يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-16-2012, 10:56 PM   رقم المشاركة : 1

 

التحذير من أكل المال الحرام
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/5/1433هـ بعنوان: "التحذير من أكل المال الحرام"، والتي تحدَّث فيها عن أكل المال الحرام، وقد حذَّر من تعاطِيه والتعامُل به؛ لما وردَ في شأنه من التحريم في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله يحبُّ الطيبَ الحلال، ويُبغِضُ الخبيثَ الحرام، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجُو به المزيدَ من الإكرام والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدُّوس السلام، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله خاتمُ النبيين سيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ فتقوى الله خيرُ زاد السالكين، وأفضلُ عُدَّة السائرين إلى رب العالمين.
أيها المسلمون:
حبُّ المال والتعلُّق بطلبِه والشَّغَفُ بجمعه، والحِرصُ على تنميته، وداومُ العملِ على حراستِهِ من الغوائِلِ وكذا صيانتُهُ من الآفاتِ مركوزٌ في الفِطَر، مُستقرٌّ في العقول، مُستحكِمٌ في النفوس.
وفي بيان قوة هذا الحب، وكمال هذا التعلُّق، وتمام هذا الحِرص جاء قولُه تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا[الفجر: 20]، وقوله - عزَّ اسمه - في وصف الإنسان: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[العاديات: 8]، وقول نبي الرحمةِ والهُدى - صلوات الله وسلامه عليه: «قلبُ الشيخِ شابَ على حبِّ اثنتين: حبِّ العيش - أو قال: طول الحياة -، وحبِّ المال»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وقد كان هذا الحبُّ الشديدُ جديرًا بأن يذهبَ بصاحبه كلَّ مذهبٍ، خليقًا بأن يُركِبَه كلَّ مركَب، لبلوغ غايتِهِ في إصابةِ أوفَى نصيبٍ منه، غير أن الله تعالى لم يدَعْه وحيدًا أمام سِحر بريقِه، أسيرًا لفتنتِه وإغرائه، يخبِطُ خَبْط عشواء في جمعه وإنفاقه؛ بل أقامَ له معالِمَ، وحدَّ له حدودًا، ورسَمَ له طريقَ سيرٍ يُفضِي بسالكِهِ إلى خير غاية، وينتهي به إلى أكمل مقصود.
وهو طريقٌ دلَّ عليه ما جاء في كتابِ ربنا وسنة نبيِّنا - صلوات الله وسلامه عليه - من بيِّناتٍ في آياتٍ مُحكَمات، وسُننٍ واضِحاتٍ، وفي الطليعَةِ من ذلك جاء الثناءُ على المالِ الصالحِ يُرزَقُه العبدُ الصالحُ المُطيعُ لله، المُستقيمُ على أمره، الحافظُ لحدوده، في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمرو! نِعْمَ المال الصالحِ مع الرجلِ الصالحِ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه" من حديثِ عمرو بن العاص - رضي الله عنه -.
وإنما يكونُ صلاحُ هذا المالِ بحِلِّ أصله - وهو حديثٌ بإسنادٍ صحيحٍ - وإنما يكونُ صلاحُ هذا المال بحِلِّ أصله، وطِيبِ كسبِه، ومشروعيَّةِ مصدره، وهذا يستلزِمُ التنزُّه عن أكل الحرامِ الخبيثِ الذي يبُوءُ آكِلُه بإثمه، ويكونُ وبالاً عليه، جاء في الحديثِ - الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه"، واللفظ لمُسلمٍ؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيِّبًا، وإن اللهَ أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المُرسَلِين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ[المؤمنون: 51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة: 172]. ثم ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السفرَ، أشعثَ أغبرَ، يمُدُّ يديْه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ! ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!».
وهذه إشارةٌ - كما قال أهلُ العلمِ بالحديثِ - إلى أنه لا يُقبَلُ العملُ ولا يزكُو إلا بأكل الحلال، وأن أكلَ الحرامِ يُفسِدُ العملَ ويمنعُ قبولَه. والمرادُ أن الرسلَ وأممَهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعملِ الصالح، فما دام الأكلُ حلالاً فالعملُ صالحٌ مقبولٌ، فإذا كان الأكلُ غيرَ حلالٍ فكيف يكونُ العملُ مقبولاً؟!
ولذا كانت الصدقةُ بالمال الحرام مردودةً غيرَ مقبولة، كما جاء في "صحيح مسلم" - رحمه الله - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يقبَلُ اللهُ صلاةً بغيرِ طُهور، ولا صدقةً من غُلُول» - وهو الأخذُ من الغنيمةِ قبل قِسمتها على مُستحقِّيها -.
وفي "صحيحي" ابن خزيمة، وابن حبان، و"المستدرك" للحاكم بإسنادٍ حسنٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أدَّيتَ زكاةَ مالك فقد قضيتَ ما عليكَ، ومن جمعَ مالاً حرامًا ثم تصدَّقَ به لم يكُن فيه أجرٌ، وكان إصرُه عليه».
وفي "مراسيل أبي داود" - رحمه الله - بإسنادٍ حسنٍ؛ عن القاسم بن مُخيمِرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اكتسبَ مالاً من مأثَم فوصلَ به رحِمَه، أو تصدَّقَ به، أو أنفقَه في سبيل الله؛ جُمِعَ ذلك كله جميعًا فقُذِفَ في جهنم».
وإن الأمرَ ليس مُقتصِرًا - يا عباد الله - على هذه الآثار مع شدَّتها، وعِظَم التضرُّر بها؛ بل إنه ليربُو على ذلك، ويبلُغُ الغايةَ حين ينتهي بصاحبِهِ إلى نار الجحيم يوم القيامة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "صحيحه" بإسنادٍ صحيحٍ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا كعب بن عُجرة! إنه لا يدخلُ الجنةَ لحمٌ نبَتَ من سُحْتٍ».
والسُّحْتُ هو الحرام في كل صُوره؛ كأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، وأخذ رُشَا، ومهر البغِيّ - وهو ما تُعطاهُ لقاءَ بِغائِها -، وحُلوان الكاهن - وهو ما يأخُذه أجرًا لكِهانته -، وما يُؤخَذ أجرًا لبيع المُسكِرات والمُخدِّرات، وكافة أنواعِ البُيُوع التي حرَّمَها الله ورسولُه؛ من مطعوماتٍ ومشروبات، وملبوسات، ومُتَّخذاتٍ للتزيُّن، ونحوها مما هو مبسوطٌ مُفصَّلاً بدليله في كتب أهل العلم.
وفي "جامع الترمذي" - رحمه الله - بإسنادٍ صحيحٍ من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا كعب بن عُجرة! إنه لا يربُو لحمٌ نبَتَ من سُحْتٍ إلا كانت النارُ أوْلَى به».
وإنها لنهايةٌ مُرعِبة، ومصيرٌ مُفزِعٌ تقَضُّ له مضاجِعُ أُولِي النُّهى، وتُوجِبُ تفتُّحَ الوعيِ لإدراك سبيل النجاة، والظَّفَر بأسبابِ السلامة، والحَظْوة بمسالكِ العافية التي تأتي في الطليعةِ منها: تقوى الله تعالى، والاستحياءُ منه حق الحياء؛ فإنه من أظهر أسبابِ التنزُّه عن أكل الحرام.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي - رحمه الله - في "جامعه" عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استحْيُوا من الله حقَّ الحياء». قال: قلنا: يا نبيَّ الله! إنا لنستَحْيِي والحمدُ لله. قال: «ليس ذلك، ولكن الاستِحياء من الله حقَّ الحياء: أن تحفَظَ الرأسَ وما وعَى، وتحفظَ البطنَ وما حوَى، وتذكُرَ الموتَ والبِلَى، ومن أراد الآخرةَ تركَ زينةَ الدنيا، فمن فعلَ ذلك فقد استحْيَى من الله حقَّ الحياءِ».
فحِفظُ البطن وما حوَى؛ أي: ما وُضِع فيه من طعامٍ وشرابٍ، بأن يتحرَّ الحلال منهما، وأن يُوقِنَ بأن ما قُسِم له من رزقٍ فإنه سوف يستوفيهِ بتمامه قبل مماته، فلا يحمِلُه استِبطاءُ الرزقِ على طلبِهِ بسُلُوك سبيل المعصية؛ فإنها نذيرُ شُؤم، وسببُ حِرمان.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه البزَّار - رحمه الله - في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن حُذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هلُمُّوا إليَّ». فأقبَلوا إليه فجلَسُوا، فقال: «هذا رسولُ ربِّ العالمين جبريل نفَثَ في رُوعِي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستكمِلَ رِزقَها وإن أبطأَ عليها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلبِ، ولا يحمِلَنَّكم استِبطاءُ الرزق أن تأخُذوه بمعصيةِ الله؛ فإن الله لا يُنالُ ما عندهُ إلا بطاعته».
وأن يذكُر على الدوام أن اللهَ سائِلُه يوم القيامة عن المصدرِ الذي اكتسَبَ منه مالَه، وعن الوجوه التي أنفقَه فيها سُؤالَ تقريرٍ ومُحاسَبَة، يكونُ من بعدها الجزاءُ العادلُ، ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي - رحمه الله - في "جامعه" بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي بَرْزَة الأسلميِّ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزولُ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن عُمره فيمَ أفناه، وعن علِمِه فيمَ فعلَ فيه، وعن مالهِ من أين اكتسَبَه وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاه».
وأن يعلمَ أن قليلَ المال الذي يكفيه خيرٌ له من كثيرِ المال الذي يُلهِيه عن كلِّ ما يصلُحُ به أمرُه، وتستقيمُ به حالُه في دينه ودُنياه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ - واللفظُ له -، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما طلَعَت شمسٌ قطُّ إلا بعثَ بجنبَتَيْها ملَكَان يُنادِيان يُسمِعان أهلَ الأرض إلا الثَّقَلَيْن: يا أيها الناسّ هلُمُّوا إلى ربكم؛ فإن ما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُر وألهَى ..» الحديث.
ألا وإن دوامَ النظرِ في هذه الشواهد والنصوص، وتكرار التأمُّل فيما دلَّت عليه وأرشدَت إليه ليُورِثُ الناظرَ المُتأمِّلَ المُتفكِّر دُربَةً وملَكَةً ورهافَةَ حِسٍّ تبعَثُه على توخِّي الحلالِ الطيبِ، والتنزُّهِ عن الحرام الخبيثِ في مطعمِه ومشربِه وملبَسِه وشأنه كلِّه، واضِعًا بذلك لبِنَةً من لبِنَات الإصلاح في بُنيان المُجتمع، داعِيًا غيرَه إلى أن يحذُوَ حذوَه، ويسيرَ سيرَه، مُبيِّنًا حُسن العُقبَى فيه بشُيُوع البركات، وعموم الخيرات، والسعادة في الحياة وبعد الممات، والحَظوةِ برِضا ربِّ الأرض والسماوات.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في بيان قولِ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[البقرة: 168] قولُ بعضِ أهل العلم بالتفسير: "هذا خطابٌ للناسِ كلِّهم مُؤمنِهم وكافرِهم، فامتنَّ الله عليهم بأن يأكُلُوا من جميع ما في الأرض؛ من حبوبٍ، وثمارٍ، وفواكه، وحيوان، حالةَ كونِها حلالاً - أي: مُحلَّلًا لكم -، تتناولونه ليس بغصبٍ ولا سرقةٍ، ولا مُحصَّلًا بمعاملةٍ مُحرَّمة أو على وجهٍ مُحرَّم، أو مُعينًا على مُحرَّم.
طيِّبًا؛ أي: ليس بخبيث؛ كالميتة، ولحم الخنزير، والخبائث كلها.
وفي الآية: دليلٌ على أن الأصلَ في الأعيان الإباحة أكلًا وانتفاعًا، وأن المُحرَّم نوعان: مُحرَّمٌ لذاته - وهو الخبيثُ الذي هو ضِدُّ الطيبِ -، ومُحرَّمٌ لما عرَضَ له - وهو المُحرَّمُ لتعلُّق حقِّ الله أو حقِّ عباده به -، وهو ضِدُّ الحلال.
وفيها أيضًا: دليلٌ على أن الأكلَ بقدرِ ما يُقيمُ البنيةَ واجبٌ يأثَمُ تارِكُه.
ولما أمرَهم - سبحانه - باتباع أمرِه الذي هو عينُ صلاحهم، نهاهم عن اتباع خُطوات الشيطان؛ أي: عن طرقه التي يأمر بها، وهي جميعُ المعاصِي من كُفرٍ وفسوقٍ وظلمٍ، ويدخلُ في ذلك: تحريمُ السوائمِ والحام ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضًا تناولُ المأكولات المُحرَّمة".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أن السلفَ الصالحَ - رضوان الله عليهم - كان يشتدُّ خوفُهم على أنفسهم من قولِهِ - عزَّ اسمه -: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[المائدة: 27]، فخافوا ألا يكونوا من المُتَّقين الذين يُتقبَّلُ منهم، هذا مع كمال تقواهم، وتمام إخلاصهم لله، وشِدَّة تحرِّيهم لمراضيه، وأكلِهم الحلال الطيب، وتنزُّههم عن الخبيثِ الحرامِ.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم احفظ المُسلمين في كل ديارهم وأمصارِهم، اللهم احفَظهم من الفتن، وقِهِم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَنَ يا رب العالمين، اللهم احفَظ دماءَهم وأعراضَهم وأموالَهم، اللهم احفَظ دماءَهم وأموالَهم وأعراضَهم، واشفِ جرحاهم، وتقبَّل موتاهم في الشهداء يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 04-23-2012, 07:58 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الفرق بين ثقافة الإسلام والثقافة العالمية المعاصِرة
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 28\5\133هـ بعنوان: "الفرق بين ثقافة الإسلام والثقافة العالمية المعاصِرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وبعضِ محاسِنه في الجوانب الثقافية والعسكرية والاقتصادية، وما يتشبَّث به بعضُ أعداء الإسلام وأذنابهم من الثقافة المُعاصِرة التي لا تعتمد على أصولٍ متينة، ولا تقوم على تحقيق العدل إلا بما يُوافِقُ أهواءَها مصالِحَها الشخصية.

الخطبة الأولى
الحمد لله المُتوحِّد في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّد بتصريفِ الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالِي بعظمته ومجده الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا[الفرقان: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ[الحج: 78]، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، بعثَه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعِيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، فترَكَنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يَزيغُ عنها إلا هالِكٌ، فصلوات الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، اتقُوه في سرِّكم وعلَنِكم، وغضَبِكم ورِضَاكم، وفرَحِكم وتَرَحكم، واعلموا أن العاقبةَ للتقوى، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[يوسف: 90].

عباد الله:
خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ذات يومٍ فقال لهم: «إنما مثَلي ومثَلُ ما بعَثَني اللهُ بهِ كمَثَل رجلٍ أتَى قومَه فقال: يا قوم! إني رأيتُ الجيشَ بعيني، وأنا النذيرُ العُريان، فالنَّجاء. فأطاعَه طائفةٌ من قومه فأدلَجوا فانطَلقوا على مهلِهم فنَجَوا، وكذَّبَت طائفةٌ منهم فأصبَحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيشُ فأهلَكهم واجتاحَهم. فذلك مثَلُ من أطاعَني فاتَّبَع ما جِئتُ به، ومثَلُ من عصاني وكذَّبَ بما جِئتُ به من الحقِّ»؛ رواه البخاري ومسلم.
هذا حديثٌ صريحٌ صحيحٌ من مِشكاة النبُوَّة الحَقَّة، من تأمَّلَه بخالصِ ذكرِه وعدلِ منطِقِه ليُوقِنَنَّ أن ملامِحَ ما ذكَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بدَأَت في الظهور على فَترةٍ من الاعتِزاز بالدين والعلمِ، وإبَّان فترةٍ طاغِيةٍ من الظواهِر المعلوماتية والهَيَجان الثقافي، والتي تصُبُّ في قَالَبٍ واحدٍ هو جَعْلُ العالَمِ كُلِّه كالكُتْلَة الواحِدَة دون تميُّزٍ.
وقد بُذِلَت جهودٌ أجنبيَّةٌ عن الإسلام يُسانِدُه فيها بعضُ السُّذَّجِ من بني الإسلام بجُهودٍ لا تقِلُّ أثَرًا عن الآخرين على إضعافِ الثقةِ بالإسلام وبتشريعه، وثقافاته وآدابه، وقُدرته على تسيير شؤون الحيباة الدينية والدنيوية على حدٍّ سَواءٍ، على أن يُولِّد هذا الضعفُ لدى العوامِّ من المُسلمين رِضًا ببعضِ الإسلام الذي تلقَّوه من كتابِ ربهم، وتعلَّموه من سنة نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -.
والجهودُ مبذولةٌ من قِبَل أعداء الإسلام في أن يرَوا في واقعِ المُسلمين إسلامًا منقوصًا في الحقيقةِ والأطراف، ومنقُوضَ العُرَى والوشائِج، لا ينبغي أن يتدخَّلَ في شؤون التشريعات كافَّةً دون استِثناءٍ، أو يقتلِعَ من السُّلوك العام ما يخدِشُ قِيَمَه ويمَسُّ مُثُلَه الرفيعةُ؛ بحيثُ لا يبقى من الإسلام إلا اسمُه، أو على أقلِّ تقديرٍ الإبقاء على ضروراتٍ الزمنُ كَفيلٌ بزوالها، أو بتغيُّر المفاهيم تِجاهَها، لتأتِيَ أجيالٌ مُهيَّأةٌ لقَبُولِ مثلِ هذه الصور المُشوِّهةِ للإسلام.
فيألَفُ البعضُ التفلُّتَ من المُسلَّمَات مع تنصُّلٍ عن الإنصافِ، وبُعدٍ عن الطرحِ النَّجِيحِ المُوافِقِ للعقلِ الصريح والشرعِ الصحيحِ.
لقد سيطرت الثقافةُ العالميةُ المُعاصِرةُ طِوالَ هذه الفترة سيطرةً مُحكمَةً زادَ في إحكامِها وغلَبَتها الطوفانُ الإعلاميُّ، والإعصارُ المعلوماتيُّ، حتى غطَّت ما تُغطِّيه الشمسُ، فبلَغَت كلَّ ملجأٍ ومغاراتٍ ومُدَّخَل.
لقد غيَّرَت هذه الثقافةُ مظاهرَ الحياة وطريقةَ العيش حتى أصبحَت لدى كثيرين أمرًا لا مناصَ منه، ولو كان على حِسابِ أصالةِ الدين والإسلامِ الصحيحِ.
نعم، نحنُ لا نُنكِرُ أنَّ في الثقافةِ العالميةِ المُعاصِرة ما ينفعُ مما يقتضِيهِ الاختِيارُ العقليُّ والمنفعةُ العلميةُ، شريطةَ ألا يجُرَّنا ذلكم إلى تهميشِ ما شرَعَه الله لنا، أو التمسُّكِ به على تخوُّفٍ أو استِحياءٍ؛ لأن أسوأَ ما يُمكِن أن يُفكِّرَ فيه أهلُ الإسلام ألا يكون لديهم ثِقةٌ كاملةٌ بشريعتهم، أو أن ينالَ هذه الثقةَ شيءٌ من الوَكَزات الجارِحة، فلا يُحسِنُ أحدُهم أن يقول كما قال الفاروقُ - رضي الله تعالى عنه -: "نحن قومٌ أعَزَّنا اللهُ بالإسلام، فمهما ابتغَيْنا العِزَّةَ من دونِه أذَلَّنا الله".
فلا عجَبٌ - عباد الله - حينئذٍ أن نرى تصوُّرات الناس تِجاه الثقافات العالمية - بمن فيهم المُسلِمون - مُنسجِمَةً معها، مُنقادَةً مهما كانت تتناقَضُ أو تتعارَضُ مع رُوح الثقافةِ الدينية الشرعية. ولقد كان سببَ هذا التأثير أمران اثنان:
أحدُهما: القوةُ المادية والمعنوية لغير المُسلِمين، والتي تعاظَمَت في جميع مناحِي الحياة باجتماعِ الأثافِيِّ للثالُوث: العسكري، والاقتصادي، والسياسي.
وثانيهما: قلَّةُ الثقة، والضعفُ في إذكاءِ الثقافة الإسلامية الأصِيلَة، وإبرازِها على وجهها الصحيح، والشجاعة والإتقان في بيان محاسِنِها وأثرها على الكونِ والحياة. وهي الربانيةُ المُحكَمة؛ لأنها صِبغَةُ الله، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ[البقرة: 138].
ولو ألقَينا نظرةَ مُقارَنةٍ لبعض أهمِّ ما يتَّكِئُ عليه أصحابُ الثقافاتِ العالمية والمُعجَبون بها من المُسلمين وغيرِ المُسلمين لوَجَدنا مَحاوِرَ شتَّى في المُفارَقة بين أصالةِ الإسلام الحَقَّة وبين الثقافة العالمية المُعاصِرة، ولنَضرِب مثلًا ببعضها:
فالمحورُ الأول: هو أن الإسلام حقٌّ من عند الله، وأن شرعَه صالِحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ، وأنه لا يتطرَّقُ إليه التحريفُ ولا التزييفُ، فأصُولُه ثابتةٌ محميَّةٌ بحمايةِ الله لها، والمرءُ المُسلِمُ يعرِفُ أدقَّ التفاصيل عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه مضَى على وفاتِه أربعة عشر قرنًا من الزمان وزِيادة، وربما يعرِفُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ من جارِهِ، وربما أكثرَ من عمِّه وبني عمِّه.
بخلافِ غيرِ الإسلام؛ فإما أن تكون دِياناتٍ لا تُؤمنُ بالله ولا باليوم الآخر، أو تُؤمن بذلك إيمانًا غيرَ مسنودٍ على ما يُقنِعُ؛ لأن الوضعَ البشريَّ هو الطاغِي عليها، ولقد صدَقَ الله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[النساء: 82].
ولأجلِ ذا لا يُوجَد لدى المبادئ والتشريعات الأُخرى النسخةُ الأصليةُ؛ حيث اعتراها التحريفُ والأوهامُ البشريةُ، ما يدلُّ على أن ما بين أيديهم ليس من عندِ الله، بخلافِ الإسلام فنُسختُه الأصليةُ لم تتغيَّر ولم تتبدَّل، وهي قابلةٌ للفَهم والتكيُّف رغم مرور هذه القُرون دون تعارُضٍ.
ولقد قال أبو القاسم الأصبهانيُّ - رحمه الله - عن سنةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولئن دخلَ في غِمار الرواةِ من وُسِم بالغَلَط في الأحاديث، فلا يرُوجُ ذلك عند جهابِذَة أصحابِ الحَديث ورُتوتِ العُلماء - أي: رُؤساءَهم -، حتى إنهم عدُّوا أغاليطَ من غلِطَ في الأسانيد والمُتون؛ بل تراهم يعُدُّون على كل رجلٍ منهم في كم حديثٍ غلِطَ، وفي كم حرفٍ حرَّفَ، وماذا صحَّفَ". اهـ كلامُه - رحمه الله -.
ومن كانَ ذا إنصافٍ - عباد الله - فلينظُر إلى اختِلافِ أصحابِ القوانين في قوانِينهم بين التنازُعِ والتدافُعِ فيما وضَعوه هم بأيديهم، كأكمَل دليلٍ على أن عُقولَ البشر محدودة، واللهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ[البقرة: 255]. وأما مفهومُ أهل الثقافةِ الإسلاميَّةِ الأصِيلَةِ؛ فرائدُهم عند الاختلاف قولُه تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء: 59].
وأما المحور الثاني - يا رعاكم الله -: فهو محورُ العدل، وهو في الثقافة العالمية ذات البريقِ اللامِع كغيرهِ من القِيَم الأخلاقية تُحدِّدُه النسبيَّة، مع القابِلِيَّة لأَن يُوزَنَ بميزانَيْن، أو يُكالَ بمِكيالَيْن، حسْب المصالِحِ الخاصة، ما لم يكُن المُسلِمون فيه طرفًا، فحينئذٍ يُجمِعون على عدم تطبيق مِعيارِ العدلِ معهم، وما وضعُ إخواننا في سُوريا بخافٍ علينا جميعًا.
ولو قارنَّا بين الإسلام بثقافته الأصيلة وبين الثقافة العالمية المُقنَّعة في مجال الأعمال العسكرية لرأينا العدلَ في الإسلام شاهِرًا ظاهِرًا، فسُلُوكُ جُيوش المُسلِمين يفرِضُ عليهم ألا يقطَعوا شجرةً، ولا يقتُلوا شيخًا كبيرًا، ولا امرأةً ولا صبيًّا، ولم يكونوا يومًا ما هم المُعتدين.
ولقد شهِدَ كبارُ مُؤرِّخي الثقافة العالمية المُعاصِرة من غير المُسلِمين بأن التأريخ لم يشهَد فاتِحًا أرحمَ من المُسلمين.
وفي هذا القرن والذي قبله لم يكن بلدٌ عربيٌّ وإسلاميٌّ هو المُعتدِي على أحدٍ؛ بل المُستعمِر هو الصائلُ المُعتدِي بخَيلِه ورَجِلِه؛ بل إنه وصلَ ببعض القوى الباطِشَة الرائِدَة للثقافة العالمية المُعاصِرة في خلال مائةِ عامٍ من الزمن أن شنَّتْ ما يُقارِبُ مائةَ حالةِ حربٍ على دولٍ أُخرى قتَلَت خلالَها مئاتِ الألوف من البشر.
وأما المُسلِمون فهم أكثرُ الناس إيلامًا، ولعل أرضَهم وديارَهم وأموالَهم هي التي يستنثِرُ فيها البُغاثُ، ومحافلُ الثقافة العالمية المُعاصِرة تصِفُ الطريدَ المالِكَ إرهابيًّا لا حقَّ له، وتجعلُ اللصَّ الغالِبَ على المُقدَّسات والأوطان ربَّ بيتٍ مُحترمًا.
ولقد أحسنَ المُتخصِّصون في العلاقات الدولية حينما قالوا: "إن مثلَ هذه التصرُّفات مُؤسَّسٌ على مبدأ المصلَحة الوطنية والقوة، فهو كمبدأ العلاقة مع الآخر لدى قُطَّاع الطريق أو لدى أي تجمُّع مُفترِسٍ في الغابَةِ".
والعارِفُ بباسطةٍ خللَ الثقافة العالمية المُعاصِرة حول هذا المِحوَر ليجِدُها في حينٍ ما تصِفُ قاطِعَ الطريق في الصحراء إرهابيًّا مُجرِمًا، وفي أحيانٍ أُخرى تُدَكُّ مُدنٌ بأسرِها ولا أحدَ يحكُمُ على هذا الفعلِ بالمُتوحِّشِ الإجراميِّ؛ لاختِلافِ مُرتكِبِي هذه وتلك. فصاحبُ الأُولى مارِقٌ ضالٌّ، وصاحِبُ الأخرى إنما هو حضاريٌّ مدنيٌّ تقدُّميٌّ.
هذا ما عند الثقافة العالمية المُعاصِرة، وذلك ما عندنا؛ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 81، 82].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 04-23-2012, 07:58 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فإن من محاوِر المُفارَقة بين أصالَة الإسلام وشُموليَّته، وبين الثقافة العالمية المُعاصِرة هو المِحوَر الثالث، من خلال ما أفرَزَته الثقافةُ العالميةُ المُعاصِرة في الجانب الاقتصاديِّ الذي كشَفَ عن نتائِجَ مُدمِّرةٍ للنظامِ المصرَفيِّ لم تكن معروفةً من قبلُ، وما الأزمةُ الاقتصاديةُ العالميةُ عنَّا ببعيدٍ.
ولقد شهِدَ شهودٌ من المُنتمين إلى تلكم الثقافة الغرَّارَة بأن الوضعَ الاقتصاديَّ على المفهومِ العالميِّ المُعاصِر سبَّبَ أضرارًا فادِحةً للاقتِصاد العالميِّ، تكمُنُ في وجودِ مرضٍ مُتجذِّرٍ في الاقتصادِ يُهدِّدُه بالانهِيار؛ إذ أصبحَ عبارةً عن أهراماتٍ من الديون المُتراكِمةِ، فصار كثيرٌ من الأعمال الاقتصادية أشبهَ بمائدةِ قِمارٍ الحقيقيُّ منها في التعامُل لا يتجاوَزُ أرقامًا ضئيلةً بالمائة؛ حيث كثُر الانْحِياز لقُوَّة الائتِمانِ على حسابِ جدوى الإنتاجِ والنموِّ الاستِثماريِّ.
بخِلاف الاقتصاد الإسلاميِّ الذي يُحقِّقُ المبادئَ الثلاثةَ الكُبرَى للاقتصاد الناجِحِ:
أولُها: أن يكون المالُ قِيامًا للناس جميعًا.
وثانيها: ألا يكون دُولةً بين الأغنياءِ منهم دون سِواهم.
وثالثُها: أن يُحقِّقَ العدلَ في التعامُلِ.
ولذا فإن من انحازُوا إلى الثقافة العالمية المُعاصِرة في النظرةِ إلى الاقتِصادِ وجَدوا أنفُسَهم في نهايةِ الطريقِ في حالِ دهشةٍ حينما جرَّبَ العالمُ بأسرِه الاتِّجاهَ الجماعيَّ الاشتراكيَّ سبعين عامًا انتَهَت بانهِياره برُمَّته.
ولم يكن الاتِّجاهُ الفرديُّ الرأسماليُّ هو الآخرُ أكثرَ حظًّا؛ فهو يدورُ حول نفسه في حلقةٍ مُفرَغةٍ تنهَشُه خلالَ دورَانه سِباعُ الأزمات الاقتِصادية المُتكرِّرة؛ لاختِلال كونِه قِيامًا للناس، ولغِيابِ قيمةِ العدلِ عنه، ولكونِه أصبحَ دُولةً بين الأغنياءِ من الناسِ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ[البقرة: 276].
فيا تُرى هل يضيعُ الحقُّ في زَوبَعة هذه العواصِفِ العاتِيَة؟ وهل سيُصنَعُ مُستقبلُ المُسلمين خارِجَ أرضِهم ودِيارِهم وصَياصِيهم؟ وهل سيتكاثَرُ الذين يرضَعون من ثُدِيِّ تلكم الثقافة ويمتهِنون خُلُقَ التسوُّل أمامَها؟ أم أنها غفلةٌ سيعقُبُها صحوةٌ ورُشدٌ وحِرصٌ على التحرُّر من هذا الرِّقِّ على عقولِ المُسلمين وقُلوبِهم؟!
إن الفَألَ مطلبُنا، والعملَ سُلَّمُ الوصول إليه، وهو الثقةُ الكامِلةُ بالإسلام، والوعيُ بإمكاناته دون تردُّدٍ، أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[يونس: 35].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله بن عبد المُطلب، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ قد بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في سوريا، اللهم انصُرهم على عدوِّهم، اللهم انصُرهم عاجِلًا غيرَ آجلٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل الدائرةَ على عدوِّهم، واجعل شأنَه في سِفالٍ، وأمرَه في وَبالٍ يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 04-29-2012, 11:49 PM   رقم المشاركة : 4

 

نعمة الرضا
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 6/6/1433هـ بعنوان: "نعمة الرضا"، والتي تحدَّث فيها عن نعمةٍ من أعظم نعم الله على العبد، وهي: نعمةُ الرضا؛ حيثُ بيَّن أن العبدَ لا يزالُ يسعَى لتحصيلِه ونيلِه في هذه الدنيا، ويدأبُ حتى يبلُغَه، وأن المالَ الكثيرَ ليس دليلًا على السعادة والرضا، كما أن الفقرَ وقلَّة ذات اليد ليس دليلًا على عدمِه؛ بل ربما كان العكسُ هو الصوابُ، ولم ينسَ أن يُعرِّج على قضية الاختطاف، وأنها مُنافِية ومُخالِفة لشرع الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله العليِّ الكبير، تعالى وتنزَّه عن الشبيه والنَّظير والمُعين والظَّهير، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك: 14]، أحمده - سبحانه - وأشكره أعطى الكثير، وتجاوزَ عن التقصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالِصةً مُخلِصةً أرجو بها النجاةَ من عذابِ السَّعير، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي القدرِ العليِّ والشرفِ الكبير، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى نهجِ الحق يسير، وسلَّم التسليمَ الكثير.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن الكرامةَ كرامةُ التقوى، والعِزَّ عِزُّ الطاعةِ، والأُنسَ أُنسُ الإحسان، والوَحشةُ وحشةُ الإساءة، الحياةُ - يا عبد الله - في مُداومة الذكر، والعافيةُ في مُوافقة الأمر، والنجاةُ في لُزوم الكتاب والسنة، والفوزُ لمن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنة، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[النساء: 69].
أيها المسلمون:
هدفٌ منشودٌ إذا فقدَه الإنسانُ فإنه لا يستقرُّ على حالٍ، ولا يسكُنُ إلى قرار، وغايةُ مُبتغاه بدونها صاحبُها قلِقٌ مُتبرِّمٌ، مُضطربٌ حائر، وأمنيةٌ مُتمنَّاه إذا لم يُحقِّقها طالبُها فهو أشبَهُ بحيوانٍ شرس، أو سبُعٍ مُفترس، والمُجتمع بدونها كذلك مُجتمعُ غابةٍ من غير غاية ولو لمَعَت فيه بوارِقُ حضارةٍ أو أثَارةُ تقدُّمٍ، المقاييسُ فيه للأشدِّ والأقوى وليس للأصلَحِ والأتقى.
هدفٌ وغايةٌ وأمنيةٌ يطلبُها كثيرون في غير موضِعِها، ويتطلَّبُها مُتطلِّبُون من غير مظانِّها، جرَّبوا ألوانًا من المُتَع وصُنوفًا من الشهوات فما وجدُوها، حسِبَها قومٌ في الغِنَى ورغَدِ العيشِ، وظنَّها آخرون في الجاهِ والمقامِ العريض، واعتقَدَتها فئاتٌ في حُسن العلوم والمعارِف، خاضَ في البحث عنها العلماءُ والفلاسِفة، والأغنياءُ والفقراء، والملوك والوُجهاء. إنها - يا عباد الله -: السعادةُ والطمأنينةُ والرضا والسَّكينة.
ما أعظمَ الفرقِ بين رجلَين أحدُهما عرفَ الغايةَ وطريقَها فاطمأنَّ واستراحَ، وآخرُ ضالٌّ يخبِطُ في عِماية، ويمشي إلى غير غاية، لا يدري كيف المَسير، ولا إلى أين المصير؟! أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الملك: 22].
كم من صاحبِ مالٍ وفير، وخيرٍ كثير، تجلَّى رِضاهُ وطُمأنينتُه وقناعتُه في تحرِّي الحلال وأداء حقِّ الله فرضًا ونَدبًا، أعطَى الأجيرَ أجرَه، ولم يُذِلَّ نفسَه من أجلِ مالٍ أو جاهٍ.
وآخرُ عنده ما يكفيه، ولكن قد ملأَ الطمعُ قلبَه، وانتشرَ التسخُّطُ بين جوانحِه، جزِعٌ من رِزقه، مُتسخِّطٌ على رازِقِه، يبُثُّ شكواه إلى المخلوقين، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[الفتح: 4].
معاشر الأحِبَّة:
الرِّضا نعمةٌ عظيمةٌ، يبلُغُها العبدُ بقوَّةِ إيمانه بربِّه وحُسن اتِّصالِهِ به، ينالُها بالصبرِ والذكرِ والشكرِ وحُسن العبادة، وقد خاطَبَ اللهُ نبيَّهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى[طه: 130].
وفي الحديث الصحيح: «ذاقَ طعمَ الإيمانِ من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولًا»؛ رواه أحمد، ومسلم، والترمذي.
الرِّضا - أيها الإخوة - بابُ الله الأعظم، وجنةُ الدنيا، ومُستراحُ العارفين، وحياةُ المُحبِّين، ونعيمُ العابدين، وقُرَّةُ عيون المُشتاقين.
الرِّضا سرُّ السعادة، وطريقُ السَّكينة، وجادَّةُ الطمأنينة. الرِّضا شجرةٌ منبتُها النفس.
يا عبد الله:
السعادةُ والرِّضا ليس بوفرة المال، ولا عِظَم الجاه، ولا كثرة الولد، ولا بنَيْل المُتَع والمنافع، الرِّضَا يحُدُّ من ثَورة الحرص والطمع، وطُغيان الشراهة والجشَع، ويُرشِّدُ الأخذَ بالأسباب: «اتقوا الله، وأجمِلوا في الطلبِ». فالغِنى ليس بكثرة العَرَض، إنما الغِنى غِنى النفسِ.
الرِّضا يُوقِفُ الراضِي عند حُدود قُدراته ومواهِبِه، ويُبصِّرُه بأقدار الله، فلا يتمنَّى ما لا يتيسَّرُ له، ولا يتطلَّعُ إلى ما لا يستطيع؛ فالشيخُ لا يتمنَّى أن يكون شابًّا، وغيرُ الجميل لا يتطلَّعُ إلى أن يكون جميلًا، وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ[النساء: 32].
يقول عطاء: "الرِّضا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد، وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به".
وسُئِلَ أبو عُثمان البِيْكَنْدي عن الرِّضا فقال: "من لم يندَم على ما فاتَ من الدنيا ولم يتأسَّف عليها".
وقال بعضُ الحُكماء: "من رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ".
ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "ارضَ بما قسمَ الله تكن أغنى الناس، واجتنِب محارِمَ الله تكن أورعَ الناس، وادِّ ما فرضَ الله تكن أعبدَ الناس".
وقيل للحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنهما -: إن أبا ذرٍّ - رضي الله عنه - يقول: الفقرُ أحبُّ إليَّ من الغِنى، والسَّقَمُ أحبُّ إليَّ من الصحة. فقال الحسين - رضي الله عنه -: "رحِمَ الله أبا ذرٍّ! أما أنا فأقول: من اتَّكَل على حُسن اختيار الله لم يتمنَّ غيرَ ما اختارَ الله له".
الرِّضا قناعةٌ وثقةٌ ويقينٌ، من قنِعَ فقد رضِي، ومن رضِي فقد قنِع، وفي الحديثِ: «قد أفلحَ من أسلمَ وكان رِزقُه كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه».
أيها المسلمون:
السعادةُ والرِّضا إيمانٌ بالله وبرسوله، ورِضا نفسٍ وانشراحُ صدرٍ، المؤمنُ يغمُرُه الرِّضا؛ لأنه عميقُ الإدراكِ لفضلِ الله العَميم، وإحسانِهِ العظيم، إحساسُه بنِعَم الله في نفسه وهي نعمٌ لا يُحصِيها في سمعِهِ وبصرِهِ ويدِهِ وقدمِهِ ومُخِّه وعظمِه، وطعامِه وشرابِه، ونومِه ويقَظَته، وأهلِه وفي شأنه كلِّه.
المؤمنُ يرى ويُشاهِدُ نعمَ الله ورحماته في كل ما حوله، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ[الحجرات: 7].
المؤمنُ المُطمئنُّ الراضِي يلهَجُ بذكرِ الله، ويستشعِرُ نعَمَ الله، «الحمدُ الله الذي أطعمَنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، وجعلَنا مُسلمين». «الحمدُ لله الذي كساني هذا ورَزَقنيه من غيرِ حولٍ مني ولا قُوَّةٍ». و«الحمدُ لله الذي أحياني بعد ما أماتَني وإليه النشور». «الحمدُ لله الذي أذهبَ عني الأذَى وعافاني». «اللهم إني أصبَحتُ منك في نعمةٍ وعافيةٍ وسِترٍ، فأتِمَّ عليَّ نِعمتَكَ وعافِيَتك وسِترَكَ في الدنيا والآخرة». «اللهم ما أصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِكَ فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ». فالحمدُ لله رب العالمين، والحمدُ لله على كل حال.
هذا هو المؤمنُ، يغمُرُه الرِّضا والطمأنينة والسعادةُ في كل حينٍ، وعلى كل حالٍ، مُتعلِّقٌ بربِّه، راضٍ عنه، مُطمئنٌّ إليه، يتلقَّى ويتقبَّلُ أقدارَ الله في نعمائها وبأسائها، والدنيا وتقلُّباتها في إقبالِها وفي إدبارِها، ويعلمُ علمَ اليقين أن الله يُريدُ بعباده اليُسرَ ولا يُريدُ بهم اليُسرَ، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19]، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
المؤمنُ الراضِي السعيدُ مُوقِنٌ أن الله معه؛ فهو في معيَّة الله يحفَظُه ويكلؤُه، «أنا عند ظنِّ عبدِي بي وأنا معَه إذا ذكَرَني»، لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[التوبة: 40]، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[طه: 46]. إن شعورَ المؤمن بمعيَّة الله يجعلُه في أُنسٍ دائمٍ ونعيمٍ موصولٍ.
المؤمنُ وحدَه هو الذي يغمُرُه الإحساسُ بالرِّضا بكل قدَرٍ من أقدار الله؛ فهو مؤمنٌ أن تدبيرَ الله أفضلُ من تدبيرِه لنفسِه. المؤمنُ يملأُ الرِّضا جوانِحَه؛ لأنه يعلمُ أن الخيرَ بيدَي ربِّه، والشر في هذه الدنيا لا يُناقِضُ الخيرَ ولا يُعارِضُه؛ بل قضَت سنَّةُ الله ألا يكون صبرٌ إلا مع شُكرٍ، ولا كرَمٌ من غيرِ حاجةٍ، ولا شجاعةٌ من غيرِ مُخاطَرةٍ؛ فالفضائلُ والخيراتُ لا تظهَرُ إلا بأضدادِها، فالشِّبَعُ مع الجُوع، والرِّيُّ مع الظَّمَأ، والدِّفْءُ مع البَرْدِ، وما عرَفَه المؤمنُ من حكمةِ الله في خلقِهِ وأسرارِ كونِه وآياتِه فهو بفضلِ الله، وما خفِيَ سلَّمَه لربِّه العليم الخبير.
هذا هو نهجُ أُولِي الألباب: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا[آل عمران: 191].
عباد الله:
وليس شرطُ الرِّضا ألا يُحِسَّ السعيدُ بالألم والمكارِه؛ بل المطلوبُ ألا يعترِضَ على مجارِي الأقدار، ولا يتسخَّطُ من الحوادِثِ والنوازِل؛ فهو راضٍ كرِضا المريضِ بشُرب الدواء المُرِّ؛ لأنه يعلمُ العاقبةَ ويرجُو العافيةَ.
والرِّضا والقناعةُ لا تمنَعُ التاجِرَ من تنمِيَة تجارته، ولا المُوظَّف من التطلُّع إلى الترقِّي في وظيفته، ولا العامِلُ في تحصِيلِ مُرتَّبِه، ولا أن يضرِبَ المُسلِمُ في الأرض ليستزِيدَ من فضلِ الله ورِزقِه؛ إنما الممنوعُ التسخُّطُ والتبرُّم.
كما أن أثرَ المادَّةِ في الرِّضا والسعادةِ غيرُ منكورٍ، على حدِّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سعادة ابنِ آدمَ: المرأةُ الصالِحةُ، والمَسكنُ الصالِحُ، والمركَبُ الصالِحُ»؛ رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ من حديثِ سعد بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -.
وبعدُ، عباد الله:
فالسعادةُ ينبوعٌ يتفجَّرُ من القلبِ والنفسِ الكريمةِ الرَّاقِيَةِ التَّقِيَّةِ الطاهِرة، نفسٌ سعيدةٌ أينما حلَّت في السوق أو في الدُّور، في البَراري أو بين الصُّخور، في الأُنسِ والوَحشة، في المُجتمعِ وفي العُزلَة؛ فمن أرادَ السعادةَ فليسأل عنها نفسَه التي بين جنبَيْه.
وما هذه الابتساماتُ ومظاهرُ السُّرورِ التي تُرَى وتتلألأُ من أفواه المحزونين والمُتألِّمين والفُقراء والمساكين ليس لأنهم سُعداء في عيشِهم؛ بل لأنهم سُعداءُ في أنفسهم، وما هي الزَّفرات والآهات المُتصاعِدةُ من صُدور الأغنياءِ والمُوسِرين وذوِي الوَجَاهاتِ والمُترَفين لأنهم أشقياءُ في معاشِهم؛ بل لأنهم أشقياءُ في أنفُسهم.
فلا تطمَع - رحمك الله -، ولا تهلَع ولا تجزَع، ولا تُفكِّر فيما لا وصولَ إليه، ولا تحتقِر من فضَّلَكَ اللهُ عليه، واعلَم أن كلَّ شيءٍ بقضاءٍ وقدَر، واللهُ أعلمُ بشؤونِ خلقِه يُعِزُّ ويُذِلُّ، ويرفَعُ ويضَعُ، ويُعطِي ويمنَعُ، فهو الذي أغنى وأقنَى، وأضحَكَ وأبكى؛ فمن رضِيَ طابَ عيشُه، ومن تسخَّطَ طالَ طيشُه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النحل: 97].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 04-29-2012, 11:51 PM   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية العضو

مزاجي:










ابوحاتم غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الكريم الفتَّاح، أحمده - سبحانه - فالقُ الحبِّ والنوى والإصباح، وأشكرُه على نعمٍ تتجدَّدُ في الغُدُوِّ والرَّوَاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً هي للجنةِ مِفتاح، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بيَّن لأمته سبيلَ الفلاح، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الجُودِ والكَرَم والسماحِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما سجَى ليلٌ وأشرقَ صباح، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
وإن من مظاهرِ الرِّضا والطُّمأنينة والسَّكينة ما تعيشُه بلادُنا - بلادُ الحرمين الشريفين، المملكةُ العربيةُ السعوديةُ - من أمنٍ وإيمان، وما تضطَلِعُ به من أدوارٍ ومسؤوليَّاتٍ نحو شعبِها ومُواطِنيها والمُقيمين على أرضِها ونحو أشِقَّائها وأصدقائِها.
ومن مظاهرِ ذلك: ما يقومُ به مُمثِّلُوها ودبلوماسيُّوها من مهامَّ ومسؤوليَّاتٍ في كل بلدٍ يحلُّون فيها؛ سواءً في مناطِق آمِنة أو في مواقِع مُضطرِبةٍ مُتوترة، جاعِلين في أولوياتهم مُراقبَةَ الله وتَقواه، ثم القيامَ بمسؤولياتهم، مُتجاوِزين التحديات، مُستسهِلين الصِّعابَ. أعانَهم الله وسدَّدَهم، وبارَكَ في جهودِهم وأعمالهم.
وإن مما يُؤسَفُ له: ما تعرَّض له الدبلوماسيُّ السعوديُّ الأستاذُ عبد الله الخالديُّ الذي يعملُ في اليمن الشقيق؛ فقد تعرَّضَ لاعتداءٍ وخطفٍ، فكَّ اللهُ أسرَه، وأعادَه إلينا آمِنًا سليمًا مُعافَى.
معاشر الإخوة:
إن القيامَ بخَطفِ إنسانٍ بريءٍ أعزَل دليلُ عجزٍ وإفلاسٍ وتخبُّطٍ وتشتُّتٍ، وهو سُلوكٌ إجراميٌّ من تنظيمٍ إجراميٍّ تتولَّاهُ شِرذِمةٌ ضالَّةٌ، تقتاتُ على الحِقدِ، وتُمارِسُ الجريمةَ، وتستهدِفُ أمنَ الديارِ والشعوب، وتُلقِي بنفسِها في أحضانِ الأعداء - أعداء أهلها ودينِها وبلادِها -، شِرذِمةٌ شريدةٌ طَريدةٌ أُلعوبةٌ في أيدي النَّاقِمين على بلادِنا في أمنِها وإيمانها واجتماع كلمتِها، والتِفافِها حول قيادتها.
فئةٌ ضالَّةٌ تلقَّفَهم الأعداءُ فاتَّخذوهم مطايا وجُسورًا لتنفيذِ مُخطَّطاتهم، يعيشون في الكهوفِ، وشعَفِ الجبال، وبُطون الأودِيَة، في شقاءٍ وبلاءٍ، ومُخادَعةٍ للنفوس، وضياعٍ للأعمار، وإفناءٍ للشباب، يُعانُونَ من أزمَاتٍ عاصِفة، ويُشبِعون نَزَعاتٍ إجرامِيَّة؛ بل إنهم يعكِسون حالةَ الانهِيارِ في دواخِلِهم مُشرَّدون، كلما وجَدوا ملجأً أو مغاراتٍ أو مُدَّخَلًا ولَّوا إليه وهو يجمَحون، لا قرارَ لهم ولا إرادة، في تجمُّعاتٍ بائِسة، وتصرُّفاتٍ يائِسة.
أما أحكامُ الدين فهم منها بَراء؛ بل إنهم لا يُقيمون لتعاليم الإسلام وَزنًا، وهم يزعُمون أنهم يحتكِمون إليها.
هل اختطافُ المُسالِمين العُزَّل من الدين؟!
في أحكام الإسلام إذا كان المُسلِمون في أرضِ المعركة، وفي حال القِتال والمُواجَهة، وحين يكون الوطيسُ حامِيًا؛ فإن المُقاتلين المُسلمين ممنوعون من أن يقتُلوا وليدًا أو امرأةً أو شَيخًا أو، يُمثِّلوا بآدميٍّ أو بهيمةٍ، أو يقطَعوا شجرةً، أو يغدرُوا، أو يغُلُّوا. هذا في عموم الناس.
أما الرُّسُل - وهم السفراءُ، والمُمثِّلون، والمندُوبون، والقناصِل - فالحالُ أشدُّ منعًا، وحينما جاءَ رسُولا مُسيلمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «تشهَدا أني رسولُ الله؟». قالا: أتشهدُ أن مُسيلِمَة رسولُ الله؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آمنتُ بالله ورُسُله، لو كنتُ قاتِلًا رسُولًا لقتلتُكُما». قال عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "فمضَت السُّنةُ أن الرُّسُل لا تُقتَلُ".
وهؤلاء يخطِفون، ويقتُلون في مخالفةٍ صريحةٍ لأحكامِ الله وأحكامِ رسولِه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإفسادٍ في الأرض، وانتِهاكٍ للحُرمات، يجمعُون بين الجهل بدين الله وظُلمِ عبادِ الله، وأيُّ جهلٍ واضطرابٍ وعَبَثٍ أشدُّ من المُطالَبَة بتسليمِ نساءٍ إلى خارجِ بلادهِنَّ في تعدٍّ صريحٍ على أحكامِ الشرعِ، ثم على حقوقِ أهليهِنَّ ومحارمِهنَّ.
إخوتَنا وأحِبَّتنا:
أما دولتُنا فموقفُها ثابتٌ واضِحٌ، حكيمٌ عادِلٌ، فهي ترفضُ الابتِزازَ، ناهِيكُم إذا كان من فِئاتٍ إرهابيَّةٍ إجراميَّةٍ، والمملكةُ لا يُمكِنُ أن تُساوِمَ على عدلِها القضائيِّ، وحُكمِها المَتين، وسياستها الراشِدة، ولن تُسلِّمَ مُواطِنيها لجهاتٍ مشبوهةٍ أو مشبوهةٍ؛ بل تُسلِّمُهم لأهلِيهم وذَوِيهم في ظلِّ وطنِهم الآمِنِ العادِل، البلدِ الذي يُقيمُ شرعَ الله، ويرفعُ رايةَ الكتابِ والسنةِ دستورًا وعملًا، ولا ندَّعِي الكمالَ والعِصمةَ.
أما وزارةُ الداخِلية في بِلادِنا فكم كانت حِصيفةً حين فضَحَت هؤلاء الشِّرذِمة، حين أذاعَت الحديثَ الهاتفيَّ الدائِرَ بين أحد الخاطِفين والمسؤول السعوديَّ ليتجلَّى ما يعيشُه هؤلاء الضَّالُّون من اضطرابٍ وتشتُّتٍ وإجرامٍ وسُوءِ تدبيرٍ. لقد أوضحَت هذه المُكالمةُ ما فيه هؤلاء من تراجُعٍ وإفلاسٍ وضعفٍ وتشتُّتٍ وتخبُّطٍ، قد جُفِّفَت منابِعُهم، وقُتِّلَ رُؤساؤهم، ونبَضَت مصادِرُ تمويلهم.
وإننا من هذا المنبرِ نُصحًا وشفقةً وقُربةً إلى الله - عز وجل - ندعُوهم إلى التوبةِ والإنابةِ، ومُراجعة النفس، والعودة إلى الطريق الحق والهدى المُستقيم، ونبذِ الشر والفساد والإفساد والضلال، ومن قبلُ ناداهُم أُولو الأمرِ ليعُودوا إلى رُشدِهم وإلى بلادهم التي تحتضِنُهم وتُؤويهم. كما ناداهم العلماءُ والدعاةُ والخُطباءُ وأهلُ الرأيِ، وناداهُم كلُّ غَيورٍ ومُحِبٍّ؛ بل لقد ناداهُم آباؤهم وأمهاتُهم وأزواجُهم. فهل يفقهون ويتذكَّرون ويرجِعون؟!
اللهم اهدِ ضالَّ المُسلمين، اللهم اهدِ ضالَّ المُسلمين، وبصِّره بالحق، واحفَظنا اللهم من بين أيدينا ومن خلفِنا وعن أيماننا وعن شمائِلنا، ونعوذُ بعظمتك اللهم أن نُغتالَ من تحتِنا.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن القلبَ متى خالطَتْه بشاشةُ الإيمانِ واكتحَلَت بصيرتُه بحقيقة اليقين، وحيَّ بروح الوحي، وانقلَبَت النفسُ الأمَّارةُ بالسوء راضِيةً مُطمئنَّةً؛ فقد رضِيَ كلَّ الرِّضا، والسعيدُ من رضِيَ بما عندَه وقنِعَ بما لدَيْه، ومن أطاعَ مطامِعَه استعبَدَته.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله قولًا كريمًا - وهو الصادقُ في قِيلِه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، فهم مصباحُ الصباح، ورمزُ الثبات، وصورةُ البَسالة، صورةُ بَسالةٍ وعِزَّة أخجَلَت القريبَ والبعيد، اللهم احفَظهم، واجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، واحفَظ اعراضَهم، وأطعِم جائِعَهم، اللهم واشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، واربط على قلوبهم، وثبِّت أقدامهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، وانصُرهم ولا تنصُر عليهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في الطُّغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم اجعل تدميرَهم في تدبيرهم، واجعل دائرةَ السوء عليهم يا قويُّ يا عزيزُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُرُوه على نِعَمه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 05-26-2012, 10:16 PM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

قيمة العزة والكرامة

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 13/6\ 1433هـ بعنوان: "قيمة العزة والكرامة"، والتي تحدَّث فيها عن قيمة العزة والكرامة، وأنها لا تكون إلا بالاعتِزاز بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ بالرجوع إليهما، وتطبيقهما في جميع الشؤون الحياتية، والتعريجَ على حملة التغريب الشرِسَة التي لوَّثَت عقولَ وقلوبَ الشباب والفَتَيات، ففُتِنوا بها.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، تعالى ربُّنا جلالًا واقتدارًا، وعِزَّةً وإكبارًا، أحمده - سبحانه - لم يزَل توفيقُه مِدرارًا للسَّامين نفوسًا وأقدارًا.
الحمدُ لله العظيمِ الشَّانِ
حمدًا بلا عيبٍ ولا نُقصانِ
حمدًا يضيقُ به الفضاءُ مُبارَكًا
بهَرَ الوُجودَ على مدى الأزمانِ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرومُ به مجدًا ووقارًا، وكرامةً وفَخارًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أرشدَ الله به نفوسًا حَيارَى، وأنهلَها عذْبَ الإباء فتلألأَت عِزَّةً وأنوارًا، اللهم فيا ربِّ صلِّ عليه، وعلى آله الساطعين في سماءِ الشَّمَمِ شموسًا وأقمارًا، وصحابتهِ الكرامِ الميامين البالِغين من ذُرَى الشُّموخ شأوًا أنَّى يُجَارَى، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجُو من المنَّان جنَّاتٍ وأنهارًا، وسلَّم يا ربِّ تسليمًا مُبارَكًا عديدًا مديدًا ما تعاقبَ القمران واستنارا.


أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حق تقاته، واسعَوا في معارجِ العِزَّة إلى مرضاته؛ فتقواه - سبحانه - لمن رامَ العِزَّة والفلاح والرِّفعةَ والكرامة والصلاح، كم زكَت لِباسًا وطابَت غِراسًا، وشعَّت بالهُدى نِبراسًا، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].
ألا إنما التقوى هي العزُّ والكرَم
وحبُّك للدُّنيا هو الذلُّ والسَّقَم
وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ
إذا حقَّقَ التقوى وإن حاكَ أو حجَم

أيها المسلمون:
في ثنايا حوادث العصر المُتراكِبة، وأعاصير فتنه المُتعاقبة، ومُستجدَّاته المُتواكِبة، وما أسفرَت عنه من تحريفٍ لقِيَمٍ منيعةٍ سامِية، وانجِفالٍ عن معانيها البديعة الهامِية؛ لزِمَ التوجيهُ والإيقاظ، وتحتَّمَ التذكيرُ والاستنهاض.
ومن تلكم القِيَم التي زاغَت عن حقيقتها الأفهام، وغدَا مِدرارُها كالجَهام: قِيمة العِزَّة والكرامة، والإباء والشَّهامة التي أضحَت في كثيرٍ من الأقطار مُصفَّدةً أو مُضامَة؛ فالعِزَّةُ روح الحياة الكريمة وقِوامها، وبها هيبةُ النفس الإنسانية واحترامُها، ومتى طُمِست في المُجتمعات فقد آذنَت بفنائها واخترامِها.
تنزِعُ العزَّةُ بالنفوس الهَضيمة عن الذل والضراعَة والاستِكانة والوَضاعة، وتسمُو بها جوزاءَ الحق والْتِماعَه؛ كيف وشفاءُ الخُنوع في نُصْلِها، وسُؤدَد الدنيا في نَصْلها، وجلالُ الأمم في وَصلها، كما قال - سبحانه -: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[الإسراء: 70].
إخوة الإيمان:
العِزَّة الدينية، والكرامةُ الإسلامية من أعظم الخِلال وأزكى الخِصال التي تولَّت غِراسَها، وأرَّجَت أنفاسَها شريعةُ الديَّان - سبحانه -، فحفِظَت المُسلمين عن مواقع الذل والمَسكَنة والعطَب، وذادَتهم عن دَرَكات العجز وسوء المُنقلَب؛ فالمُسلمُ جِبِلَّة أبِيٌّ أَنُوف وعن الهُونِ عَزُوف، وللصَّغَار عَيُوف، أجلُّ من أن يتطامَنَ لطغيان، ويستخزِيَ لمنَّان، ويستكين لبُهتان، ويرزحَ لسَطوة غَشُومٍ أيًّا كان، أو يُمالِقَ إنسان، ويتَّضِع لمكرٍ وهوان، أو يُمالِئَ للئيمٍ جبان؛ لأن العزة الشامِخة في أطواء المُسلمين الجارية أنساغُها في أرواحهم إنما هي من الله وحده استِمدادُها، ومن الدين الربَّانيِّ استِرفادُها، ومن الإيمان الحق عُدَّتُها وعتَادُها.
بين جنبَيْه عِزَّةٌ حين ثارَت
لم ترُعْها العواصِفُ الهَوجَاءُ
تأبَّى أن يعيشَ في حمْأَة الذلِّ
وثَارَت في نفسِه الكِبرياءُ

فماذا تصنعُ فُلولُ الطغيان في قلوبٍ تدرَّعَت بالإيمان، وتحصَّنَت بالعزَّة وتسامَت عن الخِذلان، وأنَّى تَنالُ سَطوةُ الباطل السَّفيه ذي الخُسران من حقٍّ تسطَّر في سجلِّ الشرف ولوحِ الزمان إزاء عُشَّاق العزَّة ورُواتها، وأبطال الشَّهامة وكُماتها، وليُوث العَرين والذِّمار وحُماتها: إخوانِنا الصامدين في فلسطين والأقصى وغزَّة، والصنادِيد في سورية الأعِزَّة الذين طالَ ليلُ ظُلمهم وقهرهم، ومُسلسلُ العُنف والمجازِرِ ضدَّهم، ولا زالَ طُغيان نظامهم يُماطِلُ في الوعود، وينكُثُ الوفاءَ بالالتزامات والعهود، فعَمُوا وصمُّوا، ثم عَمُوا وصمُّوا، والله بصيرٌ بما يعملون.
إنا لنعلَمُ أن دينَ محمدٍ
لا يرتضِي للمُسلمين هوانًا
المجدُ للبلد المُناضِلِ صابِرًا
حتى ولو ذاقَ الرَّدَى ألوانًا

أيها المؤمنون:
لقد تنزَّلت شريعةُ الإسلام لإخراج العباد كل العباد من حُلَك البطش والامتِهان إلى نور الاعتِزاز بالواحد الديَّان، تنزَّلت والكرامة من جوهرها وفَحواها، والعتِزازُ بالحق والعدلِ جَهرهُا ونَجواها.
في الحديث عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليبلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ الله بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخلَه الله هذا الدين بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذلًّا يُذِلُّ به الكفرَ»؛ أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي، والحاكم، وصحَّحه.
الله أكبر، الله أكبر.
وإنا أمةٌ عزَّت فِعالًا
وسادَ أُباتُها غُرًّا كِرامًا
وما انتكَسَت جِباهُ الصِّيدِ يومًا
على ذلٍّ ولا رضِيَت ملامًا

وأيُّ إزراءٍ أبلغُ في النفس ألمًا، وأعمقُ في الروح أثرًا ممن طُمِست كرامتُهم، وفُلَّ إباؤُهم، واستُلِبت نخوتُهم بأطواقِ الاستِبداد، وصُكَّت أصواتُهم بأصفاد الاستِعباد من قِبَل أقوامٍ أقصَوا العلماء، وعطَّلوا العُظماء، وأحبَطوا النُّبَغاء، وحطَّموا العباقِرة والنُّجَباء، وأحالوا أوطانَهم صَحاصِحَ جَرداء في وأدٍ للكرامات، ومُصادرةٍ للحريات؛ بل ومُساوَماتٍ ومُزايَدات.
وفي ديوان الحِكَم: "من بانَ عجزُه زالَ عِزُّه".
إخوة الإسلام:
ولكن، ثم لكن ها هو التأريخُ المُعاصِر يُرهِفُ السمعَ في إكبارٍ لمُجتمعاتٍ انخلَعَت من براثِنِ الإذلال، فأزهَقوه ورفَضوه، واستأسَدوا في وجه الاستِكبار فدكُّوه ولفَظوه، فتسنَّموا - بحمد الله - في شُموخٍ واعتِزازٍ عبَقَ الشعائرِ الدينية والحياة الإسلامية بعد أن أنهَكَهم الاعتِسافُ والابتِزاز.
لقد آنَ لعُتاة الطُّغيان في كل مكانٍ أن يتَّعِظوا بمآل الأقران؛ فغواشِي المِحَن لا مَحالةَ مُتقشِّعةٌ عن فجر العِزَّة والانتِصار، ومُنشقَّةٌ عن صُبح الكرامة والاستِبشار، وستبقى عُنجُهيَّة العُتاة الذين اعتَقَلوا إراداتِ الشعوبِ وسلَبوا حقوقَهم في العِزَّة والكرامة، وعفُّوا معالمَ إبائِهم غُرَّةً سوداء في مُعُرَّةٍ سوداء في مُحيَّا التأريخ، ودمامةً في إنسانية الإنسان في كل زمانٍ ومكان.
أمة العِزَّة والكرامة، والإباء والشَّهامة:
إن العِزَّة المنشودةَ المَرُومة الزَّاكِية الأصول والأَرُومَة التي رفرَفَت وفقَ ضوابط الدين، ورُسوخِ اليقين، وشُفوف البصيرة النَّفَّاذة التي تُبين؛ لأن العِزَّة إنما هي في التقوى، والقوة في الطاعة، والعلوَّ في الاستقامة، والرِّفعةَ في النُّبْل والمُروءة والفضيلة، والحريةَ الحقَّة في ظِلال الشريعة الغرَّاء.
وفرقٌ بين الحرية والفَوضى، وحرية الدين والفِكر والانفِلات والإلحاد والكُفر، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ[فاطر: 10].
ولن تتحقَّق لأمة الإسلام الأمانيُّ العِظام إلا بالسير على نور العزيز العلَّام وهدي سيد الأنام، فلا تُفرِّط في الاعتِزاز بهويَّتها ولا تستلِين، وتشمَخُ ولا تستكِين.
هو العزُّ الذي لا ريبَ فيه
لمن رامَ الشريعةَ واستقامَا
فتلك مواقِفُ الأبطال تَتْرَى
وقد عمَّت كرامتُها الأنامَا

معاشر الأحِبَّة في كل الأقطار، أمة الشِّماس والإكبار:
أين التحقُّق بالعزَّة الإسلامية؟ أين تحقُّق كرامة الأمة في المحافِل الدولية؟ أين تأصيلُ قِيَم الإباء والشَمَم والعلاءِ والهِمَم في كثيرٍ من الفضائيات ووسائل الإعلام، وأسَلَات الأقلام من رجال الفِكر والتوجيه الأعلام؟ أين مخايِلُ الاعتِزاز بالإسلام لدى الشباب والفَتَياتِ والأجيال؛ ثقافيًّا وسلوكيًّا وفِكريًّا واجتماعيًّا؟
لشَدَّ ما يُطوِّحُ بك مَريرُ الجواب، والاستِرجاعُ والاستِعتاب، إنها التبَعِيَّة الجَوفاء، والانهِزاميَّة النَّكراء التي غَزَت كثيرًا من أبناء المُسلمين عيانًا بيانًا، وأذَاقَتهم من الهُونِ أصنافًا وألوانًا.
أمة الإسلام:
وثمَّة ملحَظٌ مهم ليكن منكم بحُسبان؛ كونُ فئامٍ من الناس يُعانُون ثقافةَ الخلطِ بين الاعتِزاز والابتِزاز، وبين الحق اللازِب والمُؤكَّد من الواجِب، وبين العَدلِ بالعَدلِ والعَدلِ عن العَدلِ، دون الاحتِراز من الاندِفاع في لُجَّة الغُرُر والبَوّ واتِّقاد جمرة الخُيلاء والزَّهو، وذلك بتبديد المرافق والمُمتلكات والمُكتسبَات، والتعدِّي على المُقدَّرات والحُرُمات، بإثارة الفَوضَى والشَّغَب على الأمن والاستقرار والنظام والطمأنينة والانسِجام بدعوَى الحرية والكرامة، والمُطالَبَة بالحقوق.
قد أسلَموا قِيادَهم لدُعاة التحريض والغَوغائية الذين يبُثُّون الفتنةَ بين الشعوبِ الأوِدَّاء لخدمةِ أجندةٍ مشبوهةٍ للأعداء الألِدَّاء، وتلك - وايْمُ الحق - المفاهيمُ المُختلَّة، ودلالاتُ العِزَّة المُعتلَّة التي تُصادِمُ نصوصَ المِلَّة، وإن هو إلا الصَّلَفُ النَّزِق، والهَوَجُ الأرعَنُ الذي ألصَقَ بالعزَّة الإهانةَ، وتعطَّل عن الوعي والزَّكَانة، وتجرَّد عن المسؤولية والأمانة، وإن في طيِّه إلا الشرور والبلاء، والخُسرُ والعَداء.
ذلكم وإن أمنيةَ من يُحِسُّ مرارةَ الواقع بلوعَة جنانِه وحرارة إيمانه أن تُحطِّمَ الأمةُ عقدةَ الدُّون والانهِزام، وتُرشَّدَ في المُجتمعات مفاهيمُ العِزَّة والاحتِرام التي تنبُذُ الفوضَى والاحتِدام، وتتأبَّى عن الهمجِيَّة والانتِقام، وتمضِي في مُطارحَة الفِكرِ بالفِكرِ، والْتماسِ الحقوقِ بمدارجِ العقلِ والرَّوِيَّة، والحَصانَة السَّنِيَّة، ساعتَها سينهمِرُ غيثُ الأمجاد والعلاء على آكام العِزَّة الحقَّة ومضارِب الإباء التي تُجمِّلُ الحياةَ وتُغليها، وتُبارِكها وتُحيِيها، على نحو دِيار الحرمين الشريفين - حرسَها الله - التي بلغَت - بحمد الله - من ألَقِ الإباء والكرامة الذُّرَى النَّضير الذي عزَّ عن النَّظير، والله وحده الوليُّ والنصير، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الجمعة: 4].
أمنٌ وإيمانٌ وعِزَّةُ دولةٍ
تحمِي الحِمَى مما يرُوعُ ويُفجِعُ
فإذا نَظَرتَ فكلُّ شيءٍ باسِمٌ
والحُكمُ عدلٌ والشريعةُ تسطَعُ

وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[المنافقون: 8].
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنه كان حليمًا غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ النِّعَم ومُسديها، أحمده - سبحانه - كرَّمَ الإنسانَ تبجيلًا وتنويهًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً زكَت بالحق مرامِيها، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه من سعِدَت به الخَليقةُ فانجابَت دياجِيها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله البالغين من الأمجاد عَوالِيها، وصحابتهِ الدَّاعين إلى العِزَّة القَعْساء في أجلَى معانيها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واحذروا المهانةَ والضَّعَة فقد ذلَّ جانِيها، وابتَغوا من عِزَّة الإسلام للأرواح تزكِيةً وتوجيهًا.
أيها المسلمون:
بَيْد أن هناك أقوامًا يتظَاهَرون بالغَيرة على الإسلام، ركِبوا من ظاهر العِزَّة متنَ عَمياء وخَبطَ عشواء، يُريدون دكَّ عامِرِها، وتكديرَ رَقراقِ غامِرِها، وذلك في حوادِثِ الخَطفِ والقَرصَنة، والمُساومةِ والابتِزاز، كما في حادثِ الخَطفِ الصَّلِف للدبلوماسيِّ السعوديِّ: عبد الله الخالديِّ، فكَّ اللهُ أسرَه، فكَّ اللهُ أسرَه، فكَّ اللهُ أسرَه وسائرَ أسرى المُسلمين.
إن تلك الأفعال الإرهابية الجَبانة التي قامَت على أنقاضِ الظلمِ والبُهتان، والغَدر والعُدوان مُحرَّمةٌ إجماعًا في الشريعة الإسلامية، مُجرَّمةٌ في القوانين الدولية، تستنكِفُ منها الحمِيَّةُ الدينية، وتمُجُّها النَّخوةُ العربية، والشِّيَمُ الأصيلةُ الإنسانيةُ، وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قولُه: «ولا أحبِسُ الرُّسُل». وفي رواية: «ولا أقتلُ الرُّسُل».
وإنه لبُرهانٌ قاطعٌ ودليلٌ ساطِعٌ فضحَ من تلك الفئات عَوَارَها وإفلاسَها، وهتَكَ زائِفَ ادِّعائِها، وكشَفَ ظواهِرَها المُموَّهة، وبواطِنَها المسمومة المُشوَّهة، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ[الحج: 18].
أما زَعَموا أنهم إلى الشريعة يحتَكِمون، وإلى العدل والحق يختصِمون، وبالسنة الغرَّاء يهتَدون؟ أين حقيقةُ ذلك فيما أقدَموا عليه من الترويع والتفزيع، والارتِهان والامتِهان؟!
ألا فلتُكفكِفُوا - يا هؤلاء - من أضالِيلكم، ولتُقصِروا عن أباطِيلكم، ولتَثُوبوا إلى رُشدِكم، وتتوبوا إلى ربكم، وتُطلِقوا فورًا الخطيفَ البَريءَ، والأسيرَ العَنِيءَ.
هذا وإن العالَمَ أجمع ليُثمِّن للمملكة الشمَّاء وقيادتها الأمنية المُوفَّقة الموقفَ الأبِيَّ الصارِم في مُجافاة هؤلاء النَّزَقة، المارِقين المُرتزِقة، مُؤمِّلةً من الأشِقَّاء والنَّصَفَة الشُّرَفاء مزيدَ التحرُّك العاجِل لحلِّ هذه القضية الساخِنة، والله وحده المُعين والظَّهير، وللخاطفين الذين خطَفَ الشيطانُ عقولَهم سوء المُنقلَب والمصير.
من دَوحَة المجدِ من شمَّاخة القِمَم
من منبَت العِزِّ من خفَّاقَة العلَمِ
نادَى المُنادِي إلى الإحسان فاستبِقوا
وائسُوا جراحَ خَطيفٍ تاهَ في الظُّلَمِ

وكذا رَأْبُ الصدعِ بين الأحِبَّة والأشِقَّاء، ونزعُ فتيل الفتنة والأزمةِ العابِرة بين الإخوة الألِدَّاء، لقوله - سبحانه -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات: 10].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على من هدانا الله به صراطًا مُستقيمًا، وعقدَ من معاني العِزَّة دُرًّا نظيمًا، مُمتثلين أمر ربكم - سبحانه - الذي ألبَسَكم به شرفًا جَنيمًا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
ثم الصلاةُ مع السلامِ جميعه
لمحمدِ المبعوثِ بالفُرقانِ
والآلِ والصحبِ الكرامِ وكلِّ مَنْ
سلَكَ المحجَّةَ ثابتَ الإيمانِ

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين: نبيِّنا وحبيبِنا وقُدوتِنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي برٍ، وعمر، وعثمان وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحم حوزةَ الدين، ودمِّر الطغاةَ والظالمين وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، اللهم ضاعِف أجرَه ومثوبَته على ما يقومُ به من نُصرة قضايا المُسلمين وعلى ما وُفِّق من احتواء السحابةِ العابِرة مع أحِبَّتنا في مصر الكِنانة وتضييع الفُرصة على الشانئين المُتربِّصين، اللهم اجعل ذلك في موازين أعماله الصالحة، اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ يا مَن له الدنيا والآخرةُ وإليه المعاد.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، وفُكَّ أسرَ المأسُورين، وارفَع الحِصارَ عن المُحاصَرين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم كن لإخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من براثِنِ اليهود الغاصِبين.
اللهم إنا نسألُك أن تُصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة.
اللهم انصُر إخواننا في سُوريا، اللهم كن لإخواننا في سُوريا، اللهم كن لإخواننا في سُوريا، اللهم طالَ ليلُ ظلمهم وبلائهم، اللهم فرِّج عنهم عاجِلًا غيرَ آجلٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، واحفَظ أموالَهم يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على عُموم نِعَمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 05-26-2012, 10:27 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

أسباب انشراح الصدر
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 27\6\1433هـ بعنوان: "أسباب انشراح الصدر"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب انشراح الصدر، واستدلَّ على ذلك بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلامِ بعضِ أهل العلمِ.

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي شرحَ صدور العابدين، وأنزلَهم نُزُل المُقرَّبين، أحمده - سبحانه - حمد الشاكرين الذاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمةٌ قامت بها السماوات والأرض، ولأجلها انقسَمَت الخليقةُ إلى مؤمنين وكافرين، ولأجلها نُصِبَت الموازينُ ووُضِعَت الدواوين، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وأمينُه على وحيِه، وخيرتُه من خلقِه، أرسله الله رحمةً للعالمين، وإمامًا للمُتَّقين، وحُجَّةً على الخلق أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
انشراحُ الصد، وسكونُ النفسِ، وطُمأنينةُ القلبِ أملُ كل من عاشَ على الغَبراء، وحاجةُ كل ماشٍ في مناكبِها، باحثٍ عن طِيبِ العَيشِ فيها، مُريدٍ حِيازةَ أوفَى حظٍّ من السعادة لنفسه، وإدراكِ أعظمِ نصيبٍ من النجاح.
وإذا كان للناسِ في أسبابِ تحقيقِ انشراحِ الصدر مذاهبُ واتجاهاتٌ شتَّى؛ فإن للصفوةِ المُتَّقين أولي الألباب من المعرفةِ الراسخةِ بأسبابِ ذلك وبواعِثِه ما يجعلُ سبيلَهم إليه أقومَ السُّبُل وأهداها وأحراها ببُلوغِ الغايةِ فيه؛ لأنه سبيلٌ مضى عليه وأرشدَ إليه رسولُ الهُدى - صلوات الله وسلامه عليه -، وهو الحريصُ علينا، الرؤوفُ الرحيمُ بنا، الذي قال في الحديثِ الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والنسائي في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال: «إنما أنا لكم بمنزلةِ الوالدِ أُعلِّمُكم ..» الحديث.
والذي كان - صلوات الله وسلامه عليه - أشرحَ الخلقِ صدرًا، وأطيبَهم نفسًا، وأنعمَهم قلبًا؛ لِمَا جمَعَ اللهُ له من أسبابِ شرحِ الصدر مع ما آتاه من النبُوَّة والرسالة - عليه أكمل الصلاة وأتم السلام -.
إنها - يا عباد الله - أسبابٌ يأتي في الطليعةِ منها: الهُدى والتوحيد؛ كما قال - سبحانه -: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام: 125]، وقال - عز وجل -: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[الزمر: 22].
أي: لا يستوي هو ومن قسَا قلبُه بالبُعد عن الحق والإعراضِ عن الهُدى، كما قال - عزَّ اسمُه -: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122].
إنه نورُ الإيمان الذي يُضيءُ اللهُ به قلوبَ من شاءَ من عباده، فيشرحُ به صدورَهم، وتطيبُ به نفوسُهم، وتنعَمُ به قلوبُهم.
وفي الإنابةِ إلى الله، ومحبَّته، والإقبالِ عليه تأثيرٌ عجيبٌ في انشراحِ الصدرِ، وكلما كانت المحبةُ أقوى كان انشراحُ الصدرِ وطيبُ النفسِ كذلك، وعلى العكسِ منها: الإعراضُ عن الله تعالى، والتعلُّق بغيره؛ فإنه من أعظمِ أسبابِ ضيقِ الصدر؛ لأن من أحبَّ شيئًا غيرَ الله عُذِّبَ به، وسُجِنَ في محبَّته.
فهما - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "هما محبَّتان: محبَّةٌ هي جنةُ الدنيا، وسُرورُ النفس، ولذَّة القلبِ، ونعيمُ الروح وغذاؤُها، ودواؤُها؛ بل حياتُه، وقُرَّةُ عينِها، وهي محبَّةُ الله وحده بكل القلبِ، وانجِذابُ قوى المَيْل والإرادة والمحبِّة كلها إليه، ومحبَّةٌ هي عذابُ الروح، وغمُّ النفسِ، وسِجنُ القلبِ، وضيقُ الصدر، وهي سببُ الألم والنَّكَد والعَناءِ، وهي محبَّةُ ما سواه". اهـ.
فليختَرِ اللَّبيبُ العاقلُ لنفسِهِ، وليجتهِد لها، فإنه ساعٍ في خلاصِها، راغبٌ في حِيازةِ الخيرِ لها.
وفي الإحسانِ إلى الخلقِ في كل دُروبِ الإحسان بنفعهِم بكل ما يُمكِنُ نفعُهم به من مالٍ، وجاهٍ، وتعليمِ علمٍ نافعٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهي عن مُنكَرٍ، وصلةٍ، وصدقةٍ، وغيرها، في ذلك تأثيرٌ عجيبٌ في شرحِ الصدرِ، وسرورِ النفسِ.
وقد ضربَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا لانشراحِ صدر المُتصدِّق وضيقِ صدرِ البخيلِ، فقال في الحديث - الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَلُ البخيلِ والمُتصدِّق كمثَلِ رجلَيْن عليهما جُنَّتان من حديدٍ، إذا همَّ المُتصدِّقُ بصدقةٍ اتَّسَعت عليه وانبَسَطت، حتى تُعفِّيَ أثرَه، وإذا همَّ البخيلُ بصدقةٍ تقلَّصَت وانضمَّت يداه إلى تراقِيه وانقبَضَت كلُّ حلقةٍ إلى صاحبتِها، فيجهَدُ أن يُوسِّعَها فلا تتَّسِع».
وإن ذكرَ الله تعالى على كل حالٍ لهُوَ من أقوى أسبابِ انشراحِ الصدر، وقد بيَّن ربُّنا - تبارك وتعالى - حُسنَ جزاء الذاكرِ له، وعِظَم منزلته عنده بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ[البقرة: 152].
ومن ذكَرَ الله تعالى كان أجدرَ الناسِ بكل انشراحِ صدرٍ، كما أن الغفلةَ عن ذكره سببٌ لضيقِ الصدرِ وهمِّه وغمِّه، وإن أشرفَ الذكرِ وأعظمَه: تلاوة كتابِ الله تعالى بتدبُّرٍ يبعَثُ على العملِ؛ فإن التلاوةَ الحَقَّةَ - كما قال أهلُ العلم -: هي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاءً بنهيِه، وائتمامًا به،
حيثُما قادَ انقدتَ له؛ فتلاوةُ القرآن تتناولُ لفظَه ومعناه، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مُجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة؛ فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا.
ألا وإن الصلاةَ التي هي عمادُ الدين، وخيرُ أعمال العباد - كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «استقيمُوا، ولن تُحصُوا، واعلموا أن خيرَ أعمالِكم الصلاة ..»؛ أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ.
إن الصلاةَ التي تُقامُ على الوجهِ الكاملِ ظاهرًا وباطِنًا مع جماعة المُسلمين في المساجد مُفرِحةٌ للنفسِ، مُذهِبةٌ للكسل، شارِحةٌ للصدر، مُغذِّيةٌ للرُّوحِ، مُنوِّرةٌ للقلبِ، حافِظةٌ للنِّعمة، دافِعةٌ للنِّقمةِ، وما استُجمِعت مصالحُ الدنيا ولا الآخرة، ولا استُدفِعَت شرورُهما بمثل الصلاة.
كما قال - رحمه الله -: "وفي العلمِ المُقتبَس من مشكاةِ النبُوَّة المُنوَّر بأنوار الوحيَيْن فيه من عوامل شرحِ الصدر ما لا مُنتهَى له، ولا حدَّ يحُدُّه، وفي الإعراضِ عن الفُضولِ - أي: الزائدِ، وما لا حاجةَ إليه؛ من النظر، والكلامِ، والاستماع، والمُخالطة، والأكل، والنوم - باعثٌ قويٌّ لشرحِ الصدر؛ لأن هذه الخمسة مُفسِداتٌ للقلبِ، تُطفِئُ نورَه، وتُطفِئُ عينَ بصيرتِه، وتُثقِلُ سمعَه إن لم تُصِمَّه وتُبكِمَه، وتُضعِفُ قواه كلَّها، وتُوهِّي صحَّته، وتُفتِّرُ عزيمتَه، وتُوقِفُ همَّته، وتُنكِّسُه إلى ورائه؛ فهي عائقةٌ له عن نَيْل كماله، قاطعةٌ له عن الوُصولِ إلى ما خُلِق له وجُعِل نعيمُه وسعادتُه، وابتهاجُه ولذَّتُه في الوُصولِ إليه". اهـ.
فاتقوا الله - عباد الله -، وخُذوا بمناهج الصفوةِ المُتَّقين أُولي الألبابِ الذين استنُّوا بسُنَّة خيرِ الورَى - صلوات الله وسلامه عليه -، واقتَفَوا أثرَه، فكانوا أطيبَ الناس عيشًا، وأشرحَهم صدرًا، وأنعمَهم قلبًا؛ فما أسعدَ من سلكَ هذا المنهج، ومضَى على هذا الطريقِ.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من أسبابِ شرح الصدر: التنزُّه عن ذَميمِ الصفاتِ، ومقبوحِ الأخلاقِ؛ فإنها من أظهر أسبابِ ضيقِ الصدرِ، فإذا لم يكن للعبدِ سعيٌ لإخراجِ تلك الصفاتِ، والبُرء من دَغَلها لم ينتفِع بشرحِ صدره، وكان قلبُه لِمَا غلَبَ عليه منها.
وإن من أقبَح تلك الصفاتِ وأشدِّها نُكْرًا: الكِبرَ، والعُجبَ، والغُرورَ، والحسدَ، والأَثَرة، وسائر أمراض القلوبِ؛ فإنه تُورِثُ ضيقًا وهمومًا وغمومًا وآلامًا.
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أنه لا سبيلَ إلى انشراحِ الصدرِ، وسُرورِ النفسِ، وتنعُّمِ القلبِ إلا بالإقبالِ على الله؛ فإنه لا حُزنَ مع الله أبدًا، ولذلك قال تعالى حِكايةً لقول نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[التوبة: 40].
فمن كان الله معه فما لَه والحُزن؟ وإنما الحُزنُ كلُّ الحُزنِ لمن أعرضَ عن الله فوُكِلَ إلى نفسه وهواه.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك يا رب العالمين.
اللهم اكتُب النجاحَ والتوفيقَ لطلابِ العلمِ وطالباتِهِ في امتحاناتهم، وألهِمهم الإجابات المُسدَّدة المُوفَّقة يا رب العالمين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شُرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحَم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 11 ( الأعضاء 0 والزوار 11)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:45 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir