يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-29-2012, 11:49 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

نعمة الرضا
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 6/6/1433هـ بعنوان: "نعمة الرضا"، والتي تحدَّث فيها عن نعمةٍ من أعظم نعم الله على العبد، وهي: نعمةُ الرضا؛ حيثُ بيَّن أن العبدَ لا يزالُ يسعَى لتحصيلِه ونيلِه في هذه الدنيا، ويدأبُ حتى يبلُغَه، وأن المالَ الكثيرَ ليس دليلًا على السعادة والرضا، كما أن الفقرَ وقلَّة ذات اليد ليس دليلًا على عدمِه؛ بل ربما كان العكسُ هو الصوابُ، ولم ينسَ أن يُعرِّج على قضية الاختطاف، وأنها مُنافِية ومُخالِفة لشرع الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله العليِّ الكبير، تعالى وتنزَّه عن الشبيه والنَّظير والمُعين والظَّهير، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك: 14]، أحمده - سبحانه - وأشكره أعطى الكثير، وتجاوزَ عن التقصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالِصةً مُخلِصةً أرجو بها النجاةَ من عذابِ السَّعير، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي القدرِ العليِّ والشرفِ الكبير، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى نهجِ الحق يسير، وسلَّم التسليمَ الكثير.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن الكرامةَ كرامةُ التقوى، والعِزَّ عِزُّ الطاعةِ، والأُنسَ أُنسُ الإحسان، والوَحشةُ وحشةُ الإساءة، الحياةُ - يا عبد الله - في مُداومة الذكر، والعافيةُ في مُوافقة الأمر، والنجاةُ في لُزوم الكتاب والسنة، والفوزُ لمن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنة، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[النساء: 69].
أيها المسلمون:
هدفٌ منشودٌ إذا فقدَه الإنسانُ فإنه لا يستقرُّ على حالٍ، ولا يسكُنُ إلى قرار، وغايةُ مُبتغاه بدونها صاحبُها قلِقٌ مُتبرِّمٌ، مُضطربٌ حائر، وأمنيةٌ مُتمنَّاه إذا لم يُحقِّقها طالبُها فهو أشبَهُ بحيوانٍ شرس، أو سبُعٍ مُفترس، والمُجتمع بدونها كذلك مُجتمعُ غابةٍ من غير غاية ولو لمَعَت فيه بوارِقُ حضارةٍ أو أثَارةُ تقدُّمٍ، المقاييسُ فيه للأشدِّ والأقوى وليس للأصلَحِ والأتقى.
هدفٌ وغايةٌ وأمنيةٌ يطلبُها كثيرون في غير موضِعِها، ويتطلَّبُها مُتطلِّبُون من غير مظانِّها، جرَّبوا ألوانًا من المُتَع وصُنوفًا من الشهوات فما وجدُوها، حسِبَها قومٌ في الغِنَى ورغَدِ العيشِ، وظنَّها آخرون في الجاهِ والمقامِ العريض، واعتقَدَتها فئاتٌ في حُسن العلوم والمعارِف، خاضَ في البحث عنها العلماءُ والفلاسِفة، والأغنياءُ والفقراء، والملوك والوُجهاء. إنها - يا عباد الله -: السعادةُ والطمأنينةُ والرضا والسَّكينة.
ما أعظمَ الفرقِ بين رجلَين أحدُهما عرفَ الغايةَ وطريقَها فاطمأنَّ واستراحَ، وآخرُ ضالٌّ يخبِطُ في عِماية، ويمشي إلى غير غاية، لا يدري كيف المَسير، ولا إلى أين المصير؟! أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الملك: 22].
كم من صاحبِ مالٍ وفير، وخيرٍ كثير، تجلَّى رِضاهُ وطُمأنينتُه وقناعتُه في تحرِّي الحلال وأداء حقِّ الله فرضًا ونَدبًا، أعطَى الأجيرَ أجرَه، ولم يُذِلَّ نفسَه من أجلِ مالٍ أو جاهٍ.
وآخرُ عنده ما يكفيه، ولكن قد ملأَ الطمعُ قلبَه، وانتشرَ التسخُّطُ بين جوانحِه، جزِعٌ من رِزقه، مُتسخِّطٌ على رازِقِه، يبُثُّ شكواه إلى المخلوقين، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[الفتح: 4].
معاشر الأحِبَّة:
الرِّضا نعمةٌ عظيمةٌ، يبلُغُها العبدُ بقوَّةِ إيمانه بربِّه وحُسن اتِّصالِهِ به، ينالُها بالصبرِ والذكرِ والشكرِ وحُسن العبادة، وقد خاطَبَ اللهُ نبيَّهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى[طه: 130].
وفي الحديث الصحيح: «ذاقَ طعمَ الإيمانِ من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولًا»؛ رواه أحمد، ومسلم، والترمذي.
الرِّضا - أيها الإخوة - بابُ الله الأعظم، وجنةُ الدنيا، ومُستراحُ العارفين، وحياةُ المُحبِّين، ونعيمُ العابدين، وقُرَّةُ عيون المُشتاقين.
الرِّضا سرُّ السعادة، وطريقُ السَّكينة، وجادَّةُ الطمأنينة. الرِّضا شجرةٌ منبتُها النفس.
يا عبد الله:
السعادةُ والرِّضا ليس بوفرة المال، ولا عِظَم الجاه، ولا كثرة الولد، ولا بنَيْل المُتَع والمنافع، الرِّضَا يحُدُّ من ثَورة الحرص والطمع، وطُغيان الشراهة والجشَع، ويُرشِّدُ الأخذَ بالأسباب: «اتقوا الله، وأجمِلوا في الطلبِ». فالغِنى ليس بكثرة العَرَض، إنما الغِنى غِنى النفسِ.
الرِّضا يُوقِفُ الراضِي عند حُدود قُدراته ومواهِبِه، ويُبصِّرُه بأقدار الله، فلا يتمنَّى ما لا يتيسَّرُ له، ولا يتطلَّعُ إلى ما لا يستطيع؛ فالشيخُ لا يتمنَّى أن يكون شابًّا، وغيرُ الجميل لا يتطلَّعُ إلى أن يكون جميلًا، وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ[النساء: 32].
يقول عطاء: "الرِّضا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد، وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به".
وسُئِلَ أبو عُثمان البِيْكَنْدي عن الرِّضا فقال: "من لم يندَم على ما فاتَ من الدنيا ولم يتأسَّف عليها".
وقال بعضُ الحُكماء: "من رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ".
ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "ارضَ بما قسمَ الله تكن أغنى الناس، واجتنِب محارِمَ الله تكن أورعَ الناس، وادِّ ما فرضَ الله تكن أعبدَ الناس".
وقيل للحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنهما -: إن أبا ذرٍّ - رضي الله عنه - يقول: الفقرُ أحبُّ إليَّ من الغِنى، والسَّقَمُ أحبُّ إليَّ من الصحة. فقال الحسين - رضي الله عنه -: "رحِمَ الله أبا ذرٍّ! أما أنا فأقول: من اتَّكَل على حُسن اختيار الله لم يتمنَّ غيرَ ما اختارَ الله له".
الرِّضا قناعةٌ وثقةٌ ويقينٌ، من قنِعَ فقد رضِي، ومن رضِي فقد قنِع، وفي الحديثِ: «قد أفلحَ من أسلمَ وكان رِزقُه كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه».
أيها المسلمون:
السعادةُ والرِّضا إيمانٌ بالله وبرسوله، ورِضا نفسٍ وانشراحُ صدرٍ، المؤمنُ يغمُرُه الرِّضا؛ لأنه عميقُ الإدراكِ لفضلِ الله العَميم، وإحسانِهِ العظيم، إحساسُه بنِعَم الله في نفسه وهي نعمٌ لا يُحصِيها في سمعِهِ وبصرِهِ ويدِهِ وقدمِهِ ومُخِّه وعظمِه، وطعامِه وشرابِه، ونومِه ويقَظَته، وأهلِه وفي شأنه كلِّه.
المؤمنُ يرى ويُشاهِدُ نعمَ الله ورحماته في كل ما حوله، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ[الحجرات: 7].
المؤمنُ المُطمئنُّ الراضِي يلهَجُ بذكرِ الله، ويستشعِرُ نعَمَ الله، «الحمدُ الله الذي أطعمَنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، وجعلَنا مُسلمين». «الحمدُ لله الذي كساني هذا ورَزَقنيه من غيرِ حولٍ مني ولا قُوَّةٍ». و«الحمدُ لله الذي أحياني بعد ما أماتَني وإليه النشور». «الحمدُ لله الذي أذهبَ عني الأذَى وعافاني». «اللهم إني أصبَحتُ منك في نعمةٍ وعافيةٍ وسِترٍ، فأتِمَّ عليَّ نِعمتَكَ وعافِيَتك وسِترَكَ في الدنيا والآخرة». «اللهم ما أصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِكَ فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ». فالحمدُ لله رب العالمين، والحمدُ لله على كل حال.
هذا هو المؤمنُ، يغمُرُه الرِّضا والطمأنينة والسعادةُ في كل حينٍ، وعلى كل حالٍ، مُتعلِّقٌ بربِّه، راضٍ عنه، مُطمئنٌّ إليه، يتلقَّى ويتقبَّلُ أقدارَ الله في نعمائها وبأسائها، والدنيا وتقلُّباتها في إقبالِها وفي إدبارِها، ويعلمُ علمَ اليقين أن الله يُريدُ بعباده اليُسرَ ولا يُريدُ بهم اليُسرَ، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19]، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
المؤمنُ الراضِي السعيدُ مُوقِنٌ أن الله معه؛ فهو في معيَّة الله يحفَظُه ويكلؤُه، «أنا عند ظنِّ عبدِي بي وأنا معَه إذا ذكَرَني»، لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[التوبة: 40]، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[طه: 46]. إن شعورَ المؤمن بمعيَّة الله يجعلُه في أُنسٍ دائمٍ ونعيمٍ موصولٍ.
المؤمنُ وحدَه هو الذي يغمُرُه الإحساسُ بالرِّضا بكل قدَرٍ من أقدار الله؛ فهو مؤمنٌ أن تدبيرَ الله أفضلُ من تدبيرِه لنفسِه. المؤمنُ يملأُ الرِّضا جوانِحَه؛ لأنه يعلمُ أن الخيرَ بيدَي ربِّه، والشر في هذه الدنيا لا يُناقِضُ الخيرَ ولا يُعارِضُه؛ بل قضَت سنَّةُ الله ألا يكون صبرٌ إلا مع شُكرٍ، ولا كرَمٌ من غيرِ حاجةٍ، ولا شجاعةٌ من غيرِ مُخاطَرةٍ؛ فالفضائلُ والخيراتُ لا تظهَرُ إلا بأضدادِها، فالشِّبَعُ مع الجُوع، والرِّيُّ مع الظَّمَأ، والدِّفْءُ مع البَرْدِ، وما عرَفَه المؤمنُ من حكمةِ الله في خلقِهِ وأسرارِ كونِه وآياتِه فهو بفضلِ الله، وما خفِيَ سلَّمَه لربِّه العليم الخبير.
هذا هو نهجُ أُولِي الألباب: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا[آل عمران: 191].
عباد الله:
وليس شرطُ الرِّضا ألا يُحِسَّ السعيدُ بالألم والمكارِه؛ بل المطلوبُ ألا يعترِضَ على مجارِي الأقدار، ولا يتسخَّطُ من الحوادِثِ والنوازِل؛ فهو راضٍ كرِضا المريضِ بشُرب الدواء المُرِّ؛ لأنه يعلمُ العاقبةَ ويرجُو العافيةَ.
والرِّضا والقناعةُ لا تمنَعُ التاجِرَ من تنمِيَة تجارته، ولا المُوظَّف من التطلُّع إلى الترقِّي في وظيفته، ولا العامِلُ في تحصِيلِ مُرتَّبِه، ولا أن يضرِبَ المُسلِمُ في الأرض ليستزِيدَ من فضلِ الله ورِزقِه؛ إنما الممنوعُ التسخُّطُ والتبرُّم.
كما أن أثرَ المادَّةِ في الرِّضا والسعادةِ غيرُ منكورٍ، على حدِّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سعادة ابنِ آدمَ: المرأةُ الصالِحةُ، والمَسكنُ الصالِحُ، والمركَبُ الصالِحُ»؛ رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ من حديثِ سعد بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -.
وبعدُ، عباد الله:
فالسعادةُ ينبوعٌ يتفجَّرُ من القلبِ والنفسِ الكريمةِ الرَّاقِيَةِ التَّقِيَّةِ الطاهِرة، نفسٌ سعيدةٌ أينما حلَّت في السوق أو في الدُّور، في البَراري أو بين الصُّخور، في الأُنسِ والوَحشة، في المُجتمعِ وفي العُزلَة؛ فمن أرادَ السعادةَ فليسأل عنها نفسَه التي بين جنبَيْه.
وما هذه الابتساماتُ ومظاهرُ السُّرورِ التي تُرَى وتتلألأُ من أفواه المحزونين والمُتألِّمين والفُقراء والمساكين ليس لأنهم سُعداء في عيشِهم؛ بل لأنهم سُعداءُ في أنفسهم، وما هي الزَّفرات والآهات المُتصاعِدةُ من صُدور الأغنياءِ والمُوسِرين وذوِي الوَجَاهاتِ والمُترَفين لأنهم أشقياءُ في معاشِهم؛ بل لأنهم أشقياءُ في أنفُسهم.
فلا تطمَع - رحمك الله -، ولا تهلَع ولا تجزَع، ولا تُفكِّر فيما لا وصولَ إليه، ولا تحتقِر من فضَّلَكَ اللهُ عليه، واعلَم أن كلَّ شيءٍ بقضاءٍ وقدَر، واللهُ أعلمُ بشؤونِ خلقِه يُعِزُّ ويُذِلُّ، ويرفَعُ ويضَعُ، ويُعطِي ويمنَعُ، فهو الذي أغنى وأقنَى، وأضحَكَ وأبكى؛ فمن رضِيَ طابَ عيشُه، ومن تسخَّطَ طالَ طيشُه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النحل: 97].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 04-29-2012, 11:51 PM   رقم المشاركة : 2

 

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الكريم الفتَّاح، أحمده - سبحانه - فالقُ الحبِّ والنوى والإصباح، وأشكرُه على نعمٍ تتجدَّدُ في الغُدُوِّ والرَّوَاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً هي للجنةِ مِفتاح، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بيَّن لأمته سبيلَ الفلاح، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الجُودِ والكَرَم والسماحِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما سجَى ليلٌ وأشرقَ صباح، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
وإن من مظاهرِ الرِّضا والطُّمأنينة والسَّكينة ما تعيشُه بلادُنا - بلادُ الحرمين الشريفين، المملكةُ العربيةُ السعوديةُ - من أمنٍ وإيمان، وما تضطَلِعُ به من أدوارٍ ومسؤوليَّاتٍ نحو شعبِها ومُواطِنيها والمُقيمين على أرضِها ونحو أشِقَّائها وأصدقائِها.
ومن مظاهرِ ذلك: ما يقومُ به مُمثِّلُوها ودبلوماسيُّوها من مهامَّ ومسؤوليَّاتٍ في كل بلدٍ يحلُّون فيها؛ سواءً في مناطِق آمِنة أو في مواقِع مُضطرِبةٍ مُتوترة، جاعِلين في أولوياتهم مُراقبَةَ الله وتَقواه، ثم القيامَ بمسؤولياتهم، مُتجاوِزين التحديات، مُستسهِلين الصِّعابَ. أعانَهم الله وسدَّدَهم، وبارَكَ في جهودِهم وأعمالهم.
وإن مما يُؤسَفُ له: ما تعرَّض له الدبلوماسيُّ السعوديُّ الأستاذُ عبد الله الخالديُّ الذي يعملُ في اليمن الشقيق؛ فقد تعرَّضَ لاعتداءٍ وخطفٍ، فكَّ اللهُ أسرَه، وأعادَه إلينا آمِنًا سليمًا مُعافَى.
معاشر الإخوة:
إن القيامَ بخَطفِ إنسانٍ بريءٍ أعزَل دليلُ عجزٍ وإفلاسٍ وتخبُّطٍ وتشتُّتٍ، وهو سُلوكٌ إجراميٌّ من تنظيمٍ إجراميٍّ تتولَّاهُ شِرذِمةٌ ضالَّةٌ، تقتاتُ على الحِقدِ، وتُمارِسُ الجريمةَ، وتستهدِفُ أمنَ الديارِ والشعوب، وتُلقِي بنفسِها في أحضانِ الأعداء - أعداء أهلها ودينِها وبلادِها -، شِرذِمةٌ شريدةٌ طَريدةٌ أُلعوبةٌ في أيدي النَّاقِمين على بلادِنا في أمنِها وإيمانها واجتماع كلمتِها، والتِفافِها حول قيادتها.
فئةٌ ضالَّةٌ تلقَّفَهم الأعداءُ فاتَّخذوهم مطايا وجُسورًا لتنفيذِ مُخطَّطاتهم، يعيشون في الكهوفِ، وشعَفِ الجبال، وبُطون الأودِيَة، في شقاءٍ وبلاءٍ، ومُخادَعةٍ للنفوس، وضياعٍ للأعمار، وإفناءٍ للشباب، يُعانُونَ من أزمَاتٍ عاصِفة، ويُشبِعون نَزَعاتٍ إجرامِيَّة؛ بل إنهم يعكِسون حالةَ الانهِيارِ في دواخِلِهم مُشرَّدون، كلما وجَدوا ملجأً أو مغاراتٍ أو مُدَّخَلًا ولَّوا إليه وهو يجمَحون، لا قرارَ لهم ولا إرادة، في تجمُّعاتٍ بائِسة، وتصرُّفاتٍ يائِسة.
أما أحكامُ الدين فهم منها بَراء؛ بل إنهم لا يُقيمون لتعاليم الإسلام وَزنًا، وهم يزعُمون أنهم يحتكِمون إليها.
هل اختطافُ المُسالِمين العُزَّل من الدين؟!
في أحكام الإسلام إذا كان المُسلِمون في أرضِ المعركة، وفي حال القِتال والمُواجَهة، وحين يكون الوطيسُ حامِيًا؛ فإن المُقاتلين المُسلمين ممنوعون من أن يقتُلوا وليدًا أو امرأةً أو شَيخًا أو، يُمثِّلوا بآدميٍّ أو بهيمةٍ، أو يقطَعوا شجرةً، أو يغدرُوا، أو يغُلُّوا. هذا في عموم الناس.
أما الرُّسُل - وهم السفراءُ، والمُمثِّلون، والمندُوبون، والقناصِل - فالحالُ أشدُّ منعًا، وحينما جاءَ رسُولا مُسيلمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «تشهَدا أني رسولُ الله؟». قالا: أتشهدُ أن مُسيلِمَة رسولُ الله؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آمنتُ بالله ورُسُله، لو كنتُ قاتِلًا رسُولًا لقتلتُكُما». قال عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "فمضَت السُّنةُ أن الرُّسُل لا تُقتَلُ".
وهؤلاء يخطِفون، ويقتُلون في مخالفةٍ صريحةٍ لأحكامِ الله وأحكامِ رسولِه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإفسادٍ في الأرض، وانتِهاكٍ للحُرمات، يجمعُون بين الجهل بدين الله وظُلمِ عبادِ الله، وأيُّ جهلٍ واضطرابٍ وعَبَثٍ أشدُّ من المُطالَبَة بتسليمِ نساءٍ إلى خارجِ بلادهِنَّ في تعدٍّ صريحٍ على أحكامِ الشرعِ، ثم على حقوقِ أهليهِنَّ ومحارمِهنَّ.
إخوتَنا وأحِبَّتنا:
أما دولتُنا فموقفُها ثابتٌ واضِحٌ، حكيمٌ عادِلٌ، فهي ترفضُ الابتِزازَ، ناهِيكُم إذا كان من فِئاتٍ إرهابيَّةٍ إجراميَّةٍ، والمملكةُ لا يُمكِنُ أن تُساوِمَ على عدلِها القضائيِّ، وحُكمِها المَتين، وسياستها الراشِدة، ولن تُسلِّمَ مُواطِنيها لجهاتٍ مشبوهةٍ أو مشبوهةٍ؛ بل تُسلِّمُهم لأهلِيهم وذَوِيهم في ظلِّ وطنِهم الآمِنِ العادِل، البلدِ الذي يُقيمُ شرعَ الله، ويرفعُ رايةَ الكتابِ والسنةِ دستورًا وعملًا، ولا ندَّعِي الكمالَ والعِصمةَ.
أما وزارةُ الداخِلية في بِلادِنا فكم كانت حِصيفةً حين فضَحَت هؤلاء الشِّرذِمة، حين أذاعَت الحديثَ الهاتفيَّ الدائِرَ بين أحد الخاطِفين والمسؤول السعوديَّ ليتجلَّى ما يعيشُه هؤلاء الضَّالُّون من اضطرابٍ وتشتُّتٍ وإجرامٍ وسُوءِ تدبيرٍ. لقد أوضحَت هذه المُكالمةُ ما فيه هؤلاء من تراجُعٍ وإفلاسٍ وضعفٍ وتشتُّتٍ وتخبُّطٍ، قد جُفِّفَت منابِعُهم، وقُتِّلَ رُؤساؤهم، ونبَضَت مصادِرُ تمويلهم.
وإننا من هذا المنبرِ نُصحًا وشفقةً وقُربةً إلى الله - عز وجل - ندعُوهم إلى التوبةِ والإنابةِ، ومُراجعة النفس، والعودة إلى الطريق الحق والهدى المُستقيم، ونبذِ الشر والفساد والإفساد والضلال، ومن قبلُ ناداهُم أُولو الأمرِ ليعُودوا إلى رُشدِهم وإلى بلادهم التي تحتضِنُهم وتُؤويهم. كما ناداهم العلماءُ والدعاةُ والخُطباءُ وأهلُ الرأيِ، وناداهُم كلُّ غَيورٍ ومُحِبٍّ؛ بل لقد ناداهُم آباؤهم وأمهاتُهم وأزواجُهم. فهل يفقهون ويتذكَّرون ويرجِعون؟!
اللهم اهدِ ضالَّ المُسلمين، اللهم اهدِ ضالَّ المُسلمين، وبصِّره بالحق، واحفَظنا اللهم من بين أيدينا ومن خلفِنا وعن أيماننا وعن شمائِلنا، ونعوذُ بعظمتك اللهم أن نُغتالَ من تحتِنا.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن القلبَ متى خالطَتْه بشاشةُ الإيمانِ واكتحَلَت بصيرتُه بحقيقة اليقين، وحيَّ بروح الوحي، وانقلَبَت النفسُ الأمَّارةُ بالسوء راضِيةً مُطمئنَّةً؛ فقد رضِيَ كلَّ الرِّضا، والسعيدُ من رضِيَ بما عندَه وقنِعَ بما لدَيْه، ومن أطاعَ مطامِعَه استعبَدَته.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله قولًا كريمًا - وهو الصادقُ في قِيلِه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، فهم مصباحُ الصباح، ورمزُ الثبات، وصورةُ البَسالة، صورةُ بَسالةٍ وعِزَّة أخجَلَت القريبَ والبعيد، اللهم احفَظهم، واجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، واحفَظ اعراضَهم، وأطعِم جائِعَهم، اللهم واشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، واربط على قلوبهم، وثبِّت أقدامهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، وانصُرهم ولا تنصُر عليهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في الطُّغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم اجعل تدميرَهم في تدبيرهم، واجعل دائرةَ السوء عليهم يا قويُّ يا عزيزُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُرُوه على نِعَمه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 05-26-2012, 10:16 PM   رقم المشاركة : 3

 

قيمة العزة والكرامة

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 13/6\ 1433هـ بعنوان: "قيمة العزة والكرامة"، والتي تحدَّث فيها عن قيمة العزة والكرامة، وأنها لا تكون إلا بالاعتِزاز بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ بالرجوع إليهما، وتطبيقهما في جميع الشؤون الحياتية، والتعريجَ على حملة التغريب الشرِسَة التي لوَّثَت عقولَ وقلوبَ الشباب والفَتَيات، ففُتِنوا بها.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، تعالى ربُّنا جلالًا واقتدارًا، وعِزَّةً وإكبارًا، أحمده - سبحانه - لم يزَل توفيقُه مِدرارًا للسَّامين نفوسًا وأقدارًا.
الحمدُ لله العظيمِ الشَّانِ
حمدًا بلا عيبٍ ولا نُقصانِ
حمدًا يضيقُ به الفضاءُ مُبارَكًا
بهَرَ الوُجودَ على مدى الأزمانِ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرومُ به مجدًا ووقارًا، وكرامةً وفَخارًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أرشدَ الله به نفوسًا حَيارَى، وأنهلَها عذْبَ الإباء فتلألأَت عِزَّةً وأنوارًا، اللهم فيا ربِّ صلِّ عليه، وعلى آله الساطعين في سماءِ الشَّمَمِ شموسًا وأقمارًا، وصحابتهِ الكرامِ الميامين البالِغين من ذُرَى الشُّموخ شأوًا أنَّى يُجَارَى، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجُو من المنَّان جنَّاتٍ وأنهارًا، وسلَّم يا ربِّ تسليمًا مُبارَكًا عديدًا مديدًا ما تعاقبَ القمران واستنارا.


أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حق تقاته، واسعَوا في معارجِ العِزَّة إلى مرضاته؛ فتقواه - سبحانه - لمن رامَ العِزَّة والفلاح والرِّفعةَ والكرامة والصلاح، كم زكَت لِباسًا وطابَت غِراسًا، وشعَّت بالهُدى نِبراسًا، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].
ألا إنما التقوى هي العزُّ والكرَم
وحبُّك للدُّنيا هو الذلُّ والسَّقَم
وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ
إذا حقَّقَ التقوى وإن حاكَ أو حجَم

أيها المسلمون:
في ثنايا حوادث العصر المُتراكِبة، وأعاصير فتنه المُتعاقبة، ومُستجدَّاته المُتواكِبة، وما أسفرَت عنه من تحريفٍ لقِيَمٍ منيعةٍ سامِية، وانجِفالٍ عن معانيها البديعة الهامِية؛ لزِمَ التوجيهُ والإيقاظ، وتحتَّمَ التذكيرُ والاستنهاض.
ومن تلكم القِيَم التي زاغَت عن حقيقتها الأفهام، وغدَا مِدرارُها كالجَهام: قِيمة العِزَّة والكرامة، والإباء والشَّهامة التي أضحَت في كثيرٍ من الأقطار مُصفَّدةً أو مُضامَة؛ فالعِزَّةُ روح الحياة الكريمة وقِوامها، وبها هيبةُ النفس الإنسانية واحترامُها، ومتى طُمِست في المُجتمعات فقد آذنَت بفنائها واخترامِها.
تنزِعُ العزَّةُ بالنفوس الهَضيمة عن الذل والضراعَة والاستِكانة والوَضاعة، وتسمُو بها جوزاءَ الحق والْتِماعَه؛ كيف وشفاءُ الخُنوع في نُصْلِها، وسُؤدَد الدنيا في نَصْلها، وجلالُ الأمم في وَصلها، كما قال - سبحانه -: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[الإسراء: 70].
إخوة الإيمان:
العِزَّة الدينية، والكرامةُ الإسلامية من أعظم الخِلال وأزكى الخِصال التي تولَّت غِراسَها، وأرَّجَت أنفاسَها شريعةُ الديَّان - سبحانه -، فحفِظَت المُسلمين عن مواقع الذل والمَسكَنة والعطَب، وذادَتهم عن دَرَكات العجز وسوء المُنقلَب؛ فالمُسلمُ جِبِلَّة أبِيٌّ أَنُوف وعن الهُونِ عَزُوف، وللصَّغَار عَيُوف، أجلُّ من أن يتطامَنَ لطغيان، ويستخزِيَ لمنَّان، ويستكين لبُهتان، ويرزحَ لسَطوة غَشُومٍ أيًّا كان، أو يُمالِقَ إنسان، ويتَّضِع لمكرٍ وهوان، أو يُمالِئَ للئيمٍ جبان؛ لأن العزة الشامِخة في أطواء المُسلمين الجارية أنساغُها في أرواحهم إنما هي من الله وحده استِمدادُها، ومن الدين الربَّانيِّ استِرفادُها، ومن الإيمان الحق عُدَّتُها وعتَادُها.
بين جنبَيْه عِزَّةٌ حين ثارَت
لم ترُعْها العواصِفُ الهَوجَاءُ
تأبَّى أن يعيشَ في حمْأَة الذلِّ
وثَارَت في نفسِه الكِبرياءُ

فماذا تصنعُ فُلولُ الطغيان في قلوبٍ تدرَّعَت بالإيمان، وتحصَّنَت بالعزَّة وتسامَت عن الخِذلان، وأنَّى تَنالُ سَطوةُ الباطل السَّفيه ذي الخُسران من حقٍّ تسطَّر في سجلِّ الشرف ولوحِ الزمان إزاء عُشَّاق العزَّة ورُواتها، وأبطال الشَّهامة وكُماتها، وليُوث العَرين والذِّمار وحُماتها: إخوانِنا الصامدين في فلسطين والأقصى وغزَّة، والصنادِيد في سورية الأعِزَّة الذين طالَ ليلُ ظُلمهم وقهرهم، ومُسلسلُ العُنف والمجازِرِ ضدَّهم، ولا زالَ طُغيان نظامهم يُماطِلُ في الوعود، وينكُثُ الوفاءَ بالالتزامات والعهود، فعَمُوا وصمُّوا، ثم عَمُوا وصمُّوا، والله بصيرٌ بما يعملون.
إنا لنعلَمُ أن دينَ محمدٍ
لا يرتضِي للمُسلمين هوانًا
المجدُ للبلد المُناضِلِ صابِرًا
حتى ولو ذاقَ الرَّدَى ألوانًا

أيها المؤمنون:
لقد تنزَّلت شريعةُ الإسلام لإخراج العباد كل العباد من حُلَك البطش والامتِهان إلى نور الاعتِزاز بالواحد الديَّان، تنزَّلت والكرامة من جوهرها وفَحواها، والعتِزازُ بالحق والعدلِ جَهرهُا ونَجواها.
في الحديث عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليبلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ الله بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخلَه الله هذا الدين بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذلًّا يُذِلُّ به الكفرَ»؛ أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي، والحاكم، وصحَّحه.
الله أكبر، الله أكبر.
وإنا أمةٌ عزَّت فِعالًا
وسادَ أُباتُها غُرًّا كِرامًا
وما انتكَسَت جِباهُ الصِّيدِ يومًا
على ذلٍّ ولا رضِيَت ملامًا

وأيُّ إزراءٍ أبلغُ في النفس ألمًا، وأعمقُ في الروح أثرًا ممن طُمِست كرامتُهم، وفُلَّ إباؤُهم، واستُلِبت نخوتُهم بأطواقِ الاستِبداد، وصُكَّت أصواتُهم بأصفاد الاستِعباد من قِبَل أقوامٍ أقصَوا العلماء، وعطَّلوا العُظماء، وأحبَطوا النُّبَغاء، وحطَّموا العباقِرة والنُّجَباء، وأحالوا أوطانَهم صَحاصِحَ جَرداء في وأدٍ للكرامات، ومُصادرةٍ للحريات؛ بل ومُساوَماتٍ ومُزايَدات.
وفي ديوان الحِكَم: "من بانَ عجزُه زالَ عِزُّه".
إخوة الإسلام:
ولكن، ثم لكن ها هو التأريخُ المُعاصِر يُرهِفُ السمعَ في إكبارٍ لمُجتمعاتٍ انخلَعَت من براثِنِ الإذلال، فأزهَقوه ورفَضوه، واستأسَدوا في وجه الاستِكبار فدكُّوه ولفَظوه، فتسنَّموا - بحمد الله - في شُموخٍ واعتِزازٍ عبَقَ الشعائرِ الدينية والحياة الإسلامية بعد أن أنهَكَهم الاعتِسافُ والابتِزاز.
لقد آنَ لعُتاة الطُّغيان في كل مكانٍ أن يتَّعِظوا بمآل الأقران؛ فغواشِي المِحَن لا مَحالةَ مُتقشِّعةٌ عن فجر العِزَّة والانتِصار، ومُنشقَّةٌ عن صُبح الكرامة والاستِبشار، وستبقى عُنجُهيَّة العُتاة الذين اعتَقَلوا إراداتِ الشعوبِ وسلَبوا حقوقَهم في العِزَّة والكرامة، وعفُّوا معالمَ إبائِهم غُرَّةً سوداء في مُعُرَّةٍ سوداء في مُحيَّا التأريخ، ودمامةً في إنسانية الإنسان في كل زمانٍ ومكان.
أمة العِزَّة والكرامة، والإباء والشَّهامة:
إن العِزَّة المنشودةَ المَرُومة الزَّاكِية الأصول والأَرُومَة التي رفرَفَت وفقَ ضوابط الدين، ورُسوخِ اليقين، وشُفوف البصيرة النَّفَّاذة التي تُبين؛ لأن العِزَّة إنما هي في التقوى، والقوة في الطاعة، والعلوَّ في الاستقامة، والرِّفعةَ في النُّبْل والمُروءة والفضيلة، والحريةَ الحقَّة في ظِلال الشريعة الغرَّاء.
وفرقٌ بين الحرية والفَوضى، وحرية الدين والفِكر والانفِلات والإلحاد والكُفر، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ[فاطر: 10].
ولن تتحقَّق لأمة الإسلام الأمانيُّ العِظام إلا بالسير على نور العزيز العلَّام وهدي سيد الأنام، فلا تُفرِّط في الاعتِزاز بهويَّتها ولا تستلِين، وتشمَخُ ولا تستكِين.
هو العزُّ الذي لا ريبَ فيه
لمن رامَ الشريعةَ واستقامَا
فتلك مواقِفُ الأبطال تَتْرَى
وقد عمَّت كرامتُها الأنامَا

معاشر الأحِبَّة في كل الأقطار، أمة الشِّماس والإكبار:
أين التحقُّق بالعزَّة الإسلامية؟ أين تحقُّق كرامة الأمة في المحافِل الدولية؟ أين تأصيلُ قِيَم الإباء والشَمَم والعلاءِ والهِمَم في كثيرٍ من الفضائيات ووسائل الإعلام، وأسَلَات الأقلام من رجال الفِكر والتوجيه الأعلام؟ أين مخايِلُ الاعتِزاز بالإسلام لدى الشباب والفَتَياتِ والأجيال؛ ثقافيًّا وسلوكيًّا وفِكريًّا واجتماعيًّا؟
لشَدَّ ما يُطوِّحُ بك مَريرُ الجواب، والاستِرجاعُ والاستِعتاب، إنها التبَعِيَّة الجَوفاء، والانهِزاميَّة النَّكراء التي غَزَت كثيرًا من أبناء المُسلمين عيانًا بيانًا، وأذَاقَتهم من الهُونِ أصنافًا وألوانًا.
أمة الإسلام:
وثمَّة ملحَظٌ مهم ليكن منكم بحُسبان؛ كونُ فئامٍ من الناس يُعانُون ثقافةَ الخلطِ بين الاعتِزاز والابتِزاز، وبين الحق اللازِب والمُؤكَّد من الواجِب، وبين العَدلِ بالعَدلِ والعَدلِ عن العَدلِ، دون الاحتِراز من الاندِفاع في لُجَّة الغُرُر والبَوّ واتِّقاد جمرة الخُيلاء والزَّهو، وذلك بتبديد المرافق والمُمتلكات والمُكتسبَات، والتعدِّي على المُقدَّرات والحُرُمات، بإثارة الفَوضَى والشَّغَب على الأمن والاستقرار والنظام والطمأنينة والانسِجام بدعوَى الحرية والكرامة، والمُطالَبَة بالحقوق.
قد أسلَموا قِيادَهم لدُعاة التحريض والغَوغائية الذين يبُثُّون الفتنةَ بين الشعوبِ الأوِدَّاء لخدمةِ أجندةٍ مشبوهةٍ للأعداء الألِدَّاء، وتلك - وايْمُ الحق - المفاهيمُ المُختلَّة، ودلالاتُ العِزَّة المُعتلَّة التي تُصادِمُ نصوصَ المِلَّة، وإن هو إلا الصَّلَفُ النَّزِق، والهَوَجُ الأرعَنُ الذي ألصَقَ بالعزَّة الإهانةَ، وتعطَّل عن الوعي والزَّكَانة، وتجرَّد عن المسؤولية والأمانة، وإن في طيِّه إلا الشرور والبلاء، والخُسرُ والعَداء.
ذلكم وإن أمنيةَ من يُحِسُّ مرارةَ الواقع بلوعَة جنانِه وحرارة إيمانه أن تُحطِّمَ الأمةُ عقدةَ الدُّون والانهِزام، وتُرشَّدَ في المُجتمعات مفاهيمُ العِزَّة والاحتِرام التي تنبُذُ الفوضَى والاحتِدام، وتتأبَّى عن الهمجِيَّة والانتِقام، وتمضِي في مُطارحَة الفِكرِ بالفِكرِ، والْتماسِ الحقوقِ بمدارجِ العقلِ والرَّوِيَّة، والحَصانَة السَّنِيَّة، ساعتَها سينهمِرُ غيثُ الأمجاد والعلاء على آكام العِزَّة الحقَّة ومضارِب الإباء التي تُجمِّلُ الحياةَ وتُغليها، وتُبارِكها وتُحيِيها، على نحو دِيار الحرمين الشريفين - حرسَها الله - التي بلغَت - بحمد الله - من ألَقِ الإباء والكرامة الذُّرَى النَّضير الذي عزَّ عن النَّظير، والله وحده الوليُّ والنصير، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الجمعة: 4].
أمنٌ وإيمانٌ وعِزَّةُ دولةٍ
تحمِي الحِمَى مما يرُوعُ ويُفجِعُ
فإذا نَظَرتَ فكلُّ شيءٍ باسِمٌ
والحُكمُ عدلٌ والشريعةُ تسطَعُ

وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[المنافقون: 8].
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنه كان حليمًا غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ النِّعَم ومُسديها، أحمده - سبحانه - كرَّمَ الإنسانَ تبجيلًا وتنويهًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً زكَت بالحق مرامِيها، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه من سعِدَت به الخَليقةُ فانجابَت دياجِيها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله البالغين من الأمجاد عَوالِيها، وصحابتهِ الدَّاعين إلى العِزَّة القَعْساء في أجلَى معانيها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واحذروا المهانةَ والضَّعَة فقد ذلَّ جانِيها، وابتَغوا من عِزَّة الإسلام للأرواح تزكِيةً وتوجيهًا.
أيها المسلمون:
بَيْد أن هناك أقوامًا يتظَاهَرون بالغَيرة على الإسلام، ركِبوا من ظاهر العِزَّة متنَ عَمياء وخَبطَ عشواء، يُريدون دكَّ عامِرِها، وتكديرَ رَقراقِ غامِرِها، وذلك في حوادِثِ الخَطفِ والقَرصَنة، والمُساومةِ والابتِزاز، كما في حادثِ الخَطفِ الصَّلِف للدبلوماسيِّ السعوديِّ: عبد الله الخالديِّ، فكَّ اللهُ أسرَه، فكَّ اللهُ أسرَه، فكَّ اللهُ أسرَه وسائرَ أسرى المُسلمين.
إن تلك الأفعال الإرهابية الجَبانة التي قامَت على أنقاضِ الظلمِ والبُهتان، والغَدر والعُدوان مُحرَّمةٌ إجماعًا في الشريعة الإسلامية، مُجرَّمةٌ في القوانين الدولية، تستنكِفُ منها الحمِيَّةُ الدينية، وتمُجُّها النَّخوةُ العربية، والشِّيَمُ الأصيلةُ الإنسانيةُ، وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قولُه: «ولا أحبِسُ الرُّسُل». وفي رواية: «ولا أقتلُ الرُّسُل».
وإنه لبُرهانٌ قاطعٌ ودليلٌ ساطِعٌ فضحَ من تلك الفئات عَوَارَها وإفلاسَها، وهتَكَ زائِفَ ادِّعائِها، وكشَفَ ظواهِرَها المُموَّهة، وبواطِنَها المسمومة المُشوَّهة، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ[الحج: 18].
أما زَعَموا أنهم إلى الشريعة يحتَكِمون، وإلى العدل والحق يختصِمون، وبالسنة الغرَّاء يهتَدون؟ أين حقيقةُ ذلك فيما أقدَموا عليه من الترويع والتفزيع، والارتِهان والامتِهان؟!
ألا فلتُكفكِفُوا - يا هؤلاء - من أضالِيلكم، ولتُقصِروا عن أباطِيلكم، ولتَثُوبوا إلى رُشدِكم، وتتوبوا إلى ربكم، وتُطلِقوا فورًا الخطيفَ البَريءَ، والأسيرَ العَنِيءَ.
هذا وإن العالَمَ أجمع ليُثمِّن للمملكة الشمَّاء وقيادتها الأمنية المُوفَّقة الموقفَ الأبِيَّ الصارِم في مُجافاة هؤلاء النَّزَقة، المارِقين المُرتزِقة، مُؤمِّلةً من الأشِقَّاء والنَّصَفَة الشُّرَفاء مزيدَ التحرُّك العاجِل لحلِّ هذه القضية الساخِنة، والله وحده المُعين والظَّهير، وللخاطفين الذين خطَفَ الشيطانُ عقولَهم سوء المُنقلَب والمصير.
من دَوحَة المجدِ من شمَّاخة القِمَم
من منبَت العِزِّ من خفَّاقَة العلَمِ
نادَى المُنادِي إلى الإحسان فاستبِقوا
وائسُوا جراحَ خَطيفٍ تاهَ في الظُّلَمِ

وكذا رَأْبُ الصدعِ بين الأحِبَّة والأشِقَّاء، ونزعُ فتيل الفتنة والأزمةِ العابِرة بين الإخوة الألِدَّاء، لقوله - سبحانه -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات: 10].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على من هدانا الله به صراطًا مُستقيمًا، وعقدَ من معاني العِزَّة دُرًّا نظيمًا، مُمتثلين أمر ربكم - سبحانه - الذي ألبَسَكم به شرفًا جَنيمًا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
ثم الصلاةُ مع السلامِ جميعه
لمحمدِ المبعوثِ بالفُرقانِ
والآلِ والصحبِ الكرامِ وكلِّ مَنْ
سلَكَ المحجَّةَ ثابتَ الإيمانِ

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين: نبيِّنا وحبيبِنا وقُدوتِنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي برٍ، وعمر، وعثمان وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحم حوزةَ الدين، ودمِّر الطغاةَ والظالمين وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، اللهم ضاعِف أجرَه ومثوبَته على ما يقومُ به من نُصرة قضايا المُسلمين وعلى ما وُفِّق من احتواء السحابةِ العابِرة مع أحِبَّتنا في مصر الكِنانة وتضييع الفُرصة على الشانئين المُتربِّصين، اللهم اجعل ذلك في موازين أعماله الصالحة، اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ يا مَن له الدنيا والآخرةُ وإليه المعاد.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، وفُكَّ أسرَ المأسُورين، وارفَع الحِصارَ عن المُحاصَرين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم كن لإخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من براثِنِ اليهود الغاصِبين.
اللهم إنا نسألُك أن تُصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة.
اللهم انصُر إخواننا في سُوريا، اللهم كن لإخواننا في سُوريا، اللهم كن لإخواننا في سُوريا، اللهم طالَ ليلُ ظلمهم وبلائهم، اللهم فرِّج عنهم عاجِلًا غيرَ آجلٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، واحفَظ أموالَهم يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على عُموم نِعَمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 05-26-2012, 10:27 PM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

أسباب انشراح الصدر
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 27\6\1433هـ بعنوان: "أسباب انشراح الصدر"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب انشراح الصدر، واستدلَّ على ذلك بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلامِ بعضِ أهل العلمِ.

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي شرحَ صدور العابدين، وأنزلَهم نُزُل المُقرَّبين، أحمده - سبحانه - حمد الشاكرين الذاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمةٌ قامت بها السماوات والأرض، ولأجلها انقسَمَت الخليقةُ إلى مؤمنين وكافرين، ولأجلها نُصِبَت الموازينُ ووُضِعَت الدواوين، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وأمينُه على وحيِه، وخيرتُه من خلقِه، أرسله الله رحمةً للعالمين، وإمامًا للمُتَّقين، وحُجَّةً على الخلق أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
انشراحُ الصد، وسكونُ النفسِ، وطُمأنينةُ القلبِ أملُ كل من عاشَ على الغَبراء، وحاجةُ كل ماشٍ في مناكبِها، باحثٍ عن طِيبِ العَيشِ فيها، مُريدٍ حِيازةَ أوفَى حظٍّ من السعادة لنفسه، وإدراكِ أعظمِ نصيبٍ من النجاح.
وإذا كان للناسِ في أسبابِ تحقيقِ انشراحِ الصدر مذاهبُ واتجاهاتٌ شتَّى؛ فإن للصفوةِ المُتَّقين أولي الألباب من المعرفةِ الراسخةِ بأسبابِ ذلك وبواعِثِه ما يجعلُ سبيلَهم إليه أقومَ السُّبُل وأهداها وأحراها ببُلوغِ الغايةِ فيه؛ لأنه سبيلٌ مضى عليه وأرشدَ إليه رسولُ الهُدى - صلوات الله وسلامه عليه -، وهو الحريصُ علينا، الرؤوفُ الرحيمُ بنا، الذي قال في الحديثِ الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والنسائي في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال: «إنما أنا لكم بمنزلةِ الوالدِ أُعلِّمُكم ..» الحديث.
والذي كان - صلوات الله وسلامه عليه - أشرحَ الخلقِ صدرًا، وأطيبَهم نفسًا، وأنعمَهم قلبًا؛ لِمَا جمَعَ اللهُ له من أسبابِ شرحِ الصدر مع ما آتاه من النبُوَّة والرسالة - عليه أكمل الصلاة وأتم السلام -.
إنها - يا عباد الله - أسبابٌ يأتي في الطليعةِ منها: الهُدى والتوحيد؛ كما قال - سبحانه -: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام: 125]، وقال - عز وجل -: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[الزمر: 22].
أي: لا يستوي هو ومن قسَا قلبُه بالبُعد عن الحق والإعراضِ عن الهُدى، كما قال - عزَّ اسمُه -: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122].
إنه نورُ الإيمان الذي يُضيءُ اللهُ به قلوبَ من شاءَ من عباده، فيشرحُ به صدورَهم، وتطيبُ به نفوسُهم، وتنعَمُ به قلوبُهم.
وفي الإنابةِ إلى الله، ومحبَّته، والإقبالِ عليه تأثيرٌ عجيبٌ في انشراحِ الصدرِ، وكلما كانت المحبةُ أقوى كان انشراحُ الصدرِ وطيبُ النفسِ كذلك، وعلى العكسِ منها: الإعراضُ عن الله تعالى، والتعلُّق بغيره؛ فإنه من أعظمِ أسبابِ ضيقِ الصدر؛ لأن من أحبَّ شيئًا غيرَ الله عُذِّبَ به، وسُجِنَ في محبَّته.
فهما - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "هما محبَّتان: محبَّةٌ هي جنةُ الدنيا، وسُرورُ النفس، ولذَّة القلبِ، ونعيمُ الروح وغذاؤُها، ودواؤُها؛ بل حياتُه، وقُرَّةُ عينِها، وهي محبَّةُ الله وحده بكل القلبِ، وانجِذابُ قوى المَيْل والإرادة والمحبِّة كلها إليه، ومحبَّةٌ هي عذابُ الروح، وغمُّ النفسِ، وسِجنُ القلبِ، وضيقُ الصدر، وهي سببُ الألم والنَّكَد والعَناءِ، وهي محبَّةُ ما سواه". اهـ.
فليختَرِ اللَّبيبُ العاقلُ لنفسِهِ، وليجتهِد لها، فإنه ساعٍ في خلاصِها، راغبٌ في حِيازةِ الخيرِ لها.
وفي الإحسانِ إلى الخلقِ في كل دُروبِ الإحسان بنفعهِم بكل ما يُمكِنُ نفعُهم به من مالٍ، وجاهٍ، وتعليمِ علمٍ نافعٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهي عن مُنكَرٍ، وصلةٍ، وصدقةٍ، وغيرها، في ذلك تأثيرٌ عجيبٌ في شرحِ الصدرِ، وسرورِ النفسِ.
وقد ضربَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا لانشراحِ صدر المُتصدِّق وضيقِ صدرِ البخيلِ، فقال في الحديث - الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَلُ البخيلِ والمُتصدِّق كمثَلِ رجلَيْن عليهما جُنَّتان من حديدٍ، إذا همَّ المُتصدِّقُ بصدقةٍ اتَّسَعت عليه وانبَسَطت، حتى تُعفِّيَ أثرَه، وإذا همَّ البخيلُ بصدقةٍ تقلَّصَت وانضمَّت يداه إلى تراقِيه وانقبَضَت كلُّ حلقةٍ إلى صاحبتِها، فيجهَدُ أن يُوسِّعَها فلا تتَّسِع».
وإن ذكرَ الله تعالى على كل حالٍ لهُوَ من أقوى أسبابِ انشراحِ الصدر، وقد بيَّن ربُّنا - تبارك وتعالى - حُسنَ جزاء الذاكرِ له، وعِظَم منزلته عنده بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ[البقرة: 152].
ومن ذكَرَ الله تعالى كان أجدرَ الناسِ بكل انشراحِ صدرٍ، كما أن الغفلةَ عن ذكره سببٌ لضيقِ الصدرِ وهمِّه وغمِّه، وإن أشرفَ الذكرِ وأعظمَه: تلاوة كتابِ الله تعالى بتدبُّرٍ يبعَثُ على العملِ؛ فإن التلاوةَ الحَقَّةَ - كما قال أهلُ العلم -: هي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاءً بنهيِه، وائتمامًا به،
حيثُما قادَ انقدتَ له؛ فتلاوةُ القرآن تتناولُ لفظَه ومعناه، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مُجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة؛ فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا.
ألا وإن الصلاةَ التي هي عمادُ الدين، وخيرُ أعمال العباد - كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «استقيمُوا، ولن تُحصُوا، واعلموا أن خيرَ أعمالِكم الصلاة ..»؛ أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ.
إن الصلاةَ التي تُقامُ على الوجهِ الكاملِ ظاهرًا وباطِنًا مع جماعة المُسلمين في المساجد مُفرِحةٌ للنفسِ، مُذهِبةٌ للكسل، شارِحةٌ للصدر، مُغذِّيةٌ للرُّوحِ، مُنوِّرةٌ للقلبِ، حافِظةٌ للنِّعمة، دافِعةٌ للنِّقمةِ، وما استُجمِعت مصالحُ الدنيا ولا الآخرة، ولا استُدفِعَت شرورُهما بمثل الصلاة.
كما قال - رحمه الله -: "وفي العلمِ المُقتبَس من مشكاةِ النبُوَّة المُنوَّر بأنوار الوحيَيْن فيه من عوامل شرحِ الصدر ما لا مُنتهَى له، ولا حدَّ يحُدُّه، وفي الإعراضِ عن الفُضولِ - أي: الزائدِ، وما لا حاجةَ إليه؛ من النظر، والكلامِ، والاستماع، والمُخالطة، والأكل، والنوم - باعثٌ قويٌّ لشرحِ الصدر؛ لأن هذه الخمسة مُفسِداتٌ للقلبِ، تُطفِئُ نورَه، وتُطفِئُ عينَ بصيرتِه، وتُثقِلُ سمعَه إن لم تُصِمَّه وتُبكِمَه، وتُضعِفُ قواه كلَّها، وتُوهِّي صحَّته، وتُفتِّرُ عزيمتَه، وتُوقِفُ همَّته، وتُنكِّسُه إلى ورائه؛ فهي عائقةٌ له عن نَيْل كماله، قاطعةٌ له عن الوُصولِ إلى ما خُلِق له وجُعِل نعيمُه وسعادتُه، وابتهاجُه ولذَّتُه في الوُصولِ إليه". اهـ.
فاتقوا الله - عباد الله -، وخُذوا بمناهج الصفوةِ المُتَّقين أُولي الألبابِ الذين استنُّوا بسُنَّة خيرِ الورَى - صلوات الله وسلامه عليه -، واقتَفَوا أثرَه، فكانوا أطيبَ الناس عيشًا، وأشرحَهم صدرًا، وأنعمَهم قلبًا؛ فما أسعدَ من سلكَ هذا المنهج، ومضَى على هذا الطريقِ.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من أسبابِ شرح الصدر: التنزُّه عن ذَميمِ الصفاتِ، ومقبوحِ الأخلاقِ؛ فإنها من أظهر أسبابِ ضيقِ الصدرِ، فإذا لم يكن للعبدِ سعيٌ لإخراجِ تلك الصفاتِ، والبُرء من دَغَلها لم ينتفِع بشرحِ صدره، وكان قلبُه لِمَا غلَبَ عليه منها.
وإن من أقبَح تلك الصفاتِ وأشدِّها نُكْرًا: الكِبرَ، والعُجبَ، والغُرورَ، والحسدَ، والأَثَرة، وسائر أمراض القلوبِ؛ فإنه تُورِثُ ضيقًا وهمومًا وغمومًا وآلامًا.
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أنه لا سبيلَ إلى انشراحِ الصدرِ، وسُرورِ النفسِ، وتنعُّمِ القلبِ إلا بالإقبالِ على الله؛ فإنه لا حُزنَ مع الله أبدًا، ولذلك قال تعالى حِكايةً لقول نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[التوبة: 40].
فمن كان الله معه فما لَه والحُزن؟ وإنما الحُزنُ كلُّ الحُزنِ لمن أعرضَ عن الله فوُكِلَ إلى نفسه وهواه.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك يا رب العالمين.
اللهم اكتُب النجاحَ والتوفيقَ لطلابِ العلمِ وطالباتِهِ في امتحاناتهم، وألهِمهم الإجابات المُسدَّدة المُوفَّقة يا رب العالمين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شُرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحَم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 05-26-2012, 10:35 PM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

المحاورة وأثرها
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 4\7\1433هـ بعنوان: "المحاورة وأثرها"، والتي تحدَّث فيها عن المحاورة والمُجادلة بالتي هي أحسن، وأن لها أثرًا عظيمًا في تأليفِ القلوبِ، وإصلاحِ النفوس وتهذيبِها، وذكر أمثلةً ونماذجَ من مُحاورةِ الأنبياء لأقوامهم، ومُحاورة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين والكافرين من قومه، وكيف كانت المُحاورة تُؤثِّرُ في النفوس، وبيَّن أنها أيضًا تُؤثِّرُ على الأطفال في تربيتهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله الكبير المُتعال، ذِي العِزَّة والملكوت شديدِ المِحال، أنزلَ علينا كتابًا مُبينًا ضربَ لنا فيه الأمثالَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، خيرُ من أُوتِيَ جوامِع المقال وأحسن الخِصال، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أزواجه وأصحابه والآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن أحسنَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعة المُسلمين فإن يدَ الله على الجماعة، والزَموا تقوى الله - سبحانه -؛ فهي الهدايةُ والنورُ، والسِّياجُ المنيعُ من الانحرافات والشُّرور، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
أيها المسلمون:
في الليلة الظَّلماء يُفتقدُ البدرُ، وفي يوم الحرِّ الشديدِ يُستجلَبُ الظلُّ، ويُستعذبُ المورِدُ، وفي خِضَمِّ الفتن والخلافاتِ التي تموجُ كموجِ البحرِ، وإعجابِ كل ذي رأيٍ برأيِه، وهيَجانِ الإسقاط الفِكريِّ، والعلميِّ، والثقافيِّ، والإعلاميِّ؛ يبحثُ العاقلُ فيها عن قَبَسِ نورٍ يُضِيءُ له ويمشي به في الناسِ، أو عن طوقِ نجاةٍ يتَّقِي به أمواجَ البحر اللُّجِّيِّ الذي يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من المُدلهِمَّاتِ والزوابِعِ التي تجعلُ الحليمَ حيرانًا.
وإننا في هذه الآوِنة نعيشُ زمنًا تكاثَرَت فيه الوسائلُ المعلوماتية، وبلَغت حدًّا من السرعة جعلَت المرءَ يُصبِحُ على أحدث مما أمسَى به، ثم هو يُمسِي كذلك. إنها ثورةُ معلوماتٍ وبُركانٌ من الثقافات والمقالات والمُطارَحات التي اختلَط فيها الزَّيْنُ بالشَّيْن، والحقُّ بالباطلِ، والقناعةُ بالإسقاطِ القَسريِّ، حتى أصبحَ الباحثُ عن الحقِّ في بعض الأحيانِ كم يبحثُ عن إبرةٍ في كومةِ قشٍّ، وهنا تكمُنُ صعوبةُ المهمةِ، وتخطُرُ التَّبِعَة.
وربما لم يعُد أسلوبُ الأمس يُلاقِي رواجًا كما كان من قبلُ؛ وذلك لطُغيان المُشاحَّة وضعفِ الوازِعِ، ما يجعلُ أُسلوبَ المُحاوَرة والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ سبيلًا أقومَ في هذا الزمن، وبخاصَّةٍ في مجال التربيةِ والإعدادِ والنُّصحِ والتوجيهِ، والنقدِ والخُصومة.
فكلِّ زنٍ وسيلتُه التي تُوصِلُه إلى غايةِ الأمسِ واليوم، ولا يعني هذا أن ما مضى كان خللًا، كما أنه لا يُلزِمُ أن الحاضِرَ هو الأمثلُ، وإنما لكل مقامٍ مقالٌ، ولكل حادثٍ حديثٌ، ولقد أحسن شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حين قال: "إذا عُرِف الحق سُلِك أقرب الطرقِ في الوصولِ إليه".
ربما كان الإسقاطُ والإلزامُ دون مُحاورةٍ أو تعليلٍ أسلوبًا سائدًا في زمنٍ مضى قد فرضَ تواجُده في الأسرة والمدرسة، ومنابر العلم والفِكر والإعلام، وربما كان مقبولًا إلى حدٍّ ما لمُلاءَمة تلك الطبيعة والمرحلة للمُستوى الخُلُقي والمعيشي والتربوي والعلمي. وما ذاك إلا لسريان مبدأ الثقة والاطمئنان بين المجموع، وهي في حِينها أدَّت دورًا مشكورًا، وسعيًا مذكورًا، كان مفهومُ التلقينِ فيها أمرًا إذا كان المُلقِّنُ هو الأعلى، وربما صار نُدبةً وطلبًا إذا كان المُلقِّنُ هو الأدنى، وقد يكونُ في حُكم الالتِماسِ إذا كان الطرَفَان مُتساوِيَيْن.
بَيْد أن المشارِبَ في زمننا قد تعدَّدت، والطرقَ المُوصِلة قد تفرَّعَت، ما بين مُوصِلٍ للغاية، أو هاوٍ بسالِكها إلى مكانٍ سحيقٍ، أو سالِكٍ وعرًا على شفَا جُرُفٍ هارٍ، قد بيَّن ذلكم بأوضح عبارة وأجمعِ كلِمٍ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عنه ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: خطَّ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطًّا فقال: «هذا سبيلُ الله»، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينِ الخطِّ ويساره وقال: «هذه سُبُلٌ على كلِّ سبيلٍ منه شيطانٌ يدعو إليه»، ثم تلا: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ[الأنعام: 153]» - يعني: الخطوط الذي عن يمينه ويساره -؛ رواه أحمد، والنسائي.
ومن هذا المُنطلَق كلِّه - عباد الله - يأتي الحديثُ بشَغَفٍ عن الحاجةِ إلى سيادةِ مبدأ المُحاوَرة والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ في جميع شُؤون الحياة كما علَّمَنا ذلك دينُنا الحنيفُ، وكان رائدَنا فيها كتابُ ربِّنا وسنَّةُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -؛ فالمُحاورةُ أسلوبٌ راقٍ، ووسيلةٌ مُثلَى تُوصِلُ إلى الغايةِ بكل أمنٍ وطُمأنينةٍ وأدبٍ وتأثيرٍ.
لأن اختلافَ الناس وتفاوُت عقولِهم، وأفهامهم، وأحوالهم النفسيَّة تفرِضُ طرقَ هذا المبدأ في زمنٍ كثُر فيه الجشَعُ، وشاعَت فيه الفوضَى، وأصبحَ التافِهُ من الناسِ يتكلَّمُ في أمر العامَّة.
المُحاورةُ - عباد الله - تبادُلُ حديثٍ بين اثنين أو أكثر، يُقصَدُ به: إظهارُ حُجَّةٍ، أو إثباتُ حقٍّ، أو دفعُ شُبهةٍ، أو رفعُ باطلٍ في قولٍ، أو فعلٍ، أو اعتقادٍ. وهي أسلوبٌ مُعتبرٌ في الكتابِ والسُّنَّة؛ فكتابُ الله به عشراتُ الآيات التي جاءت مُتضمِّنةً معنى المُحاورة، والسنَّةُ المُطهَّرة مليئةٌ بهذا الأُسلوبِ المُنبعِثِ من الخُلُق النبوي الهادفِ إلى هدايةِ الناسِ، والحِرصِ عليهم، والرحمةِ بهم، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة: 128].
وإن أي مُجتمعٍ يُربِّي نفسَه ونفوسَ بنِيه على إجادَة إيصال الفِكرة إلى الغير بإقناعٍ ناتجٍ عن مُحاورةٍ وشفافيَّة - كما يقولون -، ومُجادلةٍ بالتي هي أحسنُ لا بالتي هي أخشنُ، فستصِلُ الفِكرةُ بكلِّ يُسرٍ ووضوحٍ لا يشُوبُه استِكبارٌ، وإذا لم تكن نتيجةً إيجابيَّةً فلا أقلَّ من أن الحُجَّة قامَت، والذِّمَّة برِئَت، ولسانُ الحالِ حينئذٍ هو قولُ المؤمنِ: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[غافر: 44].
والحُكمُ هو الحُكمُ، والحقُّ هو الحقُّ، لن يتغيَّر؛ سواءٌ أكان بمُحاورةٍ أم لا، ولكن التغيُّر إنما يكونُ في القناعةِ بالحُكم وفهمِه والرِّضا به، ومعرفةِ حِكَم الشارعِ ومقاصِدِه.
ثم إن المُحاورة لا تعنِي باللُّزومِ اقتسامَ النتيجة بين المُتحاوِرَيْن، كما أن الوسطيَّة لا تعني التوسُّطَ بين أمرَيْن؛ لأن الوسطيَّة هي العدلُ والخِيار الذي لا مَيْلَ فيه لطرفٍ دون طرفٍ؛ بل أنَّى وُجِد الحقُّ فهو الوسطُ، وإن كان أدعياؤُه طرَفين لا ثالثَ لهما.
وهذه هي الغايةُ المرجُوَّة من المُحاورة، ومن جادلَ بالباطلِ ليُدحِضَ به الحقَّ؛ فقد قال الله عنه: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ[غافر: 35].
لقد امتازَت المُحاورةُ في شريعتنا الغرَّاء بأنها عامَّةٌ في جميع شُؤون الحياة، ابتِداءً من أمور الاعتقاد، وانتِهاءً بتربية الأطفال؛ فمن أمثلة ما جاء في أبواب الاعتقاد: مُحاورة كل نبيٍّ لقومه، ومُجادلتهم بالحُسنى طمعًا في هدايتهم إلى صراط الله المُستقيم، وقد جاء في الحديث: أن قُريشًا اختلَفَت إلى الحُصين بن عِمران، فقالوا: إن هذا الرجلَ - يعنونَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يذكُرُ آلهَتنا، فنحن نحبُّ أن تُكلِّمَه وتعِظَه، فهب حُصينٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أوسِعوا للشيخِ». فأوسَعوا له، فقال حُصينٌ: ما هذا الذي يبلُغُنا عنك أنك تشتِمُ آلهَتنا وتذكُرُهم. فكان مما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا حُصين! كم إلهًا تعبُد؟». قال: سبعةً في الأرض وإلهًا في السماء. قال: «فإذا أصابَك الضيقُ فمن تدعُو؟». قال: الذي في السماء. قال: «فإذا هلَكَ المالُ فمن تدعُو؟». قال: الذي في السماء. قال: «فيستجيبُ لك وحدَه وتُشرِكُهم معه؟! ..» إلى أن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا حُصين! أسلِم تسلَم». قال: إن لي قومًا وعشيرةً؛ فماذا أقولُ لهم؟. قال: «قُل: اللهم إني أستهدِيك إلى أرشدِ أمري، وأستجيرُك من شرِّ نفسي، علِّمني ما ينفعُني، وانفعني بما علَّمتَني، وزِدني علمًا ينفعُني». فلم يقُم حتى أسلَمَ؛ رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وغيرُهم.
وقد دخل عديُّ بنُ حاتمٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نصرانيٌّ، فسمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ قولَ الله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ[التوبة: 31]. فقال عديٌّ: إنا لسنا نعبُدهم. قال: «أليس يُحرِّمُون ما أحلَّ الله فتُحرِّمُونَه، ويُحلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟!». قال: فقلتُ: بلى. قال: «فتلك عبادتُهم»؛ رواه أحمد، والترمذي، وغيرُهما.
فهذه هي مُحاورةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور العقائد؛ لتكون نبراسًا لكلِّ مُسلمٍ حريصٍ على هدايةِ غيره أن يقتدِيَ بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واللهُ - جل وعلا - يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[الأحزاب: 21].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فإن المُحاورةَ بالحُسنى خيرُ سبيلٍ مُوصِلٍ إلى الحقِّ والرِّضا لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ، فحينما تستحكِمُ الشهوةُ على فُؤاد المرء، ويشرئِبُّ قلبُه إلى المعصية؛ فإن مجرَّد النهرِ والزَّجرِ والكَهرِ بعيدًا عن أُسلوبِ المُحاورة الكَفيلِ بنزعِ فَتيلِ الإغراقِ في حبِّ الشهوات لا يحصُدُ من الفوائد ما تحصُدُه المُحاورةُ ذاتُها.
فقد جاء فتًى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! ائذَن لي في الزِّنا. فأقبَلَ القومُ عليه، فزجَروه، وقالوا: مَهْ مَهْ. فقال: «اُدنُه»، فدنَا منه قريبًا، فجلسَ. قال: «أتحبُّه لأُمِّك؟». قال: لا والله، جعلَني الله فِداءَكَ. قال: «ولا الناسُ يُحِبُّونه لأمهاتهم». قال: «أفتُحِبُّه لابنتِك؟». قال: لا والله يا رسول الله، جعلَني الله فِداءَكَ. قال: «ولا الناسُ يُحبُّونه لبناتهم». قال: «أفتُحِبُّه لأُختِك؟». قال: لا والله، جعلني الله فِداءَكَ. قال: «ولا الناسُ يُحِبُّونه لأخواتهم ..» الحديث، إلى أن قال: فوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدَه عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبَه، وطهِّر قلبَه، وحصِّن فرْجَه»، فلم يكن بعد ذلك - الفتَى - يلتَفِتُ إلى شيءٍ؛ رواه أحمد.
هذه هي المُحاورةُ، وهذا هو أثرُها في إيضاح الأمر وإزالةِ الشُّبهة، وسلِّ الشهوةِ العَمياء.
وللمُحاورة في إزالة غشاءِ الظنِّ والشكِّ المُفضِيَيْن إلى اتِّهام النوايا والأعراضِ ما يجدُرُ أن تكون محلَّ نظر كل صادقٍ مُنصِفٍ حريصٍ على سلامة قلبه وذمَّته؛ فقد جاء أعرابيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدَت غُلامًا أسود. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل لك من إبِلٍ؟». قال: نعم. قال: «فما ألوانُها؟». قال: حُمْرٌ. قال: «هل فيها من أَورَق؟» - أي: ما يَميلُ إلى السَّواد -. قال: إن فيها لوُرقًا. قال: «فأنَّى ترى ذلك جاءَها؟». قال: يا رسول الله! عِرقٌ نزَعَها. قال: «ولعلَّ هذا عِرقٌ نزَعَه»؛ رواه البخاري، ومسلم.
فلا إله إلا الله؛ كم زالَ من الظنِّ السيِّءِ بأهله بهذه المُحاورة، فقطَعت دابِرَ الشكِّ، وأغلَقَت بابَ الفُرقَة الأُسريَّة، ولا إله إلا الله؛ كم هو عظيمٌ أثرُ الطمأنينة حينما يُحسِنُ المرءُ استِجلابَها بمُحاورةٍ هادِئةٍ هادِفةٍ حادِيها الإخلاص والبحثُ عن الحقيقة، بعيدًا عن التنابُزِ والتنابُذ.
وفي تربيةِ الأطفال يكونُ للمُحاورة من الأثر والوقعِ على النفسِ أكثرُ من مُجرَّد التلقين والإسقاط القَسريِّ؛ فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بن عليَّ - رضي الله تعالى عنهما - قد أخذَ تمرةً من تمر الصدقةِ فجعلَها في فِيهِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَخْ كَخْ، ارْمِ بها، أما علِمتَ أنَّا لا نأكُلُ الصدقةَ؟!»؛ رواه البخاري، ومسلم.
فهل تستوي التربيةُ مقرونةً ببيان السببِ والحِكمةِ بتربيةٍ مُجرَّدةٍ عن ذلك؟! ولو كان مُجرَّد النهيِ كَفيلًا في التربيةِ لاكتَفَى - صلى الله عليه وسلم - بقولِه: «كَخْ»، ولكن إضافةَ شيءٍ من المُحاورة بالتعليلِ مع هذا الصبيِّ تُوقِعُ في النفسِ معنى الفهمِ الصحيحِ حينما يكونُ مُعلَّلًا لا مفروضًا دون أدنى بيانٍ.
ومع ذلك كلِّه - عباد الله -؛ فإن المُحاورة لا تعني تهميشَ المرجعيَّة الشرعيَّة، كما أن الدعوةَ إليها لا تعني أن تكون كل مُحاورةٍ سَبهلَلًا بلا زِمامٍ ولا خِطامٍ؛ بحيث تطغَى على الحقوق والحُرُمات، وتكونُ مُحاورةُ تكْأَةً لكل مُتشفِّي، لاسيَّما حين يطالُ ذلكم مقاماتٍ لها في الاحترامِ والمرجعيَّة والتقديرِ ما يستقيمُ به الصالحُ العام، ولا يفتحُ بابًا للفوضى والرَّميِ بالكلامِ كيفما اتفق.
ويشتدُّ الأمرُ خطورةً حينما يكونُ ذلكم عند الحديثِ عن العُلماء والوُلاة الشرعيِّين، من خلال جعلِ بعضِ المُحاورات كلأً لمُنابَذتِهم ومُنابَزتهم، وقد جعل لهم الشارعُ الحكيمُ من الحُرمة والمكانة ما تعودُ مصلحتُه على أمنِ واستقرارِ المُجتمع، بعيدًا عن الإرباكِ والإرجافِ بالمنظومةِ العلميَّة والقياديَّة.
يتجلَّى ذلكم بوضوحٍ فيما ثبتَ في "الصحيحين" من أن جماعةً ألحُّوا على أسامة - رضي الله تعالى عنه - أن ينصحَ عثمان - رضي الله عنه - أميرَ المؤمنين علانيةً في شأن الوليد بن عُقبة، فقال: "قد كلَّمتُه، ما دُون أن أفتحَ بابًا أكونُ أوَّلَ من يفتحُه".
قال الحافظُ ابنُ حجر: "أي: يفتحُ بابَ الإنكار على الأئمةِ علانيةً خشيةَ أن تفترِقَ الكلمةُ، ثم عرَّفَهم أسامةُ أنه لا يُداهِنُ أحدًا ولو كان أميرًا؛ بل ينصحُ له في السرِّ جُهدَه".
إنها مُحاورةٌ لطيفةٌ مع من يُلِحُّ عليه تُوصِلُ للحقيقةِ دون غُلُوٍّ أو جفاءٍ.
ولقد أحسنَ ابنُ عبد البرِّ في نقلِه عن بعضِ السَّلَف قولَه: "أحقُّ الناسِ بالإجلالِ ثلاثةٌ: العُلماء، والإخوان، والسلطان؛ فمن استخفَّ بالعُلماء أفسدَ مُروءَته، ومن استخفَّ بالسلطان أفسدَ دُنياه، والعاقلُ لا يستخِفُّ بأحدٍ".
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[غافر: 56].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ قد بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوال إخواننا المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم كُن مع إخواننا المُضطهَدين في سُوريا، اللهم كُن مع إخواننا المُضطهَدين في سُوريا، اللهم انصُرهم على من ظلَمَهم ومن عادَاهم، اللهم اجعل شأن من ظلَمهم في سِفال، وأمرَه في وَبال يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 06-15-2012, 10:20 PM   رقم المشاركة : 6

 

المسؤولية ومآلاتها
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 11/7/1433هـ بعنوان: "المسؤولية ومآلاتها"، والتي تحدَّث فيها عن مسؤوليَّة كل فردٍ في هذه الأمة؛ في بيته، وعملِه، وحكومته، ووزارته، وإمارته، من مُنطلَق أن كلَّ راعٍ مسؤولٌ عن رعِيَّته، كما وردَ بذلك الحديثُ النبويُّ الشريفُ، وبيَّن عِظَمَ هذه المسؤولية، ووجوبِ القيامِ بها كما أمرَ الله تعالى، وأن الإخلالَ بها إيذانٌ بانهيارِ المُجتمعاتِ.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونُثنِي عليه الخيرَ كلَّه، علانيتَه وسِرَّه، فأهلٌ أنت يا ربَّنا أن تُحمَد، وأهلٌ أنت أن تُعبَد، لك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضِيتَ، ولك الحمدُ بعد الرِّضا، لك الحمدُ فضلًا وجُودًا ومَنًّا لا باكتِسابٍ مِنَّا، لك الحمدُ بالإسلام، لك الحمدُ بالإيمان، لك الحمدُ بالقرآن، ولك الحمدُ بالمال والأهلِ والمُعافاة، لك الحمدُ كالذي نقولُ وخيرًا مما نقولُ، ولك الحمدُ كالذي تقولُ، أمرتَنا بالشكرِ ووعدتَنا بالزيادة: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم: 7].
سبحانك ربَّنا وبحمدك، ما أصبحَ وأمسَى بنا من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ
أنت الذي علَّمتَنا ورحِمتَنا
وجعلتَنا من أمةِ القرآنِ
وأفضْتَ مَنًّا في القلوبِ محبَّةً
والعَطفَ منك برحمةٍ وحَنانِ
فلك المحامِدُ والمدائِحُ كلُّها
بخواطِري وجوارِحي وجَنانِي
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرَنا بتحقيق المسؤولية استِشعارًا واستِباقًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا وقدوتَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أورَقَ العهدُ المسؤولُ في سيرتِهِ إيراقًا؛ فكان الخيرُ دفَّاقًا، والنَّماءُ في الأمةِ خفَّاقًا، صلَّى الله عليه، وعلى آله المُبارَكين أصولًا الطاهرين أعراقًا، وصحبِهِ الأخيارِ البالِغين في رعايةِ الحقِّ والأماناتِ قِمَمًا بل طِباقًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن أُفعِمَت نفوسُهم بالجِنانِ أشواقًا، وسلَّم تسليمًا طيبًا عطِرًا رَقراقًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن تقواه - تباركَ وتعالى - هي السراجُ الهادي لمن كان مسؤولًا، والمعراجُ السَّنِيُّ لمن رامَ من العَلياءِ وُصولًا، والذُّخرُ الربَّانيُّ لمن كان مرجُوًّا ومأمولًا، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
وأهلُ التُّقَى في عِزٍّ ومفخرةٍ
من جَدَّ في السَّيرِ يُدرِكْ ما تمنَّاهُ
فحَيِّي الخِصالَ مع التقوى إذا اجتمعَت
ذاك الجمالُ الذي قد سرَّ مرآهُ
أيها المسلمون:
دأَبَت شريعتُنا الغرَّاءُ على تزكيةِ المُسلمِ والسمُوِّ به إلى أعلى الذُّرَى والمراتِب بأسنَى الشِّيَم والمناقِب؛ صونًا للمُجتمعاتِ من معرَّاتِ الانْحِدار، وعواقِب البَوار. ومن أعظمِ القِيَم التي أولَتْها بالغَ الاهتمام قيمةٌ تُحقِّقُ السُّؤدَدَ والازدِهار، والآمالَ العِراضَ الكِبار التي تبعثُ على الإجلالِ والانبِهار.
إنها قيمةٌ بهِيَّةٌ غُرَّتُها، مُشرِقةٌ طُرَّتُها، هي من نماء الأممِ مادةُ حياتها، ومن رُقِيِّها وهيبتِها مِرآةُ آياتها، وكُنهُ مُسمَّياتِها دون سنا أنوارِها إشراقُ النَّيِّرَيْن، ومقامُها الأسنَى جاوزَ الفرقَدَيْن، ولكن وفي ذات الأوانِ ما أفتَكَ مِرَّتَها، وأضرى مُنَّتَها متى وُسِّدَها من لا يتحاشَى اللَّومَ والعقابَ، ولا يجِلُّ من تثريبٍ وعِتابٍ.
تلكم - يا رعاكم الله - هي: المسؤوليةُ ومآلاتُها، المسؤوليةُ ومَغَبَّاتُها، المسؤوليةُ وتعهُّداتُها، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ[الأعراف: 6].
وفي مِشكاة النبُوَّة من حديثِ عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعِيَّته؛ فالإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعِيَّته، والرجلُ راعٍ في أهلِه ومسؤولٌ عن رعِيَّته، والمرأةُ راعِيَةٌ في بيتِ زوجِها ومسؤولةٌ عن رعِيَّتها، والخادمُ راعٍ في مالِ سيِّده ومسؤولٌ عن رعِيَّته؛ فكلُّكُم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعِيَّته»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
إخوة الإيمان:
الإخلاصُ ومُراقبةُ الله في السرِّ والعَلَن لُحمةُ المسؤوليةِ ومُنتهاها، والجِدُّ والمُثابرَة أركانُها وسَدَاها، ولكلِّ مُتقنٍ منها ومُبدعٍ موقِعُه، ولا ينبُو بعملٍ صالحٍ موضعُه.
وليست المسؤوليةُ قسرًا على الوظيفةِ وحِكرًا على المراتِب، والرُّبَّان النِّطاسِيِّ المُناسِب، كلا؛ بل هي ساحةٌ متَّسعةُ الأرجاء، رَحْبَةُ الأفناء، تشملُ ميادين الحياةِ كلَّها دِقَّها وجِلَّها؛ العبادات، والعادات، والمُعاملات، الأفرادِ والجماعات، المُؤسَّسات والهيئات، المُجتمعات والحُكُومات، ولكن تعظُمُ في الذُّؤَابات، ومن نِيطَت بهم جلائلُ الأمانات والمُهِمَّات.
معاشر المسلمين:
لقد طاشَت أفهامُ كثيرٍ من الناسِ إزاءَ حقيقة المسؤوليةِ وفحوَاها، ولم يستشعِروا ثِقَلَ مرامِيها ولا مَدَاها، وما واقعُ مُجتمعاتنا المُعاصِرة الراسِفِ في شَرَكِ الخَوَر والعشوائيَّة، والفسادات الإدارية، وأدواءِ الفوضَى والاتِّكاليَّة إلا نِتاجُ البَرَمِ والتنصُّلِ من المسؤولية، وعدمِ تجذُّرِها في القلوبِ؛ رهبًا وإشفاقًا من ربِّ البريَّة.
بل كم من فِئامٍ اتَّخَذوها لمآربِهم الشخصيَّة - يا ويحَهم - نِعْمَ المطِيَّة! ألا بِئسَ الأقوام هم، هتَكُوا حُرمةَ المسؤوليَّة هَتكًا، وفتَكُوا بمُقدَّراتِ المُجتمعاتِ فَتْكًا؛ تسويفًا في المواعيد والمُعاملات، ومُماطلةً في الحقوقِ والواجبات، واستِخفافًا بالأموال والمهامِّ والأوقات، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء: 36].
يتمرَّدون على جوهرِ المسؤوليَّة ويتنابَذونَها، حتى تَنمَاعَ مصالِحُ المُسلمين هَدَرًا بين: انظُرهم، وذاك، وراجِع غدًا، وذَيَّاك، واذهَب للآخر وهؤلاء. وذاكَ - وايْمُ الحقِّ - الدَّاءُ العَيَاءُ.
إن ضياعَ المسؤوليَّة والتهوينَ من شأنِها، والحطَّ من قدرِها هو البلاءُ الذَّريعُ، والشرُّ الخفِيُّ الشَّنيعُ الذي يفتِكُ بالأمةِ ومُقدَّراتِها، وينشرُ في أرجائِها سُمومَ الانحِطاطِ والفساد، وعِلَلَ الإفناءِ والهَلَاك، وما أعدَى أعداء المسؤوليَّة إلا التهاوُنُ والاتِّكال المقرونُ باللامُبالاةِ والإهمالِ.
ومن أرادَ العُلا عفوًا بلا تعَبٍ
قضَى ولم يقضِ من إدراكِها وطَرًا
لا بُدَّ للشَّهدِ من نَحْلٍ يُمنِّعُهُ
لا يجتَنِي النَّفعَ من لم يحمِلِ الضَّرَرا
أمةَ الإسلام:
أما آنَ الأوانُ، أم كادَ أن يفوتَ لكي ينطلقَ الأفرادُ والأُممُ صوبَ الطريقِ الأَمَم، لتحمُّلِ تبِعاتِ المسؤوليَّة وأرَقِها، كما حمَلَتهم بلقَبِها وألَقِها؟!
ففي كنَفِ المسؤوليَّة الهيِّنَةِ اللَّيَّنةِ المُشرَبة بالحزمِ المُبدِع تتأكَّدُ الحقوقُ والمِثالِيَّات، وتتوطَّد وتسمُقُ مفاخِرُ المجد والنَّماء، وتأتلِقُ قُدُرات الإنسان شطرَ الازْدِهار، والتميُّز والإبداعِ والابتِكار. نعم؛ تلكم المسؤوليَّةُ الحقَّة التي تستشعِرُ خشيةَ الله مع كلِّ قبسةِ قلمٍ، وهمسَةِ فمٍ، وإمضاءِ توقيعٍ، فتُخرِسُ ضجيجَ المظاهِر، وتكُفُّ رعونةَ المناصِب، وتُخفِّفُ زهوَ الجاه، وتُنهْنِهُ حُظوظَ النفسِ ودَخَلَ الذاتِ.
فهي حقًّا لمن يستشعِرُ عِظَمَ المسؤوليَّة وثِقَلَ الأمانة مغارِمُ لا مغانِم، وضخامةُ تبِعاتٍ تستوجِبُ صادقَ الدعوات. وبسببِ ذلك غرسَ أعلامٌ في الأفئدةِ محبَّتَهم، وحُمِدَت على مرِّ الأيام سيرتُهم.
يقول - صلى الله عليه وسلم - مُنبِّهًا ومُحذِّرًا: «ما ذِئبانِ جائِعانِ أُرسِلا في زَريبةِ غنَمٍ بأفسَدَ لها من حِرصِ المرءِ على المالِ والشَّرَفِ لدينه»؛ أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه".
الله أكبر، الله أكبر! يا لَه من قولٍ أشرقَ معنًى ولفظًا، وتألَّقَ إرشادًا وتوجيهًا ووعظًا. يقول الحافظُ ابن رجب - رحمه الله -: "فهذا مثلٌ عظيمٌ جدًّا ضربَه النبي - صلى الله عليه وسلم - لفسادِ دينِ المُسلمين بالحرصِ على المالِ والشَّرَفِ في الدنيا".
إن المنازِلَ لا تدومُ لواحدٍ
إن كنتَ تُنكِرُ ذا فأينَ الأوَّلُ؟
فاصنَع من الفعلِ الجميلِ صَنائِعًا
فإذا برِحتَ فإنها لا تُهمَلُ
فيا إخوة الإسلام:
يا من بُوِّئتُم المسؤوليَّات الجِسام! تجافَوا بعزائمِكم عن المعرَّاتِ والإهمال، واسمُوا بصِدقِكم وإخلاصِكم عن التقاعُسِ والمِطال، واستمجِدوا بهِمَمكم عظيمَ المقاصدِ والطموحاتِ الغَوَال؛ فالإتقانُ له سطوع، والتفانِي والإبداعُ له ذُيُوع، والإنتاجُ والتطويرُ لبهائِه لُمُوع، جاعِلين خدمةَ الحقِّ شِعَارَكم، ونفعَ الخلقِ دِثَارَكم.
ويا حبَّذَا ثم يا حبَّذَا ما يتطلَّعُه الواعُون الأخيارُ من أبناءِ الأمةِ من ذوِي المسؤوليَّات الكُفُؤة من التحقُّقِ بها وإدراكِ أبعادِها على أسمَى وجودِها وحقائِقها التي تُسلِمُنا - بإذن الله - إلى أحسنِ الثِّمارِ والمقاصدِ والغايات، وأبهَجِ الآثار والمآلات، وأسمَى النتائجِ والنهايات، وما ذلك على الله بعزيز.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[الأنفال: 27].
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا دومًا مُكرَّرًا، كلَّف - تبارك وتعالى - بمُقتضَى المسؤوليَّة فكانت حقيقتُها الأنقَى جوهرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ التوحيد في الأعماق تجذَّرَا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من حملَ المسؤوليَّة بلاغًا وعملًا فكان الأنضَرَا، اللهم فيا ربِّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله الأُلَى دامُوا للجُلَّى سَلسَلًا لا ينضَبُ أبهَرَا، وصحبِهِ الميامين مخبَرًا ومظهرًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ممَّن يرُومُ جِنانًا وكوثرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، اتقوا الله فيما خوَّلَكم من الأمانات، واسعَوا إلى مرضاته باستِشعار المسؤوليَّات؛ تغنَموا الخيرات، وتنعَموا بالمسرَّات والبرَكات، واعلَموا أنكم في شهرٍ من أشهُرِ الله الحُرُم فلا تظلِموا فيهنَّ أنفُسَكم بالمعاصِي والسيِّئات.
إخوة الإسلام:
ولا تتحقَّقُ المسؤوليَّةُ في أجلَى مظاهرها وآرَج أزاهِرها إلا إذا تُوِّجَت بمعاقِدِ الرِّفقِ، والحِلمِ، والأناةِ، والحِكمةِ، وصالحِ الأخلاق، وإلا متى سارَت في رِكابِ الشِّيَم الأعلاف التي تنِمُّ عن النباهةِ البارِعة، والرُّوحِ الإسلاميَّة الفارِعة، وبقدرِ عِظَم المسؤوليَّة وموطِنِ التشريفِ والتكليفِ تعظُمُ وتسمُو وتُنيف، لاسيَّما في البِقاع الشَّريفة، والأماكنِ المُنيفة، ويا لَهناءِ من شرُفَ بالخدمةِ فيها، وفعِ قاصِدِيها؛ حيث تتجلَّى ضرورةُ الإخلاصِ لله، واللَّجَأِ إليه، واستِمداد العونِ والتوفيقِ منه - سبحانه -.
فإذا لم يكن عونٌ من الله للفَتَى
فأوَّلُ ما يجنِي عليه اجتِهادُهُ
والشعورُ بالحاجةِ المُلِحَّة إلى الرأيِ السَّديدِ الحَصيف، والمشورةِ الصادقة، والنُّصحِ الهادِف، والنَّقدِ البَنَّاءِ النَّزيه من مُحِبٍّ يستشرِفُ معالِيَ الأمور، ويسمُو بنفسِه عن كوامِنِ الغِلِّ والشَّحْناء، والحَسَدِ والبَغضاء، والكِبرياء والغُرُور.
إضافةً إلى أهميةِ امتِياز المُؤهَّلين الذين يُحقِّقون ما أُسنِدَ إليهم على أتمِّ وجهٍ وأعظمِه، وأسناهُ وأقومِه، وإن هؤلاء الأخيار لَمغبُوطون لِمَا أنَّ سبيلَهم المُنيفَة مرقاةٌ لمرضاةِ المَولَى - تبارك وتعالى -، وشرفٍ سَنِيٍّ لخدمةِ زُوَّار بيتِه الحرام، ومسجدِ رسولِه خيرِ الأنام - عليه الصلاة والسلام -.
وهنا لا بُدَّ من همسةٍ مُوفَّقة لكلِّ من أمَّ هذه العَرَصَات المُبارَكة بأهميةِ تعاوُن الجميع، وتضافُرِ الجهود في رِعايةِ قُدسيَّة الحرمين الشريفين، وتحقيقِ آدابِهما، والعنايةِ برُوَّادهما.
ألا وإن من فضلِ الله وعظيمِ آلائه، وجَزيلِ نَعمائه ما منَّ به على هذه الأمةِ من تمكينٍ للحرمين الشريفين، وما ينعَمَانِ به وقاصِدِيهما من أمنٍ وأمانٍ، وراحةٍ واطمِئنان، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ[العنكبوت: 67]، وما هيَّأَ لهما من قيادةٍ حكيمةٍ تشرُفُ بخدمتهما ورعايتِهما، وتُقدِّمُ لقاصِدِيهما منظومةً مُتكامِلةً من بديعِ الخَدَمات لتحقيقِ جليلِ الآمالِ والطُّمُوحات.
جعلَها الله رِفعةً في الدَّرَجَات، ومثاقِيلَ في موازينِ الحسنات، تُورَدُ هذه النِّعَمُ وتُذكَرُ، ويُشادُ بها وتُشكَر، في الوقتِ الذي لا ننسَى فيه أبدًا مآسِيَ أمتِنا؛ خاصَّةً في فلسطين السَّنِيَّة، وبلاد الشامِ الأبِيَّة، ولا رَيبَ أن كلَّ غَيورٍ يَدينُ ويستنكِرُ فظائِعَ العُنفِ والقتلِ وسَفكِ الدماء في رُبَى سوريَّة الشمَّاء.
وما مجزَرةُ بلدة (الحُولَة) بأَخَرة التي استهدَفَت المدنيِّين، وراحَ ضحِيَّتَها الأبرياءُ؛ من الشُّيُوخِ، والنساءِ، والأطفال إلا أُنموذجٌ قاتِمٌ للصَّلَفِ الأرعَن من نظامِ الظلمِ والطغيانِ، مما يُؤكِّدُ الدعوةَ إلى مُعاقبَة مُرتكِبِيها، والله المُستعان.
اللهم عجِّل بنصرِهم، اللهم عجِّل بنصرِهم، اللهم عجِّل بنصرِهم، وفرِّج كُربَتَهم، وفرِّج كُربَتَهم، واكشِف غُمَّتَهم، واحقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم بمنِّك وكرمِك يا جوادُ يا كريمُ.
وبعد، معاشر الأحِبَّة:
فإن من أشرفِ أعمالِكم، وأرفعِها في درجاتكم، وأزكاهَا عند بارِئِكم: كثرةَ صلاتِكم وسلامِكم على نبيِّكم النَّبيِّ الصادقِ الأمين، إمام المُتَّقين، ورحمةِ الله للعالمين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين، فقال تعالى قولًا كريمًا في كتابه المُبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
ثم الصلاةُ مع السلامِ لأحمدٍ
خيرِ البَرَايا من بنِي الإنسانِ
والآلِ والصحبِ الكرامِ ومَنْ سَعَى
لسبيلِه من تابِعِي الإحسانِ
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واخذُلِ الطغاةَ والظالمين والمُفسدين وسائر أعداء الدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في دُورِنا، وأصلِح واحفَظ ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، اللهم أيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، اللهم وفِّق بِطانتَه لكلِّ خيرٍ يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، واكفِهم شِرارَهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، وفُكَّ أسرَ المأسُورين، وارحم موتانا وموتى المُسلِمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم وفِّق أبناءَنا وبناتِنا، وفِّق طُلَّابَنا وطالباتِنا إلى النجاحِ والتوفيقِ في الدنيا والآخرة يا ربَّ العالمين.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميع المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 06-15-2012, 10:24 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

النظام والفوضى في حياة المسلم
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "النظام والفوضى في حياة المسلم"، والتي تحدَّث فيها عن النظام والالتزام والانضباط في حياة المُسلم في كل شُؤونه؛ في عباداته، وعاداته، وفي أخلاقه، ومُعاملاته، في السِّلمِ والحربِ، ووجَّه العديدَ من النصائح والوصايا بهذا الصَّدَد.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله أبدعَ ما أوجدَ، وأتقنَ ما صنَعَ، وكلُّ شيءٍ لجبروته ذلَّ ولعظمته خضَعَ، سبحانه وبحمده في رحمته الرجاء، وفي عفوِه الطمعُ، وأُثنِي عليه وأشكُره؛ فكم من خيرٍ أفاضَ ومكروهٍ دفَع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعالى في مجده وتقدَّس وفي خلقِه تفرَّد وأبدَع، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ مُقتدًى به وأكملُ مُتَّبَع، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضلِ والتّقَى والورَع، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ولنهجِ الحق لزِم واتَّبَع، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالحياة يعقُبُها الممات، والأترابُ يُسلِمون للتراب، سبقَ القومُ بكثرة الصلاة والصوم، هجَروا لَذيذَ المنام، وغايتُهم دارُ السلام، فالجِدَّ الجِدَّ - رحمكم الله - من أجل أن تغنَموا، والبِدارَ البِدَارَ من قبل أن تندَموا، واطرُقوا في الدُّجَى بابَ الرجاء، الموتُ بابٌ مورود، والأجلُ غيرُ مردود، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ[هود: 103- 105].

أيها المسلمون:
ربُّنا الله - عزَّ شأنُه - خلقَ فسوَّى، وقدَّر فهدَى، خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ[الرحمن: 7- 9]، هذا خلقُ الله، هذا تقديرُه وتدبيرُه في انتِظامٍ واتِّزانٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[الحجر: 19- 21].
وفي مُقابِل ذلك: فإن الله - جل جلاله - خلقَ الإنسانَ وسوَّاه، وعدَلَه وخلقَه في أحسن تقويم، ومن وراء ذلك دينُ الله وشرعُه الحافظُ للمكرُمات، والعاصِمُ من الدنايا، والدالُّ على كل مسلَكٍ مُتَّزِن، وتعاليمُ هذا الدين ووصاياه تمتزِجُ بطوايا النفوس، وتُهذِّبُ طبائعَ البشر، حتى تضبِطَ اتجاهاتها، وتُوجِّه مساراتها، وتحفَظ توازُنها، وتُحكِم مسيرتَها.
تأمَّلوا - رحمكم الله - هذه الآيات في ترتيب الكونِ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان: 61، 62]، ثم تأمَّلوا ما أعقبَها من جُملةٍ من أوصافِ عباد الرحمن في اتِّزانِهم، وانضِباطِهم، وآدابِهم؛ حيث قال - عزَّ شأنُه -: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[الفرقان: 63]، ثم قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان: 67]، كما قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا[الفرقان: 72].
معاشر المسلمين:
انضِباطُ المسار، وتوازُن المسيرة، وتهذيبُ السلُوك، وعلوُّ الذوقِ من أُصول الحياة السعيدة، وأُسُس التعامُل في دين الإسلام، وأكملُ المؤمنين إيمانُا أحسنُهم خُلُقًا، الاعتِدالُ والتوازُن والانضِباطُ والالتزامُ كلُّ ذلك تعكِسُه وتدلُّ عليه هيئةٌ راسِخةٌ في النفسِ البشرية السويَّة تجعلُ ما يصدُرُ عنها من أفعالٍ وتصرُّفاتٍ موافقةً للحق، مُجانِبةً لما يُستقبَح، مُراعِيةً للمشاعِر. التزامٌ في إعطاء الحقوق، وتوازُنٌ ومُوازنةٌ بين الحقوق والمسؤوليات.
أيها الإخوة في الله:
النظامُ، والانضِباطُ، وحُسنُ الترتيبِ، وسلامةُ التقدير، وجمالُ الذوقِ كلُّ ذلك يحفَظُ الفردَ كما يحفَظُ الجماعةَ، ويُعينُ على تحمُّل المسؤولية وعلى أعبائِها، ويُثبِّتُ العلاقات الاجتماعية ويُنظِّمُها.
التعامُل المُنظَّمُ والتقديرُ الصحيحُ يهَبُ الحياةَ مذاقًا حُلوًا، ويقِي - بإذن الله - من أعباءٍ ثِقالٍ تُرهِقُ الفِكرَ والصحةَ والمالَ، مسالِكُ راقية، ومساراتٌ مُتوازِنة، يقودُها وعيٌ عميقٌ، وعزمٌ صادقٌ، وإصرارٌ لا يعرِفُ الكسلَ، ليس بالقوة تتحقَّقُ الآمال، ولكن بالعزيمةِ والإصرارِ وحُسن الأدبِ.
عباد الله:
المُسلمُ المُستقيمُ الجادُّ في حياته، المُنظِّمُ لشؤونه يجعلُ لكلِّ جزءٍ من وقتِه هدفًا، ولكلِّ عملٍ من أعماله غايةً، لا وقتَ له يضيع، ولا شيءَ من حياته في فراغٍ، المُوازنةُ عنده ظاهرةٌ بين الأهمِّ والمُهِمِّ وما دون ذلك. وإن للمُسلِمِ في فرائضِ الإسلامِ وأحكامِه وآدابِه ما يُنبِّهُه إلى ضرورةِ الانضِباطِ ولُزومِ الآدابِ في حياته كلِّها.
تأمَّلوا - رحمكم الله - هذا الانضِباط والترتيبَ وتهذيبَ الذوق في المُسلم وهو يقومُ إلى صلاته، مُتطهِّرًا في بدنه وثوبه وبُقعته، يستاكُ، ويأخُذ زينتَه، ويمشي إلى بيتِ الله، وعليه السكينةُ والوقار، يجتنِبُ الروائحَ الكريهةَ من أجل نفسِه وإخوانه والملائكة المُقرَّبين، ثم آداب الخروج والدخول من منزله ومسجده، وخفضُ الصوت، وغضُّ البصر، والقراءة، والذِّكرُ، والدعاء، والمُناجاة، والإنصاتُ، وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا[الإسراء: 110].
قائمًا لله قانتًا، ساكِنًا، غيرَ عابثٍ لا في حركةٍ، ولا في شُرودِ فِكرٍ، مُتابِعًا لإمامه، مُنتظِمًا في صفِّه، في ذوقٍ رفيعٍ، وأدبٍ عالٍ.
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يمسَحُ مناكِبَنا في الصلاة ويقول: «استَوُوا، ولا تختَلِفوا فتختلِفَ قلوبُكم، ليلِنِي منكم أُولو الأحلامِ والنُّهَى، ثم الذين يلُونَهم، ثم الذين يلُونَهم»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنما جُعِل الإمامُ ليُؤتَمَّ به؛ فلا تختلِفُوا عليه، فإذا ركَعَ فاركَعوا، وإذا قال: سمِعَ الله لمن حمِده، فقولوا: ربَّنا لك الحمدُ، وإذا سجدَ فاسجُدوا، وإذا صلَّى جالِسًا فصلُّوا جُلوسًا أجمعون، وأقِيموا الصفَّ فإن إقامةَ الصفِّ من حُسن الصلاة»؛ متفق عليه.
إنهم المُؤمنون في صلاتِهم خاشِعون، وعليها يُحافِظون، وعن اللغوِ مُعرِضون، إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[العنكبوت: 45].
أما الزكاة؛ فهي زكاءٌ وطُهرٌ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[التوبة: 103]، لا يُتبِعون صدقَاتهم ولا نفقَاتهم مَنًّا ولا أذًى، يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً[البقرة: 274].
وفي الصيام صفاءٌ ونقاءٌ وصبرٌ، يدَعُ قولَ الزُّورِ والعملَ به والجهلَ.
والحجُّ سكينةٌ وبُعدٌ عن التنطُّع والتكلُّف والغُلُوّ، فالحجُّ ليس بالإيضاع، «أيها الناس! اربَعوا على أنفسِكم؛ فإنكم لا تدعُون أصمَّ ولا غائِبًا، السَّكينةَ السَّكِينةَ، أمثالَ هؤلاء فارْمُوا، إياكُم والغُلُوَّ».
وفي حالِ الحربِ والقتالِ؛ فهناك آدابُ رفيعة، وتنظيماتٌ دقيقة، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[الصف: 4]. أما أداءُ الصلاةِ في حالِ الحربِ فأمرُها عجيبٌ في لُزومِ الجماعة، والانضِباطِ في الإمامةِ والائتِمام، وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ[النساء: 102].
أما عذابُ الحربِ وعُلوّ الذوقِ مع ضربِ الرِّقاب وشدِّ الوثاق فأعجبُ وأعجبُ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً[محمد: 4]، مع تجنُّب الإيذاء لمن ليس يدٌ في القتال؛ من المرأة، والطفلِ، والشيخِ الكبيرِ، وأصحابِ العباداتِ والصوامِع، حتى قال عُمر - رضي الله عنه -: "توقَّوا قتلَهم إذا التقَى الزَّحْفان، وعند شنِّ الغارات".
ناهِيكم بحُسن مُعاملةِ الأسرى واحترامِ المبعوثين والرُّسُل، وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ[التوبة: 6].
معاشر الإخوة:
هذه بعضُ مظاهر الآداب في الأحكام، يُضمُّ إلى ذلك: ما هو معلومٌ من آدابِ الإسلام وتنظيماته وترتيباته العالية في الأكلِ، والشربِ، واللِّباسِ، والسلامِ من القاعد والماشي والراكِب، وآداب الجُلوس والحديث، وتوقيرِ الكبير، ورحمةِ الصغير، والتيامُن في التنعُّل والترجُّل وفي الشأنِ كلِّه، وآدابِ الدخولِ والخروجِ للمنزل والمسجدِ والسوقِ وبيتِ الخلاءِ وقضاءِ الحاجة، وتخيُّر الأوقاتِ المُناسِبة في الزيارات، وآداب الاستِئذان، وإحسان الظنِّ بين الإخوان في التعامُل، وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ[النور: 28].
أما آدابُ السفرِ والصُّحبَة؛ فاستذكِروا توجيهَ نبيِّكم محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - في قولِه: «إذا خرجَ ثلاثةٌ في سفَرٍ فليُؤمِّروا أحدَهم»؛ رواه أبو داود، وإسنادُه حسنٌ.
وعن أبي ثعلبَةَ الخُشَنيِّ - رضي الله عنه - قال: قال عمروٌ: "كان الناسُ إذا نزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منزلًا تفرَّقُوا في الشِّعابِ والأودِية، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن تفرُّقَكم في هذه الشِّعابِ والأودِية إنما ذلكم من الشيطان». فلم ينزِلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضمَّ بعضُهم إلى بعضٍ، حتى لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم"؛ رواه أبو داود، وإسنادُه حسنٌ.
إن من علامات سعادة المرءِ - حفِظكم الله -: أن يُوهَبَ ذوقًا رفيعًا، ومسلَكًا مُهذَّبًا؛ حينئذٍ يستمتِعُ بالحياةِ، ويأنَسُ بالجليسِ، وتُقدِّرُه المشاعِر، صاحبُ الذوقِ السليمِ والأُسلوبِ المُهذَّب قادرٌ على استِجلابِ القلوبِ، وجذبِ النفوس، وإدخالِ السُّرور.
المُهذَّبُون يتخيَّرون الكلماتِ اللطيفة، ويختارون الأوقاتِ المُناسِبة والتصرُّفات المُلائِمة، أصحابُ الذوقِ الرَّفيع يتحاشَون النِّزاعَ، وحِدَّة الغضبِ، وينفِرون من الأقوال النَّابِية والأفعالِ الشائِنَة، ويجتنِبُون الجفاءَ والكَزازةَ والغِلظَة.
وإذا أردت - غفرَ لك الله - أن تختبِرَ أذواقَ الناسِ وانضِباطَهم والتِزامَهم فارقُبهم في مواطِنِ الزِّحام، وقيادة المَركَبات، ومدَى الالتِزام بقواعدِ السَّير، وآداب الاجتماع، وانتِظامِ الوقوفِ في الصُّفوف، وحديثِ الهواتِف، وحُسن استِعمال أنواع التِّقَنِيَّات والآلات ابتِداءً وإجابة، وآداب إرسالِ الرسائل واستِقبالِها صوتًا وكتابةً ومُشاهدةً.
وبعدُ، حفظَكم الله:
فإن المرءَ سوف يندَم ثم يندَم على الفوضَى، والخرَق، والعجَلة، والطَّيش، ولن يندَمَ مع الأناة، والنظام، وضبطِ التصرُّف، ومن هجَرَ بلا سببٍ فسوفَ يرضَى بلا سببٍ، ولا يهَبُ السيئات إلا الحسنات، ولا يترقَّى المُسلمُ مراقِيَ المكارِم إلا بمحاسِنِ الأخلاق، وقد قالوا: "إن المرءَ لا تظهرُ أخلاقُه مع الأكابِر، وإنما يظهرُ فضلُه في تعامُله مع من دونَه، فهناك يتبيَّن النُّبلُ، وجميلُ الخُلُق، ورفيع الذوق".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[لقمان: 17- 19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله وفَّقَ من شاءَ من عباده إلى طريقِ السعادة، أحمده - سبحانه - وأشكرُه وقد أذِنَ للشاكِرين بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجُو بها الحُسنى وزِيادة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه عبَدَ ربَّه حقَّ العبادة، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أهلِ الشرفِ والعِزِّ والسِّيادة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، معاشر المسلمين:
وأما من كان أمرُه فُرُطًا فهو من غلُظَت نفسُه، وجفَّ طبعُه، وقلَّ تهذيبُه، واضطرَبَ أمرُه؛ فلا تسَلْ عما يجلِبُه لنفسِه ولمن حولَه من التَّعَبِ والعبَثِ، لا يُراعِي مشاعِر، ولا يتحاشَى الزَّلَل، يُؤذِي بلفظِه، ويجرَحُ بلَحظِه، يقول الحافظُ ابن القيم - رحمه الله - في أمثالِ هؤلاء: "مُخالطتُه حُمَّى الروح، ثقيلُ النفسِ، بغيضُ العقل، لا يُحسِنُ أن يتكلَّمَ ويُفيدَك، ولا يُحسِنُ أن يُنصِتَ فيستفيدَ منك، ولا يعرِفُ نفسَه فيضعَها موضِعَها".
ويُذكَرُ عن الإمام الشافعيِّ - رحمه الله - أنه قال: "ما جلستُ إلى ثقيلٍ إلا وجدتُ الجانبَ الذي هو فيه أنزلَ من الجانبِ الآخر".
قِلَّةُ التهذيبِ تقودُ إلى سُوءِ التصرُّف، ونقصِ التدبيرِ، وعدمِ تقديرِ العواقِبِ، والنَّدَمِ بعد فواتِ الأوانِ. صاحبُ الأمرِ الفُرُط لا هدفَ له مُحدَّد، ولا عملَ له دقيق، أعمالُه ارتِجاليَّة، ومواعيدُه مُرتبِكة، يشرعُ في الأمر ثم لا يُتِمُّه، كثيرُ التدخُّل فيما لا يَعنيه، حالُه فوضَى واضطراب، يُهدِرُ الطاقات، ويُضيِّعُ الأوقات، ويُبعثِرُ الجُهود، ويُضيِّعُ العُمر بين تسويفٍ وتردُّد، يصرِفُ الوقتَ الطويلَ على العملِ اليسير، يُقطِّعُ الساعاتِ الطِّوال مع الجديد من التِّقَنِيَّات والاتصالات من غيرِ فائدةٍ تُذكَر؛ بل أمرُه فُرُط، وفُضُولُه مُنقطِعُ النَّظِير.
أكثرُ مواقفِ هؤلاء الفوضوِيِّين رُدودُ أفعال، أو تقليدٌ غيرُ مدروس، إمَّعاتٌ إن أحسنَ الناسُ أحسَنوا، وإن أساؤوا لا يقدِروا على تجنُّبِ إساءَتهم، إغراقٌ في الجَدَل والمِراءِ والمُهاتَرات، والدُّخول في اللَّومِ والنَّقدِ غيرِ البَنَّاء، والانفِعال، ونُشدان الغَلَبة دون إرادة الحق. ويلٌ لهؤلاء من حصائدِ ألسنتِهم وأقلاهم واتصالاتهم.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن السِّياجَ المتين لا يكونُ إلا في الخُلُق المَكين، فالنفسُ المُضطربَة القَلِقَة غيرُ المُرتَّبة والمُهذَّبة تُثيرُ الفوضَى، حتى في أحكَم النُّظُم، والجريُ مع الهوى لن يُشبِعَ النفسَ، ولن يُبلِغَ المُراد، إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[الرعد: 11].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، في محكم تنزيله فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعِزَّ به دينَك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المُنكَر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وفُكَّ أسيرَهم، وآوِي طريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم يا أرحم الراحمين.
اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً.
اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم عليك بهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم، اللهم اجعل تدميرَهم في تدبيرهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرِمين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحُورِهم ونعوذُ بك من شُرُورهم.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُرُوه على نِعَمه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:40 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir