فيمنعُهم التشاؤُم والتطيُّر من المُضِيِّ في مقاصِدهم، أو يُحدِثُ لهم عزمًا وإرادةً على المُضِيِّ لحاجاتهم بالتطيُّر إذا رأوا أو سمِعوا ما يظنُّونَه مُؤثِّرًا في النجاح.
فأبطلَ الله - عز وجل - في الإسلام هذا التشاؤُم وهذا التطيُّر بجميع صُوره، فجاء الإسلامُ بالعقيدة الحقَّة والتوحيد الخالص، وأوجبَ التوكُّلَ على الله الذي بيده كلُّ شيءٍ، وعلَّقَ القلبَ بالخلق المُدبِّر.
عن الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الطِّيَرةُ ما أمضاكَ أو ردَّك»؛ رواه أحمد.
قال عِكرمةُ: كنا جلوسًا عند ابن عباسٍ فمرَّ طائرٌ يصيحُ، فقال رجلٌ من القوم: خيرٌ خيرٌ، فقال ابن عباس: "لا خير ولا شر"، فأنكرَ عليه؛ لئلا يعتقِدَ تأثيرَه بالخير أو الشر.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعجِبُه الفألُ - وهو الكلمةُ الطيبةُ - فيُسرُّ بذلك، ولا تُؤثِّرُ في عزمه فعلاً أو تركًا؛ لأن الفألَ فيه حُسنُ ظنٍّ بالله تعالى، وهو عملٌ صالحٌ بخلافِ سُوءِ الظنِّ فهو مُحرَّم.
والهامَة طائرٌ من طيور الليل، كانوا يتشاءمون بها إذا وقعَت على الدار، قال الرجلُ: "نعَت إليَّ نفسي!".
وكانوا يتشاءَمون بشهرِ صفرٍ، فأبطلَ الإسلامُ هذا الاعتقادَ الباطلَ كلَّه، ووجَّه القلوبَ إلى الخالق البارئِ الذي له مقاليدُ السماوات والأرض، وأوجبَ التوكُّلَ عليه، وبيَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حُكمَ الطِّيَرة.
فعن عبد الله بن مسعود مرفوعًا: «الطِّيَرةُ شِركٌ، الطِّيَرةُ شِركٌ»؛ رواه أبو داود والترمذي.
وأما العدوَى التي نفَتْها الأحاديثُ؛ فمعناها: انتقالُ المرض بطبعه وذاتِه من المريضِ إلى الصحيحِ بالمُخالَطة، كما يعتقِدُها أهلُ الجاهلية، ويقطعون بإصابة السليم بالمرض من المريض، لا يلتفِتون إلى مشيئة الله، ولا يرُدُّون الإصابةَ إلى إرادة الله.
فأبطلَ الإسلامُ هذا الاعتقادَ الجاهليَّ، وردَّ الأمورَ كلَّها إلى الله تعالى، وإلى مشيئته وإرادته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكُن، وقد يشاءُ الله تعالى أن يجعلَ مُخالطةَ المريض للصحيح سببًا في حدوث المرض للصحيح، وقد يشاءُ الله ألا يتضرَّرَ الصحيحُ بمُخالَطة المريض؛ فالصحةُ والمرض كلٌّ منهُما بقُدرة الله تعالى.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يُعدِي شيءٌ شيئًا». فقال أعرابيٌّ: يا رسول الله! النقطةُ من الجرَب تكون بمِشفَر البعير أو بذَنَبه في الإبل العظيمة، فتجرَبُ كلُّها! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن أجربَ الأوَّلَ؟! لا عدوَى ولا طِيَرة ولا هامَة، خلقَ الله كلَّ نفسٍ، وكتبَ حياتَها ومصائبَها ورزقَها»؛ رواه أحمد والترمذي.
وأما الأحاديث التي تتضمَّنُ اتقاءَ أسباب الأمراض؛ فليس في شيءٍ منها إثبات العدوَى، ولا تدلُّ على وقوع العدوَى بطبعِها، وإنما تتضمَّنُ هذه الأحاديث البُعدَ عن أسباب الشرِّ والضرَر إذا كان الإنسانُ في عافية، كما أن الإنسانَ مأمورٌ ألا يُلقِيَ نفسه في النار، ولا في السيل، ولا شُرب السُّمِّ، ولا يبيتُ على سطحٍ لا تحجيرَ عليه، إلى غير ذلك مما فيه ضررٌ مما هو منهيٌّ عنه.
فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُورِدُ مُمرِضٌ على مُصِحّ»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وفِرَّ من المجذوم كما تفِرَّ من الأسد»؛ رواه أحمد، والبخاري تعليقًا.
وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سمعتُم بالطاعون في بلَدٍ فلا تُقدِموا عليه، وإذا وقعَ ببلدٍ وأنتُم فيه فلا تخرُجوا منه»؛ رواه البخاري.
فهذه الأحاديثُ وأمثالُها ليس فيها إثباتَ العدوَى بطبعِها، وإنما بقُدرة الله - تبارك وتعالى - قد يجعلُ الله - عز وجل - المُخالطَة سببًا في مرضِ الصحيح، وإنما تتضمَّنُ اتِّقاءَ أسباب الشرِّ والضرر.
وفيها: سدُّ أبواب الشيطان التي يدخلُ منها على الإنسان، فيضُرُّ عقيدتَه، ويتسخَّطُ القدرَ، فيقول: لو أني ا فعلتُ هذا لَمَا أصابَني كذا.
وأما من قوِيَ وكمُلَ توكُّلُه على الله فهو على خيرٍ في جميع أحواله، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3].
ومن الأسباب المُباحة: التطعيمُ الذي ثبَتَت منافعُه ضدَّ بعض الأمراض، وانتفَت مضارُّه في الحال والمآل.
ومن الأسباب المُباحة: الحَجر الصحيّ، والتوكُّل على الله أكمَل؛ لحديث السبعين الذين يدخُلون الجنَّةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ، وهمُ الذين لا يسترقُون ولا يكتَوُون، ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون.
وقد شاهَدنا نحن وغيرُنا من خالطَ من أُصيبَ بالجُدريِّ وأكلَ معَه، ومن أُصيبَ بالحَصبة - وهي من الأمراض المُعدِية - بإذن الله -، فلم يُصابُوا بشيءٍ من ذلك، وشاهَدنا في حجِّ هذا العام سلامةَ الحُجَّاج وعافيتَهم - ولله الحمد - من الأمراض الخَطيرة التي أرجَفَ بها بعضُ الناس، وسلامتهم فيما مضى من أعوام الحج وعافيتَهم، وسيُعافيهم الله - عز وجل - فيما يُستقبَل؛ فقد أدَّوا حجَّهم بطمأنينة، وسكينةٍ، ويُسرٍ، وسُهولةٍ، وأمنٍ، وإيمانٍ، وتيسُّر أرزاق، ورعاية صحيَّة، ووفور خدمات، وتحقُّق حاجات لهم من الله - تبارك وتعالى -.
فلله الحمدُ على ذلك كلِّه، ولله الحمدُ على أن جعلَ وُلاةَ أمر هذه البلاد أُمَناء على الحرمين الشريفين، يسعَون لكل ما فيه راحةُ الحُجَّاج والمُعتمِرين والزائرين، وتيسير أمورِهم، والأخذ على يدِ كل من يُريد بالحجِّ سُوءًا، وسيجِدون ذلك في صحائفهم عندما يجزِي الله المُحسنين.
ولكن قد ساءَ المُسلمينَ إساءةٌ عظيمةٌ، وشقَّ عليهم، وكدَّرَ صفوَ سُرورهم ما قامَت به فئةُ المُتسلِّلين عبرَ حُدود المملكة العربية السعودية في الشهر الحرام، فسفَكَت الدمَ الحرامَ، وأخافَت الآمِنين، وظنَّت هذه الفِئةُ أنها ستُحقِّقُ بعضَ أهدافها، ولكنَّ الله تعالى - بمنِّه وكرمِه - وقَى شرَّها، وردَّها على أعقابها خائبة.
نسألُ الله تعالى أن يُطفِئَ فتنةَ هذه الفِئة المُتسلِّلة المُعتدين، وأن يكُفَّ شرَّهم ويدحرَهم، في عافيةٍ لجُنودنا، وحفظٍ لحُدودنا، وأمنٍ للمُواطنين في الحُدود، وأن يتقبَّل المقتولين من الجنود في الشهداء؛ فإنهم قاتَلوا عن الدين، وحَوطَة الإسلام، وأن يرُدَّ المفقودين سالِمين، وأن يُحسِن عزاءَ خادمَ الحرمين ووُلاة الأمر وذوي المقتولين فيمن دافَعُوا عن حَوطَة الإسلام وماتوا.
فنسأل اللهَ - عز وجل - أنيغفِر لهم، وأن يُعيذَنا من مُضِلاَّت الفِتَن، وأن يحفظَ لنا أمنَنا واستقرارَنا، وفي هذه الساعة الُبارَكة ندعو بالعزاء والمغفرة لمن لقُوا ربَّهم يوم الأربعاء الثامن من هذا الشهر بسبب السيل. فأحسنَ اللهُ عزاءَ خادمَ الحرمين الشريفين فيهم، وأحسنَ اللهُ عزاءَ ذوِيهم وجميعَ أقربائهم، وأجارَهم في مُصيبتهم، وعوَّضَ الموتَى بحياتهم جناتِ النعيم، وأحسنَ الله عزاءَ وُلاة الأمر فيهم.
والصبرُ مركَبُ المُؤمنين، قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22، 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المُرسَلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه.

[center
]الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ العظيمُ، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله الصادقُ الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
عباد الله:
بادِروا بالأعمال الصالحات، واهجُروا المُحرَّمات، يا من حجَّ بيت الله الحرام! احفَظ حجَّك من المُبطِلات، وزكِّه بالطاعات.
يا من وُفِّقتَ لصيام عرفات! لا تأتِ من القبائح ما يُوجِبُ حِرمانَك من الخيرات.
يا من قدَّم قُربان الأضحى وصلَّى مع المُسلمين! قد أصبتَ خيرًا كثيرًا، فتزوَّد ليوم الممات، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33].
وعن معاذ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ».
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين يا رب العالمين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيّك يا رب العالمين، يا قوي يا عزيز.
اللهم أظهِر أنوارَ السنة، اللهم أظهِر أنوارَ السنة في مكانٍ يا رب العالمين وكل زمان، اللهم أبطِل البِدعَ، وأذِلَّ أهلَها يا رب العالمين، واجعلنا ممن اتَّبعَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإحسانٍ، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم وُلاةَ أمورنا، اللهم ألِّف بين قلوب المُسلمين، اللهم يا رب العالمين اغفِر لنا وللمُسلمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اغفِر لأمواتنا وأموات المُسلمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك يا رب العالمين، اللهم انصُر به دينَك، اللهم واجمع به كلمةَ المُسلمين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، وأصلِح له بطانتَه، اللهم أعِنه على ما تُحبُّ وترضى، وعلى ما فيه الخيرُ للإسلام والمُسلمين والبلاد والعباد، اللهم وفِّق وليَّ عهده لما تُحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، اللهم وفِّق النائبَ الثاني لما تحبُّ وترضى، ولما فيه الخيرُ والعِزُّ للإسلام والمُسلمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[/center]

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-18-2012, 08:38 AM   رقم المشاركة : 99

 

[font="arial"

]وصايا إلى الحجاج

ألقى فضيلة الشيخ عبد البارئ بن عواض الثبيتي - حفظه الله - خطبة الجمعة 24 ذي الحجة 1433 هـ بعنوان: "وصايا إلى الحجاج"، والتي وجَّه فيها الوصايا والنصائحَ لعموم المسلمين، وخصَّ بذلك حُجَّاجَ بيت الله تعالى بضرورة المُحافظة على الطاعات، وتجنُّب المعاصي والخطيئات، واغتِنام كلِّ فرصةٍ سانحةٍ لطاعة الله والإقبال عليه، وحذَّر من الفُرقة والاختِلاف، كما بيَّن أنه حان الوقتُ لأمة الإسلام أن تقُود الأُمم كما كانت من قبلُ؛ باعتِزازها بدينها، ونشرها له في رُبوع الدنيا، والالتزام بالمنهج الصحيح المُستقيم.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله الذي جعلَ السعادةَ والطُّمأنينة ثمرةَ الطاعة، فلا خوفَ ولا حُزن ولا وجَل، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على نعمِه، وأستغفِِرُه من كلِّ تقصيرٍ وزَلَل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرَ بلُزوم الطاعة ودوامِ العمل، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه كان خيرَ الصابرين عند كلِّ أمرٍ جلَل، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً دائمةً لا يقطعُها كلَلٌ أو ملَلٌ.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وراقِبوه في السِّرِّ والنَّجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
حُجَّاج بيت الله الحرام:
لقد تشرَّفَت هذه البلادُ بخِدمتكم؛ فكم سهِرَت من أعيُن، وكم بُذِلَت من جهود، وكم أُنفِقَ من أموال، نسألُ الله أن يُبارِك في جُهد المُخلِصين، ويكتُب لهم الأجرَ الجزسيلَ والثوابَ العظيمَ.
المُسلمُ في هذه الحياة ومع تجدُّد الأيام وانقِضاء الأعوام لا بُدَّ له من ذِكرٍ وتذكيرٍ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
وأُذكِّرُ نفسي وإياكم - أيها المسلمون - بهذه الوصايا:
حُجَّاج بيت الله الحرام! الإسلامُ هو الحِصنُ الحصين، والإيمانُ هو الدِّرعُ المتين، والعِزَّةُ في ظلِّ هذا الدين، كما قال عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: "نحن كنا أذلَّ قومٍ، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلبُ العِزَّةَ بغيره أذلَّنا الله".
فالشكرُ لله على ما حبانا من نعمةِ الإسلام، والتوفيق للحجِّ إلى بيته الحرام، الشُّكرُ وإن قلَّ ثمنٌ لكلِّ نوالٍ وإن جلَّ، فإذا لم يشكُر المرءُ ربَّه فقد عرَّضَ النعمةَ للزَّوال، وأعلى مقامات الشُّكر: الاستِجابةُ لله وللرسول، والمُبادرة إلى الطاعات وفعل الخيرات؛ فإن نفسَ المُؤمن لا تستكين، وهمَّتُه لا تلين حتى ينالَ الأجرَ الجزيل، وكلما سكَنَت نفسُه أحدثَ لها نشاطًا وقال لها: يا نفسُ! أبشِري؛ فقد قرُب المنزل، ودنا اللاقِي، فلا تنقطِعي في الطريق دون الوُصول، فيُحالُ بينك وبين منازلِ الأحِبَّة.
من الطاعات التي تزيدُ الإيمان: المُبادرةُ إلى حِلَق العلمِ ومجالس العُلماء، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، وزيارة المرضَى، وإصلاح ذات البَيْن، وإماطة الأذى، واتباع الجنائز.
بمعنى: أن يغتنِمَ المُسلمُ كلَّ فرصةٍ سانِحةٍ؛ فإن الرَّجُل إذا حضَرَت له فُرصةُ القُربَى والطاعة فالحَزمُ كلُّ الحَزمِ في انتِهازِها والمُبادرة إليها؛ فإن العزائمَ والهِمَم سريعةُ الانتِقاض قلَّما ثبَتَت.
وأيُّ حرمانٍ أشدُّ من أولئك الذين تترادَفُ عليهم الفضائلُ الدينية ثم يُعرِضون عنها، ولا شيءَ أقبَحُ بالإنسان من أن يكون غافِلاً عن هذه الفضائل والعلوم والأعمال الصالِحة؟!
قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حجَّ لله فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَتْه أمُّه»، وقال - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم عرفة: «أحتسِبُ على الله أن يُكفِّرَ السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعده».
فيا مَن غفرَ الله ذنبَه، يا مَن تلألأت صحيفتُه طُهرًا ونقاءً! الحذرَ الحذرَ من الذنوبِ والآثام التي تُسوِّدُ الصحائِفَ وتُلوِّثُ القلوبَ، حافِظوا على صحائِفكم بيضاء نقيَّة، حصِّنوا أنفُسكم لئلبا تزِلَّ قدمٌ بعد ثُبوتها؛ فللذنوب عواقِبُ جِسام تُطفِئُ نورَ الطاعة، وتُورِثُ العبدَ وحشةً، والقلبَ ظُلمةً، سببٌ لهوان العبدِ على ربِّه؛ بل هي شُؤمٌ وذلٌّ في الدنيا والآخرة، إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد: 11].
حرِيٌّ بالعاقلِ أن يكون مُراقِبًا لربِّه، مُحاسِبًا لنفسه، مُتدبِّرًا عاقِبَته، مُحافِظًا على الصلاة مع الجماعة، مُعلِّقًا قلبَه بالمساجِد، تالِيًا كتابَ الله.
سِمةُ المُهتدين: مُجاهدةُ النفس على هجر الهوى، وقمع الشهوات المُحرَّمة، ومن تمرَّن على دفعِ الهوى المأمونِ العواقِب تقوَّى على تركِ ما تُؤذِي عواقِبه؛ ذلك أن مُدمِني الشهوات يصيرُون إلى حالةٍ لا يلتذُّون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركَها.
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله الحرام:
لقد تنوَّعت في هذا العصر الشهوات، وترادَفَت الشُّبُهات، وهذا يتطلَّبُ أن يكون المُؤمنُ قويًّا في عقيدته وإيمانه وسُلوكه، قويًّا في إيمانه بالقضاء والقدَر، قويًّا في بدنه وفِكره وقلَمه، قويًّا في علمه واقتِصاده وصناعته، قال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ»؛ رواه مسلم.
حُجَّاج بيت الله! في رِحاب هذا المسجد والمسجد الحرام؛ بل في كلِّ منسَكٍ من مناسِكِ الحجِّ ترى واقِعًا غيرَ مشهودٍ، فالأجسادُ تقارَبَت، والقلوبُ تآلَفَت، والشعائرُ توحَّدَت، والمشاعِرُ تهذَّبَت، إنك ترى الأمةَ الإسلاميَّةَ في أسمى معانيها، كأنهم أغصانٌ مُتشابِكة مُؤلَّفة من دوحةٍ واحدةٍ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63].
فلا عُنصريَّة ولا عِرقيَّة، هذه الأُخُوَّة لا وزنَ لها إذا كانت مُجرَّد شِعارٍ يُتغنَّى به، وشكليَّاتٍ يُتجمَّلُ بها، الأخُ لا يظلِمُ أخاه ولا يُسلِمُه ولا يخذُلُه ولا يحقِرُه، يغفِرُ الزَّلَل، يسُدُّ الخلَل، يقبَلُ العِلَل.
قال إبراهيمُ النَّخَعي: "لا تقطع أخاك ولا تهجُره عند الذنب؛ فإنه يرتكِبُه اليوم ويترُكُه غدًا".
الأُخُوَّة - عباد الله - تقتضي كفالةَ الأيتام، رحمة الضعيف، إطعام الجائِع، مُواساة المريض، توقير الكبير، مُساعدة العاجز والمُعاق، الاستِجابة لصرخات المُستغيثين وتفريج كُرباتهم.
أيها المسلمون:
تغمُر المُسلِمَ الفرحةُ وهو يرى هذه الجُموعَ المُبارَكة، ثم لا تلبَثُ الفرحةُ أن تخبُو فيُصابَ بالأسَى والحُزن حين يتذكَّرُ اختلافًا مقيتًا قد نخَرَ في جسد الأمة، وفُرقةً عظيمةً قطَّعَت أواصِرَ الأُخُوَّة، فتآكَلَت بُنيتُها الداخليَّة، واقتَتَلت فيما بينها، وحوَّلَ بعضُهم الآراء إلى تحزُّبٍ فكريٍّ، أو تنطُّعٍ سياسيٍّ.
وطائفة تتعصَّبُ لمذهبها، وفتاوى أئمتها وعلمائها، ولا تقبَلُ الردَّ إلى الله ورسوله عند الاختِلاف في شيءٍ من أمور الدين، كيف تختلفُ الأمةُ ونبيُّها واحدٌ، وقِبلتُها واحِدة، وكتابُها واحِدٌ؟!
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إنما أُنزِل القُرآن فقرَأناه وعلِمنا فيما أُنزِل، وإنه سيكونُ أقومٌ يقرءون القُرآنَ ولا يدرُون فيما أُنزِل، فيكون لكلِّ قومٍ فيه رأي،فإذا كان كذلك اختلَفوا"؛ أي: أنهماختلَفوا بسبب الجهل.
قال الله تعالى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46]، وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطانَ قد أيِسَ أن يعبُد المُصلُّون في جزيرة العربِ، ولكن في التحريش بينهم»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ».
ودورُنا: العملُ على وحدة الأمة ونبذِ الاختِلاف، وتعميق أواصِر العلاقة بين المُسلمين.
عباد الله:
لقد آنَ الأوانُ لأمة الإسلام أن تتسنَّمَ ذُرَى الرُّقِيِّ، فهي خيرُ أمةٍ أُخرِجَت للناس، والعالَمُ اليوم ينشُدُ مُنقِذًا، ويعيشُ فراغًا، وواجبُنا نشرُ الدين والدعوة إلى الله؛ فأمَّتُنا صاحبَةُ رسالةٍ، وحامِلةُ دعوةٍ، واجبُنا أن نُبلِّغَ دينَ الله، ونُظهِرَه بالعمل بالقُدوةِ الحسنة، والأُسوةِ الصالحةِ؛ لنُعيدَ للإسلام أمجادَه، ونُعطِّرَ تاريخَه. إن صلاحَ المُؤمن هو أبلغُ خُطبةٍ تدعُو الناسَ إلى الإيمان.
قال الأوزاعيُّ - رحمه الله -: "إن المُؤمنَ يقول قليلاً ويعملُ كثيرًا، وإن المُنافِقَ يقول كثيرًا ويعملُ قليلاً".
والناظرُ في أوضاعنا وأواع المُجتمعات الإسلامية في هذا العصر يجِدُ أن عقيدتَنا وأخلاقَنا لا تكادُ تتواءَمُ مع حياتنا العملية في بعض مناحي الحياة، والمُطابقةُ بين القول والفعل علامةُ الصِّدق، ودليلُ الإيمان، وأساسُ قَبولِ الدعوة.
ولذلك يقول الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "عِظِ الناسَ بفعلِك، ولا تعِظْهم بقولِك".
بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشُّكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ تُقاته، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن المُتأمِّلَ في بعض دِيار المُسلمين يلحَظُ أن المساجِد قد أصابَها بعضُ الهَجر، فتعطَّلَ تأثيرُها وفُقِد أثرُها، وربُّنا - تبارك وتعالى - يقول: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور: 36].
نحن مُطالَبون اليوم أن نُعيدَ للمسجد رسالتَه؛ ليكون موطِنَ عبادةٍ، ومحضِنَ تربيةٍ، ومركزَ علمٍ وإصلاحٍ لغرس القِيَم ونشر الفضائل.
فعن عُقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفلا يغدُو أحدُكم إلى المسجدِ فيعلمَ أو يقرأَ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتَيْن، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ له من أربع، ومن أعدادهنَّ من الإبِل»؛ رواه مسلم.
ألا وصلُّوا - عباد الله - على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وأزواجه وذريَّته، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، وبارِك على محمدٍ وأزواجه وذريَّته، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.
اللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، اللهم إنا نسألُك رِضوانَك والجنة، ونعذُ بك من سخَطك ومن النار.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ يا رب العالمين.
اللهم أعِنَّا ولا تُعِن علينا، وانصُرنا ولا تنصُر علينا، وامكُر لنا ولا تمكُر علينا، واهدِنا ويسِّر الهُدى لنا، وانصُرنا على من بغَى علينا.
اللهم اجعَلنا لك ذاكِرين، لك شاكِرين، لك مُخبتين، لك أوَّاهين مُنيبين.
اللهم تقبَّل توبتَنا، واغسِل حوبتَنا، وثبِّت حُجَّتنا، وسدِّد ألسِنتَنا، واسلُل سخيمةَ قلوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفَظ المُسلمين في بلاد الشام، اللهم احفَظهم بحفظِك، واكلأاهم برعايتك، اللهم ألِّف بين قلوبِهم، وأصلِح ذاتَ بينهم، اللهم كُن لهم مُؤيِّدًا ونصيرًا وظهيرًا يا رب العالمين، اللهم فرِّج همَّهم، ونفِّس كربَهم، ويسِّر أمرَهم، وسدِّد رميَهم، واحفَظهم في برِّك وجوِّك يا رب العالمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إن طاغية الشام وأعوانَه قد بلَغوا في الظلم مُنتهاه، وفي الجُرم غايتَه، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعَل الدائرةَ عليهم يا رب العالمين.
اللهم مُنزِلَ الكتاب، مُجرِيَ السحاب، هازِمَ الأحزاب، اهزِمهم وانصُر المُسلمين عليهم، إنك على كل شيءٍ قدير، يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نسألُك يا الله بأنك أنت الواحد الأحد الصمد، اللهم يا قوي يا عزيز، اللهم إنا فُقراء إليك، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم سُقيا رحمةٍ لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ يا أرحم الراحمين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين.
اللهم احفظ حُجَّاج بيتك الحرام، اللهم رُدَّهم إلى ديارهم سالمين غانِمين مقبُولين فرِحين مُستبشرين، اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملاً صالحًا مُتقبَّلاً مبرورًا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لما تُحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك يا رب العالمين، اللهم هيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ الناصِحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.[/font]

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-18-2012, 08:45 AM   رقم المشاركة : 100

 

[font="arial"

]سعادة العبد في طاعة ربه

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة 2 محرم 1434 هـ بعنوان: "سعادة العبد في طاعة ربه"، والتي تحدَّث فيها عن طاعة الله تعالى، وأنه ما شقِي بذلك أحد، ولا سعِد بمُخالفة ذلك أحد، ونبَّه إلى أن الليالي والأيام كم شهِدَت على أقوامٍ بالخير والشرِّ، وكم هلكَ أناسٌ ولم يدَّخِروا نعَمَ الله عليهم ليوم القيامة. فاعتبروا يا أولي الأبصار.

الخطبة الأولى

الحمد لله العزيز الغفار، خلق الخلقَ ودبَّرهم بقُدرته وعلمه ورحمته هو الواحد القهَّار، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك الملِكُ الجبار، يُقلِّبُ الليل والنهار، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المُصطفى المُختار، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأبرار.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه؛ فتقوى الله وقايةٌ من عقوباته، وفوزٌ بجناته، ولا تكونوا من الذين نسُوا لقاء الله، فخسِروا آخرتهم، وذهبَت دُنياهم.
عباد الله:
اعلموا أنه ما شقِي بطاعة الله أحد، وما سعِد بمعصية الله أحد، قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 52]، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: 23].
أيها الناس:
إن ربَّكم - تقدَّست أسماؤه - رحيمٌ قديرٌ، حكيمٌ عليمٌ، جعلَ لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ والجوارحَ؛ لتشكروه بالعبادة، قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].
ومن رحمته - سبحانه -: أن نصَبَ للمُكلَّفين الآيات الكونية، وأوجدَ هذه المخلوقات البديعة الصُّنع؛ ليعرِفَ الخلقُ ربَّهم - عز وجل -، ليتقرَّبوا إليه بفعل أوامره وترك نواهيه، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5، 6]، وقال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 37، 38]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62].
قال المُفسِّرون: "جعلَهما يتعاقَبان توقيتًا لعبادة الله تعالى من العباد؛ فمن فاتَه عملٌ بالليل استدرَكَه بالنهار، ومن فاتَه عملٌ بالنهار استدرَكَه بالليل".
فالليلُ والنارُ آيتان من آيات الله، تعاقبَا على الأرض منذ خلقَ الله السماوات والأرض، وجعلَ الله فيهما منافعَ للخلق لا يُحصِيها أحدٌ إلا الله تعالى، وفيهما من العِبَر والمواعِظ ما لا يأتي عليه الحصرُ والعدُّ.
يومٌ وليلٌ يمضِيان يكون منهما الشهر، وشهرٌ مع شهر تكون منهما السنة، وسنةٌ بعد سنة تكون منهما أعمارُ الأفراد والأجيال والأمم والأحياء في هذه الدنيا، ثم يُحشَرون إلى الله فيُجازِيهم بأعمالهم؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ولا يظلم ربك أحدا.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40].
هذا الليل والنهار صحِبَا أقوامًا مضَوا، فشهِدا عليهم بسُوء أعمالهم، فهم بشرِّ المنازل، وصحِبَا أقوامًا مضَوا، فشهِدا لهم بحُسن أعمالهم، فهم بخير المنازل.
ألا من مُتذكِّر؟ ألا من مُعتبِر؟ ألا ترحمُ نفسكَ أيها الغافل؟ ألا تتوب إلى الله تعالى أيها المُتمادي؟ ألا تُقلِعُ عن المعاصِي أيها المُغترُّ بحلمِ ربِّه؟ ألا تستحِي من الله - عز وجل - الذي أنعمَ عليك بالنعم الظاهرة والباطنة، وأنت تُبارِزُه بالذنوب؟ ألا يلينُ قلبُك القاسي للمواعِظ والآيات؟ ألا تُحاسِبُ نفسكَ قبل الممات؟ ألا تعلم أن لذَّات المُحرَّمات تنقضِي وتُنسَى كأن لم تكن، وتبقى التَّبِعات؟
أما ترى كثرةَ الغادين والرَّائِحين الذين يُشيَّعون إلى رب العالمين، وأنت غدًا على النعشِ من المحمولين؟ أتظنُّ أن الله غافلٌ عما يعمل الظالمون؟!
ويا أيها المؤمن! ألا تحبُّ أن تستكثِر من الخيرات قبل أن يُحالَ بينك وبين الأعمال الصالحات؟!
إن في انقِضاء عام وإقبال عام لمواعِظ وعِبَرًا لأُولي الألباب، وآيات لأُولي الإيمان والبصائر الذين يخشَون ربَّهم ويخافون سُوءَ الحِساب.
تُذكِّرُنا السُّنون الخاليات بما أودعَ فيها الخلقُ من الأحداث والأعمال شاهدةً لهم أو عليهم؛ فالرُّسُل - عليهم الصلاة والسلام - وأتباعُهم أودَعوا هذه السنين دلائلَ الأعمال وصالحَ الأقوال والفِعال، نُصرةً لدين الله - عز وجل -، وعبادةً لرب العالمين، وهدايةً للخلق، ودعوةً إلى الله تعالى، ورحمةً بالناس، وصبرًا على الأذى في سبيل الله، ففازوا بخيرَي الدنيا والآخرة، ونجَوا من كلِّ شرٍّ.
قال الله تعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 88، 89].
وأعداءُ الرُّسُل وأتباعُهم في العداوة أودَعوا السنين الخاليات الكُفرَ والمعاصِي والمُحادَّة لله ولرسله - عليهم الصلاة والسلام -، فخابُوا وخسِروا وكُبِتوا وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون، فلم يُمتَّعوا في الدنيا إلا قليلاً، ولم ينالوا نصيبًا في الآخرة.
قال الله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 42- 44]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف: 40، 41].
ومن أعظم الحوادث وجلائل الأعمال: هجرةُ سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - التي نذكُرها كلَّ عام، الهجرةُ من مكة إلى المدينة بأمر الله تعالى، والتي جعلَها نصرًا لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40].
فجعلَ لله هذه الهِجرةَ فاتِحةَ نصرٍ للإسلام إلى يوم القيامة، والمُسلمُ في هذا الزمان إذ لم يُدرِك فضلَ الهِجرة، فقد فتحَ الله له بابَ هجرةٍ أخرى، فيها عظيمُ الأجور والثواب، فقد يسَّر الله تعالى للمُسلم في هذا الزمان وما بعده أن يُهاجِرَ بقلبه إلى الله من الشركِ كلِّه إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن المُعوِّقات عن عبادة الله إلى الاجتهاد في العبادة، ومن البِدع إلى التمسُّك بسنة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن الهوى إلى ما يحبُّ الله ورسولُه - عليه الصلاة والسلام -.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العبادةُ في الهَرجِ - أي: في الفتن - كهِجرةٍ إليَّ»؛ رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المُسلِمُ من سلِمَ المُسلِمون من لسانه ويدِه، والمُهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله».
والآياتُ القرآنيةُ هي التي تهدي القلوب، وتُنيرُ البصائر، وتُصلِحُ الإنسان، وترفعُ اهتماماته، وتُنظِّمُ حياتَه، وتُغذِّي إيمانَه، وتُقيمُه على الصراط المُستقيم.
والاعتبارُ والانتفاعُ بالآيات الكونية مع العمل بالآيات القُرآنية يبلغُ به الإنسانُ درجةَ الكمال والفضائل، ويتطهَّرُ من الرذائل، قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].
ولكنَّ القرآن الكريم لا ينفعُ إلا من تدبَّرَه وفهِمَه على فهم السَّلَف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ؛ فالقُرآنُ حُجَّةُ الله على الناس أجمعين، قال الله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المُرسَلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وليِّ المُتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه.
عباد الله:
اعملوا لحياتكم الأُخروية؛ فهي الحياةُ حقًّا، قال الله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 22- 30].
واحفَظوا وصيَّةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجَّة الوداع؛ حيث قال: «أيها الناس؛ اتقوا الله»، وفي رواية أحمد: «اعبُدوا الله، وصلُّوا خمسَكم، وصُوموا شهرَكم، وأدُّوا زكاةَ أموالكم»، وفي "مسند بقيّ بن مخلد": «وحجُّوا بيتَكم، وأطيعوا ذا أمرِكم، تدخُلوا جنَّةَ ربكم»؛ رواه أحمد، والترمذي واللفظُ له.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرفعُه: «اغتنِم خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هرمك، وغِناك قبل فقرك، وصحَّتك قبل سُقمك، وفراغَك قبل شُغلك، وحياتَك قبل موتِك».


عباد الله:
إن اللهَ أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال - جلَّ من قائل -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلُّوا وسلِّموا على سيدِ الأولين والآخرين وإمام المُرسلين، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريَّته صلاةً وسلامًا كثيرًا، اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعين، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمُشركين يا رب العالمين، اللهم دمِّر أعداءَك أعداء الدين، اللهم دمِّر أعداءَك أعداء الدين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيّك يا رب العالمين.
اللهم يسِّر أمورَنا، اللهم يسِّر أمورَنا، واشرَح صُدورَنا، وأعِذنا من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأعِذنا من شرِّ كل ذي شرٍّ يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم أصلِح ولاةَ أمورنا، واجعل بلادَنا آمنةً مُطمئنَّة، وسائرَ بلاد المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، اللهم أعِنه على كل خيرٍ لشعبه ولوطنه وللمُسلمين يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّرُ، لا إله إلا أنت.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا رب العالمين، اللهم أنت أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألُك بقُدرتك على كل شيء، وبرحمتك التي وسِعَت كلَّ شيء، وبعلمِك الذي أحاطَ بكل شيء، نسألُك اللهم أن ترحمَنا، اللهم أنزِل علينا اليثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
اللهم اغفِر لموتانا وموتى المُسلمين يا رب العالمين، اللهم اغفِر لموتانا وموتى المُسلمين إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وفُجاءة نقمتِك، وتحوُّل عافيتك، وجميع سخطِك.
اللهم إنا نعوذُ بك من سوء القضلاء، وشماتة الأعداء، ومن درَك الشقاء، ومن جهد البلاء.
نسألُك اللهم الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، ونعوذُ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ.
اللهم أعِذنا وذريَّاتنا من إبليس وذريَّته وجنوده يا رب العالمين، اللهم أعِذ المُسلمين وذريَّاتهم من الشيطان لرجيم وذريَّته.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 90، 91].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.[/font]

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:11 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir