يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-05-2013, 10:41 AM   رقم المشاركة : 131
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

غزوة أُحُد وبشائر النصر
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 29 صفر 1434هـ بعنوان: "غزوة أُحُد وبشائر النصر"، والتي تحدَّث فيها عن غزوة أُحُد وبعض الوقفات والعِبَر والتأمُّلات، وبيَّن أنها ليست مجرَّد قصةٍ ذهبَت وانقضَى زمانُها؛ بل إن أحداثَها تتكرَّر في زماننا هذا وفي كل زمانٍ، وينبغي على المُسلمين التنبُّه لأحداثِها وتركِ المُخالفات لأوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يقَعوا فيما وقعَ فيه سلَفُهم.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28].
أيها المسلمون:
يعيشُ العالمُ اليوم أحداثًا كُبرى، وتحوُّلاتٍ تاريخيَّة هائلة، وآلامًا تضيقُ بها النفوسُ، تموجُ الأرضُ بالفتن والتحوُّلات في النُّظم وفي المُعتقَدات، في تسارُعٍ يدَعُ الحليمَ حيرانًا. فتنٌ كقطع الليل المُظلِم، ولا عاصِمَ اليوم من أمر الله إلا من رحِم. ونحن أمةُ دينٍ وأتباعُ رسالة، وفي أيدينا كتابٌ وسنةٌ.
ومعجزةُ القرآن الخالِدة: أنه نزل قبل أربعة عشر قرنًا، وخاضَ بهذه الأمة معركةً كُبرى حوَّلت تاريخَها وتاريخَ البشريَّة كلَّه معها، ومع ذلك فهو يُعايِشُ الحياة الحاضِرة وكأنَّما هو يتنزَّلُ اليوم لتوجيه المُسلمين في أحداثِهم الراهِنة، وفي صِراعهم مع الأحداث حولَهم.
أيها المسلمون:
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ[آل عمران: 137، 138]. إن القرآن ليربِطُ حاضِر الأمة بماضِيها، فيرسُمُ بذلك مُستقبلَها.
عباد الله:
تلكم الآيات الماضِيات نزلَت في معركة أُحُد، والتي وقعَت في شهر شوال من السنة الثالثة من الهِجرة؛ وذلك أن المُشركين أرادوا الانتقام لهزيمتِهم في بدرٍ، فحشَدوا جيشَهم ثلاثة آلاف مُقاتلٍ على أطراف المدينة، واستشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، وكان يُريد التحصُّن في المدينة، لكنَّ كثيرين ألحُّوا على الخروج، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبعمائةٍ من أصحابه بعد أن قام رأسُ المُنافِقين بتخذيل الناس والرجوع بثُلُث الجيش، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن بقِيَ معه عند جبل أُحُد، وجعل الرُّماةَ على مُرتفعٍ وأمرَهم ألا يبرَحوا مواقِعَهم.
ودارَت رحا المعركة، وانتصَر المُسلمون في بادِئ الأمر، حتى فرَّ المُشرِكون وسقَط لواؤُهم، واستعجلَ بعضُ الرُّماة فنزَلوا من الجبل يظنُّون الأمرَ انتهى، ثم التفَّ المُشرِكون وكرُّوا على المُسلمين من خلفِهم، فقتلُوا سبعين من خِيار الصحابة المؤمنين، وشجُّوا رأسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسَروا رباعيَّته، وأشاعُوا أنهم قتَلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأوقعَ ذلك في قلوب المؤمنين حُزنًا عميقًا، وألمًا شديدًا، وهزيمةً وانكِسارًا.
ثم أشاعَ المُشرِكون أنهم سيقصِدون المدينةَ، فنادَى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجرحَى والمُنهَكين المُصابِين، فاستجابُوا للنداء على ما بِهم من الجِراحات، ونفَروا لمُناجَذة العدو، وصدَقوا مع العدوِّ ولم يأبَهوا للمُخذِّلين.
وصدَرَت خلال ذلك مقالاتٌ وعبارات، ومواقِفُ وبُطولات، وانتِكاساتٌ وانكِسارات، ونزل في هذه الواقِعة قرآنٌ يُتلَى إلى يوم القيامة، ستون آيةً من سورة آل عمران ليست مجرد تأريخٍ لواقعةٍ مضَت وانتهَت، وإنما يعيشُ قارِئَها تلك الأحداث، ويرى المُسلمين ومن حولهم أعداؤُهم يتربَّصُون بهم، ويُبيِّتون لهم، ويُلقون بينهم بالفِرية والشُّبهة، ويتحاقَدون عليهم، ويجمَعون لهم، ويلقَونهم في الميدان، وينهزِمون أمامَهم، ثم يكِرُّون عليهم فيُوقِعون بهم. فما أشبهَ الليلة بالبارِحة.
أيها المؤمنون:
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 140، 141]. إن تعاقُب الشدَّة والرخَاء تكشِفُ معادِن النفوس وطبائِع القلوب، ودرجة الهلَع فيها والصبر، ومدَى الثِّقَة فيها بالله أو القُنوط.
وإن من مصلَحة الأمة أن تُصابَ برجَّاتٍ عنيفةٍ تعزِلُ الخبَثَ عنها، وقد اقتضَت حكمةُ الله أن يقعَ هذا التمحيصُ في أُحُد، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ[آل عمران: 179].
ومُداولةُ الأيام، وتعاقُبُ الشدَّة والرخاء محكٌّ لا يُخطِئُ، وميزانٌ لا يظلِم.
وفي معركة أُحُد انكشَفَت عورةُ المُنافِقين، وظهرَ أثرُهم كما هو في كل زمانٍ، يستغِلُّون أوقاتِ الضعفِ لبلبَلَة القلوب، وخلخلَة الصُّفوف، وإشاعة الخَوَر، مع إثارة الفتن والشُّبُهات لهَدم كِيان المُجتمع المُسلم، بدءًا بعقيدته وقِيَمه، حتى يستسلِم للأقوياء الغالِبين.
وكانت آثارُ المعركة تمحيصًا للنفوس، وتمييزًا للصفوف، وتحرُّرًا من تمييع القِيَم وتأرجُح المشاعِر؛ وذلك بتميُّز المُنافِقين ووضوحِ سِماتِهم.
ولئِن نجحَ ابنُ أُبيٍّ في التأثير على ثُلُث الناس حتى رجَعوا إلى المدينة وتخلَّوا عن نُصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقد صمَدَت صفوةٌ نقيَّةٌ، حمَلَت أعباءَ الدين، وأنفقَت وقاتَلَت، وصبَرَت وصابَرَت، رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[الأحزاب: 23].
بجِهادِهم وتضحياتِهم حفِظَ الله مصيرَ الإسلام في أول الزمان، وبمثلِ بُطولتهم وثباتِهم وصبرِهم يحفظُ الله وجودَ الإسلام في آخر الزمان.
أيها المسلمون:
لقد كان الله - سبحانه وتعالى - قادرًا على أن ينصُر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ودينَه وأولياءَه منذ اللحظةِ الأولى، وأن يُهلِك أعداءَهم بلا كدٍّ من المؤمنين ولا عناءٍ، ولكنَّ الله تعالى أراد تربيةَ المُسلمين ليُبتلَوا، وليقُودوا البشريَّةَ قيادةً راشِدةً على ما تحمِلُه البشريةُ من شهواتٍ ونزَواتٍ وانحرافٍ.
وهذه القيادةُ تقتضِي صلابةً في الدين، وثباتًا على الحق، وصبرًا على الشدائد، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد: 4]. هذه سُنَّةُ الله؛ الابتلاءُ قبل التمكين.


عباد الله:
وقبل أن تمضِي الآياتُ في عرضِ المواقفِ في معركة أُحُد؛ يُذكِّرُ الله بالمعركة التي انتهَت بالنصر، وهي معركةُ بدرٍ الكُبرى، لتكون هذه أمام تلك مجالاً للمُوازَنة وتحمُّل أسباب النصر وأسباب الهَزيمة، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ[آل عمران: 125].
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} إنه الصبرُ والتقوى بكل معانيها ومعالِمِها، وذلكم هو سرُّ النصر.
أيها المؤمنون:
وفي سُورة آل عمران وفي غمرة التوجيهات واللَّفَتات يُحذِّرُ الله من دسائِسِ أهل الكتاب، ولم يكن يُجاوِرُهم في المدينة إلا اليهودُ، ويُحذِّرُ الله من الرُّكون إلى الكافِرين أو طاعتِهم، ونصفُ السورة الأول يُصوِّرُ جانِبًا من جوانِبِ الصِّراع بين العقيدة الإسلامية والعقائِد المُنحرِفة، ويُحاجُّ أهلَ الكتاب ويُناظِرُهم، ويُحاوِرُهم ويردُّ شُبُهاتهم. وهو ليس جِدلاً نظريًّا فحسبُ؛ إنما هو جانِبٌ من المعركة الكبيرة الشامِلة بين المُسلمين وأعدائِهم الذين يتربَّصُون بهم، ويتحفَّزون من حولهم، ويستخدِمون في حربِهم كلَّ الأسلِحة وكلَّ الدسائِس والوسائل، وفي أولِها: زعزعةُ العقيدة، وهي ذاتُها المعركةُ التي ما تزالُ ناشِبةً إلى هذه اللحظة بين المُسلمين وأعدائِهم.
وفي ثنايا الآيات يُحذِّرُ اللهُ من الرِّبا ويأمُرُ بالتقوى والمُسارَعة إلى الجنة، وتطهير النفوس وتقوية القلوب، والسيطرة على الأهواء والشَّهوات، ويحُثُّ على الصدقة والعفو، وإشاعة الوُدِّ والتسامُح والإحسان، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[آل عمران: 134].
فالنفسُ لا تنتصِرُ في الحروبِ إلا حين تنتصِرُ في القِيَم والمبادِئ، والذين تولَّوا يوم التقَى الجمعَانِ في أُحُد إنما استزلَّهم الشيطانُ ببعضِ ما كسَبُوا من الذنوب، والذين انتصَروا في معارِك العقيدة وراء أنبيائِهم هم الذين بدؤُوا المعركةَ بالاستِغفار من الذنوب، والالتِجاء إلى الله، والتطهُّر من المعاصِي.
ولعلَّ ما ترتَّبَ على عِصيان الرُّماةِ لأمر الرسول القائِدِ في معركة أُحُد درسٌ عميقٌ يتعلَّمُ منه المُسلمون في كلِّ مواجهةٍ قيمةَ الطاعة، وأن الجماعةَ التي لا يحكُمُها أمرٌ واحدٌ ويغلِبُ على أفرادِها وطوائِفِها النزاعاتُ الفردية لن تنجحَ في معركةٍ، ولن تُفلِحَ في مُواجهةٍ، ما لم تتَّفِق على رغبةٍ واحِدةٍ ووِجهةٍ واحِدةٍ، وما لم تُخمِدْ كلَّ شُذوذٍ يحصُلُ في صُفُوفِها.
ولما دُهِشَ المُسلِمون للكارِثة التي قلَبَت عليهم الأمورُ قال الله لهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[آل عمران: 165].
عباد الله:
إن المُؤمنين مهما أصابَهم في سبيلِ الله فإنهم لا يفقِدون صِلتَهم بربِّهم، وثِقَتَهم بوعدِه الصادقِ لجُندِه بأنهم هم الغالِبون، وأن لن يخذُلَهم؛ بل سوف ينصُرُهم ويُؤيِّدُهم ويُعلِيهم ويُظفِرُهم بأعدائِهم، ويُظهِرُهم عليهم.
ولقد تركَت معركةُ أُحُدٍ آثارًا غائِرةً في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أُصيبَ في بدنِه إذ كُسِرَت سِنُّه، وجُرِحَ وجهُه، وشُجَّ رأسُه، فلم تزَل دماؤُه الزكِيَّةُ تسيلُ على وجهه الطاهِر حتى أُحرِقَت قطعةٌ من حصيرٍ فأُلصِقَت به، وأجهدَه العطشُ حتى جعلَ يقعُ على رُكبتَيْه، وأُصيبَ في أتباعِه؛ إذ أودعَ في سفْحِ الجبل سبعين رجلاً من أعزِّ الناس عليه وأقربِهم إلى قلبِه، وهو يقول: «أما واللهِ لوِددتُ أني غُودِرتُ مع أصحابِي بحِضن الجبل».
وأُصيبَ في أهلِه؛ حين أُخبِرَ بمقتل عمِّه حمزة، فوقفَ عليه وقد بُقِر بطنُه وجُدِعَ أنفُه ومُثِّلَ به، فكرِهَ أن ينظُرَ إليه وقال: «ما وقفتُ قطُّ موقِفًا أغيَ إليَّ من هذا».
بَيْدَ أن التسليمَ لله لم يلبَثْ أن مسحَ الأحزانَ العارِضة، وعادَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقَّدُ أصحابَه، ويُخفِّفُ ما نزلَ بهم، ويسكُبُ من إيمانِه على نفوسِهم ما يملؤها عزاءً ورِضًا عن الله، واستِكانةً لقضائِه.
عن رِفاعة الزُّرقيِّ - رضي الله عنه - قال: لما كان يومُ أُحُد وانكفَأ المُشرِكون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِه: «استَوُوا حتى أُثنِيَ على ربِّي»، فصارُوا خلفَه صُفُوفًا، فقال: «اللهم لك الحمدُ كلُّه، اللهم لا قابِضَ لما بَسَطتَّ، ولا باسِطَ لما قبضتَ، ولا هادِيَ لما أضلَلتَ، ولما مُضِلَّ لمن هدَيتَ، ولا مُعطِيَ لما منَعتَ، ولا مانِعَ لما أعطَيتَ، ولا مُقرِّبَ لما باعَدتَ، ولا مُباعِدَ لما قرَّبتَ، اللهم ابسُط علينا من بركاتك ورحمتِك، وفضلِك ورِزقِك، اللهم إني أسألُك النعيمَ المُقيمَ الذي لا يحولُ ولا يزولُ، اللهم إني أسألُك النعيمَ يوم العَيْلة، والأمنَ يوم الخوف، اللهم إني عائِذٌ بك من شرِّ ما أعطيتَنا وشرِّ ما منَعتَ، اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنه في قلوبِنا، وكرِّه إلينا الكُفرَ والفسوقَ والعِصيان، واجعَلنا من الراشِدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحيِنا مُسلمين، وألحِقنا بالصالِحين، غير خزايا ولا مفتُونين. اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين يُكذِّبُون رُسُلَك، ويصُدُّون عن سبيلِك، واجعَل عليهم رِجزَك وعذابَك، اللهم قاتِلِ الكفَرَة الذين أُوتُوا الكِتاب، إلهَ الحقِّ»؛ أخرجه الإمام أحمد وغيرُه.
عباد الله:
لقد ترفَّقَ القرآنُ الكريمُ في خِطابِ المُؤمنين بعد ما أصابَهم في أُحُدٍ؛ لكي لا يتحوَّل انكِسارُهم في الميدان إلى قُنوطٍ يفُلُّ قُواهم، وحسرةٍ تشُلُّ إنتاجَهم، قال الله - عز وجل -: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[آل عمران: 139، 140].
فجمعَ - سبحانه - في خِطابِه لهم بين تشجيعِهم وتقويةِ نُفوسِهم، وإحياءِ عزائِمِهم وهِمَمهم، وبين حُسن التعزِيَة وذِكر الحِكَم الباهِرَة التي اقتَضَت إدالَةَ الكفار عليهم، وعزَّى اللهُ نبيَّه وأولياءَه عمَّن قُتِلَ منهم في سبيلِه أحسنَ تعزِيةٍ وألطَفَها، وأدعاها إلى الرِّضا بما قضاهُ لهم، وأخبرَهم بما نالُوه من ثوابِه وكرامَته؛ ليُنافِسُوهم فيه، ولا يحزَنوا عليهم، وأعلَمَهم أن سببَ المُصيبةِ من عند أنفُسِهم ليحذَروا، وأنها بقضائِه وقدَرِه ليُوحِّدُوا ويتَّكِلوا، ولا يخافُوا غيرَه، وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدرًا وأعظمُ خطَرًا مما فاتَهم من النصر والغنيمةِ.
فلقد كانت حصيلةُ معركة أُحُدٍ ومن بعدها التوجيهات القُرآنية بعد الأحداث أكبرَ من حصيلةِ النصر والغَنيمة، ولقد علِمَ المُؤمنون أن الهزيمةَ حين تقَع؛ فإنها جارِيةٌ على سُنَّة الله وفقَ ما يقعُ من تقصيرٍ وتفريطٍ، وأنها تُحقِّقُ غاياتٍ يُقدِّرُها الله بحِكمته وعلمِه لتمحيصِ النفوس، وتمييز الصفوف، وتجلِيَة الحقائِق، وإقرار القِيَم، وإقامَة الموازين، وجلاء السُّنن للمُستبصِرين.
إن النصرَ لا يتوقَّفُ إلا على نُصرة ربِّ العالمين؛ فمن نصرَه اللهُ - عز وجل - فلا غالِبَ له من الناس، ولن يضُرَّه خُذلانُ الخاذِلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران: 160]. وفي كل هذا دروسٌ وعِبَرٌ للمُسلمين هذا اليوم في كل أرضٍ وتحت كلِّ سماءٍ.
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.






الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملِكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون:
لئن تكلَّف المُسلمون الأوائل عشراتٍ من الرِّجال وأشهرًا من الزمان، ليستعيدوا قوَّتَهم ويتفوَّقُوا في الوقائع اللاحِقة؛ فإن المُسلمين في هذا الزمان استنَزَفوا الملايين من أرواحِهم وعقودًا من أعمارهم، ولم يتغيَّر حالُهم، وكان الفارِقُ بينهم وبين سلَفِهم هو الفرقُ في تعلُّمهم الدروس واستِلهامِهم العِبَر.
لئِن كان المُسلِمون الأوائلُ بعد كل خسارةٍ يثُوبون لدينِهم، ويلجؤُون لربِّهم، ويُحِيطُون بنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن المُسلمين اليوم يُذادُون عن دينهم، ويُقصَون عن شريعتِهم، ويُحالُ بينهم وبين وسائل النصر ومَدَده.
ولك أن تُجيلَ بصرَكَ في كثيرٍ من بلاد المُسلمين خلال القرن الماضي بعد استِعمارهم وذهاب شوكتِهم وحتى اليوم، لقد جرَّبُوا كلَّ طريقٍ، وطرَقُوا كلَّ بابٍ، وأخَذوا من العلوم العصريَّة، وحازُوا الأسلِحةَ والعتادَ، وسالَت تحت أيديهم كُنوزُ العالَم، ونبعُ وقوده. ومع ذلك أصبَحوا ولا يسيلُ من الدماء إلا دماؤُهم، ولا تُجتاحُ إلا أراضِيهم، ولا يُقهَرُ إلا رِجالُهم. بل حتى في بلادِهم تتحكَّمُ أقلِّيَّاتُ الطوائِف في مصائِرِهم.
يا أيها المسلمون:
لهيبُ الأحداث يسُوقُكم لدينِكم، وسِياطُ المقادِير تُلجِئُكم لخالِقِكم، وفجائِعُ الدهر تُنادِيكم: أن هلُمُّوا لما عزَّ به سلَفُكم، واستقوَى به أوائلُكم.
أيها المسلمون:
راجِعوا أنفُسَكم؛ ففي الفضاء إعلامٌ وقنواتٌ لا تنتمِي لماضٍ مُحافِظٍ، ولا تُبالِي بواقعٍ مُؤلمٍ، وفي الناس غفلةٌ، والجِراحاتُ في كل وادٍ تسيلُ.
كيف يكونُ السَّرَفُ والتَّرَفُ وفي المُسلمين أوجاعٌ، وبهم جِياعٌ؟! ألم ترَوا أن الأيام دُوَلٌ، والدهرُ قُلَّب؟!
ويا أهلَنا في الشام! لكُم الله، وما لكم غيرُ الله، لقد أسلمَكم العالَمُ ليقوَى بالله تعلُّقُكم، ودانَ الشَّرْقُ تحرُّرَكم ليقوَى دينُكم، ومنَعُوكم المَدَد لتُخلِصُوا في طلبِ المَدَد من الله، اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف: 128].
لقد أسرفَ طاغيةُ الشام في الدمِ، وأظهرَ عداوتَه لبلده أكثرَ من أي عدوٍّ، وهو مقطوعُ السَّبَب بالله موصولُ السَّبَب بالمخذُولين من أهل الأرض، وما أظهرَه أخيرًا من استِعلاءٍ واستِقواءٍ وعدمِ مُبالاةٍ لما يحدُثُ في الشامِ لهِيَ صحوَةُ الموت، ولكأنَّ البِشاراتِ بنصر الله عمَّا قريبٍ في الشام ستعلُو، وشمسُ الخلاصِ تُشرِقُ، وتعودُ الطيورُ التي طالَت هِجرتُها، وسيفرحُ المُؤمنون بنصر الله. وإنما الشجاعةُ صبرُ ساعةٍ.
اللهم يا جبَّارُ يا مُنتقِم، اللهم عجِّل بمصارِع القوم الظالِمين، اللهم عجِّل بمصارِع القوم الظالِمين، والطُف بعبادِك المُستضعَفين من المظلومين، واشفِ صُدورَ قومٍ مُؤمنين.
إن على المُسلمين قبل كلِّ أحدٍ أن يُبادِروا لغوثِ إخوانِهم في سُوريا، وقد زادَ بلاؤُهم بالبردِ الشديدِ وقسوةِ الثُّلُوج، وجَرْفِ السُّيُول، كان الله في عونِهم.
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم أسبِغ عليه لباسَ الصحةِ والعافِية، اللهم أسبِغ عليه عافِيَتك وألبِسه لباسَ الصحةِ وأتِمَّ عليه الشفاءَ، اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطك ومن النار.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ.
اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 10:48 AM   رقم المشاركة : 132

 

سلوا الله العافية
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 6 ربيع الاول 1434هـ بعنوان: "سلوا الله العافية"، والتي تحدَّث فيها عن العافية وأهميتها في حياة المسلم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم – كان يُكثِرُ سؤالَ الله إياها؛ بل ونصحَ كثيرًا أن يُسألَ الله بها، وذكرَ بعضَ الآيات والأحاديث والآثار الدالَّة على عِظَم قدرِها وفضلِها.

الخطبة الأولى
الحمد لله ذي العزة والجلال، غافر الذنب وقابلِ التوب شديد المِحال، مانِح كلِّ غنيمةٍ وفضلٍ، كاشِفِ كل عظيمةٍ وضيقٍ، أحمده - سبحانه - على سوابغِ نعمِه وواسع كرمِه وعظيمِ آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، أرسلَه إلى الثَّقَلَيْن الإنسِ والجنِّ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصِيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، فما أنتم في هذه الدنيا إلا مأمورون مُكلَّفون، تعترِيكم البلايا وتخترمُكم المنايا، وتترادَفُ عليكم النِّعَم، فلا تنالُون منها نعمةً إلا بفِراقِ أُخرى، ولا يحيا لكم أثر إلا ماتَ لكم أثر، ولا يتجدَّدُ لكم جديد إلا ويبلَى لكم جديد. وقد مضَت أصولٌ نحن فُروعُها، فما بقاءُ فرعٍ بعد أصل، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ[الرعد: 26].


أيها الناس:
إن البشرَ بعامَّةٍ محكومون بالجِدِّ والكَدْحِ، وقد خلقَهم الله في كبَد، «كلُّ الناس يغدُو؛ فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها».
وهم بين كادحٍ مُلتذٍّ وآخر مُتألِّمٍ، قد يضعُفُون مع المتاعِب إلى حدِّ الهَوان، وقد ينتَشُون مع المنافعِ إلى حدِّ الطُّغيان، والكيِّسُ من هؤلاء جميعًا من لا يزيغُ ولا يطغَى، ويظلُّ رابطَ الجأشِ مُتماسِكًا في حالَيْه كلتَيْهما، ويدفعُ نفسَه دفعًا إلى الوقوفِ ببابِ خالقهِ ومولاه يسألُه العفوَ والعافيةَ في دينه ودنياه وأهلِه وماله؛ لأن إيثارَ العافية فِطرةٌ فطَرَها الله في الأنفُس؛ إذ لا يحبُّ البلاءَ والأوجاعَ إلا مُختلُّ المزاج مختومُ الفؤاد.
وإنه لا يُدرِكُ قيمةَ العافية إلا من فقَدَها في دينه أو دُنياه؛ فالعافيةُ إذا دامَت جُهِلَت، وإذا فُقِدَت عُرِفَت، وثوبُ العافية من أجمل لباس الدنيا والدين، وفيهما تلذُّ الحياةُ الدنيا ويحسُن المآلُ في الأخرى.
ومن هنا كان توجيهُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته رحمةً بهم وحِرصًا عليهم، حينما قال: «سلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ؛ فإن أحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية»؛ رواه أحمد.
ولم يكتفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِه هذا لأمَّته، وإنما أردَفَ ذلك بفعلِه المُتكرِّر؛ لتشعُر أمَّتُه بقيمة هذه النعمةِ العظيمةِ، فكان - صلوات الله وسلامه عليه - يقول: «اللهم إني أسألُك العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألُك العفوَ والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي .. الحديث»؛ رواه أبو داود وغيره.
قال ابن الجزري - رحمه الله -: "من أُعطِيَ العافية فازَ بما يرجُوه ويُحبُّه قلبًا وقالَبًا، ودينًا ودُنيا، ووُقِيَ ما يُخافُه في الدارَيْن".
العافيةُ - عباد الله - قيمةٌ مُطلقةٌ لا تقبلُ التجزِئةَ والنسبيةَ، ولذلك يُخطِئُ من يقصُرُها على عافيةِ البدن فحسبٍ دون عافيةِ الدين؛ فمن اقتصَرَ على طلب العافية في البدن دون الدين فقد أسرفَ في الصُّدود وانحازَ عن جادَّة الصواب، ومن طلبَ العافيةَ في الدين دون البدن فقد ظلمَ نفسَه، وربما أضعفَ دينَه بضعفِ عافية دينِه، والمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المُؤمن الضعيف.
والسعيدُ - عباد الله - كما قال ابن الجوزي - رحمه الله - هو من ذلَّ لله وسألَ العافية؛ فإنه لا تُوهَبُ العافيةُ على الإطلاق؛ إذ لا بُدَّ من بلاءٍ، ولا يزالُ العاقلُ يسألُ اللهَ العافيةَ ليتغلَّبَ على جمهور أحوالِه.
ومن عُوفِيَ فشكَرَ - عباد الله - أحبُّ إلى كل ذي لُبٍّ من أن يُبتلَى فيصبِر، كما قال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -.
عباد الله:
يلحظُ كلُّ نبيهٍ رامقٍ بعين بصيرته اهتمامَ عموم الناس بعافية البدن؛ إذ يُعطُونَ في تحصيلِ هذه النعمة الوقتَ والجُهدَ والتذكيرَ والدعاءَ، في حين إنهم يغفُلُون عن قيمةِ العافيةِ في الدين وسلامته من الآفات والابتلاءات؛ لأن فتنَ الدين تُوهِنُ الأفرادَ الذين هم مجموعُ المُجتمعات.
ومتى ما فرَّطَ المرءُ في تحصيلِ العافيةِ في دينه فقد آذَنَ نفسَه بهلاكٍ وتيهٍ، ويشتدُّ الهلاكُ والخُسران حينما يُجاهِرُ المرءُ بما بُلِيَ به من معصيةِ ربِّه؛ فيستُرُه اللهُ ثم هو يفضحُ نفسَه. ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد صحَّ عنه أنه قال: «كلُّ أُمَّتي مُعافَى إلا المُجاهِرين».
نُقصانُ العافية في الدين تكونُ بالانحرافِ عن شِرعةِ الله؛ إما بطُغيانِ شهوةٍ بهيميَّةٍ تردُّ صاحبَها إلى حضيضٍ أوحَد يعبُّ فيه من الشهوات كما الهِيم، أو بطُغيانِ شُبهةٍ من الدين تنحرِفُ بصاحبِها إلى مصافِّ الذين يقعُدون بكلِّ صراطٍ يُوعِدون ويصدُّون عن سبيل الله من آمنَ يبغُونَها عِوَجًا.
وقد حذَّرَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من خوارمِ العافيةِ في الدين؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «ستكونُ فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائِمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّفَ لها تستشرِفه»؛ رواه البخاري ومسلم.
وقد كان مما علَّمَه النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بنَ عليٍّ - رضي الله تعالى عنهما - أن يقول في دُعائِه وقُنوتِه: «اللهم اهدِني فيمن هدَيت، وعافِني فيمن عافَيت .. الحديث»؛ رواه أحمد وأصحاب السنن.
إن من أعظم فُقدان العافية في الدين: أن يكون المرءُ مُفسِدًا لا مُصلِحًا، مُستهزِئًا لا جادًّا، مِعولَ هدمٍ لمُجتمعه لا عاملَ بناءٍ لبُرجِه المشيد، لا تجِده إلا في مظانِّ الاستِهزاءِ، أو سنِّ ما يخدُشُ الدينَ والفِطرة التي فطَرَ الله الناسَ عليها؛ ليحمِلَ وِزرَه ووِزرَ من عملَ بسُنَّته إلى يوم القيامة.
وقد جاء في السُّنَّة ما يدلُّ على نسبةِ الأحداثِ إلى مُحدِثِها، وأنه يتحمَّلُ إثمَه إلى يوم القيامة جرَّاءَ ما أوقعَ فيه غيرَه من إخلالٍ بنهجِ الله وشِرعته، فمن ذلك: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من نفسٍ تُقتلُ ظُلمًا إلا كان على ابنِ آدم كِفلٌ منها؛ لأنه أولُ من سنَّ القتلَ»؛ رواه البخاري ومسلم.
ورحِمَ الله الإمامَ مالِكًا حينما أوصَى أحدَ تلاميذه، فقال: "لا تحمِلنَّ الناسَ على ظهرِك"؛ أي: لا تحمِل إثمَه بما يُحدِثُه "وما كنتَ لاعبًا به من شيءٍ فلا تلعبنَّ بدينِك".
نعم، عباد الله:
ليحذَر كلُّ من يضعُ لبِنةَ فتنةٍ أو إفسادٍ في دينٍ أو خُلُقٍ أنهم سيحمِلون أوزارَهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضِلُّونَهم بغير علمٍ.
وليحذَر كلُّ من غرَّه ما في الباطلِ من تزويقٍ وما في الفتنِ والافتِتان من رُقوشٍ؛ فالحقُّ أبلَج مهما أُسدِلَت دونَه السُّتُور، والباطلُ لَجلَج وما هو إلا كسرابٍ بقِيعةٍ يُغرِي ولا يُروِي، ولو نظرَ كلُّ ماشٍ تحت قدمَيْه لما وطِئَ شوكةً ولا عثَرَ بحُفرةٍ.
احذَر وُقِيتَ فتحت رجلِك حُفرةٌ
كم قد هوَى فيها من الإنسانِ
ومن عُوفِيَ فليحمَد اللهَ ما زلَّ من، طلبَ السلامةَ إنها للمرءِ حِصنٌ في الصُّرُوفِ العاتِية، لم يُعطَ إنسانٌ ولا ذو همَّةٍ بعد اليقين بمثلِ تلك العافية.
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
فاعلَموا - يا رعاكم الله - أن إيثارَ المرء السلامةَ والعافيةَ في دينه لا يُفهَمُ منه الرِّضا بالدَّعَة والقعود عما هو خيرٌ، وما هو واجبٌ لا يجوزُ القعودُ عنه، وإنما تُؤثَرُ السلامةُ والعافيةُ في مواطِنِ الفتنِ والرياء، وتساوِي الأمرَيْن معًا بحيث يشتبِهُ الحقُّ بغيره، فيدَعُ المرءُ ما يَريبُه إلا ما لا يَريبُه، ومن اتَّقَى الشُّبُهات فقد استبرَأَ لدينه وعِرضِه، ومن وقعَ في الشُّبُهات وقعَ في الحرام.
وقد كان الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - يقول: "إني لأدَعُ ما لا بأسَ فيه خشيةَ الوقوعِ فيما فيه بأسٌ".
ولقد أحسنَ القاضي الجُرجاني - رحمه الله - حينما قال واصِفًا قيمةَ العافية فيما يشكُوه في زمانِه:
ولم أبتذِل في خدمةِ العلمِ مُهجَتي
لأخدِمَ من لاقيتُ لكن لأُخدَمَا
ولم أقضِ حقَّ العلمِ إن كان كُلَّما
بدَا طمَعٌ صيَّرتُه ليَ سُلَّمًا
إذا قيل: هذا منهَلٌ، قلتُ: قد أرى
ولكنَّ نفسَ الحُرِّ تحتمِلُ الظَّمَا
أُنهنِهُها عن بعضِ ما لا يشينُها
مخافةَ أقوالِ العِدَا فيمَ أو لِمَا
ولهذا كان من اعتقاد أهل السُّنة والجماعة في الفتنِ والخُطوبِ المُدلهِمَّة أن السلامةَ لا يعدِلُها شيءٌ، والقعودَ أسلمُ إلا إذا تبيَّن لهم الحقُّ بالأدلَّة الشرعيَّة الواضِحةِ الصريحةِ الصحيحةِ؛ فإنهم ينصُرونَه ويُؤيِّدُونَه دون تردُّدٍ.
وقد ذكرَ بعضُ أهل العلم في قصة أصحاب الكهف قولَ بعضِ المُفسِّرين: "وفي هذه القصة دليلٌ على أن من فرَّ بدينِه من الفتنِ سلَّمَه الله منها، وأن من حرِصَ على العافيةِ عافاه الله، ومن أوَى إلى الله آواه الله، وذلك حالَ استِحكام الفتنِ أيَّمَا استِحكامٍ".
وإن مما ينبغِي الحَذَرَ منه: الفهمَ الخاطِئَ لبعض القَعَدة الذين يفهمُون العافيةَ في غير موضِعِها، فيستدلُّون بقولِه - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ[المائدة: 105]، فيظنُّون أن معناها تركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، وإصلاح الناس وبيان الصحيح في الفتن. وهذا ليس هو مُراد الله في كتابه، كما قال الصدِّيقُ - رضي الله تعالى عنه -.
بل إن المعنى: أنه لا يضرُّ المرءَ ضلالُ غيره، إذا هو اهتدَى وقامَ بما أمرَ الله به تِجاهَ الآخرين؛ من دِلالتهم للحقِّ وتحذيرِهم من الباطِل؛ لأن الهدايةَ بيدِ الله، وما على المرءِ إلا البلاغ، والله الهادي إلى سَواءِ السَّبيل.
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافية، اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافية في دينِنا وأموالنا وأهلِينا يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصُرهم في كل مكان، اللهم انصُرهم على من ظلمَهم وخذَلَهم، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وبال، اللهم عجِّل لهم بالنصرِ والفرَج يا أرحم الراحمين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك فلا تمنَع عنا ذنوبِنا فضلَك يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 10:51 AM   رقم المشاركة : 133

 

السيرة النبوية ووجوب تعلُّمها
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة 13 صفر 1434هـ الجمعة بعنوان: "السيرة النبوية ووجوب تعلُّمها"، والتي تحدَّث فيها عن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهميتها وضرورة تعلُّمها وتعلُّم السنَّة المُطهَّرة، والذبِّ عنها، ولا بُدَّ من استِشعار أخلاقِه - عليه الصلاة والسلام - ونشرِها في رُبوع الأرض.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده - سبحانه - حقَّ حمده، ونُسبِّح بعظمته ومجده، ونسألُه صلاحَ الحال وحُسنَ العواقِب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له منَّ علينا ببعثة المُصطفى الحاشِر العاقِب، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا وحبيبَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُجتبى بأشرف الخِصال وأبقَى المناقِب، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه المخصُوصين في الاقتِداء بأسمى المراتِب، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما دامَ الجَديدان في دأبٍ وتعاقُب، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حقَّ تُقاته، واعلَموا أن تقواه - سبحانه - أعظمُ مِصداق، وأقوى مِيثاق، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
أيها المسلمون:
كل قضيةٍ إلى انمِحاءٍ وطموس، وكل أمرٍ إلى نِسيانٍ ودُروس، وكل باطلٍ - لا محالةَ - إلى اندِحارٍ ونُكوص، ولكن دينَ الإسلام الرباني العالمي حياة الأرواح والنفوس إلى إباءٍ وشُموس، وسيرةَ خير الأنام - عليه الصلاة والسلام - في انتِصارٍ وائتِلاق، وانتِشار وانطِلاق، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
والأمةُ الإسلامية المُبارَكة إنما تسنَّمَت قِمَم السُّؤدَد والإباء، وساقَت الإنسانيَّة إلى مرابِع الحضارة والعَلياء، وأفياء الأمن والاستِقرار والإخاء أوانَ استِعصامها بالوحيَيْن الشريفين، وإبَّان كان مُفعَمُ روحِها ومُستولَى مشاعِرها سيرةَ نبيِّها - صلى الله عليه وسلم - الغرَّاء وشمائلَه الفَيْحاء.
ويوم أن تنكَّبَت أمةُ الاتحاد والقوة والإنجاد عن ذلك الهديْ الربَّاني الرَّقراق فاءَت إلى يَباب التَّبعيَّة والوَهَن، وصارَت والتنافُر والتناثُر في قَرَن، والتأمَت مع الأسَى المُمِدّ على الشَّتات والانبِتات، والله المستعان.
معاشر المسلمين:
منذ ما يربُو على أربعة عشر قرنًا من بعثة سيد الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - وسيرتُه المُؤنَّقةُ البَلْجاء تُعطِّرُ الأقطارَ والأرجاء.
والكونُ أشرقَ والفضاءُ تعطَّرا
والأفقُ ضلَّلَه السرورُ فهل ترَى
بما انهمرَت به من حقائق المهابة والجمال، والخشية والجلال، والحِكمة المُجلِّيَة في الأقوال والفِعال؛ لأنها المكنَزُ التأريخيُّ، والمنهَلُ الحضاريُّ، والمِنهاجُ العلميُّ، والمِعراجُ العمليِّ الذي يُبوِّئُ الأمةَ السُّؤدَدَ والمهابَة، والتوفيقَ والإصابَة.
أليست هي سيرةَ الحبيب المُصطفى والخاتَم المُقتفَى - صلى الله عليه وسلم -، ما ذرَّ شارِق وحنَّ إلى إلفِه المُفارِق، رسول الملكِ العلاَّم، وحاملِ ألوية الحق والخير والعدل والسلام، من هدى البشريَّةَ من الضلالة، وعلَّمَها من الجَهالة، وانتحَى بها قِمَم الرِّفعَة والجلالة.
نبيِّ المُعجِزات، وآخِذنا عن النار بالحُجُزات، أمنِّ الناس على كل مسلمٍ ومسلمة، وأحقِّهم نقلاً وعقلاً بالمحبَّة الوادِقة، والطاعَة الصادقة.


إذا ما المجدُ فاخرَ في عُلاهُ

بدَا محبوبُنا أبهَى انتِسابًا
إذا ما العزُّ أخجَلَنا صدَاهُ
بدَا في الناس أرفعَهم جنابًا
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِه ووالدِه والناس أجمعين»؛ أخرجه الشيخان.
أنت الحبيبُ بأمر الله قد خفَقَت
لك القلوبُ بلا خوفٍ ولا تعبِ
أنت الذي خصَّه بالحبِّ خالِقُه
لما اصطفَاهُ حبيبًا عالِيَ الرُّتَبِ
وتلكم هي المحبةُ المُفضِيَة إلى أصل الطاعة والتسليم الذي دلَّ عليه قولُ المولَى الكريم: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65].
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أنا رحمةٌ مُهداةٌ». الله أكبر! يا له من نبيٍّ ما أعظمَه، ومن رسولٍ ما أكرَمَه.
أقامَ مُجتمعَ الفضيلةِ والتُّقَى
وأشادَ مجدًا شامِخَ البُنيانِ
العدلُ جوهرهُ وأُسُّ بِنائِه
بمكارِمِ الأخلاق والإحسانِ
أيها المؤمنون:
ومع كلِّ هذا الجلاء في سيرة خير الورَى والبَهَاء لا ينفكُّ عفاكِلَةُ الشِّقاق ودَهماءُ الآفاق ينشُرُون أباطِيلَهم وحِقدَهم الأرعَن عبرَ الحمَلات والشَّبَكات، ويَطالُون في النَّيْل والبُهتان رُموزَ النبُوَّات، وعُظماءَ الرِّسالات، وشريفَ المُقدَّسات، وخاصَّةً حِيالَ الجنابِ المُحمديِّ الأطهَر وهديِه الأزهَر.
ولكن بَلسَمُنا وسلوانَا قولُ ربنا ومولانا: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3].
إنا لنعلَمُ أن قدرَ نبيِّنا
أسمَى وأن الشَّانِئين صِغارُ
سقطَت مكانةُ شاتِمٍ وجزاؤُه
إن لم يتُبْ مما جناهُ النارُ
وقد علِموا يقينًا قاطِعًا أن النبيَّ الكريمَ - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - قد جاء للبشريَّة بأسمَى القِيَم والآداب الخُلُقيَّة، وأدقِّ الحقائق الكونيَّة، وأرقَى النُّظُم الاجتِماعيَّة، وأزكَى الشرائعِ التعبُّديَّة، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[النمل: 14].
أمة الإسلام:
وإذا كانت المَآسِي تلفَحُ وجهَ الأمة في كل شبرٍ ووادٍ من كل باغٍ وعادٍ، وخصوصًا في أرضِ الشام من قِبَلِ من فاقُوا جورَ عاد؛ فإنه لِزامًا على الأمة - وقد رثَّ حبلُ صِلَتِها بهذه السيرة الهادِية أو كاد، ولم تُلقِ لها فهمًا أو بالاً، فجرَّ ذلك تِرَةً ووبالاً - لزِمَ الأمةَ وبكل الوسائل التِّقانيَّة والفضائيَّة أن تنثنِيَ إلى السيرة النبويَّة في شُمولٍ وعُمقٍ، وأن تكون أشدَّ تعلُّقًا بنبيِّها وسُنَّته - عليه الصلاة والسلام -، تأسِّيًا وفهمًا واستِبصارًا، وسلوكًا وفِكرًا واعتِبارًا، لتنتشِلَ نفسَها من هُوَّة العجز والهُونِ الواضح، والتمزُّق والانحِدار الفاضِح التي مُنِيَت بها في هذه الآونة العَصيبة القَلِقَة.
ولْنُعلِنها مُدوِّيَّةً خفَّاقَة، وشجًى في اللَّهَوات المُغرِضَة الأفَّاكَة أن السيرةَ النبوية والسنَّة السنِيَّة - على صاحبها أزكى صلاةٍ وتحيَّة - هُما مَناطُ العزِّ والنصر، وأجلَى لُغاتِ العصر، التي تُؤصِّلُ للأمة الفوقيَّة والتمكِين. نعم، يا أمةٍ عزَّت بأعظم سيرة، وقادَت بأكرَم مسيرة.
لا بُدَّ من بعث هِدايات السيرة المُشرِقة، وإشراقات معانيها ومرامِيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ صالحَ الأخلاق»؛ أخرجه البخاري في "الأدب المفرد".
وقد أتمَّها - عليه الصلاة والسلام - بأبي هو وأمي - بالرحمة والرِّفق، والصدق والنزاهة والأمانة والحِوار، والتسامُح والاعتِدال والإصلاح.
خُتِمَت به الأخلاقُ فهو تمامُها
ولقد يفوقُ بدايةً إنهاءُ
جاء الأُلَى قبلاً بألفِ فضيلةٍ
فأتَى بهيمَنةٍ على ما جاؤُوا
بل لا بُدَّ للأمم من استِشعار الأخلاق المُحمديَّة في سِياساتِها وفِكرِها وثقافاتها وطُموحاتها وعلاقاتها وحِواراتها واقتصادِياتها وإعلامِها؛ لأنها الخِرِّيتُ الحادِي والمُرشِدُ الأمينُ الهادِي، يقول - جلَّ اسمُه -: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا[النور: 54].
أمة السيرة والسنة:
ونظيرُ التحقُّق بالسيرة الزكيَّة: التمسُّكُ بالسنَّة السنيَّة والذبُّ عن حِياضِها، والرُّتُوعُ مظهرًا ومخبَرًا في رِياضِها، والنَّهْلُ بالفهم السَّديد من سَلْسالِ غِياضِها، في نَأْيٍ عن مسالكِ التعصُّباتِ المذهبيَّة، والنَّعَرات الطائفيَّة.
معاشر الأحِبَّة:
ولن تُترجَمَ نوابِضُ الحبِّ والإحساس، ومقاصِدُ الأنفاسِ في اتباعِ خير الناس - عليه الصلاة والسلام - إلا بالوقوفِ عند هديِه وسُنَّتِه، والاقتِباسِ من مِشكاةِ سيرتِه؛ فأنَّى وعلامَ، وكيف وحتَّامَ يكونُ الهديُ النبويُّ المَكين مدى الأعمار والسِّنين قصرًا على مُحدثاتٍ ومُخالفاتٍ، في ليالٍ وأيامٍ معدودات، وانبِتاتٍ عن معينِ السُّنَّة البَلْجاءِ أيِّ انبِتات. ليتَ شِعري! إنه الحبُّ الهَباءُ الأخفُّ، وفي الموازينِ هو الأطَفُّ.
سلْهُم عن الحب الصحيحِ ووصفِه
فلسوفَ تسمعُ صادقَ الأخبار
إحياءُ سُنَّته حقيقةُ حُبِّه
في القلبِ في الكلماتِ في الأفكارِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 31، 32].
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه كان توابًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله، جعل التمسُّكَ بالسنَّة الغرَّاء إلى مراضِيهِ سبيلاً، وشاهدًا على توفيقه ودليلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُبجَّلُ في العالمين تبجيلاً جِيلاً فجِيلاً، من امتثَلَ حُبَّه فيا بُشراه نهَلَ من السعادة سَلسبيلاً، صَلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار، وصحابتِه الأبرار المُفضَّلين تفضيلاً، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ صلاةً وسلامًا يتعاقَبَان بُكرةً وأصيلاً.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله وأطيعوه، واقتَدوا بنبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - ولا تَعصُوه.
أمة السيرة وأزكى المسيرة:
ومُقتضى محبَّة المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -: محبَّةُ آل بيته وأزواجه الأطهار، وصحابته الميامين الأبرار؛ فحُبُّهم جوازٌ على الصراط، ومُورِثٌ للتقوى والاغتِباط، وقد نوَّهَ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - بحقِّهم وقدرِهم، كما صحَّ في الخبر عن سيد البشر - عليه الصلاة والسلام -: «لا يُحبُّهم إلا مُؤمن، ولا يُبغِضُهم إلا مُنافِق، ومن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضَهم أبغضَه الله».
فمن تطاوَلَ عليهم وافترَى، فقد ظلَمَ واجتَرَى، ومن نالَ منهم وخاضَ فيما شجَرَ بينهم فقد جاء بأعظم الفِرَى.
وربَّى سادةً نُجُمًا كِرامًا
أضاؤُوا الكونَ أخلاقًا رِطابًا
تسامُوا في الوُجودِ هُداةَ حقٍّ
فكانُوا أنجُمَ الدنيا صوابًا
إخوة الإيمان:
ويُؤكَّدُ في هذا السِّياق على تربية الأُسَر والشباب والفَتَيات في مسيرتهم العلميَّة والعمليَّة، لا سيما في صرِ العولمة والتِّقنيَّة، وفقَ إشراقات السيرة النبويَّة والسُّنَّة المُصطفَويَّة التي تُنمِّي مَكَاتهم الإبداعيَّة ومواهِبَهم الربَّانيَّة صوبَ الفلاح والنجاح.
يا أيها الجيلُ المُحبُّ في المشارِقِ والمغارِب! غُلُّوا المسير، وكونُوا قادةَ التَّشمير للتحلِّي بشمائل نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقِه، وتزيَّنُوا بمناقِبِه، وتمثَّلُوا هديَه وأوصافَه، عضُّوا عليها بالنواجِذ تغنَموا وتسُودوا، وتنعَموا وتقودوا، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ[الروم: 4، 5].
وتحرير المُقدَّسات الإسلاميَّة، وإنهاء أزمَات الأمة المأساويَّة في فلسطين وبُورما والأراضي السوريَّة، ورفع الحَصانَة الدائِمة عن الظَّلَمة والطُّغاة والمُعتَدين، والمُغتصِبين المُحتلِّين، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج: 40].


هذا، واعلَموا - رحمكم الله - أن الله قد أمرَكم بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه، ثم بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، فقال تعالى قولاً كريمًا تشريفًا لمقام نبيِّنا وتكريمًا، وإرشادًا للأنام وتعليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
يا فوزَ من صلَّى عليه فإنه
يحوِي الأمانِيَ بالنعيمِ السَّرمَدِ
صلَّى عليه اللهُ جلَّ جلالُه
ما لاحَ في الآفاق نجمٌ فرقَدِ
اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين الذين قضَوا بالحق وبه كانُوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ والتابعين، وعن الطاهِرات أمهات المُؤمنين، وعن آل بيته الطيبين الطاهرين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمِك يا أكرمَ الأكرَمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، اللهم أسبِغ عليه لِباسَ الصحة والعافية، والسلامة الدائِمة يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.
اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين المُضطَهدين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم كُن لهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلِح حالَهم، اللهم أصلِح حالَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم عافِ مرضاهم، اللهم عافِ مرضاهم، وداوِ جرحاهم، وارفع عن مُبتلاهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم عليك بأعدائِك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من المُعتدين المُحتلِّين، اللهم اجعله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين، اللهم كُن لإخوانِنا في سُوريا وفي بُورما وفي فلسطين، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيراتِ والأمطارِ والغيثِ العَميم.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مِدرارًا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذُنوبِنا فضلَك.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، وارحَم موتانا وموتَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالِدِينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمسلِمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدَّعَوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 10:53 AM   رقم المشاركة : 134
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

حرمة التجسُّس على المسلمين

ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة20 ربيع الاول 1434هـ بعنوان: "حرمة التجسُّس على المسلمين"، والتي تحدَّث فيها عن التجسُّس وخُطورته، وحشَدَ الأدلةَ من الكتاب والسنة على تحريمه وبيان مذمَّته، وعِظَم ضرره.
الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم المنَّان، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجُو به الرِّضوانَ والغُفران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كريمُ العطايا قديمُ الإحسان، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله المبعوثُ رحمةً للخلق من إنسٍ وجان، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبِه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا أنكم موقوفُون بين يديه، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
أيها المسلمون:
إن من فضائل هذا الدينِ ومحامِدِه التي شهِدَ بها القاصِي والدانِي: تلك التشريعاتُ الفَذَّةُ التي أرسَى بها قواعِدَ المُجتمع الراشِد، وحفِظَ بها بناءَه، وحاطَه بأسوارٍ مَنيعةٍ عصِيَّةٍ على معاوِلِ الهَدم، وجعلَها قائِمةً على عقيدةٍ تغرِسُ في النفوس أن أساسَ الرابِطَة بين المؤمنين هي الأُخُوَّة في الدين؛ حيث قال ربُّنا - سبحانه -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات: 10].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المُسلمُ أخُو المُسلِم .. الحديث»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.
وهي رابِطةٌ تُورِثُ الإخوةَ في الإسلام شُعورًا يبعثُ على ألا يرَى أحدٌ منهم نفسَه أحقَّ بالخير من أخيه؛ فهو يُحبُّ الخيرَ له كما يُحبُّه لنفسِه، مُستيقِنًا بأن إيمانَه لا يكمُلُ إلا بذلك، كما أخبر الصادقُ المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه -: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه»؛ أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
وإذا كان مُقرَّرًا في العقول، مركوزًا في الفِطَر: محبَّةُ المرء حفظَ ما يعنِيه ويختصُّ به من أمورِه وشُؤونِه وأسرارِه، بعيدًا عن تطفُّل المُتطفِّلين، واقتِحامِ المُقتحِمين، وكراهتُه كشفَ أستارٍ يضُرُّ به كشفُها أبلغَ ضررٍ، ويُوقِعُه في أشدِّ الحرَج، ويُعطِّلُ عليه مصالِحَه.
فقد جاءَت الشريعةُ المُكرَّمة بصَون هذا الحقِّ، وسدَّت كلَّ ذريعةٍ لاختراقِه بأيِّ وسيلةٍ، تجلَّى ذلك في نهيِ الله - عز وجل - المُؤمنين عن خُلُق التجسُّس، وحقيقتُه: ألا يترُك المُتخلِّقُ به عبادَ الله تحت سِتر الله؛ بل يسعَى إلى معرفة ما خفِيَ عليه من خاصِّ أحوالِهم - كما قال أهلُ العلم - حتى ينكشِفَ له ما لو كان مستورًا عنه كان أسلمَ لقلبِه ودينِه.
وجاء النهيُ عنه تاليًا للنهي عن سُوء الظنِّ بالمُسلِم؛ لأنه من ثمراتِه، فإن قلبَه - أي: قلب هذا المُتجسِّس - لا يكتفِي بالظنِّ؛ بل يحمِلُه ذلك إلى التحقُّق مما ظنَّ، فيشتغِلُ بالتجسُّس، فيحمِلُ وِزرَهما معًا.
ولذلك جاء النهيُ عنهما بقولِه - عزَّ اسمُه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[الحجرات: 12].
قال ابنُ جريرٍ - رحمه الله -: "أي: لا يتَّبِع بعضُكم عورةَ بعضٍ، ولا يبحَث عن سرائِرِه يبتغِي بذلك الظهورَ على عُيوبِه، ولكن اقنَعوا بما ظهرَ لكم من أمره".
وجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري - رحمه الله - في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تجسَّسُوا، ولا تحسَّسُوا، ولا تباغَضُوا، ولا تدابَرُوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا».
ومما يدخلُ في التجسُّس أيضًا - يا عباد الله -: أن يستمِعَ إلى حديثِ قومٍ بغير إذنٍ ولا رِضًا منهم بذلك؛ فقد توعَّدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعِلَه بقولِه: «من تحلَّم بحلمٍ لم يرَه كُلِّفَ أن يعقِدَ بين شعيرتَيْن، ولن يفعَل، ومن استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهون أو يفِرُّون منه صُبَّ في أُذنِه الآنُك - أي: الرَّصاص المُذاب - يوم القيامة .. الحديث»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، واللفظُ للبخاري.
وشرعَ اللهُ الاستِئذانَ عند دُخولِ البيوتِ حمايةً لهذا الحقِّ أيضًا، وصِيانةً وسترًا لعوراتِها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النور: 27].
وبيَّن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حكمةَ هذا الاستِئذان والغايةَ من تشريعِه، فقال للذي اطَّلَع من جُحرٍ في حُجَر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه - صلوات الله عليه وسلامه - مِدرَى يحُكُّ بها رأسَه، فقال: «لو أعلمُ أنك تنظُر لطعنتُ به في عينِك، إنما جُعِل الاستِئذانُ من أجل البصر»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه -.


عباد الله:
إنه إذا كان إيمانُ المرء لا يكمُلُ حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه، وحتى يكرَهَ له ما يكرَهُ لنفسِه؛ فإن أدنَى درجات ذلك: أن يُعامِلَ أخاه بما يُحبُّ أن يُعامِلَه به، ولا ريبَ أنه ينتظِرُ من أخيه أن يستُرَ عورتَه، ولا يكشِفَ عيبَه، وأن يتجاوزَ عن زلَّتِه.
فإذا كان على الضدِّ من ذلك - أي: لم يفعَل ذلك - لم يكُن مُنصِفًا لأخيه ولا مُحِبًّا للخير له، فيُوجِبُ ذلك ويُحدِثُ لرابِطة الأُخُوَّة فسادًا بيِّنًا لما صلَحَ من شُؤون الناس، وما استقامَ من ظاهر أحوالِهم، وتجرِئةً لهم على الإيغال في القبائِح بترك الحياء، ولذا حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِه لمُعاوية - رضي الله عنه -: «إنك إن اتَّبَعتَ عورات الناس أفسدتَّهم، أو كِدتَ أن تُفسِدَهم»؛ أخرجه أبو داود في "سُننه" بإسنادٍ صحيحٍ.
كما أخبر - عليه الصلاة والسلام - أن عقوبةَ من يتتبَّعُ العورات هي من جنسِ عملِه، بأن يُفتضَحَ في عُقر دارِه، فيخرُج إلى الناس ما هو خفِيٌّ عليهم ومستورٌ عنهم؛ ليذوقَ وبالَ أمره، ويُسقَى من نفسِ كأسِه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يخلُص الإيمانُ إلى قلبِه! لا تتَّبِعوا عورات المُسلمين؛ فإنه من تتبَّعَ عورةَ امرئٍ تتبَّعَ الله عورتَه، حتى يفضحَه ولو في جوفِ رحْلِه»؛ أخرجه الترمذي في "جامعه" بإسنادٍ حسنٍ من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.
فاتقوا الله - عباد الله -، وحَذارِ من تتبُّع العورات حَذارِ؛ فإنه مثَلٌ صارِخٌ لانتِهاك الحُرُمات، وتنكُّرٌ لحقوق الأُخُوَّة في الله، وسبيلُ مذمَّةٍ وضعَةٍ وصَغارٍ يترفَّعُ عنه الأبرارُ المُتَّقون الأخيار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.


الخطبة الثانية
الحمد لله الكريم الرحيم، أحمده - سبحانه - على فضلِه السابِغِ وخيرِه العَميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يدعُو إلى دار السلام ويهدِي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحبُ النَّهج الراشِدِ والخُلُق القَويم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن ما جاء من وعيدِ من تتبَّع العورات لهُوَ وعيدٌ لا يصِحُّ أن يُسقِطَه من حسابِه كلُّ من اتَّخَذَ من هذا الخُلُق الذَّميم والخَصلَة المرذولة عادةً ودَيدَنًا له، وغايةً يسلُكُ إليها كلَّ سبيل، ويستعمِلُ فيها كلَّ وسيلةٍ، ويركَبُ لها كلَّ مركَب، ويجِدُ ضالَّتَه فيما وصَّلَه الإعلامُ الجديدُ من وسائلَ، وما أتاحَه للناس من مواقع للتواصُل.
هذه المواقِعُ التي كادَ كثيرٌ منها أن يغدُوَ سببًا للتدابُرِ والتقاطُعِ بما يشيعُ فيها من إذاعةِ أسرارٍ، واقتِحامٍ للخُصوصيَّاتِ؛ بتتبُّع العورات، ونشرِ العيوبِ والزلاَّت، وبثِّ الأخبار المكذوبة، والشائعات المُغرِضة، والتعليقات والتعليلات والتغريدات التي لا ِمامَ لها ولا خِطام، ولا مرجعيَّةَ لها غيرُ الأهواءِ والظُّنون والأوهام، لاسيَّما حين تصدُرُ عمَّن تُجهَلُ عينُه، ولا تُعرَفُ حالُه من الصِّدقِ والكذبِ وغير ذلك.
فإذا اجتمعَ إلى هذا: مقاطِعُ ومشاهِدُ وصُور تُؤذِي المُؤمنين، وتسُرُّ العابِثِين؛ كان الضررُ شديدًا، والبلاءُ عظيمًا، يُوجِبُ تنادِيَ العُقلاء إلى وضعِ الحُلول لدفعِ هذا الضَّرر، ورفعِ هذا البلاء بحُسنِ نظرٍ وحُسن تأمُّلٍ لنظَر ذلك، وشدَّة خطره في العاجِلِ والآجِلِ.
فاتقوا الله - عباد الله -، وتعاونوا على البرِّ والتقوى - كما أمرَكم ربُّكم -، ولا تعاونوا على الإثم والعُدوان.
ولتكُن هذه المواقِعُ سببًا للتواصُل، وسبيلاً للتواصِي بالحقِّ والتواصِي بالصبر، لا طريقًا للتدابُر والتقاطُع، وانتِهاك الحُرُمات، وتتبُّع العورات؛ فإنه يُغضِبُ ربَّ الأرض والسماوات.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتمِ رُسُل الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتابِ الله؛ حيث قال ربُّنا - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم التَّناد.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطِك، اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكَرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفِرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم، ونعوذُ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورِهم، ونعوذُ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شرورهم.
اللهم احفَظ المُسلمين في كل دِيارِهم وأوطانِهم، اللهم احفَظهم في سوريا، وفي فلسطين، وفي بورما، وفي جميع ديارِ المُسلمين يا رب العالمين، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم انصُرهم، الله اجبُر كسرَهم، وارحَم ضعفَهم، واشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لقتلاهم يا رب العالمين.
اللهم احفَظ المُسلمين في مصر، اللهم احفَظهم في مصر، وحافَظ شعبَها، واحفَظهم من الفتن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطَن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطَن، اللهم وحِّد صُفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، وأصلِح قادةَ المسلمين يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران: 8]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 11:00 AM   رقم المشاركة : 135
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

أصول منهج السلف الصالح
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أصول منهج السلف الصالح"، والتي تحدَّث فيها عن أصول منهج السلف الصالح، وبيَّن أنه ليس اسمًا لجماعة أو حزبٍ أو تكتُّلٍ، وإنما هو منهجٌ وسِمةٌ بارِزةٌ لكل من اتَّبعَ سنةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسارَ على نهجِ الصحابة والتابعين، ثم ذكرَ الكثيرَ من معالِمِ منهَج السَّلَف التي يستضِيءُ بها كلُّ سالِكٍ إلى ربه.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله كتب على نفسه الرحمة، وأفاضَ على الخلائق سوابِغَ النِّعمة، دعا إلى الإسلام فخصَّ من شاءَ بالهداية والتوفيق منَّةً منه وفضلاً، وأقامَ الحُجَّةَ على من خالَفَ حكمةً منه وعدلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبده وابنِ عبده وابنِ أمَته ومن لا غِنى له طرفةَ عينٍ عن فضلِه ورحمتِه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، رحمةُ الله للعالمين، وقدوةُ العامِلين، ومحجَّةُ السالِكين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله السادة الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واعلَموا أن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار، وما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُرَ وألهَى، وإن ما تُوعَدون لآتٍ وما أنتم بمُعجِزين، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[البقرة: 235].
أيها المسلمون:
إن من العقلِ والحكمة: إدراكَ أن أعداءَ الإسلام والمُتربِّصين به يقِفُون موقفًا صارِمًا من كل دعوةٍ تدعُو إلى الحق، وإلى الرجوع إلى أصول الإسلام وثوابتِه ومبادئِه وحقائقِه التي تبعثُ روحَ العِزَّة في الأمة، وتقودُ إلى المجدِ والمَنَعة، حتى قال قائلٌ منهم: "إننا لا نُحارِبُ الإرهاب، ولكنَّنا نُحارِبُ من أجل أن نُقرِّرُ الإسلام الذي نُريد".
وفي عالَمنا تجتاحُه موجاتٌ من التغيير، وطُوفاناتٌ من التحديات؛ يبرُزُ منهجُ الاتباع عند وجود الأضداد المُتخالِفة والمُتنافِرة؛ من التكفير والتنفير، وتعظيم الأشخاص، وتصنيف الأحزاب والانتماءات.
يبرُزُ منهجُ الاتباع حين يأخذُ التفرُّقُ الفكريُّ والعقائديُّ في الانتِشار، وتنمُو مذاهبُ ومناهِج، وتياراتٌ وفلسَفاتٌ يتميَّزُ فيها منهجُ السلف الصالح، وتظهرُ معالِمُه؛ فهو يأوِي - بقوة الله وحولِه - إلى جبلٍ من الأصول وأدوات والاستِعدادات يعصِمُه به من اللاَّت والانحِرافات، بإدراكٍ لفقهِ الواقع وأدوات التمكين، مع اللِّين والحزمِ والرحمةِ، والدفعِ بالتي هي أحسن.
السَّلفُ الصالحُ هم الصدرُ الأول، الراسِخون في العلمِ، المُهتَدون بهديِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، الحافِظون لسُنَّته، مُقدَّمُهم صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ورضي عنهم أجمعين -، اختارَهم الله لصُحبة نبيِّهم، وانتخبَهم لإقامة دينِه، ورضِيَهم أئمةً للأمة.
يقول - عزَّ شأنُه -: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة: 100].
يقول السفَّارينيُّ - رحمه الله -: "المرادُ بمذهبِ السَّلَف: ما كان عليه الصحابةُ الكرامُ، وأعيانُ التابعين بإحسانٍ، وأتباعُهم من أئمةِ الإسلام العُدُول، ممن شُهِد لهم بالإمامة، وعُرِف عظيمُ شأنِهم في الدين، وتلقَّى الناسُ كلامَهم خلفًا عن سلَف، دون رميٍ ببدعةٍ، أو شهرٍ بلَقَبٍ غير مرضِيٍّ".
ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إنكم قد أصبَحتم اليوم على الفِطرة، وإنكم ستُحدِثون ويُحدَثُ لكم، فإذا رأيتُم مُحدثةً فعليكم بالعهد الأول".
ويقول أيضًا - رضي الله عنه -: "من كان مُستنًّا فليستنَّ بمن قد ماتَ؛ فإن الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كانُوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقَهم علمًا، وأقلَّهم تكلُّفًا".
ويتساءَلُ إمامُ الحرمين عبد الملك الجُوينيُّ - رحمه الله - يتساءلُ: "ما الحقُّ الذي يحملُ الإمامُ الخلقَ عليه في الاعتِقاد إذا تمكَّنَ منه؟"، ثم يُجيبُ - رحمه الله - بقوله: "إن الذي يحرِصُ الإمامُ عليه جمعَ عامَّةِ الخلقِ على مذاهبِ السَّلَف السابِقين قبل أن نبَغَت الأهواء، وزاغَت الآراء، وكانُوا ينهَون عن التعرُّض للغوامِض، والتعمُّق في المُشكِلات، والإمعانِ في مُلابَسَة المُعضِلات، والاعتِناء بجمعِ الشُّبُهات". انتهى كلامُه - رحمه الله -.
ويقول الإمامُ الذهبي: "فالذي يحتاجُ إليه الحافظُ: أن يكون تقيًّا ذكيًّا نحويًّا لُغويًّا حيِيًّا سلفيًّا".
السَّلَفُ ليس لهم لقبٌ يُعرَفُون به، ولا نسَبٌ ينتسِبُون إليه، كما قال بعضُ الأئمة - وقد سُئِل عن السُّنَّة - فقال: "السُّنَّةُ ما لا اسمَ له سِوى السُّنَّة، أما غيرُهم فينتسِبُون إلى المقالةِ أو إلى القائِل".
يُوضِّحُ ذلك الإمامُ مالكٌ - رحمه الله -، وقد جاءَه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله! أسألُك عن مسألةٍ أجعلُك حُجَّةً فيما بيني وبين الله - عز وجل -. قال مالكٌ: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ سَلْ". قال: من أهلُ السُّنَّة؟ قال: "أهلُ السُّنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قدَريٌّ".
قال أهلُ العلم: "إنما برَزَ الانتِسابُ إلى السَّلَف الصالحِ حينما ظهرَت الفِرقُ في الأمة التي قال فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «وستفترِقُ هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فِرقة»، ثم بيَّن - عليه الصلاة والسلام - النهجَ الحقَّ في قوله: «ما أنا عليه وأصحابي»".
الصحابةُ وتابِعُوهم بإحسانٍ هم خيرُ هذه الأمة، وأزكاها دينًا، وأعلاها مقامًا، وأعلمُها بما كان عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
معاشر المسلمين:
منهجُ السَّلَف الصالح ليس حِقبةً تاريخيَّةً محدودة، ولا جماعةً مذهبيَّةً محصورة؛ بل هو منهجٌ مُستمرٌّ لا يتقيَّدُ بزمَانٍ، ولا ينحصِرُ بمكانٍ. وعليه؛ فإن هذا المنهجَ ليس حِزبًا، ولا تيَّارًا، ولا حركةً، وليس تكتُّلاً سياسيًّا، هو منهجٌ لا جماعة.
يُوضِّحُ ذلك: أن المُنضوِين تحت هذا المنهَج قطاعٌ عريضٌ من المُسلمين شُعوبًا وديارًا؛ بل هم الأصلُ في عُموم المُسلمين؛ فالمُسلمُ يتَّبِعُ الدليلَ ويسيرُ خلفَه، ويُعظِّمُ السَّلفَ الصالحَ، ويُحبُّهم ويقتدِي بهم، وكلُّ إمامٍ من أئمةِ المُسلمين يقول: "إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي".
يقولُ شيخُنا الشيخُ الإمامُ عبدُ العزيز بن باز - رحمه الله -: "السَّلَفُ الصالحُ هم الصحابةُ - رضي الله عنه -، ومن سلكَ سبيلَهم من التابِعين وأتباعِ التابِعين من الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابِلَة، وغيرهم ممن سارَ على الحقِّ، وتمسَّك بالكتابِ العزيزِ والسُّنَّة المُطهَّرة في بابِ التوحيد وبابِ الأسماء والصفات، وفي جميع أمورِ الدين".
ومن القُصور في النظر والفهمِ: حصرُ منهج السَّلَف الصالح في قضايا مُعيَّنة، أو علمٍ مُعيَّن، أو بلدٍ مُعيَّن، أو فئةٍ مُعيَّنة.
السَّلَفُ الصالحُ ليس يدَّعِي تمثيلَهم أحدٌ، ولا ينطِقُ باسمِهم عالِمٌ، فليس ثمَّة جماعةٍ محصورةٍ تُمثِّلُ هذا المنهجَ، وإنما يوجدُ أفرادٌ وجماعاتٌ ينتَمون إلى هذا المنهَجِ، وينتسِبُون إليه، ويسعَون لتحقيقِ مذهبِ السَّلَف الصالحِ. إنه منهجٌ ليس محصورًا في انتِساب، وعدمُ الانتِساب لا ينفِي الانتِساب؛ لأنه منهجٌ ورُؤيةٌ.
وهذا المنهجُ ليس مسؤولاً عن أخطاء بعضِ المُنتسِبِين إليه، وإنما تُنسَبُ الأقوالُ والأفعالُ والتصرُّفات إلى أصحابِها وجماعاتِها لا إلى المنهَج.
معاشر المُسلمين:
منهجُ السَّلَف الصالح يعتمِدُ النصَّ الشرعيَّ، وفهمَ السَّلَف الصالح، وطُرُقَ استِدلالِهم، ومصدرَ التلقِّي عندهم، وليس ذلك محصورًا في فهمِ عالِمٍ بعينِه.
أُصولُ منهج السَّلَف الصالحِ ومبادئُه لم يُولِّدها فكرٌ بشريٌّ، ولا ظرفٌ تأريخيٌّ، ولا اجتِهادُ مُجتهِدٍ؛ بل عِمادُها الكتابُ والسُّنَّةُ.
ومن معالِمِ هذا المنهجِ: لُزومُ اتباعِ الكتابِ العزيزِ والسُّنَّة الصحيحة الثابتة، والحَذَرُ من اتباع الهَوَى والبِدَع، على حدِّ قولِه - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدين المهديِّين من بعدِي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرُهم من حديث العِرباضِ بن سَارِيَة - رضي الله عنه -، وقال الترمذي: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
ومن معالِمِ هذا المنهَج: العنايةُ بلُزومِ الجماعة، والسَّمع والطاعةِ بالمعروف في المنشَطِ والمكرَه، على حدِّ قولِه - عزَّ شأنُه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء: 59].
وحديثِ عُبادة بن الصَّامِت - رضي الله عنه - قال: دعانا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فبايَعناه، فقال فيما أخذَ علينا: "أن بايَعَنا على السَّمع والطاعة في منشَطِنا ومكرَهنا، وعُسرِنا ويُسرِنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، إلا أن ترَوا كُفرًا بواحًا عندكم من الله فيه بُرهانٌ"؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وهو بيانٌ جلِيٌّ في عظيمِ أثَر السَّمع والطاعة، وضرورةِ تقديمِها مهما احلَولَكَت الظروف، وأظْلَمَت الدُّرُوب، غيرَ أن الذي ينبغي تبيُّنُه وبيانُه: أن السمعَ والطاعةَ لا تعنِي ضياعَ الحقوق أو التفريطَ فيها، فمع لُزوم السَّمع والطاعة من حقِّ الناسِ المُطالَبَةُ بحُقوقِهم من الوُلاةِ ظلَمَةً كانوا أو عادِلين، ولا تنافِي بين لُزوم السَّمع والطاعة وظُهور بعضِ المظالِمِ وحقِّ المُطالَبَة بالحقوق ورفع المظالِمِ.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: النصيحةُ المدلولُ عليها بقولِه - عليه الصلاة والسلام -: «الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابِه، ولرسولِه، ولأئمة المُسلمين وعامَّتِهم»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث تميمٍ الدارِيِّ - رضي الله عنه -.
نصيحةٌ في إخلاصٍ وصدقٍ ودِيانةٍ، وحفظِ الحقِّ والمكانةِ، والبُعد عن التَّشنيعِ والتَّشهير، أو سُلُوك مسالِكَ تُؤدِّي إلى التفرُّق والشَّحناء.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكَر، كما قال - عزَّ شأنُه -: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[آل عمران: 110]، وقولُه - عزَّ شأنُه -: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة: 71]، وقولُه - جل وعلا -: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 41].
ومن معالِمِ هذا المنهَج: مصدرُ التلقِّي هو الوحيُ، ويعرِضُون عقولَهم وفهُومَهم وآراءَهم على الكتاب والسُّنَّة؛ فما وافقَها قبِلُوه، وما خالَفَها أعرَضُوا عنه، ونصُّ الشارِعِ هو الأصلُ، تنقادُ إليه النفوسُ، وتعتمِدُ عليه، تتبَعُه ولا يتبَعُها، «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تبَعًا لما جِئتُ به»؛ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، أخرجه الأئمة في مسانيدِهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
والحُجَّةُ للنصِّ الشرعيِّ، وظاهرُ النصِّ يُؤخَذُ به، ويُصارُ إلى التأويل بدليلٍ، وحُجَّةُ النصِّ لا تُرَدُّ قطعيًّا كان النصُّ أو ظنيًّا، والالتِزامُ بنُصوصِ الكتابِ والسُّنَّة لا يُنكِرُ العقلَ ومنزلتَه؛ فالعقلُ أعظمُ ما منَحَ الله الإنسانَ وميَّزَه به، فبِهِ يُتعرَّفُ على الأحكام الشرعيَّة، وهو مَناطُ التكليفِ وأداةُ الاستِنباط.
وهذا المسلَكُ المُستقيمُ هو الذي يُحقِّقُ التوازُنَ بين لفظِ النصِّ ومعناه، وظاهرِه وفَحواه، هذا منهجُ السَّلَف حين يأخُذون بظواهِر النُّصوص عملاً لا يُنافِي الاستِفادة المُنضبِطة من إشاراتها ودلالاتها ومقاصِدها.
هذا هو الوسطُ بين جفاء الحرفيَّة، وذوَبَان التأويل البعيد المُتعسِّف، في مسلَكٍ توافُقيٍّ لا يسمَحُ بإهدارِ أحدِ الجانِبَيْن على حِسابِ الآخر، ولا يطغَى أحدُهما على الآخر، فيُحفَظُ للنصِّ حقُّه ومكانتُه، كما تُقدَّرُ أبعادُه ودلالاتُه ومقاصِدُه، مع الاستِفادة مما يُمكِنُ الاستفادةُ منه من العلوم والمعارِف القديمِ منها والجَديد.
يقول الشاطبيُّ - رحمه الله -: "والعقلُ إذا لم يكن مُتَّبِعًا للشرع لم يبقَ إلا الهوى والشهوة".
معاشر المُسلمين:
ومن معالِمِ هذا المنهَج: أنه لا تعصُّب إلا للحقِّ وما جاء في كتاب الله وكلامِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وعدمُ التعصُّب يقترِنُ بعدمِ ادِّعاءِ العِصمةِ لأحدٍ كائِنًا من كان من عُلماء الدين وأئمَّتِه من الصحابةِ ومن بعدَهم، فضلاً عن غيرِهم. فلا عِصمةَ إلا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُبلِّغُ عن ربِّه - عز وجل -.
ومن هنا؛ فإنهم لا يمنَعون من الخلافِ فيما يسُوغُ فيه الخِلاف، بناءً على فهمِ النصِّ وتقدير المصالحِ والمفاسِد، وتحقيق الغايات والمقاصِد، إذا صدرَ الاجتهادُ من أهلِه في محلِّه. ولهذا كان السَّلَفُ الصالحُ يختلِفون ويعذُرُ بعضُهم بعضًا.
ومن معالِمِ هذا المنهَج: التفريقُ الظاهِرُ بين الحُكم على الأوصافِ والحُكم على الأعيان؛ فالحُكمُ على الأعيان فيه من الضَّبط والتورُّع والاحتِياط ما هو معلومٌ في هذا المنهَج المُبارَك.
وبعدُ، عباد الله:
فإن سَعَة هذا المنهَج وثراءَ موروثِه لا تعنِي ذوَبَانَه أو عدمَ وُضوح معالِمِه، غيرَ أن مساحَة الاجتِهاد في مُحيطِه واسِعة، وكلَّما وفَّق اللهُ العبدَ واقتربَ من السُّنَّة ولُزومِها كان أكثرَ مُتابعةً ومُوافقةً واقتِداءً، وكلَّما زادَ صلاحُ العبد والتِزامُه بالسُّنَّة كان أعمقَ علمًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأكملَ بصيرةً، مع الحِرصِ على أُصول العلوم وقواعِدِها ومعاقِدِها، وقد جعل الله لكل شيءٍ قدرًا، وفي ذلك كلِّه يكونُ المرجِعُ أهلَ الذِّكرِ من حمَلَة الكتابِ وحُفَّاظِ السُّنَّة، ليعلَمَه الذين يستنبِطُونه منهم المدلولُ عليه بقولِه - جل وعلا -: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[النساء: 83].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على آلائِه، والشكرُ له على نعمائِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جلَّ في عليائِه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرتُه من خلقِه وصفيُّه من أوليائِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأصفِيائِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تنزَّلَ أمرُه بين أرضِه وسمائِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم لقائِه.



أما بعد، أيها المسلمون:
فإن منهجَ السَّلَف هو الدينُ بجميعِ شرائِعِه في التوحيد والإيمان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر، في العلاقات والحقوق، والمُعاملات، والسياسة في حقائقِها وحُدودِها وشرائِطِها، في وحدةٍ لا تفرُّق فيها.
يقول عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في كلمةٍ جامعةٍ: "سَنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وُولاةُ الأمر من بعدِه سُنَنًا؛ الأخذُ بها اتِّباعٌ لكتابِ الله - عز وجل -، واستِكمالٌ لطاعة الله، وقوةٌ على دين الله، ليس لأحدٍ من الخلقِ تغييرُها ولا تبديلُها، ولا النظرُ في شيءٍ خالَفَها. من اهتدَى بها فهو مُهتدٍ، ومن استنصَرَ بها فهو منصورٌ، ومن تركَها اتَّبَع غيرَ سبيلِ المُؤمنين وولاَّه الله ما تولَّى وأصلاهُ جهنَّم وساءَت مصيرًا".
أئمةُ أهل العلم وأساطينُه مُجدِّدون لا مُؤسِّسُون، فأيُّ دعوةٍ تُعظِّمُ النصَّ الشرعيَّ وتصُونُ دلالَتَه وتقِفُ دون تحريفِ الغالِين، وتأويلات الجاهِلين، وانتِحالات المُبطِلين فهي دعوةُ حقٍّ.
ولا يُوصَفُ سُلوكُ المرء بالاعتِدال والوسَط والسَّمَاحة إلا إذا سلِمَ من نوعَي التطرُّف: التشدُّد والتنطُّع، والمُيُوعَة والذَّوَبان، وإدخالُ نِزاعات النفس والقَناعات الشخصية في الأحكام سُلُوكٌ لا يمُتُّ للعلمِ بصِلَةٍ، ولا لحُرِّيَة الفِكرِ بنَسَبٍ.
فإذا قال عالِمٌ بتحريمِ ما يرَى غيرُه حِلَّه، أو وجوبِ ما يرَى زميلُه استِحبابَه لا يُوصَفُ بأنَّه مُتشدِّد؛ فهذا ليس من العلمِ ولا من الاتِّصاف به، ناهِيكُم إذا كان ما يقولُ به هو قولَ جماهير أهل العلم.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، والزَموا الجادَّة، وخُذوا بالسُّنَّة، واستمسِكوا بالهديِ الأولِ.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخوانَنا في سوريا، اللهم احفظ إخوانَنا في سوريا، وفي بُورما، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، واشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، واجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم.
اللهم عليك بالطغاة والظلمة في سوريا، وفي بُورما، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 11:04 AM   رقم المشاركة : 136
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الإيمان واليقين والثبات على الدين
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 5 ربيع الثاني 1434هـ بعنوان: "الإيمان واليقين والثبات على الدين"، والتي تحدَّث فيها عن الإيمان واليقين، وبيَّن أنهما أعظم أسباب النصر والتمكين والثبات على دين الله تعالى، ووجَّه برسائل مهمة لجميع العلماء والدعاة بضرورة التصدِّي للملاحِدة وأصحاب الدعوات والأفكار الهدَّامة بمُحاربة البدع والضلالات، ونشر الإيمان بين الناس، وبيان فضلِه لهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، اللهم باسمِك نبتدِي وبهديِك نهتدِي، وبك يا مُعين نسترشِدُ ونستعين، نسألُك أن تكحَلَ بنور الحق بصائرَنا، وأن تجعلَ إلى رِضاك مصائِرَنا، نحمدُك على أن سدَّدتَ على جادَّة الدين خُطواتنا، وثبَّتَّ على صِراط الحق أقدامَنا، ونُصلِّي ونُسلِّم على نبيِّك الذي دعا إليك على بصيرةٍ، وتولَّاك فكنتَ وليَّه ونصيرَه، وعلى آله المُتَّبعين لسُنَّته، وأصحابه المُبيِّنين لشريعته.
اللهم يا وليَّ المؤمنين تولَّنا، وخُذ بنواصِينا إلى الحق، واجعل لنا في كل غاشيةٍ من الفتنة رِداءً من السَّكينة، وفي كل داهِمةٍ من البلاءِ دِرعًا من الصَّبر، وفي كل داجِيةٍ من الشكِّ علمًا من اليقين، وفي كل نازِلةٍ من الفَزَع واقِيَةً من الثَّبات، وفي كل ناجِمةٍ من الضَّلال نورًا من الهداية، ومع كل طائفٍ من الهوَى رادِعًا من التقوى، وفي كل عارِضٍ من الشُّبهة لائِحًا من البُرهان، وفي كل مجهَلةٍ من الباطلِ معالِمَ من الحق واليقين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرَّد بالخلق والحُكم، ما شاءَ كانَ وما لم يشَأ لم يكُن، لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، والخلقُ مقهورون تحت قبضَته، ما من قلبٍ إلا وهو بين أُصبعين من أصابِعه إن شاءَ أقامَه وإن شاءَ أزاغَه، فهو الذي آتى نفوسَ المؤمنين تقواهَا، وهو الذي هداها وزكَّها، وألهَمَ نفوسَ الزائِغين فُجورَها وأشقاهَا.
يهدِي من يشاءُ بفضلِه ورحمتِه، ويُضِلُّ من يشاءُ بعدلِه وحِكمته، هذا فضلُه وعطاؤُه، وما فضلُ الكريمِ بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤُه لا يُسألُ عما يفعلُ وهم يُسألُون.
وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانَة، ونصحَ الأمة، وتركَنا على البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وراقِبُوه، وأطيعُوا أمرَه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
حين أرادَ الله بالبشرية الخيرَ بعثَ فيها النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأنزلَ عليه القرآن؛ فهدَى به من الضلالة، وبصَّر به من العَمَى، وأخرجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، فقامَت حضارةٌ، وسادَت أُمم، ونهَضَت شُعوب، وما تمَّ ذلك - بعد توفيق الله - إلا بوَقودٍ تُشحَذُ به الطاقات، ودافعٍ تتغذَّى به الهِمَمُ وتقوَى الإرادات؛ إنه وَقودُ الإيمان، ودافعُ العقيدة.
إيمانٌ صنَع جيلاً لم تعرفِ الدنيا مثلَه، وحضارةٌ لم يهنَأ العالَمُ بمثلِها، عملٌ وجِدٌّ وبِناء، وخُلُقٌ ورُقِيٌّ ومرحَمَة، وجهادٌ وفتحٌ للقلوب والبصائر، وعدلٌ وسِع الدنيا، ومع ذلك كلِّه عزمٌ يدُكُّ الجبال، وثباتٌ يُوازِي الرَّواسِي، ونصرٌ وعِزَّةٌ وكرامةٌ. إنه الإيمانُ الذي يصنعُ المُعجِزات.
العقائِدُ والتصوُّرات، والإيمانُ واليقين أسلحةٌ لا قِبَلَ لجيُوش الأرض بها، وعَتادٌ لا طاقةَ للمُحارِبين بمُواجَهَته، وقد جاءَ في مُحكَم التنزيل: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ[الأنفال: 65]، ومعلومٌ أن غلبَتَهم بشيءٍ وقَرَ في القلبِ لا تُقاوِمُه العُدَدُ ولا العَدَدُ.
أيها المسلمون:
الإيمانُ الصادقُ خيرُ ما أضمرَ الإنسانُ، وأفضلُ ما أظهَر، والإيمانُ ليس مُجرَّد كلمةٍ تُقال، ولكنَّه مع ذلك إحساسٌ بجلالِ الله، وخُشوعٌ لعظَمته، وانقِيادٌ لأمره، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا[الأنفال: 2].
الإيمانُ مشاعِرُ نبيلة، وصفاتٌ كريمةٌ، وعقلٌ مُستقيمٌ، وضميرٌ حيٌّ، وشِفاءٌ من كل عِلَل النفوس وأدوائِها، الإيمانُ تصديقٌ وعملٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ[الحجرات: 7].
الإيمانُ يقينٌ يسكُنُ الأعماقَ، ومعرفةُ الله لها ذوقٌ حُلوٌ يطبعُ النفوسَ على النُّبْلِ والتسامِي، ويُصفِّي النفوسَ من كَدَرها، إنه شوقٌ إلى الله، ومُسارعةٌ إلى مرضاتِه.
الإيمانُ ينفَحُ القلبَ نورًا، ويملأُ الصدورَ سُرورًا، وأيُّ إيمانٍ فوق الطُّمأنينة بالله والرُّكون إليه، وامتلاءِ القلب به وحده دون سِواه؟
أصحُّ القلوبِ وأسلمُها، وأقومُها وأرقُّها، وأصفَاها وأقواها وأليَنُها من اتَّخَذ اللهَ وحدَه إلهًا ومعبُودًا، وأخلصَ القلبَ له دون سِواه، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ[النساء: 125].
وإسلامُ الوجهِ لله هو إقبالُ العبدِ بكلِّيَّته على الله وإعراضُه عمَّن سِواه، والخُضوع لإرادتِه، والتذلُّل لعظمَته وكبريائِه، والإيمانُ بوحدانيَّته وشريعته، وبه يكونُ كمال الإيمان وتمامُه.
الإيمانُ جعلَ نبيَّ الله هُودًا يقول لقومِه: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ[هود: 55، 56].
وحين وقفَ موسى - عليه السلام - أمام البحر، وخلفَه فرعون وجيشُه، وتراءَى الجَمعان، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء: 61، 62].
الإيمانُ جعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو في مرمَى بصر المُشرِكين: «يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنَين اللهُ ثالِثُهما».
قال ابن القيم - رحمه الله -: "ومتى وصلَ اليقينُ إلى القلبِ امتلأَ نورًا وإشراقًا، وانتفَى عنه كلُّ ريبٍ وشكٍّ، وسُخطٍ وهمٍّ وغمٍّ، فامتلأَ محبَّةً لله، وخوفًا منه، ورِضًا به، وشُكرًا له، وتوكُّلاً عليه، وإنابةً إليه".
وفي قول الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65]، قال - رحمه الله -: "التسليمُ هو الخلاصُ من شُبهةٍ تُعارِضُ الإيمانَ بالخبر، أو شَهوةٍ تُعارِضُ أمرَ الله، أو سُخطٍ يُعارِضُ القضاءَ والقدَر".
أيها المسلمون:
الإيمانُ يصنعُ المواقِفَ كما يصنعُ الرِّجال، الإيمانُ وَقودُ الهِمَم كما هو رُوحُ الأُمم، وبه بلغَ الصحابةُ - رضي الله عنهم - بالإسلام ما بلَغوا، وعطَّرَت سيرتُهم ومسيرتُهم ذرَّات الكون، وصفَ اللهُ ثباتَ المؤمنين وقتَ المِحَن فقال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[آل عمران: 173].
ووصفَ استِسلامَهم لأحكام الشريعةِ فقال: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[النور: 51].
لقد بلغَ الإيمانُ واليقينُ بالصحابةِ مبلغًا صنعَ التاريخَ، في علمِهم وفقهِهم، وجهادِهم وعبادتِهم، وحُبِّهم وتعامُلهم، وبَذل مُهَجهم لله، مُستيقِنين قولَ الله - عز وجل -: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ[التوبة: 111].
بلغَ بهم الإيمان أن أنسَ بن النَّضر - رضي الله عنه - يقول: "والذي نفسي بيده؛ إني لأجِدُ ريحَ الجنةِ دونَ أُحُد". قال أنسُ بن مالكٍ - راوي الحديث -: ونزلَت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ[الأحزاب: 23]، قال: "وكنا نقولُ: أُنزِلَت هذه الآية فيه وفي أصحابِه"؛ رواه مسلم.
وهذا عُميرُ بن الحِمام - رضي الله عنه - يقولُ: "بَخٍ بَخٍ؛ ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتُلَني هؤلاء، لئِن بقيتُ حتى آكُلَ هذه التَّمَرات إنها لحياةٌ طويلةٌ". ثم رمَى ما في يدِه وقاتَلَ حتى قُتِل.
هذا يقينُ الصحابة - رضي الله عنهم -، فهم يرَون عالمَ الغيب أمامَهم كأنَّه عالمُ الشهادة.
ولما علِمَ المُشرِكون بخبَر الإسراء والمِعرَاج سخِرُوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، سخِروا من أمرٍ لم تبلُغه عقولُهم، فتجهَّزَ ناسٌ من قريشٍ إلى أبي بكرٍ - رضي الله عنه -، فقالوا: هل لكَ في صاحبِك؟ يزعُمُ أنه جاء إلى بيت المقدسِ ثم رجعَ إلى مكَّة في ليلةٍ واحدةٍ! فقال أبو بكر: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أشهدُ لئن كان قالَ ذلك لقد صدقَ. قالوا: فتُصدِّقُه في أن يأتي الشامَ في ليلةٍ واحدةٍ ثم يرجِعُ إلى مكَّة قبل أن يُصبِح؟ قال: نعم، أنا أُصدِّقُه بأبعَدَ من ذلك، أُصدِّقُه بخبَر السماء.
قال أبو سلَمة: فبِها سُمِّي "أبو بكر الصدِّيق".
عباد الله:
وعلى مدَى القُرون السَّالِفة لم يُسجَّل للعربِ مجدٌ إلا بدينِهم، ولم يكُن لهم عِزٌّ إلا بإيمانِهم، وكأنَّ اللهَ أرادَ أن تكون القيادةُ الرُّوحيَّةُ للبشرية لهم، وحين تخلَّوا عن هذه الرُّوح، وتخلَّوا عن هذا الدَّور انتكَسَت حالُهم، ولم تتمَّ لهم نهضةٌ بعد عُصور الانحِطاط؛ لأنهم نحَّوا الإيمانَ تأسِّيًا بباقِي الأُمم، فلا حفِظوا الدين، ولا كسَبُوا الدنيا، طرَقُوا مسالِكَ القومية والشُّيوعيَّة والعلمانيَّة، فإذا دُرُوبُهم يَباب، ومجدُهم سَرَاب.
أيها المؤمنون:
لقد أدركَ أعداءُ الإسلام حقيقةَ الإيمان وأثرَه في حياة المُسلمين، وماذا صنعَ بأوائلِهم، وكيف صنعَ أوائلُهم به، وأدرَكوا أنه روح الأمة وسرُّ قوَّتها، فاستَهدَفوا عقيدةَ الأمة في حربٍ شَعواء، واستخدَموا كلَّ وسائل الشُّبُهات والشَّهَوات، عبرَ الكِتابات والقَنَوات، والبرامِج والخُطَط المُمنهَجة، حتى نبَتَت نابِتةٌ الزَّيغ والإلحاد، ونجَمَ النفاق، وظهرَ للتَّشكيكِ رُؤوسٌ ومدارِس تنسِفُ التوحيد، وتُزعزِعُ اليقين، وتُحيلُ القلوبَ إلى هشيمٍ تلتهِمُه النارُ من أول شَرارةٍ.
وفي كل يومٍ ترى أو تسمعُ باقِعةً إلحاديَّة، أو فِكرةٍ شيطانيَّة، في رَتابَةٍ تُدرِكُ معها أن الأمرَ ليس خطأً فرديًّا؛ بل عدوانًا مقصودًا، ولقد كان يستحيلُ بالأمس أن تسمعَ هذا الزَّيغ، بَيْد أن الأعداء عرَّضُوا الأمةَ للسِّنين العِجاف، والأزمات العَضُود، وشغَلُوها بالملاهِي والتسالِي، واللَّهاثِ خلف لُقمة العيش وحُطام الدنيا. وخُلِق جيلٌ هزيلٌ زهيدٌ في دينِه، يَهابُ كلَّ الأديان ولا يهَابُ من عقيدتِه.
إن الإلحادَ آفةٌ نفسيَّةٌ، وليس شُبهةً علميةً، إن الله يأمرُ بأن تكون العقيدةُ هي رابِطةَ التجمُّع، ولكنَّ قومًا يُريدون استِبعادَها وإحلالَ النَّزَعات القوميَّة والعُنصريَّة، وإن الله يأمرُ بالعِفَّة والحِشمَة والفَضيلة، ولكنَّ الذين يُحبُّون شُيُوع الفاحِشة يستنجِدون بالمُساواة والرَّغبة في الإنتاجِيَّة ولو على حساب الفضيلة، ودخلَ الدينُ في مِحنةٍ هائِلةٍ، حتى صارَ حُماةُ الإسلام يقِفُون عند آخر خُطوط الدِّفاع.
وإذا حقَّقتْ طائفةٌ من الأمة بعضَ ما تصبُو إليه من الإيمان، واختارَت ما تُصلِحُ به دينَها ودُنياها بادَرَ شانِئُوها لزرع الفِتَن والاضطرابات، ومنع الأمة من العودة إلى سرِّ قوَّتها وروح نهضَتها، وقمع الحقِّ بكل وسيلةٍ ولو بالتدخُّلات العسكريَّة، في مُبادراتٍ سريعةٍ لافِتةٍ للنظر، ضارِبين بالعُهود والمواثِيق، والقوانين والمُعاهَدات والأعراف عرضَ الحائِط، مُصادِرين للحريات واختِيار الإنسان، في تناقُضٍ عجيبٍ في المواقِف.
وها أنت ترَى شعبَ سُوريا المظلوم يئِنُّ منذ عامَين تحت الظلم والقهر والقتل، ولا يرغَبُ العالَمُ في إنهاء هذه المظالِم ولا يُريد؛ لأن له حِساباتِه الأنانيَّة، ومقاصِدَه اللَّئِيمة، وليس للأخلاق والقِيَم عنده ميزانٌ إلا للتزيُّن والدِّعاية وذرِّ الرَّماد في العُيون.
إن التخاذُلَ عن نصر المُستضعَفين في سُوريا مع سُرعة التدخُّل في غيرها لهُوَ عُنصريَّةٌ مفضُوحةٌ، وحَيفٌ دوليٌّ وتواطُؤٌ مكشوف، وهذا يُنمِّي الكراهية والعِداء، وينسِفُ جُهودَ التقارُبِ والتعايُشِ والسلام.
إن على الصادِقين أن يُطفِئوا نارَ الفتن، وأن يتحرَّكوا سِراعًا للعمل الجادِّ لكل ما يُحيِي القلوبَ ويُطهِّرُها، ويُزكِّي النفوسَ ويُجمِّلُها، ويُعيدُ للأمة عِزَّتَها وكرامتَها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[البقرة: 105].
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.




الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالِكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ المَيامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أيها المسلمون:
إن الدواءَ الذي نهضَت به أمَّتُنا مُنزَّلٌ من لدُن حكيمٍ خبيرٍ على قلبِ خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، فلا تِرياقَ بعدَه ولا حلَّ سِواه.
إن خَواء النفوسِ من الإيمان كارِثةٌ دينيَّةٌ ودنيويَّةٌ، وإن الدينَ ليس ضمانًا للآخرة فحسب؛ بل هو ضمانٌ للبقاء، وإن استِلالَ الإيمان من النفوس وتركَ القلوب خَواءً من الدين لهُوَ الضربةُ القاضِيَةُ المُهلِكة، ومن يُعينُ عدوَّه في تحقيق ذلك فهو خائِنٌ لله ولرسُولِه ولأمته.
وقد تورَّطَ بعضُ المُسلمين في تحقيق بعض رَغَبات العدو؛ إما جهلاً، أو من ضعفِ وعيٍ وقلَّة دين، وتغليبِ الدنيا على الآخرة. وبعضُهم سخَّر ما رزقَه الله من مالٍ وقلمٍ وإعلامٍ في تَهوينِ الدِّيانة في نفوس المُسلمين، وفتحِ أبوابِ الشَّهوات والشُّبُهات، حتى بِتْنا نخشَى على أنفُسنا قبل أجيالِنا.
ألا فاتقوا الله - أيها المسلمون -، وإياكُم وتقديسَ العقل واتباعَ الهوَى، والإعجابَ بالرأي.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "من تعوَّد مُعارضَة الشرع بالرأي لا يستقِرُّ في قلبِه الإيمان".
والواقعُ شاهِدٌ، كما في اضطِرابِ المُعاصِرين، أدمَنوا الشَّغَبَ على الشريعة. فالحَذَرَ كلَّ الحَذَر من تعريضِ النفس للشُّبُهات، وورودِ المناهِل العَكِرة أو مُجالَسة أصحابها، أو التعرُّض لمراتِعِها؛ من القنوات والكتب والروايات، والمواقِع الآسِنات؛ فإن القلوبَ ضعيفة، والشُّبَهَ خطَّافة، واللهُ تعالى يقول: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأنعام: 68]، وقال - سبحانه -: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[النساء: 140].
الإيمانُ كنزٌ يجبُ النَّأْيُ به عن العوارِضِ والآفات، كم سُلِبَه علماء، واستُلَّ من عُبَّاد، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[الأعراف: 175].
وإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد خافَ الفتنةَ على الفاروق - رضي الله عنه - حين أتاه بكتابٍ أصابَه من بعض أهلِ الكتابِ فقرأَه عليه، فغضِبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: «أمُتهوِّكُون أنتم فيها يا ابنَ الخطَّاب؟!» - أي: هل أنتم مُتحيِّرُون في الإسلام، لا تعرِفون دينَكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى؟! - «والذي نفسي بيده؛ لقد جِئتُكم بها بيضاء نقيَّة».
فمن يأمَنُ على نفسِه الفتنةَ بعد عُمر؟! ولقد خلَت من قبلِنا المثُلات، وسِيقَت لنا العِظات، فعلى المُؤمنِ تجنُّبُ الشُّبُهات ومواطِن الفِتَن، وكم يتهاوَنُ المُفرِّطُون في تقحُّمِها بدافعِ الفُضولِ أو تطلُّبِ المعرِفة، خصوصًا وقد تيسَّرَت سُبُل الوصول إليها، فزلَّت أقدام، وانتكَسَت أفهام، وزُيِّن لبعضِهم سُوءُ عملِه فرآهُ حسنًا.
وقد كان رسولُ الإيمان - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يدعُو: «يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِك».
وفي الإكثار من العمل الصالحِ، وتلاوة القرآن، ومُجالَسَة الأخيار من الأبرار، والتِزام الدعاء عصمةٌ - بإذن الله - من الأهواء والشُّبُهات.
يجبُ استِنهاضُ هِمَم العُلماء والمُصلِحين ليقِفُوا سدًّا مَنيعًا دون عوادِي الإلحاد، ورياح التَّشكيك؛ حِراسةً للدين، وحِمايةً له من العادِيات عليه وعلى أهلِه، قِيامًا بالواجِب، ورحمةً بالإنسانيَّة، وحِفاظًا على وحدة الصفِّ، وجمع الكلِمة، ومدِّ بَشاشَة الإيمان.
ألا إن النَّفيرَ لرَدع المُلحِدين ونقضِ شُبَههم وكشف فُتونِهم وتعرِيَتهم هو من حقِّ الله على عباده، وحقِّ المُسلمين على عُلمائِهم في ردٍّ كل مُخالِفٍ ومُخالفَته، ومُضِلٍّ وضلالته، ومُخطِئٍ وخطئِه، وزلَّة عالِمٍ وشُذُوذه، حتى لا تتداعَى الأهواءُ على المُسلمين، تعثُو فسادًا في فِطَرهم، وتقسِمُ وحدتَهم، وتؤولُ بدينِهم إلى دينٍ مُبدَّل، وشرعٍ مُحرَّف، ورُكامٍ من النِّحَل والأهواء.
اللهم يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك، اللهم يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصُر المسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا في مصر وفي كل مكان، اللهم اجمَعهم على الهدى، واكفِهم شِرارَهم، وأصلِح أحوالَهم.
اللهم كُن لإخواننا في سُوريا، اللهم كُن لإخواننا في سُوريا، اللهم اجمَعهم على الحق والهُدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، وأتِمَّ عليه عافِيَتك وألبِسه لباسَ الصحةِ وتمامَ الشفاءِ، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين. اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطِك والنار.
نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ ونتوبُ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطِين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ. اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 11:07 AM   رقم المشاركة : 137
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

