.
*****
قصيدة للشاعر شرف الدين البوصيري (608 - 696 هـ)
بعنوان ( بِمَدْحِ المصطفى تَحيا القلوبُ )
وأسمه: محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري شرف الدين أبو عبد الله
بِمَدْحِ المصطفى تَحيا القلوبُ = وتُغْتَفَرُ الخطايا والذُّنُوبُ
وأرجو أن أعيشَ بهِ سعيداً = وَألقاهُ وَليس عَلَيّ حُوبُ
نبي كامل الأوصافِ تمت = محاسنه فقيل له الحبيبُ
يُفَرِّجُ ذِكْرُهُ الكُرُباتِ عنا = إذا نَزَلَتْ بساحَتِنا الكُروبُ
مدائحُه تَزِيدُ القَلْبَ شَوْقاً = إليه كأنها حَلْيٌ وَطيبُ
وأذكرهُ وليلُ الخطبِ داجٍ = عَلَيَّ فَتَنْجلِي عني الخُطوبُ
وَصَفْتُ شمائلاً منه حِساناً = فما أدري أمدحٌ أمْ نسيبُ
وَمَنْ لي أنْ أرى منه محَيًّاً = يُسَرُّ بحسنِهِ القلْبُ الكئِيبُ
كأنَّ حديثَه زَهْرٌ نَضِيرٌ = وحاملَ زهرهِ غصنٌ رطيبُ
ولي طرفٌ لمرآهُ مشوقٌ = وَلِي قلب لِذِكْراهُ طَروبُ
تبوأ قاب قوسين اختصاصاً = ولا واشٍ هناك ولا رقيبُ
مناصبهُ السنيّة ليس فيها = لإنسانٍ وَلاَ مَلَكٍ نَصِيبُ
رَحِيبُ الصَّدْرِ ضاقَ الكَوْنُ عما = تَضَمَّنَ ذلك الصَّدْرُ الرحيبُ
يجدد في قعودٍ أو قيامٍ = له شوقي المدرس والخطيبُ
على قدرٍ يمد الناس علماً = كما يُعْطِيك أدْوِيَة ً طبيبُ
وَتَسْتَهْدِي القلوبُ النُّورَ منه = كما استهدى من البحر القليبُ
بدت للناس منه شموسُ علمٍ = طَوالِعَ ما تَزُولُ وَلا تَغِيبُ
وألهمنا به التقوى فشقتْ = لنا عمَّا أكَنَّتْهُ الغُيُوبُ
خلائِقُهُ مَوَاهِبُ دُونَ كَسْبٍ = وشَتَّانَ المَوَاهِبُ والكُسُوبُ
مهذبة ٌ بنور الله ليست = كأخلاق يهذبها اللبيبُ
وَآدابُ النُّبُوَّة ِ مُعجزاتٌ = فكيف يَنالُها الرجُلُ الأديبُ
أَبْيَنَ مِنَ الطِّباعِ دَماً وَفَرْثاً = وجاءت مثلَ ما جاء الحليبُ
سَمِعْنا الوَحْيَ مِنْ فِيه صريحاً = كغادية عزاليها تصوبُ
فلا قَوْلٌ وَلا عَمَلٌ لَدَيْها = بفاحِشَة ٍ وَلا بِهَوى ً مَشُوبُ
وَبالأهواءُ تَخْتَلِفُ المساعي = وتَفْتَرِق المذاهب وَالشُّعوبُ
ولما صار ذاك الغيث سيلاً = علاهُ من الثرى الزبدُ الغريبُ
فلا تنسبْ لقول الله ريباً = فما في قولِ رَبِّك ما يَرِيبُ
فإن تَخُلُقْ لهُ الأعداءُ عَيْباً = فَقَوْلُ العَائِبِينَ هو المَعيبُ
فَخالِفْ أُمَّتَيْ موسى وَعيسى = فما فيهم لخالقه منيبُ
فَقَوْمٌ منهم فُتِنُوا بِعِجْلٍ = وَقَوْماً منهمْ فَتَنَ الصَّليبُ
وَأحبارٌ تَقُولُ لَهُ شَبِيهٌ = وَرُهْبَانٌ تَقُولُ لَهُ ضَرِيبُ
وَإنَّ محمداً لرَسولُ حَقٍّ = حسيبٌ فينبوته نسيبُ
أمين صادقٌ برٌّ تقيٌّ = عليمٌ ماجِدٌ هادٍ وَهُوبُ
يريك على الرضا والسخط وجهاً = تَرُوقُ به البَشَاشَة ُ وَالقُطوبُ
يُضِيءُ بِوَجْهِهِ المِحْرابُ لَيْلاً = وَتُظْلِمُ في النهارِ به الحُروبُ
تقدمَ من تقدمَ من نببيٍّ = نماهُ وهكذا البطلُ النجيبُ
وصَدَّقَهُ وحَكَّمَهُ صَبِيّاً = من الكفار شبانٌ وشيبُ
فلما جاءَهم بالحقِّ صَدُّوا = وصد أولئك العجب العجيبُ
شريعتُهُ صراطٌ مُستقيمٌ = فليس يمسنا فيها لغوبُ
عليك بها فإن لها كتاباً = عليه تحسد الحدق القلوبُ
ينوب لها عن الكتب المواضي = وليست عنه في حال تنوبُ
ألم تره ينادي بالتحدي = عن الحسن البديعِ به جيوبُ
وَدَانَ البَدْرُ مُنْشَقّاً إليه = وأفْصَحَ ناطِقاً عَيْرٌ وَذِيبُ
وجذع النخلِ حنَّ حنينَ ثكلى = لهُ فأَجابهُ نِعْمَ المُجِيبُ
وَقد سَجَدَتْ لهُ أغصانُ سَرْحٍ = فلِمَ لا يؤْمِنُ الظَّبْيُّ الرَّبيبُ
وكم من دعوة في المحلِ منها = رَبَتْ وَاهْتَزَّتِ الأرضُ الجَدِيبُ
وَروَّى عَسْكراً بحلِيبِ شاة ٍ = فعاودهم به العيش الخصيبُ
ومخبولٌ أتاهُ فثاب عقلٌ = إليه ولم نخلهُ له يثوب
وما ماءٌ تلقى وهو ملحٌ = أُجاجٌ طَعْمُهُ إلاّ يَطِيبُ
وعينٌ فارقَتْ نظراً فعادت = كما كانت وردّ لها السليبُ
ومَيْتٌ مُؤذِنٌ بِفِراقِ رُوحٍ = أقام وسرِّيَتْ عنه شعوبُ
وثَغْرُ مُعَمِّرٍ عُمراً طويلاً = تُوفي وهو منضودٌ شنيب
ونخلٌ أثمرتْ في دون عامٍ = فغارَ بها على القنوِ العسيبُ
ووفى منه سلمانٌ ديوناً = عليه ما يوفيها جريب
وجردَ من جريدِ النخلِ سيفاً =فقيل بذاك للسيفِ القضيب
وهَزَّ ثَبِيرُ عِطْفَيْهِ سُروراً = به كالغصنِ هبتهُ الجنوبُ
ورَدَّ الفيلَ والأحزابَ طَيْرٌ = وريحٌ مايطاقُ لها هبوبُ
وفارسُ خانها ماءٌ ونارٌ = فغيِضَ الماءُ وانطفَأَ اللَّهيبُ
وَقد هَزَّ الحسامَ عليه عادٍ = بِيَومٍ نَوْمُه فيه هُبوبُ
فقام المصطفى بالسيفِ يسطو = على الساطي به وله وثوبُ
وريعَ له أبو جهلٍ بفحلٍ = ينوبُ عن الهزبرِ له نيوبُ
وشهبٌ أرسلتْ حرساً فخطتْ = على طرسِ الظلامِ بها شطوبُ
ولم أرَ معجزاتٍ مثل ذكرٍ = إليه كلُّ ذِي لُبٍّ يُنِيبُ
وما آياته تحصى بعدٍّ = فَيُدْرِكَ شَأْوَها مني طَلوبُ
طفقتُ أ‘دُّ منها موجَ بحرٍ = وَقَطْراً غَيْثُهُ أَبداً يَصُوبُ
يَجُودُ سَحابُهُنَّ وَلا انْقِشَاعٌ = وَيَزْخَرُ بَحْرُهُنَّ ولا نُضُوبُ
فراقك من بوارقها وميضٌ = وشاقك من جواهرها رسوبُ
هدانا للإله بها نبيٌّ = فضائله إذا تحكى ضروبُ
وأَخبَرَ تابِعِيِه بِغائِباتٍ = وليس بكائن عنه مَغيبُ
ولا كتبَ الكتابَ ولا تلاه = فيلحدَ في رسالته المريبُ
وقد نالوا على الأمم المواضي = به شرفاً فكلهم حسيبُ
وما كأميرِنا فيهم أميرٌ = ولا كنقِيبنا لهمُ نقيبُ
كأن عليمنا لهم نبيٌّ = لدعوتِهِ الخلائقُ تستجيبُ
وقد كتبتْ علينا واجباتٌ = أشَدُّ عليهمُ منها النُّدوبُ
وما تتضاعفُ الأغلالُ إلاَّ = إذا قستِ الرقابُ أو القلوبُ
ولما قيلَ للكفارِ خُشْبٌ = تحكَّمَ فيهم السيفُ الخشيبُ
حَكَوْا في ضَرْبِ أمثلة ٍ حَمِيراً = فوَاحِدُنا لألْفِهِمُ ضَرُوبُ
وما علماؤنا إلا سيوفٌ = مواضٍ لاتفلُّ لها غروبُ
سَراة ٌ لم يَقُلْ منهم سَرِيُّ = لِيَومِ كَرِيهَة ٍ يَوْمٌ عَصِيبُ
ولم يفتنهمُ ماءٌ نميرٌ = من الدنيا ولا مرعى ً خصيبُ
ولم تغمضْ لهم ليلاً جفونٌ = ولا ألفتْ مضاجعها جنوبُ
يشوقكَ منهم كل ابنِ هيجا = على اللأواء محبوبٌ مهيبُ
له مِنْ نَقْعِها طَرْفٌ كَحِيلٌ = ومِنْ دَمِ أُسْدِها كَفٌّ خَضِيبُ
وتنهالُ الكتائبُ حين يهوى = إليها مثلَ ما انهال الكثيبُ
على طرق القنا للموتِ منه = إلى مهجِ العدا أبداً دبيبُ
يُقَصِّدُ في العِدا سُمْرَ العَوالي = فيَرْجِعُ وهْوَ مسلوبٌ سَلوبُ
ذوابلُ كالعقودِ لها اطرادٌ = فليس يشوقها إلا التريبُ
يخرُّ لرمحهِ الرُّوميُّ أني = تيقنَ أنه العودُ الصليبُ
ويَخْضِبُ سَيفَهُ بِدَمِ النَّواصي = مخافة َ أن يقالَ به مشيبُ
له في الليل دمعٌ ليس يرقا = وقلبٌ ما يَغِبُّ له وجِيبُ
رسول الله دعوة َ مستقيلٍ = من التقصيرِ خاطرهُ هبوبُ
تعذَّر في المشيبِ وكان عياً = وبُردُ شبابه ضافٍ قشيبُ
ولا عَتْب على مَنْ قامَ يَجْلو = محاسِنَ لا تُرَى معها عيوبُ
دعاك لكلِّ مُعْضِلة ٍ أَلَّمتْ = به ولكلِّ نائبة ٍ تَنُوبُ
وللذَّنْبِ الذي ضاقَتْ عليه = به الدنيا وجانبُها رَحيبُ
يراقبُ منه ما كسبت يداه = فيبكيه كما يبكي الرقوبُ
وأني يهتدي للرشدِ عاصٍ = لغاربِ كل معصية ٍ ركوبُ
يَتُوبُ لسانُهُ عَنْ كلِّ ذَنْبٍ = وَلم يَرَ قلبَهُ منه يَتُوبُ
تقاضتهُ مواهبكَ امتداحاً = وَأوْلَى الناسِ بالمَدْحِ الوَهوبُ
وأغراني به داعي اقتراحٍ = عليَّ لأمرهِ أبداً وجوبُ
فقلتُ لِمَنْ يَحُضُّ عَلَى َّ فيه = لعلَّكَ في هواهُ لي نَسيبُ
دَلَلْتَ عَلَى الهَوَى قلبي فَسَهْمي = وَسَهْمُكَ في الهَوَى كلٌّ مُصيبُ
لجودِ المصطفى مُدَّت يدانا = وما مدتْ له أيدٍ تخيبُ
شفاعَتهُ لنا ولكلِّ عاصٍ = بقدرِ ذنوبه منها ذنوبُ
هُوَ الغَيْثُ السَّكُوبُ نَدًى وَعِلْماً = جَهِلْتُ وما هُوَ الغَيْثُ السَّكوبُ
صلاة ُ الله ما سارت سَحابٌ = عليه ومارسا وثوى عسيبُ
*****