الحلقة ما قبل الأخيرة :
في طريق عودتنا إلى عمان مرّ بنا الطريق من بطن سهل فسيح بمحاذاة البحر الميت تنتشر على ضفته قرى متشابكة وخط الإسفلت يتوسط السهل ، كان الجو حاراً جداً والساعة تقترب من الثانية بعد الظهر وفي وسط الطريق فوجئت وأنا أقود السيارة برجل ممدد على ظهره فوق الإسفلت يرتدي بنطالا من الجينز وقد نزع قميصه من على جسده وهو يتلوى من شدة الحرّ، بالقرب منه قنينة ملقية على الأرض ! ووضعه يستدعي الشفقة ،هدأت من سرعة السيارة حتى كدت أن أوقفها ظناً مني أنه مدهوس ويحتاج إلى من يسعفه وإذا بأبي سعيد يصرخ في وجهي قائلا : ولك يا زلمه شو بدّك تفعل ؟! قلت الرجل يحتاج لمن يسعفه ! قال : ولك هاظ منازل قوم لوط ، ولك والله بيشلحوك ! هاظ يا زلمه سكران و بيدور عا واحد يفتري فيه روح، روح !
حمدت الله على السلامة وقلت في نفسي سلمنا من المشعوذ وكدنا نذهب ضحية المخمور! وأين ؟! في مراتع قوم لوط ! أأترك مكة شرّفها الله وآتي للموت هنا وفي هذه البقعة بالذات من الأرض؟! هذا يوم نحس والعياذ بالله !.
ضحى يوم الخميس تلقيت اتصالا من كابينة هاتف من عمّان وفوجئت بالبدوي على الطرف الآخر من الخط يقول جئت لك بالدواء وأنا أقف في شارع كذا بجوار كذا فابعث لي أبا سعيد يأخذه ! اتصلت بأبي سعيد وقلت له إذهب إليه وأتني به ( أي بالشخص نفسه وليس بالدواء ) كنت طوال الوقت وأنا أقف مطلاّ من النافذة على أحر من الجمر انتظر قدومه واخطط لكيفية استرداد حقي منه ! بمجرد دخوله لاحظت عليه الارتباك فقلت في نفسي : حانت الفرصة لرد الصاع صاعين ، جلس الرجل فمد لي بقارورتين مقفلتين ومختمتين بغطاء من البلاستيك اللاصق وقد كتب عليهما محلات كذا للعطارة ومحتوياتهما حسبما هو مدون على غلافيهما الخارجيين عسل أصليّ مضاف إليه غذاء ملكات النحل ! الواضح أنه للتو اشتراهما من السوق وجاء بهما إليّ ليبرر موقفه ! قبل أن أتفوه بكلمة واحدة أخرج من جيبه تعويذة أو تميمة وقال خلّي المدام تعلقها في رقبتها ! كتمت غيضي وقلت لنفسي خلّ غضبك هذه المرّة لله فأنت المسيطر هنا !
انفجرت في وجهه فجأة وصرخت بأعلى صوتي قائلا : أخرج من هنا ، أخرج من هنا ! يقول الرسول صلى الله عليه وسلّم من تعلق تميمة فلا أتمّ الله له ! من تعلق تميمة فلا أتم الله له ! من تعلق تميمة فلا أتم الله له ! قام المذكور مذعورا وقبل أن يخرج من الباب صحت به ، تعال ، بكم اشتريت الدواء ؟ قال بكذا . قلت له : هذا حقك وخذ معك دواءك ولا أريد أن أراك بعد الآن . خرج الرجل ينشد السلامة غير مستوعب لما جرى بينما تسمّر أبو سعيد في مقعده ، عدت بعد خروجه إلى النافذة استطلع حالته فإذا به في وضع لا يحسد عليه يجري باتجاه الشارع العام ويتلفت خلفه ثم يركب أول تاكسي مرّ به ويختفي عن الأنظار ، كاد المريب أن يقول خذوني !
ذهبنا عصر اليوم نفسه للنزهة في ضواحي عمان في حمامات عيون الماء الحارة ونحن في الطريق فاتحتني أم عبد الله في موضوع زيارة عجوز ارْبِد ويبدو أن امرأة أخي الرجل الذي تعشينا عنده قد أقنعتها بالذهاب إليها ، بعد أخذ ورد طويلين قالت ( يضع سرّه في أضعف خلقه ) خلينا نجرب ما بتخسر شيء ! قلت لا ما باخسر إلا ألف ريال ! وأخيرا تعللت بعدم معرفة العنوان ، قالت : أنا اكلم زوجة الرجال وأجيب لك عنوانها .
مارست النساء سلوتهن في تبادل أحاديث المساء وإذا بالرجل يتصل بي في العاشرة مساء مقترحا زيارة تلك العجوز ضحى اليوم التالي ( الجمعة ) يوم إجازته ( خريج إحدى الجامعات الأمريكية وفاتح ـ ورشة سمكرة سيارات ـ تخيلوا ! ) .
جاء بسيارته ومعه زوجه واصطحبت أنا أم عبد الله في سيارتي وتحركنا باتجاه محافظة اربد ، صلينا الجمعة في مسجد على الطريق ودخلنا فناء البيت المقصود وقد حان للتو وقت صلاة العصر .
البيت بيت شعبي لا يختلف عن بيوتنا في منطقة الباحة وفي فنائه شجيرات معمّرات من اللوز والزيتون ربط في إحداها بقرة وفي الأخرى عجل ويتردد بينهما عجوز في السبعين من عمرها تعلف هذا مرة وتنقل وعاء العلف للآخر مرة أخرى . ظننت في بداية الأمر أنها هي المقصودة وبعد أن ألقى عليها مرافقي التحية سألْتُه أهذه هي ؟! قال لا هذه بنتها، العجوز المقصودة أمها ! ثم وجه كلامه إليها : أم فايز موجودة ؟ قالت : نعم تصلي العصر ! تفاءلت بمجرد سماع قولها لكن اعتلت بدني قشعريرة لا أعرف لها سببا سوى تذكر عظمة الله الذي لم تغفل عن ذكره تلك العجوز في تلك الخلوة وفي تلك البقعة النائية من هذا الكون الفسيح !
دخلت الغرفة وإذا بمسنّة في التسعين من عمرها تبدو كوردة بيضاء رغم التجاعيد التي حفر الزمن ممراتها وتضاريسها على تقاسيم وجهها الصبوح ثمّ ألقيت عليها السلام بعد أن تأمّلتها ! قامت بطيّ سجادة متهالكة من تحتها قد انطبعت عليها أماكن أعضاء السجود السبعة من كثرة الاستخدام وألقت بجسمها النحيل على فراش لها لا يزيد سمكه عن ثلاثة سنتيمترات ثم استقبلتني بوجهها وظهرها مسند إلى الحائط وردّت عليّ السلام .
شرحت لها حالتي وأم عبد الله إلى جواري ففاجأتني بطلب غريب عجيب ألا وهو ضرورة إجراء تحليل طبي في مركز معترف به في عمّان يوضح به النسب المئوية للإنجاب ...وعدد ... وحركة ...... الخ ومن ثم عرضه عليها ! .. لا ... وقبل ذلك امتناع عن المعاشرة الزوجية لمدة أربعة أيام ! أشياء علمية بحتة تتحدث عنها وفوق ذلك مدونة بلغة لاتينية وأنا لا يخامرني الشك وقتها وحتى الآن في أن من كان في مثل سنها غير ملم باللغة العربية قراءة وكتابة فكيف بما سواها ؟!
حدّقت فيها وقلت : أنا مسافر ولا يمكنني البقاء في الأردن كل هذه المدة فإن كان لديك علاج فبها ونعمة وإلا ... ! أشارت بيدها إلى أكياس بلاستيكية مكوّمة في ركن الغرفة معبأة بنوعين من السوائل أحدهما بلون التوت والآخر يغلب عليه لون الماء وقالت خذ واحد من هذا وواحد من ذاك ثم ناولتني كيسين من زنبيل بجوارها بكل منهما مسحوق يختلف لونه عن الآخر وقالت هذا لك وهذا لزوجتك تستخدمانه بعد شرب كأس صغير من تلكما السوائل لمدة شهرين ومحددة لنا الوقت الذي يستخدم كل منا علاجه فيه ثم أوصتني بحفظ الدواء في مكان بارد حتى لا يتعرض للتلف وحذرتني من مخالفة تعليماتها وقالت وهي تشير بإصبعها إلى أم عبد الله هذه من ذمتي في ذمتك لو قمت بمخالفة تعليماتي فلن تحمل هذه المسكينة أبداً !
أدخلت يدي إلي جيبي مستعدا بالألف كالعادة ثم سألتها كم حقك يا والدة ؟ قالت : ستة دنانير ونصف !! أي ما يعادل ثلاثة وثلاثين ريالا سعودياً ! ألجمني طلبها عن الحديث برهة من الزمن ...ثم تداركت نفسي ومددت لهه بعشرة دنانير قائلا لها ليس لدي إلا هذه فقالت : حقي ستة دنانير ونصف ! قلت : ليس عندي من العملة الأردنية أصغر منها ! تناولتها عندئذ مني ثم أدخلت يدها الأخرى تحت فراشها وأخرجت لي ثلاثة دنانير ونصف وسلّمتها إليّ ثم قالت : يا وليدي هدفي ليس الربح، أنا أبحث عن نسمة توحد الله ! هذا الدواء مجمع من نباتات في الرّمثاء يقوم طلاب الجامعة بجلبها لي بناء على طلبي وأعطيهم مقابل تعبهم ولولا ذلك لما أخذت من أحد شيئاً.
أخذت منها الدواء وخرجت من عندها فاغر ألفاه ولدّي إحساس بأنها مستجابة الدّعوة ! عدت أدراجي إليها بعد أن أودعت تلك الأكياس سيارتي وقلت لها اسألي الله لي ذريّة طيبة في آخر ساعة من هذا اليوم الفضيل ، يوم الجمعة !.
رجعت إلى عمّان وبقيت بها حتى وصلني المندوب من المملكة ومعه العسل ثم عدت إلى عجوزتنا الأولى فمزجته بمساحيق لديها وأعادته إليّ بعد أربع وعشرين ساعة طالبة مني استخدامه على الريق حتى ينتهي !
قضيت شهرا من إجازتي متنقلا بين سوريا وتركيا ولبنان وعلاجاتي تركتها في ثلاجة استأجرت من أجلها شقة في الزبداني بثلاثة آلاف ريال تنقطع عنها الكهرباء أكثر مما تصل وفي النهاية وعن طريق مطار دمشق قررت العودة إلى المملكة ! لكن ماذا حدث في المطار لتلك السوائل ولماذا أصر رجال الأمن على إراقتها قبل الصعود إلى الطائرة ؟! هذا ما سنتطرق إليه بإذن الله في الحلقة الأخيرة من هذه الذكرى المريرة. فإلى أن نلتقي استودعكم الله .