العمل التطوعي .. أهميته وآثاره
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 ربيع الثاني 1434هـ بعنوان: "العمل التطوعي .. أهميته وآثاره"، والتي تحدَّث فيها عن العمل التطوُّعي ومدى أهميته وعظيمَ أثره على الأفراد والمُجتمعات، وحضَّ المُسلمين عليه وذكرَ شيئًا من آثاره، وبيَّن أن المُسلمين أولَى به من غيرهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله الكبير المُتعال، ذي العزَّة والكمال والجلال، بيده مقاليدُ السماوات والأرض يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد وإليه المردُّ والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، عظيمُ السَّجايا كريمُ الخِصال، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأزواجه وأصحابه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولةَ لي ولكم - أيها الناس - هي تقوى الله - سبحانه -؛ فما خابَ من عضَّ عليها بالنواجِذ، واتَّقى ربَّه في منشطِه ومكرهِه، وغضبِه ورِضاه، هي النورُ في الظُّلَم، والحادي في الغُربَة والمُلِمَّات، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
أيها الناس:
إن من أهم سِمات المُجتمع الناجِح المُتكامِل: أن يكون في بُنيانِه مُتماسِكًا، تجمعُه لبِناتٌ مرصوصة تُمثِّلُ حقيقةَ أفرادِه وبَنِيه، لا تختلِفُ فيه لبِنَةٌ عن أخرى، ولا فرقَ فيها بين ما يكونُ منها أسفلَ البِناءِ أو أعلاه؛ لأن البِناءَ لن يكون راسِيًا يسنُدُ بعضُه بعضًا إلا بهذا المجموع، ومتى كان التصدُّع أو الإهمال لأي لبِنَةٍ من لبِنَاته فإنه التفكُّكُ والانفِطار ما منه بُدٌّ، فضلاً عن أن هذا بدايةُ تساقُطه شيئًا فشيئًا. وهذه حالُ كل مُجتمع وواقعُه.
ولذا فإن المُجتمع إذا لم يكن كالأسرة الواحِدة في ترابُطه وتعاهُدِ بعضِهم بعضًا، وأن يسمعَ الشريفُ للوضيع، والغنيُّ للفقير، والكبيرُ للصغير، وألا يشعُر أيُّ فردٍ بين المُجتمع أنه إنما يعيشُ وحدَه؛ كالعِيس في البَيْداء مهما كان بين ظهرانَي أمةٍ مُترامِيَة في بُقعةٍ واحدةٍ.
نعم، إنه إذا لم يكن المُجتمعُ بهذه الصورة فإنه يأذَن لنفسِه بالنُّفرة والتفرُّق، ويُمهِّدُ الطريقَ لمعاوِل الأنانِيَّة والأثَرة وعدم الاكتِراث بالآخرين، وما قيمةُ مُجتمعٍ الهَدمُ فيه أكثرُ من البِناء.
إنه مهما بلَغَت الدول من العَظَمة والثَّروات والتقدُّم الاقتصاديّ فلن يكون ذلكم وحده كافِيًا في تلبِيَة جميع رغباتِ أفرادِها، وتحقُّق جميع تطلُّعاتهم لحظةَ الاحتِياج، فضلاً عن تحقيقها على الدَّوام.
وهنا يأتي دورُ المُجتمع المُترابِط المُتماسِك، حينما تُذكَى بين جَنَبَاته روحُ العمل التطوُّعي الذي يُعدُّ رُكنًا أساسًا من أركان رأبِ صَدع الشُّعوب المادِّي، والاجتِماعيِّ، والغذائيِّ، والأمنيِّ، والفِكريِّ، وغير ذلكم من الضرورات والحاجيَّات والتحسينَات.
إنه حينما يعُمُّ العملُ التطوُّعيُّ جنَبَات المُجتمع، ويفرِضُ نفسَه شُعورًا ساميًّا لذَوِيه وبنِي مُجتمعه ليقضِيَنَّ على الأثَرَة والشُّحِّ والاحتِكار والمَسْكَنة، شريطةَ ألا تغتالَ صفاءَه أبعادٌ مصلحيَّةٌ أو حِزبيَّةٌ أو إقليميَّةٌ، وليس هناك حدٌّ لمن يحقُّ له أن يستفيدَ من العمل التطوُّعيِّ؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: «في كل كبدٍ رطبةٍ أجر»؛ رواه البخاري ومسلم.
العملُ التطوُّعيُّ – عباد الله – لا يُحدُّ بحدٍّ، ولا ينتهِي بزمنٍ، وامتِدادُ حدِّه بامتِدادِ طبيعتِه؛ فكلُّ عملٍ احتِسابيٍّ لا نظرةَ فيه للأُجرة والمِنَّة فهو تطوُّعيٌّ إذا كان في وجهِ خيرٍ، وهو مُمتدٌّ ومُتَّسِعٌ بامتِداد واتِّساع كلمةِ "خيرٍ"، وهو هنا يختلفُ بعضَ الشيء عن العملِ الخيريِّ؛ لأن العملَ التطوُّعيَّ يكونُ بالمُبادَرة قبل الطلَب، بخلافِ العملِ الخيريِّ؛ فإنه – في الغالب – لا يكون إلا بعد الطلَب، وكلا العَمَلَيْن وجهان لعُملةٍ واحِدةٍ. مُحصِّلتُهما: بذلُ المعروف للناس دون أُجرةٍ أو مِنَّةٍ، وإنما احتِسابًا لما عند الله، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 9].
إن كل عاقلٍ يُدرِكُ أن قيمةَ المُجتمعات في نُهوضِها والحِفاظ على نفسِها من التهالُك والتصدُّع، ويُدرِكُ أن العملَ التطوُّعيَّ مطلبٌ منشودٌ في جميعِ الشرائع السماوية والوضعيَّة، في الإسلام وقبل الإسلام.
وهو علامةٌ بارِزةٌ على صفاء معدن صاحبِه ونخوَته وعاطفته ولُطفِه؛ لأن هذه صفاتُ من خلقَهم الله حُنفاء ولم تجتلْهُم شياطينُ الأنانية وحبّ الذات.
ولا أدلَّ على ذلكم من قولِ خديجَة - رضي الله تعالى عنها – تصِفُ حالَ النبي - صلى الله عليه وسلم – قبلَ البِعثة حينما جاءَها من دار حِراء، بعد أن رأى جبريلَ - عليه السلام -، فقال لها: «لقد خشيتُ على نفسي». فقالت له: "كلا، أبشر؛ فوالله لا يُخزيكَ الله أبدًا، والله إنك لتصِلُ الرَّحِمَ، وتصدقُ الحديثَ، وتحمِلُ الكلَّ، وتكسِبُ المعدومَ، وتقرِي الضيفَ، وتُعينُ على نوائِبِ الحقِّ"؛ رواه البخاري ومسلم.
وإن مما يُؤكِّدُ أن العملَ التطوُّعيَّ فطرةٌ سوِيَّةٌ في الإسلام وقبل الإسلام: ما ذكرَه حكيمُ بن حِزامٍ - رضي الله تعالى عنه – لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال له: يا رسول الله! أرأيتَ أمورًا كنتُ أتحنَّثُ بها في الجاهِليَّة؛ من صدقةٍ، أو عتاقةٍ، أو صِلَة رحِمٍ، أفيها أجرٌ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أسلَمتَ على ما أسلَفتَ من خيرٍ»؛ رواه مسلم.
هذه هي سَعَةُ الإسلام وسمَاحتُه ورحمتُه؛ إنه الحثُّ على البرِّ والتعاوُن عليه، وتلمُّس احتِياجات الناس.
والعملُ التطوُّعيُّ إنما هو ترجمانٌ لصورةٍ من صُور الإسلام الرَّاشِدة الخالِدة التي تتَّصِفُ بالشُّموليَّة وتنوُّع مجالات العمل التطوُّعيِّ، لتشملَ الأهدافَ التنمويَّة؛ ففي المجالِ الاقتصاديِّ يُمثِّلُ العملُ التطوُّعيُّ الاهتمامَ الدقيقَ من خلال بذل الأوقاف وتفعيل الوعيِ للأنشِطة الوقفيَّة؛ لأن لها أثرًا بالِغًا في تنميَة الاقتصاد؛ حيث تتَّسعُ الحركةُ الماليَّة مع حفظِ الأصول المُثمِرة من الاندِثار.
وقولوا مثلَ ذلكم في المجال الفِكريِّ، والاجتماعيِّ، والدعويِّ، وما شابَه، شريطةَ أن يخرجَ عن إطار الرَّتابَة والبُرود إلى دائرة المُواكَبة، ومُسابَقة الزمن، واستِقطاب الكفاءات، وإنشاء مكاتب الدراسات والبُحوث التي تُعنَى بحاجات المُجتمع وحُلولها، وتطرحُ الدراسات العلاجِيَّة والوِقائيَّة من خلال توعِية المُجتمع بقيمَة العمل التطوُّعيِّ، وأثره في التقارُب الاجتماعيِّ المعيشيِّ، والإحساس الدينيِّ.
ولو نظرنا نظرةً خاطِفةً إلى مجالٍ واحدٍ من مجالات العمل التطوُّعيِّ، وهو: سدُّ العَوزَة والفقر، وإكساب المَعدومين؛ لوَجَدنا أن الذي يُنفِقُه المُوسِرُون على الترفُّه والتحسينات رُبَّما سدَّ حاجات فُقراء بلدةٍ بأكلمها.
ولو نظَرنا إلى كُلفَة فرحٍ من أفراح الأغنياء لأدرَكنا أن نِصفَها لو كان لإطعام يتيمٍ ذي مقرَبةٍ، أو مِسكينٍ ذي مترَبَةٍ لكان في ذلك من البركةِ للزوجَين، وجَبْر كسرِ قلوبِ الفقراء، واتِّقاءً للعين والحسد، والعقوبة على السَّرَف والبَذْخ، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا[الإسراء: 26، 27].
هذا هو دينُنا، وهكذا علَّمَنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، إنه يُريدُ منا جميعًا أن نكونَ أيادِيَ خيرٍ وبناءٍ وسدادٍ، نعملُ ولا نقعُدُ، ونشعُر بالآخر لا نصُمُّ عنه ونعمَى؛ فقد قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «على كل مُسلمٍ صدقةٌ». قيل: أرأيتَ إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيدَيْه، فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قيل: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجَة الملهُوف». قيل له: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمُرُ بالمعروف أو الخير». قال: أرأيتَ إن لم يفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ رواه البخاري ومسلم.
فما قيمَةُ مُجتمعٍ قليلِ الخير إذًا؟! وما ظنُّكم بمُجتمعٍ شرُّه طغَى على خيرِه؟! وأيُّ عقَبَةٍ كئُودٍ أعظمُ من ذلكم؟! ومن هو التقيُّ النقيُّ الذي سيقتحِمُ هذه العقَبَة؟! فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ[البلد: 11- 18].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه.
وبعد:
فإن كلَّ مُؤمنٍ غَيُورٍ على أمَّته لتستوقِفُه ظاهرةُ العمل التطوُّعيّ في هذه الآوِنة؛ حيث باتَت من أبرَز الظواهِر الإنسانيَّة العالميَّة، فقد بلغَت في ديار غير المسلمين مبلغًا عظيمًا، مُحاطًا بالدقَّة والإتقان، والتفانِي، ورُوح الرجُل الواحد. في حين أنه ليستوقِفُ المُسلِمَ المُراقِبَ ما يُقارِنُه بين العمل التطوُّعيِّ في الغرب وما وصلَ إليه، وبين العمل التطوُّعيِّ في بلاد الإسلام، وما يُعانِيه من نقصٍ في المفهوم الحقيقيِّ له، والإعداد المُتقَن، ونسبة التأخُّر والتراجُع عما هو عليه المفهومُ عند الآخرين.
فإن من المُؤسِف جدًّا أن تكون جُملةٌ من النماذِج للعمل التطوُّعيِّ في المُجتمعات المُسلِمة تُقدَّمُ لهم على صورةِ عملٍ إجباريٍّ، أو واجبٍ لا يُمكنُ التراجُع عنه قبل أن يسبِقَ ذلكم تهيِئَةٌ نفسيَّةٌ، ودينيَّةٌ، واجتِماعيَّةٌ لفهم هذا العمل الجليل.
إذا يُمكن أن يُدرِك طلاَّبُ المدارِس أو الجامِعات معنى العملِ التطوُّعيِّ مثلاً حينما يُزجُّ بهم في وادٍ أو حيٍّ أو طريقٍ ليقوموا بتنظيفِه، كعملٍ تطوُّعيٍّ بقالَبٍ إجباريٍّ؛ لأنه أمرٌ من المدرَسة أو الجامِعة أو المعهَد أو ما شابَه، دون أن يسبِقَ ذلكم المُقدِّماتُ الأساس لإذكاء قيمة هذا العمل الشريف، وأن يسبِقَ ذلكم عنصرُ التخلِية والتصفِية لشَوائِبِ المِنَن التي اعتادَ عليه المُجتمعُ في حياته مُقابِلَ كلِّ عملٍ يكون.
وهذا ما يتعارَضُ مع العمل التطوُّعيِّ من بدايتِه؛ لأن العملَ التطوُّعيَّ يتطلَّبُ قُدرةً فائِقةً على العطاء دون مِنَّةٍ، أو ترقُّب أُجرةٍ؛ بل إن مبعثَه الحبُّ والعطف، والإحسان الذي لا يكترِثُ بماهيَّة الردِّ، وإنما يحرِصُ على رِضا الضمير وخُلُوِّه من التقصير، والخُذلان تجاه مُجتمعه.
راحتُه وسعادتُه تكمُنُ في رسمِ ابتِسامةٍ على مُحيَّا مسكينٍ، أو سماع تمتَمَاتٍ بالدعاء على لسانِ ملهوفٍ مكرُوبٍ.
ولا يُمكنُ لنا أن نتصوَّر حبًّا بلا عطاءٍ، ولا أن نتصوَّرَ عطاءً بلا حبٍّ، كما أنه لا يكونُ مُكتمِلاً ناجِحًا دون أن يكون عملاً مدرُوسًا ومُنظَّمًا، يعمُّ في الفهم والإدراك للدوافِع والمهارات، والمُقوِّمات الشخصية، والمبادئ المُعرِّفة بالعمل التطوُّعيّ ونُبْلِه وأثره على المُجتمع المُكوَّن مني ومنك، وقرابَتي وقرابَتك، وجيراني وجيرانك.
والمُجتمعُ الناجِحُ الكريمُ البارُّ هو من لا ينتظرُ أحدًا يقول له: أعطِني؛ لأن يدَه تسبِقُ سمعَه، وفعلَه يُغنِي عن قولِه.
وما أحوجَنا جميعًا في هذا الزمن الذي كثُرَت فيه الحروبُ والكُرُوب والمُدلهِمَّات، وطالَت نيرانُها إخوةً لنا في الدين، سُقوفُهم قد وكَفَت، وجُدرانُهم قد نزَّت، لا تكادُ تمنعُ عنهم بردًا ولا بلَلاً. في سوريا، وفي بورما، وفي غيرهما من بلاد المسلمين ما يستدعِي شحذَ الهِمَم، وإذكاءَ العمل التطوُّعيِّ بكل وجوهِه وصُوره، وعلى رأسِها شُريان الحياة الذي هو المال.
فاللهَ اللهَ في إخواننا وبني مِلَّتِنا، ولنُشمِّر عن سواعِد الجدِّ والبَذل والتضحِيات؛ فإن النِّعَم لا تدُوم، وإن مع اليوم غدًا، وإن بعد الحياة موتًا، وبعد الموت حِسابًا، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ[الأنفال: 28].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال – صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّك وعبدك ورسولك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم اهدِنا فيمن هدَيت، وعافِنا فيمن عافَيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارِك لنا فيما أعطَيت، وقِنا شرَّ ما قضَيت، فإنك تقضِي ولا يُقضَى عليك.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين المُضطهَدين في دينِهم في سائر الأوطان، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم انصُرهم في بُورما، وفي سوريا، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وبال، وعجِّل لهم بالنصرِ والفرَج يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين.
اللهم مُنزِل الكتاب، ومُجرِي السحاب، وهازِمَ الأحزاب، اهزِم عدوَّهم عاجلاً غير آجِل يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندَك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 11:10 AM   رقم المشاركة : 138
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الافتراء على الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة 19 ربيع الثاني 1434هـ الجمعة بعنوان: "الافتراء على الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وعلوِّ شأنِه، وأن الواجبَ على الأمة أفرادًا وجماعات أن تسعَى بكل الوسائل المُباحة للذبِّ الدين ونشرِه صحيحًا وعدم تشويهِه، وبيَّن أن الخوفَ من الإسلام والتخويفَ منه كثيرًا ما يكونُ من بعض المُسلمين بمُعاملاتهم وتصرُّفاتهم، وحثَّ على وجوبِ العمل للإسلام، والسعيِ لنشرِه.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونشكرُه - سبحانه - سرًّا وجهارًا، أسبغَ على عباده نعمًا غِزارًا، أجلُّها الإسلامُ عظُم جلالاً وتلألأَ أنوارًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُعلِي للشِّرعة الغرَّاء منارًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا المُصطفى من أرُومَة الطُّهر مُختارًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين، السَّامِين تبجيلاً وإكبارًا، وصحبِه الأُلَى بذَلوا للدين مُهَجًا وأعمارًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجُو من المولَى مُبوَّءًا في الجِنان وقَرارًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا زاكِيًا مِدرارًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله - تبارك وتعالى -؛ ففي التقوى العزُّ والسَّنا، وبها يتحقَّقُ المجدُ والغِنى، ويندفعُ الوهَنُ والعَنَا، وينجلِي الكربُ والوَنَا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].

من يتَّقِ اللهَ العظيمَ بفعلِه
ويُخالِفُ النفسَ التي لا تقنعُ
ذاكَ الذي غنِمَ الدُّنَا بمفازةٍ
وتراهُ في الفِردوس قدرًا يُرفَعُ
أيها المسلمون:
في عصرٍ احتدَمَت فيه التنازُعات، وكشفَت دون مُوارَبَةٍ عن قسَمَاتها الأضاليلُ والشُّبُهات، وفي عالمٍ اعتسَفَت طرائقَ الحقِّ الصُّراح فيه أقوالٌ خاطِئات، وتصوُّراتٌ عن الصوابِ جانِحات، مما أسفرَ عن قضيَّةٍ تطايَرَ في الخافِقَيْن شرَرُها، واستشرَى في العالمين ضرَرُا، فصدَّت عن أهنَى معينٍ كثيرًا من الناس، حتى غدَوا جرَّاءَها في تردُّدٍ والتِباس.
ألا وهي: قضيةُ التوجُّس من الإسلام وأنواره، والخوف من فَلَجه وانتِشاره، ووصمِه بنقيضِ حقائقه، وتكدير صفوِ زُلالِه ورائِقِه، أو ما يُعرَفُ في عالَم الغرب اليوم بـ "ظاهرة الإسلام فوبيا".
ولكن أنَّى وهيهات؟! فالإسلامُ دينُ فاطر الأرض والسماوات. الإسلامُ الذي آتَى الروحَ معراجَها، وهدَى البريَّة أدراجَها، وأحلَّها من الحضارات والعلوم شُمَّ أبراجها، وكان لها في آفاق المجد والخُلد ضياءَ سِراجِها، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ[البقرة: 138].
معاشر المسلمين:
والمقصِدُ المُستكِنُّ في ذلك الخوف المُروَّج، والأباطيل المُنتحَلَة إنما هو لخدش الإسلام والتشكيك في عدله ورحمته، وسماحته ورأفته، والحيلولة دون سُطوع كوكبه الساري، ونهرِه المُبارَك الجارِي، الذي يحملُ للبشرية صلاحَها وفلاحَها، ورُشدَها ونجاحَها.
الإسلام ولا غير، الإسلام الذي يحسِمُ شِرَّة الخُطوب والكُروب، وينتشِلُ الإنسانيَّة من أوهاقِ البغضاء والشَّحناء إلى مراسِي التوافُق والصفاء، والسِّلم والوفاء، يقول - جل وعلا -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[الإسراء: 9]، ويقول - جل وعلا -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
ألا فليعلم العالَمُ أجمع أن الإسلام هو النِّبراسُ لأعظم المصالح والمقاصِد، والتحكيمُ الإلهي لكل مُلتمِسٍ للحقِّ وقاصِد، ليس لحاجةٍ ذرائعيَّةٍ عالميَّةٍ أو دوليَّةٍ، ولكن عقيدةٌ إيمانيَّةٌ، وحقيقةٌ كونيَّةٌ شرعيَّةٌ واقعيَّةٌ؛ لأنه دينُ رب البريَّة، والفِطر السَّوِيَّة، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك: 14].
هو البلسمُ الشافِي لكل عويصةٍ
أعيَت مخاطِرُها عقولَ أُباتِها
الله قد فطَرَ النفوسَ على الهُدى
وأنارَ بالإسلام دربَ هُداتِها
أيها المؤمنون:
ومن الفِرَى التي أُلصِقَت بالإسلام دون إرواءٍ أو إحجامٍ، وكانت مثارَ التوجُّس والخوف منه: اتِّهامُه بالإرهاب والسَّيف، والعُنف والظلم والحَيْف، وتلك أُكذوبةٌ ظاهرٌ عوارُها، ويُفنِّدُها أُوارُها.
بل إن دعوَتَه السلامُ ودينُه
رفقٌ ولم يثلِم تُقاهُ خِصامُ
فوعودُه دارُ السلامِ وربُّه
منه السلامُ ودينُه الإسلامُ
الإسلامُ كان ولا يزال في علوٍّ وانتِشار، وانتِصارٍ وازدِهارٍ؛ لأنه دلَفَ إلى القلوب بالحكمةِ والموعظة الحسَنَة والمعروف، لا بالغِلظَة والحُتوف، وأيُّ نعمةٍ تُزجَى أو ثمرةٍ إيمانيَّةٍ تُرجَى ممن أُكرِه على الإيمان بالهُندوانيِّ والسِّنان؟! ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل: 125].
أما العدلُ: فقد تنزَّل فيه أعظم الإنصاف والانتِصاف، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة: 8].
يقول الإمام الطبري - رحمه الله -: "أي: ليكن من أخلاقِكم وصِفاتِكم القيامُ بالعدل، ولا تحمِلنَّكم عداوةُ قومٍ على ألا تعدِلوا في حُكمكم فيهم من أجل ما بينَكم من العداوة".
ويقول الفخرُ الرازيُّ - رحمه الله -: "اعدِلوا فيهم وإن أساؤُوا إليكم، وأحسِنوا إليهم وإن بالَغوا في إيحاشِكم".
الحقُّ والعدلُ العظيمُ ورحمةٌ
مثَّلْنَ أمةَ أحمدٍ تمثيلاً
فاسأَل عن القِبطيِّ يأخُذُ ثأرَهُ
من عمرو عاصٍ تلقيَنَّ ذُهولاً
واقرأ أبا بكرٍ يُوصِّي جُندَه
لترَى غريبًا في العُقول ضئيلاً
إخوة الإسلام:
ومما زادَ الطينَ بِلَّةً، والداءَ عِلَّةً في إذكاء هذه الظاهرة الغريبة: ثورةُ التِّقانة، وغزوُ الفضاء ووسائلُ التواصُل الحديثة، ولا يخفَى ما للإعلام المُؤدلَج المُتحيِّز، الذي لا ينتصِفُ للمِصداقيَّة ولا يُميِّز، من امتِطاء صهَوات التهويلِ والتضخيم، والتشهير والتعميم، واستِغلال بعض الوقائع المُعاصِرة النادَّة، والتصرُّفات الخاطِئة الشاذَّة التي لا تُمثِّلُ بهاءَ الإسلام ولا جمالَه شروَى نقيرٍ أو قِطميرٍ. وإن هي إلا تصرُّفاتٌ آحاديَّة، وأفعالٌ فرديَّةٌ لا مسؤولة، ومُجرَّمةٌ لا مقبولةٌ ولا معقولة، يتصيَّدُها الإعلامُ المأجور، المُغرِضُ المسعور؛ لوصمِ الإسلام والمُسلمين بالقسوة والعُنجُهيَّة أجمعين.
وهنا كلا ولا، وحاشاهما على الوِلا؛ فالإسلامُ هو الملَّةُ التي لا تقومُ الدنيا إلا على ضيائِها، ولن ترشُدَ إلا بهديِها وسَنائِها، وألِيَّةٌ لا حِنثَ يعرُوها، أن العالَمَ قد خسِرَ الخُسرانَ المُبينَ بتأخُّر المُسلمين عن منازل السيادة والرِّيادة.
ولما أوصَدَت كثيرٌ من المُجتمعات دون تشريعاته أبوابَها، وأرصَدَت دون إنسانيَّة تعاليمِه شِهابَها، وها هي شهاداتُ الغرب المُنصِفين، وأعلامِه البارِزين الذين عنَّاهم رشقُ الإسلام بالتشويه والشَّنَآن، هاهُم يهتِفون بفِطَرهم السليمة، وعقولِهم القَويمة قائلين: "لا يُوجد دينٌ أُسيءَ فهمُه، وكثُر الهُجومُ عليه من الجهَلة والمُتعصِّبين مثلَ ما أُسيءَ فهمُ الإسلام ومثلَ ما هُوجِم".
وقال آخر: "إن الإسلام يمتدُّ في العالَم كلِّه ومعه تسيرُ الفضائلُ حين سار، وتدورُ معه المكارِمُ حيث دار".
وقال ثالث: "فالحقُّ أن الأمم لم تعرِف فاتِحين راحِمين مُتسامِحين مثلَ العرب والمُسلمين، ولا دينًا مثلَ دينهم".
الله أكبر، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الروم: 30].
فإلى النابِذين للماديَّة الشائِهة، وشهَوات النفس الزائِلة وأهوائِها، في ديار الغرب وسوائِها. إلى الذين تناوشَتهم سِهامُ الإحباط والقُنوط، واجتالَتهم رياحُ الضلال والشكوك، من الذين يتجرَّعون الهزيمةَ النفسيَّة، ممن تنكَّروا لثوابِت أمَّتهم الإسلامية.
إلى الذين سمِعوا على الإسلام قبل وُروده، ولم يتنسَّموا عبَقَ رياحينه ووروده:
هلُمُّوا جميعًا إلى معينِ الإسلام الرَّقراق، وتوحيده الخفيِّ الخفَّاق. هلُمُّوا إلى أفياء العدل والحقِّ والزَّكاء، حيَّهلاً إلى قِمَم الشرف والعَفاف والفضيلة، وسَنآت الهُدى والرَّحمات الظَّليلة.
فلا خوفَ من الإسلام، ولا خطَرَ من شريعة الملكِ العلاَّم، هلُمُّوا إليه بكل تفاؤُلٍ وحيادٍ وتحرُّرٍ من النَّزعة التشاؤُميَّة، والمعايير والمكاييل الازدِواجيَّة، وستُلفُونَه البحرَ الزخَّار بأكرم الآداب وأصدق الأخبار.
ودونَكم شَذراتٌ من جماليَّاته وإشراقاته، وثماره اليانِعات وأخلاقيَّاته، وإنها المِسكُ المُتضوِّعُ الفيَّاح، والأَلَقُ الباهرُ الليَّاح، في الصَّفو والعَفو والتسامُح، والتجاوُز والإغضاء عمَّن أساء، وفي بهاء الرِّفق والإحسان، والتعاوُن والحوارِ والاعتِدال والاتِّزان.
يقول الحبيبُ - عليه الصلاة والسلام -: «والكلمةُ الطيبةُ صدقة، وتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة». فيا لَها من آدابٍ وقِيَمٍ روائِع، وأخلاقٍ عُلويَّةٍ بدائِع.
إخوة الإيمان في كل مكان:
وعلى إثرِ بعضِ الغوائِل السُّلُوكيَّة، والجُنوحات المأزومة الفِكريَّة؛ لزِمَ الأمةَ ساسَتها وعلماءَها ودُعاتَها، ونُخبَ الفِكر والثقافة والإعلام، وكذا النَّصَفة في العالمين، لزِمَ الجميع بشتَّى الوسائل والقنوات تبرِئةُ الدين والتديُّن من تلك المزالِّ الفواقِر، والمسالِك البواقِر، والتوارُد على التحذير من أمرٍ عظيمٍ زادَ المرارَة على الواقع، والخرقَ على الرِّاقِع، لطالَما استُغِلَّ في الخوف من الإسلام الحق، ألا وهو: الفتاوى المُتجاسِرة على استِحلال الدماء المعصومة والأموال دون تورُّعٍ أو استِمهالٍ، فجرَّت على المُسلمين الغُصَص والإعنات، والتضييق والويلات، واستغلَّها الإعلامُ في التخويف من الإسلام وبثِّ الشُّبُهات.
فيا سُبحان الله! حِيالَ من يُقدِمُ على سفك الدماء المعصومة وقتل الأبرياء! أين تقوى الله والوجَلُ من المُحرَّم والجريرة؟! أين طُهرُ النفس ورقَّةُ السَّريرة؟! أين نفاذُ العقل والحكمة والبَصيرة؟!
فيا أيها الغالُون! إن الإسلام دينُ التقوى والمُعاملة الحسنة والسماحة، والحَصافة في الأقوال والأفعال والرَّجاحة، وكم جنَت هذه المسالِكُ على الأمة في تأريخِها المَديد، فحوَّلَت الخِلافات السياسيَّة إلى صِراعاتٍ دينيَّة، تُبدِّدُ المُجتمعات، وتُروِّجُ العداوات والخُصومات؟!
وكم من صادقين أساؤُوا في دعوتهم للإسلام، فصدُّوا كثيرًا من الفِئام؟! وما ذلك إلا لضَحالَة علمِهم، وقلَّة حلمِهم، وقُصور أفهامِهم، ونَزَق أحلامِهم، ومُجافاتهم للعلماء الموثوقين الرَّاسِخين علومًا، الباذِخين في التربية والتوجيه فُهومًا.
مما أثارَ حفائِظَ القوم في النَّيل من الإسلام، والإساءة لرموزه، وإذكاء التعصُّب والكراهية، والتمييز والعُنصريَّة، والعُنف والطائفِيَّة، وهنا لا بُدَّ من التعاوُن لمُواجَهة ظاهرة الخوف من الإسلام، لاسيَّما في مناهج التعليم ووسائل الإعلام.

هذا هُتافُ الحبِّ من خير ناصحٍ
بأن يسِّروا يا أمتي لا تُعسِّروا
فماذا يكونُ العُذرُ يا من تفلَّتُوا
من المنهَج الأسمَى فتاهُوا وغرَّرُوا
وبعد، معاشر الأحِبَّة:
فإن مما يُسهِمُ في علاج هذه الظاهرة الخطِرة: أن تُؤصَّل الدعوةُ إلى الله - سبحانه -، وتُبنَى على التيسير لا على التعسير، وعلى الرِّفق والحكمة والمُحاسَنة، لا الغِلظة والشدَّة والمُخاشَنة، وأن نجُبَّ طوقَنا ما أُلحِقَ بالدين من مُنكَر القول وفَدَامَة، ونُبرِزُ ما فيه من جلالٍ ووسامَة، وأن تكون الأمةُ قاطِبةً أصدقَ سفير لرسالة العليِّ الكريم الكبير، وسيرة الحبيب البشير - عليه الصلاة والسلام -.
هذا الرجاءُ وذاك الأمل، ومن المولَى نستلهِمُ سديدَ القول وصوابَ العمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[المائدة: 15، 16].
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، وبسُنَّة سيد المُرسَلين، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو التوابُ الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا يعمُر القلبَ هُدًى وإشراقًا، ونشكُره - سبحانه - خصَّنا بشِرعةٍ سمَت رحمةً وعدلاً وإشفاقًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُحقِّقُ للعالمين تُآلُفًا ووِفاقًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه نحَلَ البريَّة مكارِمَ أعلاقًا، وعلى آله وصحبِه الغُرِّ الميامين الذين ابتدَروا الخيرات تنافُسًا واستِباقًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله حقَّ تُقاته، وكونوا من الشريعة السَّمحة خيرَ دُعاتها، وأبِينوا للعالَم دُرَّ صدَفَاتِها، وأنوارَ هِداياتِها؛ تنالُوا العِزَّ والنصرَ في جنبَاتِها.
إخوة الإيمان:
ومن الرحمات المُشرِقات التي يجبُ التحقُّقُ بها ذُخرًا وطُهرًا، وإشاعتها سرًّا وجهرًا؛ لتُسهِم في تبديد هذه المُغالَطات: اكتِنازُ هذه الدين للهدايات والخيرات، حتى فيما ظنَّه الخُصومُ سُبَّةً ومعرَّة، وهو الحقُّ والعدالةُ والطُّهرة في القِصاص والحُدود، والاقتِصاد وقضايا المرأة والأُسرة.
يقول الحق - تبارك وتعالى -: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ[آل عمران: 104]، ويقول - سبحانه -: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ[الحج: 77]، الخيرُ بشتَّى ضُروبه، ومُتعدَّد دُرُوبه، في أسمَى معانِيه، وأجلَى مبانِيه؛ لأن أمة المشاعِر الشَّفيفة، والأفعال الوَريفة ترنُو لها العيونُ بالإجلال والإكبار، ودوليًّا وعالميًّا تنقُلُها بالتقدير والأنظار.
فيا أحبَّتنا الأكارِم في سائر الأقطار والديار! تسامَحوا، وتراحَموا، وتآلَفوا، واتَّحِدوا ولا تَخالَفوا، وصُونوا أوطانَكم عن أوابِد العُنف والتخريب، وانأَوا عن مغبَّات التلاوُم والتثريب، والتخذيل والإرجاف؛ فإنهما من أنكَر الأوصاف، ويأبَى اللهُ ورسولُه وأهلُ الإسلام الحق أن يكون الخيرُ والإصلاح مُمتطِيًا صهوةَ الفوضَى، والعبَث بالأمن، وتدمير المُمتلَكات، وإعاقة النماءِ والبناءِ والعطاءِ.
كونوا المرآةَ العاكِسة لجمالِ الشريعة ومبادِئها العِظام، وخيريَّتها على سائر الأنام. وتلك هي المداميك التي تُحقِّقُ الطُّموحات ذات العزيمة، وتشمخِرُّ عنها المُجتمعاتُ المُتراصَّةُ الكريمة، المُتعانِقةُ الرحيمة، وبذلك تُفوِّتُون الفُرَص على اتِّهام الإسلام بالعُرَر اللئيمة، والهُراءات السَّقيمة.
وتُدرِكون يقينًا ألا خوفَ من الإسلام، ولا على الإسلام، وإنما هو كيدُ الألِدَّاء، وجهلُ الأوِدَّاء، وإلا فالإسلامُ - وبكل فخرٍ واعتِزازٍ - قدَّم للعالَم أعظمَ حضارةٍ عرفَها التأريخ، وهو - بفضل الله - أبِيٌّ على التنطُّع والغلُوِّ، عصِيٌّ على الانهِزاميَّة والتمييع والذَّوَبان، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[التوبة: 32].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على المُصطفى الهادِي الأمين، أُسوة المُؤمنين، المُرسَل بالشرع المُبين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين في الكتاب المُستَبين، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
عليه صلاةٌ بحرُها يتدفَّقُ
وأزكَى سلامٍ نورُه يتألَّقُ
عليه منَّا صلاةٌ فاحَ نسيمُها
ومن الورَى أزهارُها تتفتَّقُ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمُرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عن الأئمة الخُلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ ورِضوانٍ يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين، ودمِّر أعداءَ الدين، وارفع كلمةَ الحق والدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه ونائِبَيْه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.
اللهم احفَظ هذه البلاد شامِخةً عزيزةً آمنةً مُطمئنَّة، اللهم احفَظها من كيد الكائِدين، وعُدوان المُعتدِين، اللهم ادفَع عن هذه البلاد وسائر بلاد المُسلمين شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار، يا عزيز يا غفار.
اللهم ولِّ على المسلمين في كل مكانٍ خيارَهم، واكفِهم شرَّ شِرارهم، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه، اللهم أصلِح لنا شأنَنا كلَّه.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم احفَظ عقيدتَهم وإيمانَهم، وأدِم أمنَهم وأمانَهم، وصُن أعراضَهم وأموالَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، وفي سوريا، وفي بورما، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، وجِياعٌ فأطعِمهم، وضُعفاءُ فقوِّهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم، يا ناصرَ المُستضعَفين، يا وليَّ المُؤمنين.
اللهم عليك بأعداء الدين؛ فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمُسلمين والمُسلمات، وألِّف بين قلوبِهم، واهدِهم سُبُل السلام، اللهم اشفِ مرضانا، وارحَم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا بذنُوبِنا فضلَك.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مِدرارًا. ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ووالدِينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمُسلِمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات. وآخرُ دعوانا

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 11:14 AM   رقم المشاركة : 139

 

النصيحة وفضل قبولها
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "النصيحة وفضل قبولها"، والتي تحدَّث فيها عن النصيحة وبيان فضائل ومآثر قبولها، وأن ذلك دليل الرَّشَد، وذكر الأدلة من القرآن وبعض الآثار على مآلات الرافِضين للنُّصح والإرشاد وذمِّهم، وحذَّر من ذكر الأدلة من الكتاب والسنة مع التأويل الفاسِد.

الخطبة الأولى
الحمد لله بارئِ النَّسَم، ومُحيِي الرَّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، أحمدُه حمدًا يُوافِي ما تزايَدَ من النِّعَم، وأشكرُه على ما أولَى من الفضلِ والكرَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعصِمُ من الزَّيغِ وتدفعُ النِّقَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ رحمةً للعالمين من عُربٍ وعجَم، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقَى وسلامًا يَتْرَى إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
قبولُ النصيحة دليلُ الرَّشَد، والرجوعُ إلى الحق فضيلةٌ، وراجِحُ العقل كاملُ النُّهَى إذا وقعَ فيما يشينُه فوُعِظَ وزُجِرَ؛ أقصرَ وانتهَى وارتدعَ وانثنَى، وأسرعَ إلى الإجابة وأظهرَ التوبةَ والإنابةَ.
والمُستولِغُ لا يُبالي ذمًّا ولا عارًا، ولا يخافُ لومًا ولا عَذلاً، لا يردعُه توبيخ، ولا يقبَعُه تأنيب، ولا ينفعُه تعنيف. لا يُصغِي لناصحٍ، ولا يلتفِتُ إلى موعظةٍ، تراه على غيِّه مُصِرًّا، وفي ضَلالته مُستمرًّا،
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ[البقرة: 206]، أخذَته الحميَّةُ والغضبُ، ولم يُقابِل النصيحةَ إلا بالصُّدوف والصُّدود، والتعالِي والتعامِي.
يقول عبدُ الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كفَى بالمرء إثمًا أن يقول له أخوه: اتَّقِ الله. فيقولُ: عليك بنفسِك، مثلُك يُوصِيني!".
وردُّ النصيحة واحتِقارُ الناصِح والتعالِي على التذكِرة دأبُ السُّفهاء والمُتكبِّرين، وصفةُ الفُجَّار والمُنافقين، قال الله تعالى: وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ[الصافات: 13]، ويقول تعالى مُخبِرًا عن جواب قومِ هودٍ - عليه السلام - له بعدما حذَّرهم وأنذرَهم، ورغَّبَهم ورهَّبَهم، وبيَّن لهم الحقَّ ووضَّحَه، قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ[الشعراء: 136]؛ أي: لن نرجِع عما نحن فيه.
وقال نبيُّ الله صالحُ - عليه السلام - لقومِه بعد هلاكِهم تقريعًا وتوبيخًا، وهم يسمَعون ذلك: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ[الأعراف: 79].
أيها المسلمون:
ومن عرفَ الحقَّ وجبَ عليه الخضوع له والرجوعُ إليه، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادِي في الباطلِ، وقبولُ الحقِّ والنصيحة لا يحُطُّ من رُتبَة المنصوحِ، ولا ينقُص من قدرِه، ولا يغُضُّ من مكانته ورِياستِه؛ بل يُوجِبُ ذلك له من جلالة القدر، وسامِي المنزلة، وحُسن الثَّناء، وعلوِّ الذِّكر ما لا يكونُ في تصميمِه على الباطِل.
ومن أصرَّ على باطلِه، واستثقلَ كلامَ ناصحِه؛ ازدُرِي عقلُه، وحُقِّرَ شانُه، وصُغِّر مكانُه.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: "ما نصحتُ أحدًا فقبِلَ مني إلا هِبتُه واعتقدتُّ مودَّتَه، ولا ردَّ أحدٌ عليَّ النصحَ إلا سقطَ من عيني، ورفضتُه".

أيها المسلمون:
لماذا تميلُ النفوس إلى من يتملَّق ويُجامِل ولا ينصحُ، مع أن صنيعَه الغشُّ والخِداعُ والمُطاوَعة فيما يضُرُّ؟! وتفِرُّ من الناصِح المُشفِق مع أن نُصحَه صدرَ عن رحمةٍ ورأفةٍ وإحسانٍ وغيرةٍ على المنصُوح.
فطوبَى لمن أطاعَ ناصحًا يهدِيه، واجتنَبَ غاويًا يُردِيه، وشقِيَ من استخفَّ بعِظَة المُشفِق الناصِح، وتعالَى عن تذكِرة الأمينِ الصالحِ، وتمادَى في غوايتِه، ولجَّ في عمايتِه، جاريًا على عاداته القبيحة، وماضِيًا في أخلاقِه الرَّذِيلة.
ويقِظُ القلب، وافِرُ الفِطنة، فهِمُ العقل يعِي الموعظةَ، وتنفعُه الذِّكرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى[الأعلى: 10، 11].
أيها المسلمون:
ومن الطوامِّ العِظام: أن يُذكَّر المنصوحُ بدليلٍ من كتاب الله أو سُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيُصِرَّ على باطلِه، ويدفعُ الدليلَ الصحيحَ بالمُجادلَة والمُراوَغة والتأويل الفاسِد.
قال الشعبيُّ - رحمه الله -: "إنما هلكتُم حين تركتُم الآثار - يعني: الأحاديث الصحيحة -"؛ أخرجه البيهقي.
والحقُّ أبلجُ لا لبسَ فيه، ولكنَّ الهوَى يُعمِي ويُصِمُّ، ويُردِي ويُغوِي.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، واخضَعوا للحقِّ، واقبَلوا نُصحَ الأمين، ولا تكونوا ممن لا يُحبُّون الناصِحين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.


الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
الوالِدان أعظمُ النَّصَحة شفقةً، وأشدُّهم غيرةً، وأقربُهم رحمةً وحُبًّا ووُدًّا، وأكثرُهم للنصيحةِ بذلاً، ولا أشقَى من ولدٍ يصُمُّ أُذنَيْه عن نصيحةِ والدَيْه، ويُسلِمُ قيادَه لأصحاب السُّوءِ وأهلِ الفُجور والشُّرور والفحشاء والمُنكَر، يقودُونه لكل رذيلة، ويُوقِعُونَه في كل هاويةٍ. ولا يفعلُ ذلك إلا عاقٌّ مرذولٌ، وفاجِرٌ مخذولٌ.
ولا أسعدَ من ولدٍ أصغَى لإرشاد والدَيْه وأنصتَ لنُصحِهما، وأسرعَ إلى إنفاذِ أمرِهما، وأين المهاوِي من المراقِي؟! وأين الظُّلمة من الإشراقِ؟!
أيها المسلمون:
ابذُلوا النصيحةَ واقبَلُوها، فلا سعادةَ إلا في بذلِها، ولا فوزَ إلا في قبُولِها؛ فعن أبي رُقيَّة تميم بن أوسٍ الدَّاريِّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدينُ النصيحةُ». قلنا: لمن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المُسلمين وعامَّتهم»؛ أخرجه مسلم.
وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك وإحسانِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُر المسلمين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، وألبِسه ثوبَ الصحة والعافِية يا كريم، اللهم واحفَظ وليَّ عهده وإخوانَه، وانفع بهم العبادَ والبلاد يا رب العالمين.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة أمور المسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم ادفَع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا والزلازِلَ والمِحَن، اللهم ادفَع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا والزلازِلَ والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن، عن بلدنا هذا خاصَّةً وعن سائر بلاد المُسلمين عامَّةً يا رب العالمين.
اللهم إن لنا إخوانًا في العقيدة والدين، اللهم إن لنا إخوانًا في الشام تسلَّط عليهم أعداءُ المِلَّة والسُّنَّة فدمَّروا بيوتَهم، وقتلُوا رجالَهم ونساءَهم وأطفالَهم، وانتهَكوا أعراضَهم، اللهم عجِّل بهلاكِهم وهزيمتِهم يا قوي يا عزيز يا رب العالمين، اللهم أنزِل عليهم عذابَك ورِجزَك وسخَطَك إلهَ الحق يا رب العالمين.
اللهم أنت ملاذُنا، اللهم انقطَع الرجاءُ إلا منك، وخابَت الظُّنونُ إلا فيك، وضعُفَ الاعتمادُ إلا عليك، أنت ملاذُنا، أنت ملاذُنا وأنت عِياذُنا وعليك اتِّكالُنا، اللهم انصُر أهلَنا في الشام عاجلاً غيرَ آجِل، اللهم انصُر أهلَنا في الشام عاجلاً غيرَ آجِل، اللهم عليك بأهل الخُرافة الذين تسلَّطوا على أهلِنا يا رب العالمين يا قوي يا عزيز.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصِبين، والصهايِنة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادانا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق أبناءَنا الطلابَ وبناتِنا الطالِبات في اختِباراتهم الدراسية، اللهم اكتُب لهم التوفيقَ والنجاحَ والسعادةَ والصلاحَ يا رب العالمين، اللهم اكتُب لهم التوفيقَ والنجاحَ والسعادةَ والصلاحَ يا رب العالمين، واعصِمهم من مُضِلاَّت الفتن يا كريم.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 11:26 AM   رقم المشاركة : 140
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

طلب المعالي بالأعمال الصالحة
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 29 صفر 1434هـ بعنوان: "طلب المعالي بالأعمال الصالحة"، والتي تحدَّث فيها عن كثيرٍ من الأعمال الصالحة فرائِض ونوافِل، والتي يسعى بها المرءُ لمرضاة الله تعالى وأعالي الجِنان، وذكر العديدَ من الأحاديث الدالَّة على ذلك.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
اتقوا الله حقَّ التقوى؛ فتقوى الله نورُ البصائر، وبها تحيا القلوبُ والضمائر.
أيها المسلمون:
اتَّصَفَ الله - جل وعلا - بالأسماء الحُسنى وبالصفات العُلَى، وهو - سبحانه - يُحبُّ مُقتضَى صفاتِه وظُهورَها في العبادِ، وأفعالُ الله تعالى على التمام والكمال؛ فخلقَ الخلقَ وأتقنَ ما صنَع، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ[النمل: 88].
وأنزلَ كتابَه فأحكَمَ ألفاظَه وفصَّلَ معانِيَه، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ[هود: 1].
والله تعالى مُحسِنٌ وأمرَ عبادَه بالإحسان، فقال: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[البقرة: 195].
قال البغوي - رحمه الله -: "أي: أحسِنوا أعمالَكم وأخلاقَكم".
وإحسانُ العمل واجبٌ على كل عبدٍ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ»؛ رواه مسلم.
قال ابن رجبٍ - رحمه الله -: "أي: كتبَ على كل مخلوقٍ الإحسانَ".
وأثنَى النبي - صلى الله عليه وسلم - على من أحسنَ عملَه، فقال: «خيرُ الناس من طالَ عُمرُه وحسُنَ عملُه»؛ رواه الترمذي.
وكانت أعمالُ الرُّسُل على الإتقان وكمال النُّصح؛ فنوحُ - عليه السلام - دعا قومَه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا ليلاً ونهارًا، ثم دعاهم جِهارًا، ثم أعلنَ لهم وأسرَّ لهم إسرارًا.
وأثنَى الله على إبراهيم بقولِه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى[النجم: 37].
قال قتادةُ - رحمه الله -: "وفَّى طاعةَ الله وأدَّى رسالتَه إلى خلقِه".
وحياةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت على تمام المِثال والإحسانِ، وأمرَ الله العبادَ بالاقتِداء به، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[الأحزاب: 21].
ومن فضل الله على عباده: أن نوَّع لهم الطاعات اعتِقادًا وعملاً وقولاً، وجعلَ أعظمَ الثوابِ للمُحسنين، قال - سبحانه -: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ[الرحمن: 60].
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "ما لمن أحسنَ العملَ في الدنيا إلا الإحسانَ إليه في الآخرة".
وإذا حسُنَ مُعتقدُ العبدِ ضُوعِفَت أجورُه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أحسنَ أحدُكم إسلامَه فكلُّ حسنةٍ يعملُها تُكتَبُ له بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضِعفٍ، وكلُّ سيئةٍ يعملُها تُكتَبُ له بمثلِها»؛ متفق عليه.
ومن قال كلمةَ التوحيد بيقينٍ، وعمِلَ بمُقتضاها بصدقٍ وإخلاصٍ واجتنَبَ نواقِضَها حرَّم الله وجهَه عن النار، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغِي بذلك وجهَ الله»؛ متفق عليه.
وإذا حقَّقَ العبدُ منزلةَ التوكُّل وفوَّضَ جميعَ أموره لله أدخلَه الله الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ، «همُ الذين لا يسترقُون، ولا يتطيَّرون، ولا يكتَوُون، وعلى ربِّهم يتوكَّلُون»؛ متفق عليه.
وأكملُ مراتِبِ الدين مرتبةُ الإحسان؛ لاشتِمالِها على الصِّدقِ ظاهرًا وباطنًا: «أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراهُ، فإن لم تكُن تراهُ فإنه يراكَ»؛ رواه مسلم.
وإذا أتقنَ المُسلمُ عبادتَه نالَ ثوابًا جزيلاً؛ فمن توضَّأَ فأسبغَ الوضوءَ ثم قال: «أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ إلا فُتِّحَت له أبوابُ الجنةِ الثمانيةُ يدخلُ من أيِّها شاء»؛ رواه مسلم.
ورفعُ الصوت بالأذان مُستحبٌّ؛ «فإنه لا يسمعُ مدَى صوتِه جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهِدَ له يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
وإذا قال المُؤذِّنُ آخر الأذان: لا إله إلا الله، «فقال من سمِعَه: (لا إله إلا الله) من قلبِه دخلَ الجنةَ»؛ رواه مسلم.
«وإقامةُ الصفِّ من حُسن الصلاة»؛ متفق عليه. و«خيرُ صُفوف الرجال أوَّلُها»، ومن السبعَة الذين يُظِلُّهم الله في ظِلِّه: «ورجلٌ قلبُه مُعلَّقٌ بالمساجِد»؛ متفق عليه.
وإحسانُ الصلاة ثوابُها مُتوالِي؛ «فما من امرئٍ مُسلمٍ تحضُرُه صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحسِنُ وضوءَها وخُشوعَها ورُكوعَها إلا كانت كفَّارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم يُؤتِ كبيرةً، وذلك الدهرَ كلَّه»؛ رواه مسلم.
قال النووي - رحمه الله -: "التكفيرُ بسببِ الصلاةِ مُستمرٌّ في جميع الأزمان، لا يختصُّ بزمانٍ دون زمانٍ".
«ومن توضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ ثم أتَى الجُمُعةَ فاستمعَ وأنصَتَ؛ غُفِرَ له ما بينَه وبين الجُمعة وزيادةُ ثلاثة أيام»؛ رواه مسلم.
«وركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها»؛ رواه مسلم.
«وصلاةُ المرءِ في بيتِه أفضلُ من صلاتِه إلا المكتوبة، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضةِ صلاةُ الليل».
وللأمواتِ حقٌّ في الإحسانِ إليهم؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا كفَّن أحدُكم أخاهُ فليُحسِّن كفَنَه»؛ رواه مسلم.
وقال عن صفةِ قبرِ الميت: «احفِروا وأعمِقُوا وأحسِنوا»؛ رواه النسائي.
والبذلُ والعطاءُ ليس في الأجر سواء؛ فأفضلُ الصَّدَقَة: «أن تصَّدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ». وإخفاؤُها خيرٌ من إظهارها، قال - سبحانه -: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[البقرة: 271]. ومن السبعَة الذين يُظلِّهُم الله في ظلِّه: «ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه»؛ متفق عليه.
والصيامُ وجزاءُ الصائمين على درجاتٍ؛ فـ «من صامَ رمضان إيمانًا واحتِسابًا؛ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه». و«أحَبُّ الصائمين إلى الله أعدلُهم فِطرًا، وأحَبُّ صيام النافِلة صيامُ داود - عليه السلام - كان يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا». و«أفضلُ الصيام بعد رمضان شهر الله المُحرَّم».
و«الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة».
وأجلُّ العلوم: علمُ الشريعة، قال - سبحانه -: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة: 11].
وأسهلُ طريقٍ إلى الجنةِ سُلُوكُ العلم، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من سلَكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنة»؛ رواه الترمذي.
وأفضلُ أهل العلم همُ الرَّاسِخون فيه بالحفظِ والفهمِ والعملِ، قال الترمذي - رحمه الله -: "إنما تفاضَلَ أهلُ العلم بالحفظِ والإتقان".
وخيرُ المُتعلِّمين من تعلَّم القرآن وعلَّمَه، ومن حفِظَ حديثًا وبلَّغَه للناس دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنَّضَارة: «نضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ منا حديثًا فبلَّغَه كما سمِعَه؛ فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعَى من سامِعٍ»؛ رواه ابن حبان.
«والقاعِدُ في الفتن خيرٌ من القائِمِ إليها»؛ متفق عليه. و«العبادةُ في الهَرْجِ كهِجرةٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -»؛ رواه مسلم.
وأعلى منازِل الصبرِ: ما كان برِضًا لا سخَطَ فيه ولا جزَع.
وأصدقُ الحديث كتابُ الله، والماهِرُ به من السَّفَرة الكِرامُ البَرَرة، ويؤُمُّ القومَ أقرؤُهم له، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمعُ بين رجُلَيْن من قتلَى أُحُدٍ ثم يقول: «أيُّهم أكثرُ أخذًا للقرآن؟». فإذا أُشيرَ له إلى أحدِهما قدَّمَه في اللَّحْدِ؛ رواه البخاري.
وخيرُ ما تحرَّك به اللِّسانُ ذِكرُ الله تعالى، و«أحبُّ الكلام إلى الله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»؛ رواه مسلم.
و«من قال حين يُصبِحُ وحين يُمسِي: سُبحان الله وبحمده مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضلَ مما جاء به إلا أحدٌ قال مثلَما قال أو زادَ عليه»؛ رواه مسلم.
وقولُ الداعِيةِ إلى الله على بصيرةٍ لا أحسنَ من قولِه، قال - جل وعلا -: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت: 33].
والدعاءُ هو العبادة، والمُسلمُ يتخيَّرُ من الدعاء أجمعَه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «فإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفردَوسَ؛ فإنه أوسطُ الجنةِ وأعلى الجنةِ، أُراهُ فوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تُفجَّرُ أنهارُ الجنة»؛ رواه البخاري.
«وفي الجُمعة ساعةٌ لا يُوافِقُها عبدٌ مُسلمٌ وهو قائمٌ يُصلِّي يسألُ اللهَ شيئًا إلا أعطاه إياه»؛ رواه البخاري.
وفي الثُّلُث الأخير من الليل الدعاءُ لا يُردُّ.
والمؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمنِ الضعيفِ، ومُعاملةُ الناس عبادةٌ يرتقِي المؤمنُ بحُسن خُلُقه أعلى المنازِل، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حسُنَ خُلُقُه»؛ رواه أبو داود.
وردُّ السلام أفضلُه أكملُه، وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء: 86].
و«من صُنِع إليه معروفٌ فقال لفاعِلِه: جزاك الله خيرًا فقد أبلغَ في الثناء»؛ رواه الترمذي.
وفاضلَ الشرعُ بين صفاتٍ في الناس؛ فـ «خيرُ متاع الدنيا المرأةُ الصالِحةُ»؛ رواه مسلم. وخيرُ الزوجاتِ ذواتُ الصلاحِ منهنَّ؛ «فاظفَر بذاتِ الدين ترِبَت يداكَ»؛ متفق عليه.
وأنفعُ الأولاد للوالِدَين: الولدُ الصالحُ الداعِي لهما بعد مماتهما: «.. أو ولدٍ صالحٍ يدعُو له»؛ رواه مسلم.
و«من ابتُلِيَ من البنات بشيءٍ فأحسنَ إليهنَّ كُنَّ له سِترًا من النار»؛ متفق عليه.
وأحبُّ الأسماء إلى الله: عبدُ الله وعبدُ الرحمن. وخيرُ الأُجراءِ القويُّ الأمينُ.
وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجملَ الطيبِ وأشرفَ المياه؛ فـ «أطيَبُ الطِّيبِ المِسْكُ»؛ رواه البخاري. وسيِّدُ المياه ماءُ زمزَم، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنها مُبارَكةٌ، إنها طعامُ طُعمٍ»؛ رواه مسلم.
وخصَّ الدينُ أزمِنةً فاضِلةً ليتسابَقُوا إلى الطاعات فيها؛ فخيرُ يومٍ طلَعَت فيه الشمسُ يوم الجُمعة. وأعظمُ الأيام عند الله يومُ النَّحر. وليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهر. وأفضلُ كلِّ ليلةٍ الثُّلُث الأخيرُ منها. وخيرُ الشهور شهرُ رمضان. وبُورِكَ لهذه الأمة في بُكورِها.
والأماكنُ يشرُفُ بعضُها على بعضٍ؛ فأحبُّ البِقاع إلى الله المساجِد، وأفضلُها: المسجدُ الحرام، ثم مسجدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم المسجدُ الأقصى. ومجالسُ العلمِ رياضُ الجنة.
وعلى هذا الأصلِ العظيمِ في الإسلام في إحكامِ الأعمال والإخلاصِ سارَ سلَفُ الأمة؛ صنَّفَ الإمامُ البخاريُّ - رحمه الله - صحيحَه في ستة عشر عامًا، لا يضعُ فيه حديثًا إلا صلَّى لله ركعتَيْن، وقال: "جعلتُ هذا الكتابَ حُجَّةً بيني وبين الله".
وبعدُ، أيها المسلمون:
فالإسلامُ إحسانُ عبادةٍ وحُسنُ مُعاملةٍ، والمُسلمُ مع إخلاص نيَّته فيها لله إن رأى خيرًا ولو يسيرًا عمِلَه، وإن كان فاضِلاً سابَقَ إليه، وإن كان شرًّا نأَى عنه، وذوو الإيمان يرجُون أعلى ما عند الكريم من الجزاء؛ ذكرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا أسماءَ أبواب الجنة، فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما على من دُعِيَ من تلك الأبوابِ من ضرورة؟ فهل يُدعَى أحدٌ من تلك الأبوابِ كلِّها؟ قال: «نعم، وأرجُو أن تكون منهم»؛ متفق عليه.
والنفوسُ إذا عظُمَت طلبَت المعالِي وأحسنَت ظنَّها بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون:
من إتقان العملِ: المُداوَمةُ عليه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ الأعمالِ إلى الله: أدوَمُها وإن قلَّ»؛ متفق عليه.
قال ابن حجر - رحمه الله -: "الصبرُ على المُحافَظة على الصلوات وأدائِها في أوقاتِها، والمُحافظة على برِّ الوالِدَيْن أمرٌ لازمٌ مُتكرِّرٌ دائمٌ لا يصبِرُ على مُراقبَة أمر الله فيه إلا الصِّدِّيقُون".
والمُسلمُ يُنوِّعُ من العبادات لتتنوَّع لذَّاتُه في الآخرة من النعيم، وجاء الشرعُ ببيان الفاضِلِ منها؛ لئلا يفوتَه شيءٌ منها ليرتقِيَ بذلك إلى أعلى الجِنان.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اجمع كلمتَهم على الحق والهُدى والتوحيد يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر المُستضعَفين من المؤمنين في كل مكانٍ، اللهم كُن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهم عجِّل لهم بالفرَج والنَّصر يا قوي يا عزيز.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ومتِّعه بالعافية، ووفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك.
اللهم إنا نسألُك الفردوسَ الأعلى من الجنة.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:19 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir