.
*****
الطريق إلى البيت...
بقلم: فاطمة بنت عبدالحميد
انتهت مراسم العزاء، أُغلقت الأبواب الباكية التي شُرّعت للمعزين. غادر الأقارب والمعارف الذين أتوا محملين بدفء المواساة وبوقت خارج الوقت لنقضيه معهم كي لا نشعر بالأيام التي تُغيبنا أكثر عن الريس.. استدرنا بنهاية اليوم الثالث عائدين للباب المضاء بذكريات تختبئ خلفه:
مكتبه، ثيابه، عطره المفضل"جنتل مان"، كوب قهوته، سُبحه الملونة التي كانت تحيط أصابعه معظم الوقت... استدرنا عائدين للبيت الذي يخبر في كل زاوية من زواياه عن حكايات لنا معه.
أأشارككم بعضها لتعرفوا أكثر من هو الريس الذي نحب؟
في كل يوم جمعة نزور والدي الحبيب حفظه الله في بيته، ثم نقتطع وقتا من الزيارة نعرج فيه على الشقة المقابلة. يرن جرس بابه الذي يسابقنا على نقره الأطفال فهم مثلنا يحبون البياض المطلق في تلك الروح المتفردة. لا يفتح الباب أحد سواه، لا يسمح لأحد أن يسبقه إلينا.. يفرد ذراعيه في هيئة حضن، ويرسم في مشهد تمثيلي دهشة كرتونية على وجهه تُضحك الأطفال المتحلقين حول فخذه، كأن يفتح فمه أو يترنح قليلا وكأنه تعرض لصدمة للتو. يسلم علينا لا السلام الذي يليق بغياب أسبوع.. لا، بل يحضننا واحدة تلو الأخرى، يقرص خد تلك، ويقبض كف هذه ويبدأ في فرد أصابعها إصبعا إصبعا وهو يأخذ أخبارها. يعانق الأطفال ويبدأ في تبادل أحاديث طريفة لكنها دائما بصيغة جادة، أي ليس كمن يتحدث إلى طفل ليفهم، بل على العكس تماما. كأن يقترح مثلا تعاونا مشتركا بينه وبين "معن" ذي السبعة أعوام لإنشاء فريق قوي للإتحاد عوضا عن الفريق الحالي الذي أرهق مشجعيه بالخيبات. أو مشروعا لنقل فاكهة"المانجة" على دباب وبيعها في دبي العامرة بكل شيء إلا "بسطات" بيع المانجة. حسنا طالما أننا ذكرنا الفاكهة هنا فأبونا علي يعتني بنا من خلالها أيضا. فيقشر لنا الفاكهة بنفسه، ويقطعها بعدد الحاضرين ويناولنا إياها كفا بكف..أحيانا نعتذر بأننا للتو أكلنا فماذا يفعل؟ لا يُلح ولا يحلف علينا... فقط يُرجع رأسه للخلف ويفتح عينيه وفمه باتجاه الأعلى كمن هو على وشك أن يلتقط شيئا ستسقطه السماء، ثم يقضمها، يأكلها متلذذا بصوت مسموع:" أمممممم أنتِ الخسرانة لأنها لذيذة جدا".
ثم ليغرينا بالبقاء في بيته لنكمل تلك السهرة، يبدأ في اقتراح العشاء الذي يعلم أننا نحبه، والذي بالطبع لا يحب هو أيا من أنواعه، لكنه يسألنا وهو يحفزنا على الموافقة ويُصعّب علينا رفض عرضه المغري:
"بيتزا على ذوقي؟ شاورما يمي يمي؟ همبرغر ولا أحلى؟......".
الريس ذو الهيبة الربانية التي كفلتها له طلته الملكية، وصوته الهادئ الرخيم، ومن ثم سيرته كرجل عصامي صنع مبادئه بنفسه وبعقل حر لا تقيده عادة ولا مجاملة ولا نفاق. كان يُصر على أن يكون متواجدا في نهاية دوام مدارسنا على امتداد المراحل الدراسية الثلاث ليعيدنا إلى البيت بنفسه، فدوام والدي الملتزم بالنظام إلى حد التقديس يستمر لوقت متأخر بعد الظهر، لذا الريس يعيدنا أنا وأختي مشيا في شوارع "النزلة اليمانية"، ورغم أننا كنا نعرف طريق البيت جيدا إلا أنه كان يحرص على أن يكون متواجدا ليعيدنا بنفسه.
هل تتخيل شكل الريس ذَا الهيبة يحمل على ذراعه حقيبة وردية وأخرى بنفسجية مرسوما عليها شتى أنواع الأرانب والورود؟ لقد كان يمسك بكفي وكف أختي كل منا في قبضة، وحقائبنا يحملها عنا بنفسه فوق ذراعه، وفي أثناء الطريق يمر بنا على الكثير من البقالات الصغيرة لنفتش عن شوكلاته بعينها أو تشبس أفضل من ذاك الذي تجاوزناه في البقالة الأولى. ثم حين كبرنا وابتعدت مدارسنا قليلا ظل يعيدنا إلى البيت بسيارته الأنيقة التي تبدو جديدة مهما تقادمت، ولا يتأخر دقيقة عن موعده. أصغر أخواتي تخرج من كُليتها فتجده واقفا تحت ظل شجرة اختارها كعلامة تدلها على مكان تواجده، أرأيتم؟ هو أيضا يدرك أنه شجرة عائلتنا وجذرها العميق.
ظل يعيدنا إلى البيت حتى تزوجنا، ثم مؤخرا عاد ليزاول مهمة إعادتنا إلى البيت لكن هذه المرة مع حفيده فيصل أبن أخي عادل.
طريق البيت كان دائما بعناية هذا الريس لذا أشعر أنني ظللت الطريق منذ أسبوع مضى. هذا الشق الأبوي منه نحن عرفناه، ذاك الحضن الدافئ نحن جميعا خرجنا منه، ومهما ابتعدنا يظل ظله يمتد فوق رؤوسنا. غادرتُ السعودية في سفرات سياحية متفرقة، ظل يتصل أينما كنت، في مكالمات دولية وليست رسائل فقط! يسألني عن حالي وحال زوجي وابني ثم يقول لي هامسا :"تحتاجين شيء؟ ناقصك شيء".وحين أصر على أنه لا ينقصني إلا هو، يرد غاضبا:"أنا أبوك أو ماني أبوك؟". كان يفعل هذا معنا جميعا.
وسأخبركم شيئا ربما يكون البعض منكم قد جرّبه سرا هنا... الريس إذا دينك مبلغا من المال يشكرك بشدة! نعم يشكرك لأنك فكرت فيه واخترت أن تقترض منه، ويعتبرك متفضلا عليه، ويظهر لك الكثير من الامتنان، وهذا ما عرفته مؤخرا من بعض المعزيات.
حسنا... ماذا لو تجاوزتُ هذه المقدمة البسيطة وكتبت عن فترة إقامتنا في بيته حين سافر والداي لرحلة علاج أمي رحمها الله في الهند؟ ماذا لو استرسلتُ في وصف جدولنا اليومي حينها والذي أثراه بكل أنواع البهجة لينسينا بُعد والدينا عنا، ماذا لو حدثتكم عن تلك الليلة التي بكت إحدى أخواتي في منتصف الليل وهي تنادي على أمي فهرول بها مسرعا إلى مدخل العمارة فلم تهدأ، فطاف بها الشوارع حول البيت لتنسى، وبعد ساعة أو أكثر...عاد بها نائمة فوق كتفه ووضعها بنفسه في السرير. ماذا لو تحدث ياسر وعادل عن هذا الأب؟
لو تركتُ لهذا الفقد مساحة تليق به تماما، فلن يبقى أحد لن يسمع باسم علي بن حسن رحمه الله تعالى... رجل ينتمي لجيل شامخ رحل برحيله، رجل أعطى كل شيء، وحين رحل أخذ معه كل شيء.
"فطوش" كما يطيب للريس مناداتي
*****