يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-22-2011, 09:14 PM   رقم المشاركة : 1

 

الإسلام دينُ الأخلاق
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 23/11/1432هـ بعنوان: "الإسلام دينُ الأخلاق"، والتي تحدَّث فيها عن الأخلاق في الإسلام ومدى تأثير حُسن الخُلُق على الفرد والمُجتمع في الدنيا والآخرة، وذكر بعض النماذج من السيرة النبوية المُطهَّرة على حُسن تعامُل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُنشِئ الأُمم ومُبيدها، وباعِث الرِّمَم ومُعيدها، أحمده - سبحانه - شاكرًا طائعًا، وأستعينُه وأستغفِرُه عابدًا خاضِعًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُوحِّدًا مُخلِصًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله بعثَه ربُّه بدينِ الحقِّ داعيًا وهاديًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا كثيرًا دائمًا مُتوالِيًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ[البقرة: 282]، بالعلم يصحُّ العمل، وبالعمل تُنالُ الحكمة، وبالحكمةِ يقومُ الزُّهد، وبالزُّهد تُعرفُ الدنيا، ومن عرفَ الدنيا رغِبَ في الآخرة، ومن رغِبَ في الآخرة نالَ المنزلة، والتوفيقُ خيرُ قائدٍ، ومن رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطه أحد، ومن قنِع بعطاء مولاه لم يدخُله حسَد، ومن فُتِح له بابُ خيرٍ فليُسرِع إليه؛ فإنه لا يدري متى يُغلَقُ دونَه.
واعلموا أن الموتَ يعمُّنا، والقبورَ تضمُّنا، والقيامةُ تجمَعُنا، والله يحكمُ بيننا وهو خيرُ الحاكمين، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون[المائدة:48].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
يقول الله - عز وجل -: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب[البقرة:197].
قواعدُ السلوك ومعايير الأخلاق وآداب التعامُل مقياسُ جلِيٌّ من مقاييس الالتزام بدين الإسلام، وعنوانٌ من عناوين الرُّقِيِّ الحضاريِّ، ومَعلَمٌ من معالمِ السموِّ الإنساني، إنها: القواعد والآداب التي تحكُم العلاقات بين الناس من كل فئاتهم وطبقاتهم، قواعدُ وآدابُ تبعَثُ على الشعور بالأمان والمحبَّة وحُسن المعاشَرة وسعادة المُجتمع.
والحُجَّاج في جُموعهم، والمسلمون في تجمُّعاتهم تتجلَّى فيهم هذه المظاهر السلوكية، والتخلُّق بأخلاق دينهم، والالتزام بتعاليم شرعِهم، ومن تحبَّبَ إلى الناس أحَبُّوه، ومن أحسنَ مُعاملَتَهم قبِلُوه.
الدمَاثَة وحُسن الخُلُق هي اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة التي يفهَمُها كلُّ أحد، وينجذِبُ إليها الكريم، ويُحسِنُ الإنصاتَ إليها الحكيم.
الوجهُ الصبوح خيرُ وسيلةٍ لكَسب الناس، وحُسن البُشر يُذهِبُ السَّخِيمة، وذو المُروءةِ الحكيم من يُخاطِبُ الناسَ بأفعاله قبل أن يُخاطِبَهم بأقواله.
أيها المسلمون، معاشر الحَجيج:
وفي ديننا من التوجيهات والتعليمات ما يبني شبكةً واسعةً من العلاقات المَتينة مع الدائرة الأُسريَّة والمُجتمعية، والدائرة الإسلامية الأوسع، ثم الدائرة الإنسانية الأشمَل.
وفي ديننا كذلك: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي.
وفي الحديث: «إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، وليسَعْهُ منكم بسطُ الوجهِ وحُسن الخُلُق»؛ رواه الترمذي، والحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسنادٍ صحيح.
وفي الحديث عند مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويدخُل الجنة فلتأتِهِ منيَّتُه وهو يُؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه».
والناسُ معادن وطبقات ومنازل، ومُعاملتُهم معاملةً واحدةً أمرٌ في الحياة لا يستقيم؛ فما يُلائِمُ هذا لا يُلائِمُ ذاك، وما يُناسِبُ هذه الفِئَة لا يُناسِبُ تلك، ويحسُن مع هذا ما لا يجمُلُ مع الآخر.
والناس يُخاطَبون بما يعرِفون؛ فالعقولُ مُتفاوِتة، والفُهومُ مُتبايِنة، والطِّباعُ مُتغايِرة، ولله في خلقِهِ شُؤون؛ من والدٍ وولدٍ، وزوجٍ وأخ، ورئيسٍ ومرؤوسٍ، وسريع الفَهم وبطيئه، وحادِّ الطبع وباردِه، وقريبِ الصلةِ وغريبها، في أشخاصٍ وصفاتٍ وأحوال؛ من شدَّةٍ ورخاءٍ، وحُزنٍ وسُرورٍ، والأرواحُ جنودٌ مُجنَّدة.
وقد قالت الحُكماء: "إذا أردتَ اصطيادَ السم فضع في سنَّارتك ما يُلائِمُ من طعامٍ، وقد تُلائِمُ الديدان لا فاخرُ اللحوم".
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
وهذا عرضٌ لبعض ما حفَلَت به السيرةُ المُصطفوية والهديُ المُحمَّديُّ والسنةُ النبوية من أنواع المُعاملات والتوجيهات لمُختلَف الطبقات والشحصيات؛ كيف وهو المُصطفى الهادي البشيرُ، واصطفاه ربُّه بقوله - عزَّ شأنُه -: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم[التوبة:128]، وقال - جل وعلا -: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين[آل عمران:159].
وأولُ ما يُواجِهُ المُتأمِّلُ في هذه السيرةِ النبوية الكريمة والهدي المُحمَّدي: مُعاملتُه مع أهله، وسلُوكه في بيته - عليه الصلاة والسلام -.
لقد كان حبيبُنا ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم - بشرًا من البشر؛ يفلِي ثوبَه، ويحلِبُ شاتَه، ويخدِمُ نفسَه، وكان في مهنةِ أهله، فإذا حضرَت الصلاةُ خرجَ إلى الصلاة؛ أخرجه البخاري، والترمذي.
وكان يقول - عليه الصلاة والسلام -: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلِي»؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه.
ويظنُّ بعضُ الناس أن الرجُولةَ والشخصيةَ في عُبوسِ الوجه، وتقطيبِ الجبين، وإصدار الأوامر والنواهي، وتجنُّب المُباسَطة في الحديث مع الأهل، ومُبادلَة المسرَّات وحُسن الإصغاء.
وحديثُ أم زرعٍ الطويل كان مُسامرةً بين عائشة - رضي الله عنها - وزوجِها محمد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مُؤانسةً ومُباسطَة.
ومن حُسن المعاملة: المُشاوَرة في الشؤون الأُسريَّة وغيرها، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا[البقرة: 233]، وشاورَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زوجَهُ أمَّ سلَمَة في شأنٍ كبيرٍ، وهو: شأنُ صُلح الحُديبية، وأخذ بمشُورتها.
وشاوَرَ بريرَة في قصة الإفك - وهو حدثٌ عظيمٌ مُزلزِل -.
بل تأمَّلوا وتفقَّهوا كيف كان تعامُلُه - عليه الصلاة والسلام - مع أخطاء الناس وغيرة النساء؛ فحين كسرَت إحدى زوجاته صحفةَ صاحبتها المملوءة طعامًا، ما كان من النبي الكريم ذي الخُلُق العظيم - عليه أفضل الصلاة وأزكَى التسليم - إلا أن تعاملَ برفقٍ، مُقدِّرًا طبائع النساء قائلاً: «غارَت أمُّكم»، فجمعَ الطعامَ المُتناثِر، وقال: «طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ»؛ أخرجه البخاري، والترمذي.
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وفيه: عدمُ مُؤاخَذة الغيراء بما يصدُرُ منها؛ لأنها في تلك الحالة يكونُ عقلُها محجوبًا لشدَّة الغضب بسبب الغَيرة".
يا هذا! القوةُ والعنفُ والضربُ والشدَّة يقدِرُ عليها كلُّ أحدٍ، أما الحِلمُ والرِّفقُ والصفحُ والعفوُ والتسامُح فليس إلا لذوي الإرادات القوية والمُروءات العالية والأخلاق الرفيعة، "وما ضربَ نبيُّكم محمد - صلى الله عليه وسلم - امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله"؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.
أما الأطفالُ والصِّبيانُ؛ فحدِّث عن هديِ نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ولا حرَج:
ومن دقيق المُلاحَظة في التعامُل مع الصغار: أنهم لا يُفرِّقون بين أوقات الجِدِّ وأوقات اللعب؛ فالطفلُ يظنُّ أن الوقتَ كلَّه له، وقد قدَّر الإسلامُ هذه المشاعِر؛ فها هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحملُ بنتَ بنته في الصلاة، فإذا ركعَ وضعَها، وإذا قام رفعَها؛ متفق عليه.
والحسنُ أو الحُسين - رضي الله عنهما - يرتحِلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويركبُ على ظهره وهو في الصلاة، فيُطيلُ السجود حتى يقضِيَ الطفلُ نُهمَتَه؛ أخرجه أحمد، والنسائي.
بل وهو يخطبُ على المنبر جاء الحسنُ - رضي الله عنه -، فصعِد المنبَر، فضمَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ومسحَ رأسَه وقال: «ابنِي هذا سيدٌ، ولعلَّ اللهَ أن يُصلِحَ على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين»؛ أخرجه أبو داود.


أيها المسلمون:
والطريقُ الأيسر والأقصرُ والأمتَعُ إذا قُوبِلَ الأطفال والصغار هو مُلاطفتُهم ومُمازحتُهم وحُسن رعايتهم ومنحُهم الحنان والاهتمام، وما كان أحدٌ أرحمَ بالعيال من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وزحمةُ الواجبات وكثرةُ المسؤوليات لا يجوزُ أن تشغَلَ عن مثل هذا، فهذا من جُملةِ المسؤوليات والواجبات.
يقول أنسٌ - رضي الله عنه -: "كان إبراهيمُ ابن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مُسترضَعًا في عوالي المدينة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينطلقُ ونحن معه، فيدخلُ البيت ويأخذه ويُقبِّلُه ثم يرجع"؛ رواه مسلم.
مُفردات التعامُل مع الصغار: قبلةٌ حانية، وحِضنٌ دافِئ، ولعبٌ بريء، وهي لغةٌ سهلةٌ يسيرةٌ في تكاليفها، عظيمةٌ في تأثيرها.
مسكينٌ هذا الغليظُ القاسي حين يُصوِّرُه ذلك الرجل الذي رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُ سِبطَه الحسن - رضي الله عنه -، فقال: أوَتُقبِّلون أطفالَكم؟ إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ أحدًا منهم، فكان الجوابُ النبوي: «من لا يرحَمُ لا يُرحَم»، وفي الصورة الأخرى: «أوَأملِك أن نزعَ اللهُ الرحمةَ من قلوبكم».
بل إنه - عليه الصلاة والسلام - إذا سمِعَ بكاءَ الصبيِّ وهو في الصلاة خفَّفَ مُراعاةً لأمِّه أن تفتِتن.
معاشر الأحِبَّة، حُجَّاج بيت الله:
أما التعامُل مع الخَدَم والأُجَراء والعُمَّال فيُجسِّدُه تمام التجسيد مقولةُ أنس - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنين، فما قال لي لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَه، ولا لشيءٍ لم أفعله لم لم تفعله".
وتأمَّلوا هذه الحادثة مع أنسٍ نفسه - رضي الله عنه -: خرج أنسٌ في حاجةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى الصبيانَ يلعبون في السوق فانشغلَ معهم؛ لأنه كان صغيرًا في سنِّهم، فاستبطأَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يبحثُ عنه فوجدَهُ يلعبُ مع الصبيان.
يقول أنس: فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلَّم - قد قبضَ بقفايَ من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحَك، فقال: «يا أُنيس! أذهَبتَ حيثُ أمرتُك؟». فقلتُ: نعم، أذهبُ يا رسول الله!
هذا هو الدرس؛ إنسانية، وتلطُّف، ورقَّةٌ في النداء: «يا أُنيس» من غير نَهْرٍ، ولا نفضِ يدين، فضلاً عن الصُّراخ والضرب والتعنيف.
وحين شكا رجلٌ خادِمَه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: إنه يُسيءُ ويظلِم، أفأضرِبُه؟ فقال: «تعفُو عنه كلَّ يومٍ سبعين مرَّة»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي.
نعم، أيها المسلمون:
إن من أعظم ما يتجلَّى فيه آدابُ التعامُل وكريمُ الأخلاق: مواقف الناس في مُعاملاتهم وبياعاتهم ومُدايناتهم، «رحِمَ اللهُ عبدًا سمحًا إذا باعَ، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى»؛ أخرجه البخاري.
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون[البقرة:280].
«ومن سرَّه أن يُنجِيَه الله من كربِ يوم القيامة فليُنفِّث عن مُعسِرٍ أو ليضَع عنه»؛ أخرجه مسلم.



معاشر الحَجيج:
أما التعامُل أمام مكر الماكرين، وخيانات الخائنين، وكُفر الكافرين؛ فقد قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين[المائدة:13].
ولو نظرَ المسلمُ إلى المُعاهَدات التي عقدَها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين، لرأى فيها من صُنوف التسامُح وحُسن الجِدال وضُروب العفو والصفح ما لا ينقضِي منه العجَب:
«من دخلَ دارَ أبي سُفيان فهو آمِن، ومن أغلقَ عليه بابَه فهو آمِن، ومن ألقى السلاحَ فهو آمِن».
وقال لقريشٍ يوم الفتح، وهم من هم في ماضِيهم الأسود، وتاريخهم المُظلِم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتعذيب المُستضعَفين، وإيذاء المؤمنين، لقد قال لهم: «ما تقولون أني فاعلٌ بكم؟». فقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم، فقال: «أقولُ كما قال أخي يوسف: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين[يوسف:92]، اذهبُوا فأنتمُ الطُّلَقاء».
وحين قيل له: ادعُ على المشركين. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أُبعَث لعَّانًا، وإنما بُعِثت رحمةً»؛ أخرجه مسلم.
وبعد، عباد الله:
فإليكم ميزانًا لا يختلف ومِعيارًا لا يُطفِّف، أحِبُّوا لغيركم ما تُحبُّون لأنفسكم، واكرهوا لغيركم ما تكرهون لأنفسكم، وأحسِنوا كما تُحبُّون أن يُحسَن إليكم، وارضَوا من الناس ما ترضَونَه لأنفسكم، ولا تقولوا ما لا تُحبُّون أن يُقال لكم، ولا تظلِموا كما لا تُحبُّون أن تُظلَموا، وافعلوا الخيرَ مع أهله ومع غير أهله؛ فإن لم يكونوا من أهله فأنتم من أهله.
يا عبد الله:
كم من بلِيَّةٍ مُقبِلةٍ دفعَها معروفٌ لمسلمٍ بذلتَه، أو همٌّ لمهمومٍ فرَّجتَه، أو مُحتاجٌ في ضائقةٍ أعنتَه، ومن قاسَ هجيرَ صنائع المعروف في الدنيا استظلَّ في ظلال النعيم في الجنَّة، وخيرُ الناس أتقاهُم وآمرُهم بالمعروف وأنهاهُم عن المنكر، وأوصلُهم لذي رحِمِه، ومن يُخالِطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ ممن لم يُخالِطِ الناس ولم يصبِر على أذاهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم[فصلت: 34- 36].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 10-22-2011, 09:15 PM   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله جامعِ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيه، يعلمُ ما يُسرُّ العبدُ وما يُخفِيه، أحمده - سبحانه - وأشكره وأستغفِرُه وأستَهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ مُوقِنٍ بقلبِه مُعلِنٍ بفِيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه قام بعبادة ربِّه حتى تفطَّرت قدماهُ وصامَ وواصلَ فكان يبيتُ عند ربِّه يُطعِمُه ويسقِيه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائمًا طيبًا مُباركًا فيه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومٍ لكل امرئٍ فيه شأنٌ يُعنيه.


أما بعد:
معاشر الأحبة، حُجَّاج بيت الله:
ومن حُسن التعامُل وآدابه: اليقين الجازم بأنه لا أحد يخلو من العيوب.
يقول سعيد بن المُسيّب - رحمه الله -: "ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيوبٌ".
لكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكَر عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه ذهبَ نقصُه لفضله، وكم من الناس تنقُدُهم، فإذا رأيتَ غيرَهم حمِدتَّهم.
وقد قال نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في العلاقات الزوجية: «لا يفرَكُ مؤمنٌ مُؤمِنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخَر»؛ رواه مسلم.
والناسُ - رحمك الله - يكرهون من لا ينسَى زلاَّتهم، ويُذكِّرهم بأخطائهم، ومُواجهةُ الناس بأخطائهم هي أقصرُ طريقٍ للعداوة، ومن سترَ مسلمًا ستَرَه الله، والمُتَّقون هم الكاظِمون الغيظَ والعافون عن الناس.
وقدِّر غيرَك تفُز بتقديره، وابتسِم للناس يبتسِموا لك، وتبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ، إن استثارةَ العواطف النبيلة من نفوس الناس طريقٌ كريمٌ حكيم لكسبِهم والتأثير فيهم.
وفي التعامُل - حفظك الله - اجتنِب الحديثَ عن نفسك ونسبَ الفضائل لها، وإلقاء التبِعَة على الآخرين، فما تتفاخَرُ به قد يراه الناسُ نقصًا وشذَرًا، وأحسِن الإنصات، والمُقاطَعة في الحديث تجرحُ المشاعِرَ، ومن لم يشكُر الناسَ لم يشكُر الله، ولا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجَت من أحدٍ سُوءًا وأنت تجِدُ لها في الخير محمَلاً.



وبعد:
فإن الناسَ - وأنت منهم - عواطفُ أولاً، ثم عقولٌ ثانيًا.
فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فمن حسُنَ خُلُقُه بلغَ درجةَ الصائم القائم، والمؤمنُ يألَفُ ولا يُؤلَف، ولا خيرَ فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَف، وخيرُ الناس أنفعُهم للناس.
هذا؛ صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله - وهو الصادقُ في قِيلِه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحة والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن إخواننا في الصومال جِياعٌ فأطعِمهم، وعُراةٌ فاكسُهم، وحُفاةٌ فاحمِلهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحَم ميِّتَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم وارفَع البأسَ عن البائسين، واكشِف الضرَّ عن المُتضرِّرين يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ، وأحسِن عاقبَتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم من أرادنا وأرادَ ديننا وديارَنا وولاة أمرنا وعلماءَنا وأمنَنا وأمتَنا واجتماعَ كلمتنا سوءٍ اللهم فأشغِله بنفسه، واجعل كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم يسِّر للحُجَّاج حجَّهم، اللهم يسِّر للحُجَّاج حجَّهم، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم وأحسِن مُنقلبَهم، وأعِدهم إلى ديارهم سالمين غانمين مقبولين، بمنِّك وجودِك يا أكرم الأكرمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-04-2011, 09:33 PM   رقم المشاركة : 3

 


الصبر وثمراته
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 1/12/1432هـ بعنوان: "الصبر وثمراته"، والتي تحدَّث فيها عن الصبر وأهميته وأدلته من الكتاب والسنة، وعِظَم أجر المُتحلِّين به، وذكر عددًا من ثمراته مما ذُكِر في الوحيَيْن القرآن والسنة.

الخطبة الأولى
الحمد لله يحبُّ الصابرين، ويُبشِّرهم بصلواتٍ منه ورحمةٍ ويُثنِي عليهم فيصِفُهم بالمُهتدين، أحمده - سبحانه - حمدَ عباده الصابرين الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها الفوزَ والنجاةَ يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمامُ الصابرين وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وراقِبوه، واعلَموا أنكم مُلاقوه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون[النحل:111].
أيها المسلمون:
نزولُ البلايا وحُلول المصائِب في ساحةِ العبد على تنوُّعها وتعدُّد ضُرُوبها، وما تُعقِبُه من آثار وما تُحدِثُه من آلامٍ يتنغَّصُ بها العيشُ ويتكدَّرُ صفوُ الحياة؛ حقيقةٌ لا يُمكِنُ تغييبُها، ولا مناصَ من الإقرار بها؛ لأنها سُنَّةٌ من سُنن الله في خلقه، لا يملِكُ أحدٌ لها تبديلاً ولا تحويلاً، غيرَ أن الناسَ تتبايَنُ مواقفُهم أمامَها:
فأما أهل الجَزَع ومن ضعُف إيمانُه واضطربَ يقينُه فيحمِلُه كل أولئك على مُقابلة مُرِّ القضاء ومواجهة القدَر بجزَعٍ وتبرُّمٍ وتسخُّطٍ تعظُمُ به مُصيبتُه، ويشتدُّ عليه وقعُها فيربُو ويتعاظَم، فينوءُ بثِقَلها ويعجِزُ عن احتمالها، وقد يُسرِفُ على نفسه فيأتي من الأقوال والأعمال ما يزدادُ به رصيدُه من الإثم عند ربِّه، ويُضاعِفُ نصيبَه من سخَطِه، دون أن يكون لهذه الأقوال والأعمال أدنى تأثيرٍ في تغيير المقدور أو دفع المكروه.
وأما أولو الألباب؛ فيقِفُون أمامَها موقفَ الصبر على البلاء والرضا ودمع العين، لا يأتون من الأقوال والأعمال إلا ما يُرضِي الربَّ ويُعظِمُ الأجرَ ويُسكِّنُ النفسَ ويطمئنُّ به القلبُ، يدعوهم إلى ذلك ويحُثُّهم عليه ما يجِدونه في كتاب الله من ذكر الصبر وبيان حُلو ثِماره وعظيمِ آثاره؛ فمن ذلك:
ما فيه من ثناءٍ على أهله، ومدحٍ لهم بأنهم هم الصادقون المُتَّقون حقًّا؛ كقوله - عزَّ اسمه -: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون[البقرة:177]، وكقوله - سبحانه -: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار[آل عمران:17].
وما فيه من إيجاب محبَّة الله لهم ومعيَّته - سبحانه - لهم المعيَّة الخاصة التي تتضمَّن حفظَهم ونصرَهم وتأييدَهم؛ كقوله: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين[آل عمران:146]، وكقوله: وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين[الأنفال:46].
ومن إخبارٍ بأن الصبرَ خيرٌ لأصحابه: وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين[النحل:126].
ومن إيجابِ الجزاءِ لهم بغير حسابٍ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب[الزُّمَر:10].
ومن إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون[النحل:96].
ومن إطلاق البُشرَى لأهل الصبر: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين[البقرة:155].
ومن ضمان النصر الربَّاني والمدَد الإلهي: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِين[آل عمران:125].
ومن ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصيَّته المشهورة له: «واعلم أن النصرَ مع الصبرِ».
ومن إخبارٍ بأن أهل الصبر هم أهل العزائم الذين لا تلِينُ لهم قناةٌ في بُلوغ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور[الشورى:43].
ومن إخبارٍ بأنه ما يُلقَّى الأعمالَ الصالحةَ وجزاءَها والحُظوظَ إلا أهل الصبر؛ كقوله: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُون[القصص:80]، وقوله أيضًا: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم[فُصِّلَت:34، 35].
ومن إخبارٍ أنه إنما ينتفعُ بالآيات والعِبَر أهلُ الصبر؛ كقوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور[إبراهيم:5]، وكقوله في شأن أهل سبأ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور[سبأ:19].
ومن إخبارٍ بأن الفوزَ بالمطلوب والظَّفَر بالمحبوب والنجاة من المكروب والسلامة من المرهوب ونزولَ الجنة إنما نالَه أهلُ الصبر: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار[الرعد:23، 24].
وبأنه يُعقِبُ المُستمسِك به منزلةَ الإمامة في الدين؛ قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "سمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين، ثم تلا - رحمه الله - قولَه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون[السجدة:24]".
فلا عجبَ إذًا أن يكون للصبر تلك المنزلةُ العظيمةُ التي عبَّر عنها أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله: "إن الصبرَ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجَسَد، ألا لا إيمان لمن لا صبرَ له".
وأن يُدرِك المرءُ بالصبر خيرَ عيشٍ في حياته، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "خيرَ عيشٍ أدركناه في الصبر".
وأن يكون الصبرُ ضياءً كما وصفَه رسول الهدى - صلوات الله وسلامه عليه -، وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والإمام أحمد في "مسنده".
وأن يكون الصبرُ خيرَ وأوسَعَ عطاءٍ يُعطاهُ العبد، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والبخاري ومسلم في "صحيحيهما" - واللفظ للبخاري - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار الذين سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفِدَ ما عنده، قال: «ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يستعفِف يُعِفّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر».
وأن يكون أمرُ المؤمن كلُّه خيرًا له؛ لأنه دائرٌ بين مقامَي الصبر والشُّكر، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلمٌ في "صحيحه"، والإمامُ أحمد في "مسنده" عن صُهيب بن سِنان - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمرَه كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابَته سرَّاء شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له».
ألا وإن من أشدِّ البلاء وقعًا على النفس: موتَ الأحِبَّة، لا سيَّما أعلامُ النُّبلاء منهم من ذوي التأثير البارِزِ في حياةِ الناس ومن لهم يدُ فضلٍ وبِرٍّ جازَت بهما الحُدود، وعمَّت القاصيَ الداني، وكان للإسلام منهم مواقفُ عظيمةٌ مشهودة، وكان للمسلمين وقفاتٌ مُباركةٌ داعمةٌ غيرُ محدودةٍ بحُدود الزمان أو المكان؛ من مثل من فقدَته الديارُ السعودية والمسلمون قاطبةً هذه الأيام، ألا وهو: سموُّ الأمير سُلطان بن عبد العزيز وليُّ العهد - رحمه الله رحمةً واسعة، وغفرَ له في المهديين، ورفع درجاته في عليِّين، وألحقَه بصالحِ سلفِ المؤمنين -، آمين، آمين، والحمدُ لله رب العالمين على قضائه.
وإن العينَ لتدمَع، وإن القلبَ ليحزَن، ولا نقولُ إلا ما يُرضِي الربَّ: إنا لله وإنا إليه راجِعون، إنا لله وإنا إليه راجِعون، إنا لله وإنا إليه راجِعون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ الصابرين، أحمده - سبحانه - حمدَ الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نُرضِي بها ديَّان يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله إمامُ المُتقين وقُدوة العابدين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في بسطِ مدلول قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين[البقرة:155].
قال: "أخبرَ تعالى أنه يبتلِي عبادَه؛ أي: يختبرهم ويمتحِنهم، كما قال تعالى: ولنبلونكم .. أخباركم}، فتارةً بالسرَّاء، وتارةً بالضرَّاء. مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ؛ أي: بقليلٍ من ذلك. وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِأي: بذهابِ بعضها وَالأنفُسِكموت الأصحاب والأقارب والأحباب وَالثَّمَرَاتِأي: لا تُظِلُّ الحدائق والمزارِعُ كعادتها، وكلُّ هذا وأمثالُه مما يختبِرُ الله به عبادَه؛ فمن صبرَ أثابَه، ومن قنطَ أحلَّ به عقابَه، ولهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِين. ثم بيَّن تعالى مَن الصابرون الذين شكَرَهم فقال: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون[البقرة:156] أي: تسلَّوا بقولهم هذا عمَّا أصابَهم، وعلِموا أنهم مُلكٌ لله يتصرَّفُ في عبيده بما يشاء، وعلِموا أنه لا يضيعُ لديه مِثقالُ ذرَّةٍ يوم القيامة، فأحدثَ لهم ذلك اعترافًا بأنهم عبيدُه وأنهم إليه راجِعون في الدار الآخرة، ولهذا أخبرَ تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال: أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْأي: ثناءٌ من الله تعالى عليهم".
وقال سعيدُ بن جُبيرٍ - رحمه الله -: "الصلواتُ أمَنةٌ من العذاب".
وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونقال أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "نِعمَ العِدلان ونِعمَت العِلاوة، أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌفهذان العِدلان، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونفهذه العِلاوة - وهي: ما تُوضَع بين العِدلَيْن، وهي زيادةٌ في الحِمل، وكذلك هؤلاء أُعطُوا ثوابَهم وزِيدُوا أيضًا -"؛ أخرجه الحاكم في "المستدرك" بإسنادٍ صحيحٍ.
فاتقوا الله - عباد الله -، وكونوا من الصابرين على مُرِّ القضاء تفوزوا بأجرِكم، يُوفِّيه إليكم ربُّكم يوم القيامة بغير حسابٍ.
وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب[آل عمران:8]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-04-2011, 09:46 PM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

وصية الله لحجاج بيته الحرام

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 8/12/1432هـ بعنوان: "وصية الله لحجاج بيته الحرام"، والتي تحدَّث فيها عن بعض الوصايا الإلهية والتوجيهات النبوية لحُجَّاج بيت الله الحرام ومُعتمِريه وزائريه، وقد أرشد فيها إلى بعض التعليمات الواجب التنبُّه لها من الحُجَّاج والمُعتمرين.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله فالق الإصباح، والحمد لله بُكرةً وعشيًّا وفي الغُدُوِّ وفي الرَّوَاح، الحمد لله الذي وفدَ له الحَجيجُ من كل ناحيةٍ وساحٍ، وجعل الحجَّ والمشاعِرَ مزادةً للتقوى، ومهوًى للنفوس، ومنهلاً للأرواح، وجعل بيتَه المُعظَّم حرمًا لا يُستباح، وحِمًى لا يُعضَدُ شوكُه، ولا يُنفَّرُ صيدُه، ولا يُشهَرُ به سلاح، أشهد أن لا إله إلا الله وحده الأحدُ الحميد لا شريك له ولا شَبيه ولا نَديد، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ من حجَّ البيتَ وطافَ، صلَّى الله عليه وعلى آله وعلى صحابته الأسلاف، ومن اتَّبَعهم واستنَّ بهديِهم من التابعين والأخلاف، وسلِّم يا رب تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
وصيةُ الله للأولين والآخرين تقوى الله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131]، ووصيةُ الله لحُجَّاج بيته تقوى الله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].

أيها المسلمون:
حُجَّاج بيت الله الحرام! شكرَ اللهُ سعيَكم، وبارَكَ خطوَكم، وأدامَ سعدَكم، قد وطِئتُم أرضَ الحرَم، وتلبَّستُم بالنُّسُك الأعظم، واكتحلَت عيونُكم بمرأى الكعبةِ المُشرَّفة، وبلغتُم هذا البيتَ العتيق، وشرعتُم في مناسِكِ الحجِّ، فلكم تُزفُّ التهاني ببُلوغِ هذه الأماني، والله المسؤول أن يُتِمَّ حجَّم ويُيسِّر أمرَكم وأن يتقبَّل منكم.
فلله ما أهناكم! والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَته أمُّه» - أي: نقيًّا من الذنوب والخطايا -؛ رواه البخاري ومسلم.
وفي "الصحيحين" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «العُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة».
فيا لها من منحةٍ تطرَبُ لها النفوسُ المؤمنةُ، وتهُونُ في سبيلها كلُّ المتاعِب والصِّعاب.
أيها المسلمون في كل مكان:
حُجَّاج بيت الله الحرام! أيامُكم هذه أيامٌ عظَّم اللهُ أمرَها، وشرَّفَ قدرَها، وأقسمَ بها في كتابه العزيز، فقال - جلَّ شأنُه -: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ[الفجر: 1، 2].
وقال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام». قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجِع من ذلك بشيءٍ»؛ أخرجه البخاري.
وعند الإمام أحمد: «فأكثِروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحمِيد».
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
كبِّروا ليبلُغ تكبيرُكم عَنانَ السماء، كبِّروا فإن اللهَ عظيمٌ يستحقُّ الثناء، أكثِروا من الأعمال الصالحة، وتزوَّدوا من ساعات هذه الأيام ولياليها، فهي التجارة الرابحة، واعلموا أن لله تعالى نفَحَات فاستكثِروا من الصالحات، وتطهَّروا من دَنَس المعاصي والسيئات، إن العُمر لا يعُود، والمَوسِمَ لا يدُوم، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.
عباد الله، حُجَّاج بيت الله الحرام:
هذا هو اليومُ الثامنُ من ذي الحجَّة، وفي ضُحاهُ يُحرِمُ من يُريدُ الحجَّ ويذهبُ إلى مِنَى فيُصلِّي بها الظهرَ في وقتها قصرًا والعصرَ في وقتها قصرًا والمغربَ في وقتها والعشاء في وقتها قصرًا، ويبيتُ بمِنَى هذه الليلة، فإذا صلَّى بها الفجرَ وطلَعَت شمسُ اليوم التاسع توجَّه إلى عرفات وصلَّى بها الظهر جمعًا وقصرًا، ثم يقِفُ على صعيد عرفات مُكثِرًا من ذكر الله تعالى، مُتذلِّلاً بين يديه يسألُه خيرَي الدنيا والآخرة، ويُلِحُّ في الدعاء والرجاء في ذلك الموقف العظيم؛ فإن الحجَّ عرفة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال أيضًا: «خيرُ الدعاءِ دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قديرٌ»؛ رواه الترمذي.
وفي ساحةِ الغُفرانِ في عرفات تخشَعُ القلوبُ، وتَذرِفُ العيون، تُسكَبُ العَبَرات، تُقالُ العَثَرات، وتُرفَعُ الدرجات، ويُباهِي اللهُ بحُجَّاجه ملائكةَ السماوات، ويقول - سبحانه -: «انظروا إلى عبادي أتَوني شُعثًا غُبرًا ضاحِين من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أني غفرتُ لهم».
عباد الله:
ومن لم يكن حاجًّا فيُستحبُّ له صيامُ يوم عرفة مُحتسِبًا أن يُكفِّرَ اللهُ عنه السنةَ الماضيةَ والباقيةَ، كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يومٍ أكثر من أن يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟»؛ رواه مسلم.
فإذا غربَت الشمسُ، انصرَفَ إلى مُزدلِفَة بسكينةٍ ووقارٍ، وصلَّى بها المغربَ والعشاء جمعًا، ويقصُرُ العشاء، ويبيتُ بمُزدلِفةَ تلك الليلة، ويُصلِّي بها الفجرَ، ويُكثِرُ من ذكر الله ومن الدعاء حتى يُسفِرَ جدًّا، ثم ينصرِفُ إلى مِنَى قُبيلَ طُلوع الشمس، ويجوزُ للضَّعَفة من النساء والصبيان ونحوِهم الانصرافُ من مُزدلِفة بعد نصف الليل، ويتحقَّقُ ذلك بغروب القمر.
فإذا وصل الحاجُّ إلى مِنَى رمى جمرة العقبة بسبع حصَيَاتٍ مُتعاقباتٍ يُكبِّرُ مع كل حَصاة، ثم ينحَرُ الهديَ إن كان عليه هَدي، ثم يحلِقُ رأسَه أو يُقصِّرُه، والحلقُ أفضل، ثم يتوجَّه للبيت الحرام إن تيسَّر له يوم العيد وإلا بعده، فيطوفُ طوافَ الإفاضة، ثم يسعَى بين الصفا والمروة، فإن كان قارِنًا أو مُفرِدًا وقد سعى قبل الحجِّ بعد طوافِ القُدُوم فيكفيه سعيُه ذلك، ومن قدَّمَ شيئًا أو أخَّر شيئًا من أعمال يوم النحر، فلا حرج عليه.
ثم يعودُ إلى مِنَى، ويبيتُ بها ليالي أيام التشريق، ويرمِي الجِمارَ الثلاث في كل يومٍ بعد زوال الشمس، ثم إن شاءَ تعجَّل في يومين، وإن شاء تأخَّر لليوم الثالث عشر - والتأخُّر أفضل -، ثم لا يبقَى عليه إلا طوافُ الوداعِ عندما يُريدُ السفرَ من مكة.
أيها المسلمون:
ولقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - مواطنُ يُكثِرُ فيها من الدعاء حريٌّ بالمُسلمِ أن يتحرَّاها، وأن يحرِصَ عليها؛ منها: يوم عرفة - وبالأخصِّ آخر النهار -، وبعد صلاة الفجر بمُزدلِفة حتى يُسفِر جدًّا، وبعد رمي الجمرة الأولى، وبعد رمي الجمرة الثانية من أيام التشريق، وكذا الدعاء فوق الصفا والمروة.
فاجتهِدوا في تمام حجِّكم، واتقوا الله فيما تأتون وتذَرُون، وأخلِصوا لله في عملكم وقصدِكم، واتَّبِعوا الهُدى والسنَّة، واجتنِبوا ما يخرِمُ حجَّكم أو يُنقِصُه، وعليكم بالرِّفقِ والسكينةِ والطُّمأنينة والشَّفَقَة والرحمة بإخوانكم المُسلمين - سيَّما في مواطن الازدحام، وأثناء الطواف، ورميِ الجِمار، وعند أبوابِ المسجد الحرام -.
واستشعِروا عِظَمَ العبادة وجلالة الموقف، جعل الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.


الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل مواسِمَ الخيرات مربحًا ومغنَمًا، وأيام البركات إلى جناته طريقًا وسُلَّمًا، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون:
لقد بُنِي هذا البيتُ العتيقُ مُؤسَّسًا على التوحيد ولأجل التوحيد: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا[الحج: 26].
ومنذ أن دخلتَ النُّسُك وأنت مُعلِنٌ للتوحيد: "لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك".
وفي ثنايا آيات الحج يقول الله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج: 30، 31].
وفي حديث جابرٍ - رضي الله عنه - في صفة حجِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثم أهلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك"؛ رواه أبو داود.
فأخلِصوا دينَكم لله، وتفقَّدوا أعمالَكم ومقاصِدَكم.
عباد الله:
وفي مناسِك الحجِّ تربيةٌ على إفراد الله بالدعاء والسؤال والطلب، مع التوكُّل عليه واللجُوءِ إليه، والاستغناء عن الخلق والاعتماد على الخالق: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[الجن: 18]، لا نبيًّا ولا وليًّا، ولا مكانًا ولا رسمًا.
كما لا يجوزُ أن يُحوَّلَ الحجُّ إلى ما يُنافِي مقاصِدَه، فلا دعوةَ إلا إلى الله وحده، ولا شِعارَ إلا شِعارُ التوحيد والسنة.
أيها المسلمون:
والحجُّ عبادةٌ فريدةٌ تجمعُ ملايين البشر المُتدفِّقين لأداء النُسُك شوقًا، التاركين لدنياهُم طوعًا؛ فأيُّ مشهدٍ أبهى من هذا التجمُّع الإيماني العظيم، فيه اجتماعُ الأمة وائتلافُها، وتظهَرُ قِيَمُها وأخلاقُها، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة: 197].
قِيَم التسامُح والإخاء والبُعد عن الخلاف والمِراء، قِيَمُ المُساواة والعدل والأُخُوَّة والمحبة، قِيَمُ القناعة والبَساطة في تجرُّد الحاجِّ من متاع الدنيا في لِباسِه ومسكنه ومنامه، يتربَّى على ترك الترفُّه، ويتحمَّلُ المشقَّة والتضحية.
من الحجِّ نستلهِمُ المُراجعات السُّلُوكية لكثيرٍ من القِيَم والأخلاق.
حُجَّاج بيت الله العتيق:
الحجُّ جهادٌ، ولا بدَّ في الجهاد من مشقَّة، وتركُ الترفُّه مقصودٌ، وعلى الحاجِّ أن يصبِرَ ويحتسِبَ في إتمام حجِّه كما أمر الله آخِذًا نُسُكَه من رسول الله.
ومن الخُذلان أن يتتَبَّعَ الإنسانُ الرُّخَص ويزهَدَ في السنن، ويرجِعَ بحجٍّ مُشوَّه، ويتنازَل عن كمال النُّسُك، ولا يتنازَلُ عن نقص الخدمات في الطعام والشراب والسَكَن، والله تعالى يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة: 196]، اجعلوا هذه الآيةَ شِعارَكم.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
تعلَّموا أحكامَ مناسِكِكم، واسألوا عن عباداتكم، وتحرَّوا صحةَ أعمالكم قبل إتيانِها، تفرَّغوا لما جِئتُم لأجله، واشتغِلوا بالعبادة والطاعات؛ فإن ما عند الله لا يُنالُ بالتفريط.
أكثِروا من الدعاء والتضرُّع، والهَجوا بذكر الله في كل أحوالكم؛ فنبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما جُعِل الطوافُ بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»؛ رواه أبو داود، والترمذي.
وربُّكم تعالى يقول: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[البقرة: 198- 200].

حُجَّاج بيت الله الحرام:
تبذُلُ الدولةُ برجالاتها وأجهزتها ومُؤسَّساتها الحُكومية وغير الحُكُومية جهودًا هائلةً لخِدمتكم وتيسير حجِّكم، والنظامُ وُضِعَ لمصلحتكم، والجهودُ كلُّها لأجلكم، فالتزِموا التوجيهات، واتَّبِعوا التعليمات، وابتعِدوا عن مواطن الزحام، وتعاوَنوا مع رجال الأمن والأجهزة الحكومية.
لا تُغلِقوا الطرقات، ولا تجلِسوا في الممرات، واستشعِروا ما أنتم فيه، وكونوا على خير حالٍ في السُلُوك والأخلاق، والزَموا السكينةَ والوَقار، واجتهِدوا وسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا وأمِّلوا؛ فإنكم تقدُمون غدًا على ربٍّ كريمٍ.
تمنَّ على ذي العرشِ ما شئتَ إنه
جوادٌ كريمٌ لا يُخيِّبُ سائلاً

تقبَّلَ الله حجَّكم، وأعانكم على تمام النُّسُك، وأحاطكم بحفظِه ورعايته.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم جازِه بالخيرات والحسنات على خدمة الحرمين الشريفين والعناية بالحُجَّاج والمُعتمِرين، وأتِمَّ عليه الصحة والعافية، اللهم وفِّق وليَّ عهده وسدِّده وأعِنه على ما حُمِّل، واجعله مبارَكًا مُوفَّقًا لكل خيرٍ وصلاح.
اللهم اغفر للأمير سلطان بن عبد العزيز، وارحمه، وتجاوز عنه، وأسكِنه فسيحَ جناتك.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، اللهم انصرهم على من ظلمَهم.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم احفظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم احفظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم احفظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ويسِّر لهم أداء مناسِكهم آمِنين، وتقبَّل منَّا ومنهم أجمعين.
اللهم وفِّق رجالَ الأمن والعاملين لخدمة الحُجَّاج، وجازِهم بالخيرات والحسنات يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-08-2011, 10:31 PM   رقم المشاركة : 5

 

المُحدثات طوفان مُغرِق
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبةعيد الأضحى 1432هـ بعنوان: "المُحدثات طوفان مُغرِق"، والتي تحدَّث فيها عن البدع والمُحدثات، وأن السنَّة هي سفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها هلك، وذكَّر بأحكام الأُضحية ونبَّه على بعض الأخطاء التي يقع فيها بعضُ المسلمين، وبيَّن أنه لن يرتقي المسلمون ويصِلوا إلى مرضات الله تعالى إلى بالاستجابة لأمره - سبحانه - وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، ولا يُؤدِّي حقَّه المُجتهِدون، المعلومِ من غير رؤية، والخالقِ بلا حاجة، والمُميت بلا مخافة، والباعثِ بلا مشقَّة، خلقَ الخلائقَ بقدرته وحكمته، ونشرَ الرياحَ بُشرًا بين يدي رحمته، مُبدئِ الخلق ووارثِه، وباسطٍ فيهم بالجُودِ يدَه، كتبَ على نفسه لعباده المؤمنين الرحمة، وسبقَ عفوُه عقابَه وحلمُه غضبَه، لا يخفى عليه مثقالُ ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء، لا تُدرِكُه الأبصار وهو يُدرِكُ الأبصار وهو اللطيفُ الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، خيرُ من صلَّى لله وقام وحجَّ البيت الحرام وصام عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة: 128]، ما تركَ خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرَنا منه، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا.
الله أكبر غافرُ الزلاَّتِ
داعِي الحَجيج إلى ثَرى عرفاتِ
الله أكبر ملءَ ما بين السما
والأرضِ عدَّ الرملِ والذرَّاتِ
والحمدُ لله العليِّ فنورُه
في الذكرِ كالمِصباحِ في المِشكاةِ
الله أكبر بُكرةً وعشيَّةً
الله أكبرُ سامعُ الأصواتِ
الله أكبر عالمًا ومُهيمِنًا
مُحصِي الحَجيج وجامعِ الأشتاتِ
ما كان يخفاهُ الضميرُ وهمسةً
مهما تكن عند اختلافِ لغاتِ
الله أكبر مُبصِرُ النملِ الذي
في ليلةٍ سوداء فوق صفاةِ
قد أبصرَ الجمعَ الغفيرَ وإنه
ليَرَى نِياطَ القلبِ والنَّبَضاتِ
الله أكبر لن تُوارِيَ دمعةٌ
عنه الدموعَ وخافِيَ العَبَراتِ
علِمَ الغيوبَ وكلَّ حبَّةِ خردلٍ
ما قد مضَى منها وما هو آتِ
الله أكبر فاستجِبْ يا ربَّنا
ولتَمْحُ عنا سالفَ العَثَراتِ
واغفر لحُجَّاجٍ أتَوا شُعثًا فقد
ناجَوكَ يا رحمنُ بالزَّفَراتِ
الله أكبر أنت أرحمُ راحمٍ
فاقبَلْ كريمًا صالحَ الدعواتِ
واجعله حجًّا صالحًا مُتقبَّلاً
والطُفْ بنا في الحشرِ والعَرَصاتِ
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ فإنها مفتاحُ سَداد، وذخيرةُ معاد، وعِتقٌ من كل ملَكَة، ونجاةٌ من كل هلَكَة، بها ينجحُ الطالب، وينجُو الهارِب، فاعملُوا فإن العمل يُرفَع، والتوبةَ تنفع، والدعاءَ يُسمَع.
ألا وإن عليكم رُصَّدًا يحفَظون أعمالَكم وعددَ أنفاسِكم، لا تستُركم عنهم ظُلمةُ ليلٍ داجٍ، ولا يُكِنُّكم بابٌ ذو رِتاج، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار: 10- 12].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-08-2011, 10:32 PM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

حُجَّاج بيت الله الحرام:
لقد أصبحتم في هذا اليوم في عيدٍ مبارك؛ عيد الأضحى، يوم القَرابين، يوم الحج الأكبر، يوم قضاء التَّفَث والوفاء بالنُّذور والطواف بالبيت العتيق، إنه يومُ الفرح بالاستجابة لدعوة الخليل - عليه السلام -: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 27- 29].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون:
لقد شرعَ الله لنا في هذا اليوم المُبارَك ذبحَ الأضاحِي تقرُّبًا لله؛ إذ من أفضل أعمال ابن آدم يوم النحر إراقة دم الهَدي والأضاحي تقرُّبًا وزُلفَى للخالق - سبحانه -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
إنها سُنَّةُ أبينا إبراهيم المُؤكَّدة، ويُكرَهُ تركُها لمن قدِرَ عليها، كما أن ذبحَها أفضلُ من التصدُّق بثمنها، وتُجزِئُ الشاةُ عن واحدٍ، ولا بأس أن يُشرِكَ معه أهلَ بيته، وتُجزئُ البدَنة والبقرة عن سبعة.
ثم إنه يجبُ على المُضحِّي أن يُراعِي شروطَ الأُضحية الثلاثة:
فأولها: أن تبلغَ الأضحيةُ السنَّ المُعتبَرُ شرعًا، وهو: خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنةٌ كاملةٌ في المعز، وستةُ أشهرٍ في الضأن.
والشرطُ الثاني: أن تكون الأُضحية سالمةً من العيوب التي نهي عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء التي لا تُعانقُ الصحيحةَ في المشي، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعوراءُ البيِّنُ عورُها، والعَجفاءُ وهي الهَزيلةُ التي لا مُخَّ فيها، وكلما كانت الأُضحيةُ أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
والشرطُ الثالثُ: أن تقعَ الأُضحية في الوقت المُحدَّد، وهو الفراغُ من صلاة العيد، وينتهي بغروبِ اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيامُ أربعةً.
ثم ليرفِق الجميعُ بالبَهيمة: «وليُرِح أحدُكم ذبيحَته، وليُحِدَّ شفرَتَه؛ فإن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ» حتى في ذبح البهيمة، ثم ليُسمِّي أحدُكم عند ذبحها؛ لأن الله يقول: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ[الأنعام: 121].
ويُستحبُّ للمُضحِّي أن يأكل منها، ويُهدِي ويتصدَّق، ولا يُعطِي الجزَّارَ أُجرتَه منها.
فضحُّوا واهدُوا، تقبَّل الله ضحاياكم وهداياكم.

ضحُّوا فإن لحُومَها ودماءَها
سينالُها التقوى بلا نُقصانِ
العيدُ أَضحى فالدماءُ رخيصةٌ
مُهراقةً للواحد الديَّانِ
هي سنةٌ بعد الذبيحِ وإنها
من خير ما يُهدَى من القُربانِ
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.


حُجَّاج بيت الله الحرام:
إن هذا البيت العتيق الذي رفعَ قواعدَه إبراهيمُ وابنُه إسماعيل - عليهما السلام - لم يُبنَ إلا بالتوحيد ولأجل التوحيد ولأهل التوحيد، تتعاقبُ الأجيالُ على حجِّه، ويتنافسُ المسلمون في بُلوغ رِحابِه، وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[الحج: 26].
ولقد بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سنة تسعٍ من الهجرة مع أبي بكر - رضي الله عنه - من يُنادِي بالناس: ألا يطوفَ بالبيت عُريان، وألا يحُجَّ بعد العام مُشرِكٌ؛ رواه البخاري ومسلم.
فالحجُّ - عباد الله - أمارةٌ تدعو إلى التوحيد؛ فاجتماعُ الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسِهم ليُوحِي إليهم أنه ينبغي للمسلم ألا يعبُدَ إلا الله ولا يلجأ إلا إلى الله في خوفه ورجائه وذبحِه ونذرِه ورغبته ورهبَته، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج: 31، 32].
إن المؤمن المُوحِّد ليشعُر من أعماق قلبه أن ما دون الله هَباء، ويستحيلُ عنده أن يُغلَبَ اللهُ على أمره أو أن يُقطَع شيءٌ دونه؛ إذ التعلُّق بغير الله عجزٌ، والتطلُّع إلى سواه ضلالٌ وحُمقٌ.
وإن مما يُؤسِف أشدَّ الأسف: ما يقع فيه بعضُ أهل الغفلة ممن لم يُلامِس التوحيدُ شِغافَ قلوبهم، فادَّعوا علمَ ما لم يعلَموا، ولجئوا إلى غير الله، وخاضُوا في أمور الغيب، فاستحكمَت لديهم الشعوذةُ والكِهانة وما يُسمَّى: تحضيرَ الأرواح وقراءة الكفِّ والفنجان، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ[الطور: 41]، قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ[النمل: 65].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.


حُجَّاج بيت الله الحرام:
في الحجِّ تتجلَّى صورةٌ عُظمى وسمةٌ جُلَّى هي نبراسٌ للأمة إن أرادت الهداية وصحةَ العمل بعد الإخلاص لله تعالى، ألا وهي: متابعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلكم من خلال قوله - صلوات الله وسلامه عليه - في حجَّة الوداع: «خُذوا عنِّي مناسِكَكم»، ليُؤكِّد لنا - صلوات الله وسلامه عليه - أن خيرَ الهدي هديُه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا هديَ أحسنُ من هديِه، ولا طريقَ أقومُ من طريقه، وهيهات هيهات أن يأتي الخلَفُ في أعقاب الزمن بخيرٍ مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح في عصور النور.
فإن من غُربة الدين: أن تلتصِقَ به المُحدَثات التي هي تشويهٌ لجمال الدين، وطمسٌ لمعالم السُّنَن، ومكانةٌ السنة بين هذه المُحدَثات أنها دعوةُ كمال، فكلما تردَّد الإنسان بين طريقين دعَتْه السنةُ إلى خيرهما، وإن تردَّد العقلُ بين حقٍّ وباطلٍ دعَته السنةُ إلى الحق.
وبهذا يُعلَم أن دعوةَ السنةِ إنما هي لأصعبِ الطريقين وأشقِّ الأمرَين بالنسبة لأهواء البشر، وسببُ ذلك - عباد الله - هو: أن الانحدارَ مع الهوى سهلٌ يسيرٌ، ولكن الصعودَ إلى العلو صعبٌ وشاقٌّ، وإن الماء ليَنزِلُ وحدَه حتى يستقرَّ في قَرَارة الوادي، ولكنه لا يصعَد بالعلو إلا بالجُهد والمضخَّات.
وما فائدةُ العقل بلا سُنَّةٍ ولا هديٍ من الله؟!
فها هو - صلوات الله وسلامه عليه - أكملُ الناس عقلاً بلا نزاع، ومع ذلك قال عنه ربُّه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ[الشورى: 52، 53].
ثم إن المُحدَثات سريعةُ الانتشار، تستلفِتُ أنظارَ الدَّهماء فيعمَدونها الذين لا يُبصِرون، ويصمُّوا عنها الذين هم عن السمعِ معزولون؛ فالمُحدَثات طوفانٌ مُغرِق، والسُّنَّةُ الصحيحةُ سفينةُ نوح؛ من ركِبَها نجا، ومن تركها غرِق ولَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ[هود: 43].
وإننا حينما نتحدَّث عن البِدَع فإننا نعنيها بأوسَع مفاهيمها، وهي: كل ما خالفَ هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبادات والمعاملات والأخلاق والمسؤوليات والواجبات والحُقوق والثقافة والفِكر، ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - صلوات الله وسلامه عليه -؛ حيث قال: «إنه من يعِش منكم فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، وإياكم ومُحدثَات الأُمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة»؛ رواه أبو داود والترمذي.
ألا فليُعلَم أنه لا يمكن أن يأتي مبدأ أو فِكرٌ يُقرِّرُ العدلَ والمُساواة وحفظَ الحقوق والواجبات ورعايةَ الأُمَم أفرادًا وأُسرًا ومُجتمعات بمثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ما جاء به إنما هو من عند حكَمٍ عدلٍ برٍّ رحيمٍ يُريدُ بعباده اليُسْرَ ولا يُريدُ بهم العُسرَ، خلقَ الخلقَ وهو أعلمُ بما يصلُحُ لهم في دينهم ومعاشِهم وآخرتهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
ولهذا كان آخر ما أوصى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه في حجَّة الوداع أن قال لهم: «وإنِّي قد تركتُ فيكم ما لن تضِلُّوا بعدي إن اعتصمتُم به: كتابَ الله، وأنتم مسؤولون عني؛ فما أنتم قائِلون؟!». قالوا: نشهَد أنك قد بلَّغتَ رسالاتِ ربِّك، وأدَّيت، ونصحتَ لأمَّتك، وقضيتَ الذي عليك. فقال بأُصبعه السبَّابة يرفعها إلى السماء وينكُتُها إلى الناس: «اللهم اشهَد، اللهم اشهَد»؛ رواه البيهقي وابن ماجه.
قال سفيان الثوري - رحمه الله -: "من ابتدعَ في الإسلامِ بدعةً يراها حسنةً فقد زعمَ أن محمدًا خانَ الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]".
ولقد اتفق أئمةُ التفسير أن هذه الآية نزلت في حجَّة الوداع، وإنها لآيةٌ عظيمة ومنَّةٌ كريمة أن أتمَّ الله على عباده نعمةَ الدين، ورضِيَ لهم الإسلامَ دينًا، فبذلك فلنفرَح هو خيرٌ مما نجمَع.
وإنه لعيبٌ على كل مسلمٍ أن يُدرِكَ غيرُ المسلمين معنى هذه الآية وأثرَها على النفس أكثر مما يُدرِكُه بعضُ من ينتسِبون إلى الإسلام على حين غفلةٍ من العلم والفقهِ في الدين؛ ففي "الصحيحين" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آيةٌ في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: "أيّ آية؟". قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]. قال عمر: "قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائمٌ بعرفة يوم الجُمعة".
أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[يونس: 35].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله الحرام:
الأمةُ المُسلمةُ المُتميِّزةُ هي تلكم الأمة التي تتحقَّقُ لها ضرُورياتُها وحاجاتها وتحسينياتُها تحت ظلٍّ وارِفٍ من الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً، وهي بمثل ذلك لا يُقوِّضُ بُنيانَها أزمةٌ، ولا يُعكِّرُ صفوَها ضيقٌ، ولا تُفترسُ يومًا تحت نابِ سبُعٍ عادٍ، أو تُجرَح بمخالبِ باغٍ مُتوحِّش.
كلا لا يمكن أن يكون ذلك لأمةٍ شاعَت بين ذوِيها روحُ الإخاء والعدل والإنصاف والإيثار والشَّفَقة والتواضُع لله ثم لخلقه، وإنما يقعُ في مثل ذلكم أممٌ تدثَّرَت بالصَّلَف والكبرياء والبُعد عن وحيِ الله، تستنشِقُ البغيَ والهوى والظلمَ والأنانية لتمثُلَ أمام حاضرٍ كريهٍ ومُستقبلٍ مُقلِق، فيسبِقُها خصمُها إلى إذلالها وكبتِ حُريَّتها التي اكتسبَتها من قُربها من خالقها ومولاها.
ألا إن من رأى واقع الأمة المسلمة اليوم فإنه سيرى بعين رأسه أن ذوِيها أفخَرُ ملبسًا، وأجسَمُ مطعمًا، وأرفهُ مركبًا عن ذي قبل، ولكن من يرى بعين فِكره ولُبِّه فسيرى كثيرًا منهم أقلَّ في الخصائص الروحانية أو أضعفَ وازعًا وأكثر شهواتٍ وشُبُهات، والذي من أجله كثُرت آلامُها ونُكِئَت جِراحُها، فصارَت تُعالِجُ غليانًا وهيجانًا تلعبُ به الريحُ ذات اليمين وذات الشمال، وهي تتلقَّى اللَّكَمات والوَكَزات في صياصِيها أو قريبًا من دارها، فلا تكادُ تُسيغُ ما يجري، ويأتيها الموتُ من كل مكان وما هي بميتةٌ - بإذن الله -.
والحقيقةُ أن هذا كلَّه لم يكن بِدعًا من الأمر ولا كان طَفرةً دون مُقدِّمات، إنما هو نتيجةُ ثُقوبٍ وشُرُوخٍ في سِياجِ الأمةِ الشَّامِخ تراكَمت على حين غفلةٍ من ترميمه وصيانتِه وتعهُّد احتياجات هذا السِّياجِ المَنيع، فادلهمَّت الخُطوب، وترادَفَت حلقاتُها حتى صارَت كل فتنةٍ تقول للأخرى: أختي أختي.
وقد لا يكون ذلكم مُستغربًا عقلاً وواقعًا؛ لأن النسيمَ لا يهُبُّ عليلاً على الدوام، ولكن المُستغرَب أن تضعَ الأمةُ كل علامات الاستفهام في مسامِعِها حينًا بعد آخر ثم لا تُلامِسُ تلكم الاستفهامات مظانَّ الأدواء، فيقعُ التطبُّبُ المذموم، وتُشحَذُ الهمَّة على إخراج الشوكة في حين إن الروحَ تُغرغِر، أو كمن يستطِبُّ زُكامًا لمن به جُذام، حتى يبيتَ الأمرُ من الخُطورة بمكانٍ بحيث يُوجِبُ البحثَ الحقيقيَّ عن الداء والأسبابِ المُفضِيَةِ إلى تلك التراكُمات والتَّدَاعيات التي تؤُزُّ المُجتمعات أزًّا شاءَت هي أم أبَت؛ لأن من البديهي أنه إذا عُرِف السبب بطل العجَب، وإذا أُحسِن التشخيصُ أُحسِن العلاج، فقد يكون السببُ تربويًّا أو اقتصاديًّا أو ثقافيًّا أو إعلاميًّا أو سياسيًّا، وأيًّا كان من ذلكم فإن لكل داءٍ دواءً، ولكل علَّةٍ شِفاءً.
وعندما يقعُ التقصيرُ في التداوي فإن المرض ما منه بُدٌّ، وما هو إلا كشفُ الإناء لكل لاعبٍ والِغٍ، ثم هي الفوضَى في الوِرْد والصدر، وعندئذٍ لا بُدَّ من تجرُّع النتيجة المُرَّة مأم
على شَرَق.
ومن مثلِ هذا يعرفُ العُقلاءُ قيمةَ التواصِي والاجتماع والوِحدة ونبذ الفُرقة؛ فدينُ الإسلام جامِعُنا، ومن أتانا في اجتماعنا فقد أتانا في ديننا، ومن أتانا في ديننا فقد أتانا في اجتماعنا.
ولقد حثَّنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أن نحذَرَ كلَّ عدوٍّ لنا وأن نتَّقِيَه ما استطعنا؛ كيف لا وقد علَّمنا - صلوات الله وسلامه عليه - أن عدوَّ ديننا عدوٌّ لنا كائنًا ما كان؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «اقتُلوا الوَزَغ؛ فإنه كان ينفُخُ على إبراهيم - عليه السلام - النار»؛ رواه أحمد، وأصلُه في "الصحيحين".
هكذا حذَّرَنا - صلوات الله وسلامه عليه - من أعدائنا حتى ولو كانوا حشراتٍ صغيرةً كالأوزاغ؛ بل إنه لم يُرتِّب أجرًا في قتل حشرةٍ أو دابَّةٍ كما رتَّب ذلك في قتل الوَزَغ، كماء عند مسلمٍ وغيره.
فإذا أردنا التغيُّر للأحسن والأكمل فلنتدبَّر قولَ الله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ[الرعد: 11].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
إن الأمةَ المسلمةَ إذا أرادت الاستقرار الأمنيَّ والأخلاقيَّ والسياسيَّ والإعلاميَّ فيجبُ عليها أن تكون صريحةً مع نفسها، مُعترِفةً بأخطائها، عازمةً على المُضِيِّ قُدُمًا في كل ما من شأنه سدُّ ثُلمتِها ولمُّ شعَثِها واجتماعُ فُرقتها، ولن يكون ذلكم دون وُضوح، كما أنه لن يتم من خلال مبدأ الانتقائية، أو مبدأ القائل: أصمُّ عن الأمرِ الذي لا أريدُه، وأسمعُ خلقَ الله حين أشاءُ.
لأن مثل هذا المبدأ يُؤخِّر يوم الاستقرار ولا يُقدِّمُه، أو يقودُ إلى الغرق في بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ م فوقه سحابٌ من الفتن المُتلاطِمة التي تُعيقُ عجلَةَ التصحيح إن لم تئِدها برُمَّتها.
ألا وإن مصدر محَن أمة الإسلام من داخلها أشدُّ خطرًا من عدوِّها؛ لأن العدوَّ واحدٌ بخلاف الأصدقاء وبني المُجتمع فليسوا في البرِّ سواء، ولا يُدرِك عمقَ هذا إلا من وهبَه الله معرفةَ لحنِ القول الذي ينخُرُ في جسَد الأمة وله وقعٌ في نفسها أشدُّ من وقع سِهام عدوِّها، والنوائبُ والمُدلهِمَّات هي التي تُقرِّرُ العدوَّ من الصديق، لتُدهَشَ الأمةُ حينما تجِدُ اللسانَ لسانَهم، والفُؤادَ تُجاهَ عدوِّهم، الجسدُ مُخالط والقلبُ مُفارِق.
وأمثالُ هؤلاء لا يُكشَفون إلا في الأزمَات، أمثالُهم سببُ الفُرقة حالَ الرغبة في الاجتماع، وهم سببُ الفُتوق حال استِجلابِ الرُّتُوق، ولقد أحسن من قال:
وكان بنو عمِّي يقولون: مرحبًا
فلما رأوني مُعسِرًا ما تمرحَبوا
أمثالُ هؤلاء هم الذين حذَّرَنا منهم من حجَّت هذه الملايين اقتداءً به واتباعًا لسنته - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث جاء عنه عند البخاري ومسلم: قوله عن فتن آخر الزمان، وقد سأله حُذيفة بن اليمان قائلاً: وهل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: «نعم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنَّم، من أجابَهم إليها قذفُوه فيها». قال: يا رسول الله! صِفهم لنا. قال: «هم من بني جِلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا ..» الحديث.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.



 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-08-2011, 10:33 PM   رقم المشاركة : 7

 

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى.
أما بعد:
فاتقوا الله - حُجَّاج بيت الله الحرام -، واجعلوا من حجِّكم وعيدكم هذا - أمة الإسلام - نقطةَ انطلاقةٍ من السيءِ إلى الحسن، ومن الحسَن إلى الأحسن، وأصلِحوا أنفسَكم من داخلها، واعلموا أن واقع المسلمين لا يُمكن أن يُصلَح خارجًا عنهم؛ لأن مُستقبل المسلمين يجبُ أن يُصنَع في بلادهم وعلى أرضِهم بكدِّهم وكدحِهم وأخلاقهم، بشغلِ أوقاتهم في كل ما من شأنه خدمةُ الإسلام والمُسلمين، حتى لا يرُوغَ بعضُهم على بعض، ويشغَلَ بعضُهم بعضًا في التهويش والتحريش، ولئلا يُبطَلَ الحقُّ ويُغمَطَ الناس، واللهَ اللهَ في تنقيةِ المُجتمعات من شوائِبِها.
فاحرِصوا على الإعلام، واجعلوه منارةً لكل ما يفيد، وسِياجًا منيعًا ضدَّ كل دَخيلٍ لا نفعَ فيه؛ فإن الإعلام سِلاحٌ ذو حدَّين أصدقُهما وأنفعهُما ما قادَ إلى الخير وعمَّ بالنفع ولهَجَ بالصدق والتثبُّت والبُعد عن الكذِب والتضليل؛ لأنه قِوامُ المُجتمعات ومِرآتُها، فمن أراد أن يرى حُسن صورته فلا ينظر إلى مِرآةٍ مُتهالِكة.
كما أنه ينبغي علينا جميعًا أن نُعطِي كل ذي حقٍّ حقَّه، وألا نبخَسَ الناسَ أشياءَهم، لا سيما المرأة المسلمة؛ لأنها محطُّ الأنظار في هذه الآوِنة، فلنتذكَّر وصيةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حجَّة الوداع، وأنها مخلوقةٌ حرَّةٌ لها حقوقٌ وواجبات وعليها حقوقٌ وواجبات، وجعل لها من الحقِّ مثل ما للرجل، وللرجل عليها درجة.
فاللهَ اللهَ في إنصافها بما أنصفَها الله به وأنصفَها به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن المرأة هي أمِّي وأمُّك وأختي وأختُك وزوجتي وزوجتُك وبنتي وبنتُك، لها شأنٌّ في المُجتمع، فهي نصفُه وإنها لتلِدُ النصفَ الآخر فكأنها مجتمعٌ بأكمله.
كما أن من إنصافِ المرأة: عدمَ الزجِّ بها بما ليس من فِطرتِها وجِبِلَّتها وليس مما شرعَه الله لها، أو إقحامها فيما هو من خصائص الرجال دون مُراعاةٍ لقُدراتها العاطفية والبدنية والأُنثوية؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجَّة الوداع: «فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتُموهنَّ بأمانة الله، واستحللتُم فُرُوجهنَّ بكلمة الله».
ألا فإن للمرأة عقلاً وجسدًا وروحًا ورأيًا وحقًّا، فأعطُوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
ها أنتم قد خرجتم من المُزدلِفة بقلوبٍ خاشِعةٍ مُطمئنَّة، تعلوكم السكينة، ويحدُوكم الرجاءُ، وليس السابقُ اليوم من سبَقَت به دابَّتُه، وإنما السابقُ اليوم من أحسنَ العملَ وأخلصَه لله فسبقَ إلى مغفرته ورِضوانه.
واعلموا - رحمكم الله - أن أول ما يُبدأُ به من الأعمال في هذا اليوم بعد الخروج من مُزدلِفة: أن يتوجَّه الحاجُّ إلى مِنَى بسكينةٍ ووقار فيرمِي جمرةَ العقبة بسبعِ حصَيَاتٍ، وهي أقربُ الجمرات إلى مكة، يُكبِّرُ مع كل حصاةٍ يرميها، ثم ينحَرُ هديَه إن كان عليه هَدي بأن كان مُتمتِّعًا أو قارِنًا، ثم يحلِقُ رأسَه أو يُقصِّرُ فيُحِلُّ من إحرامه، ويُباحُ له كلُّ شيءٍ حرُمَ عليه أثناء الإحرام إلا النساء.
ويبقى في حقِّ القارِنِ والمُفرِدِ: طوافُ الإفاضة وسعيُ الحجِّ إن لم يكن قد سعى مع طوافِ القُدوم.
وأما المُتمتِّعُ فيبقى عليه طوافٌ وسعيٌ غيرُ طوافِ العُمرة وسعيِها.
ثم بعد طوافِ الإفاضة يحِلُّ للحاجِّ كلُّ شيءٍ حرُم عليه بسببِ الإحرام حتى النساء، ولا يضرُّ الحاجَّ ما قدَّم أو أخَّر من أعمالِ يوم النَّحْر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سُئِل عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر في ذلك اليوم إلا قال: «افعل ولا حرج» تسهيلاً للأمة ورفعًا للحرج - بأبي هو وأمي - صلوات الله وسلامه عليه -.
ثم يبيتُ الحاجُّ بمِنَى ليالي التشريق وجوبًا؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقوله: «خُذُوا عنِّي مناسِكَكم»، فيرمِي الجمَرات بعد الزوال في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر إن لم يكن مُتعجِّلاً، يرمي كلَّ جمرةٍ بسبعِ حصَيَاتٍ، يبدأُ بالجَمرة الصغرى ثم الجمرة الوُسطى ثم الجمرة الكبرى.
فإذا أنهى الحاجُّ الرميَ والمبيتَ فإنه يطوفُ طوافَ الوداعِ وجوبًا، ويسقُطُ عن المرأة الحائض، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 200- 202].
وتذكَّروا - حُجَّاج بيت الله الحرام - بجمعِكم هذا يوم يجمعُ الله الأولين والآخرين على صعيدٍ واحدٍ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة: 18]، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم: 93- 95].
اللهم تقبَّل منا، اللهم تقبَّل منا، اللهم تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفورُ الرحيم، اللهم اجعل حجَّنا مبرورًا، وسعيَنا مشكورًا، وذنبَنا مغفورًا.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح ذاتَ بينهم، واكفِهم شرَّ أنفسهم وشرَّ الشيطان وشِركه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعينًا ومُؤيِّدًا وظَهيرًا.
اللهم هؤلاء عبادُك أتوك شُعثًا غُبرًا، يرجُون رحمتَك ويخشَون عذابَك، اللهم فاقبَل توبتَهم، اللهم فاقبَل توبتَهم، اللهم فاقبَل توبتَهم، وامحُ حوبتَهم، ورُدَّهم إلى أهلِهم سالمين غانِمين غير خزايا ولا محرومين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وأجزِل الفضلَ والمثوبَة لكل من ساهمَ في خدمةِ حُجَّاج بيتك الحرام، واجعل ما قدَّموه في موازين أعمالهم يوم يلقَونَك.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتقاك، واتبعَ رِضاكَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل مواسمَ الخيرات لنا مربَحًا ومغنَمًا، وأوقات البركات والنَّفَحات إلى رحمتِك طريقًا وسُلَّمًا.
اللهم ما سألناك من خيرٍ فأعطِنا، وما لم نسألك فابتدِئنا، وما قصُرَت عنه آمالُنا وأعمالُنا من الخيراتِ فبلِّغنا.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:33 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir