بعث لي سعادة الدكتور سعيد ابو عالي ببوحه عن البكاء ورومنسية الالم ، ويشرفني نشره لتتمتعوا بما سطرته انامله الكريمة كما استمتعت به عند الاطلاع ، واليكموه :
البكاء.. رومانسية الألم
بقلم الدكتور سعيد بن عطية أبو عالي
إذا كان البكاء تعبيراً عن مشاعر داخل الإنسان، فهل هو دائماً للتعبير عن الحزن؟
وإذا أشارت الكتابات والأشعار إلى أن المرأة بكَّاءة فهل يبكي الرجل؟
وإذا كان البكاء علامة من علامات الكآبة فهل هو في أحيان أخرى دليل فرح وسرور؟
تاريخ الإنسانية مليءُ بالمواقف التي بكى لها ومنها وأحياناً عليها عظماء وعظيمات. بعض منهم بكى بنشيج وبعض بكى في صمت رهيب، بعض بكى وقال الحق فيما جعله يبكي. أما بعض – ويا ويل الناس من هذا البعض – فقد تكابر وتعالى على الموقف وقدم الناس موقفاً لا يتعلق ولا يتفق مع الحق. وتعالوا معي نتأمل الآتي:
نبيننا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بكى مرات ومرات وهو أشجع الخلق ولكنه عليه الصلاة والسلام يمتلك قلباً عطوفاً ورحيماً. كان يبكي ولا يرفع صوته ولا يشهق.
دعونا نقف حوله ونسمعه يناجي ربه سبحانه وتعالى وهو عائد من الطائف وقد صدَّه أهلها وأغروا به سفهاءهم يسبونه ويرمونه بالحجارة صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ويقول في مناجاته ودعائه الذي تواترت عليه أمهات كتب السيرة النبوية :اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجَّهمُني، أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل عليَّ غضبك، أو تحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" (الجزء الرابع، البداية والنهاية لابن كثير، صفحة 338-339، طباعة دار هجر، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م).
إنه غاية التذلل أمام الخالق سبحانه وتعالى والخضوع له والتقرب إليه. وإني أكاد أراه عليه الصلاة والسلام وهو في علوه وسموه وشجاعته وتقواه يشفق على قومه الذين آذوه ولم يسمعوا دعوته.
كل حرف – في نظري المتواضع – هو دمعة وكل كلمة هي بكاء؛ بل إن كل حرف هو تذلل وكل كلمة هي تضرع. ولكن هل كان يتضرع من الألم الذي عاناه؟ وهل كان يتذلل من أجل نفسه؟ كلاَّ.. إنه كان يفعل ذلك طلباً للفوز برضا ربه.. وكان باخعاً نفسه لأن قومه في مكة والطائف وغيرها لم يسمعوا دعوته..إنها عظمة إنسانية لا نستطيع تصورها ولا تصويرها.
فما أعظمه من نبي أحبّ أمته.. وأمته هي كل الناس: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" الآية ﴿107﴾ من سورة الأنبياء. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنما أنا رحمة مهداة".
كان بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً في صمت إلا عندما رأى عمه الشهيد حمزة بن عبد المطلب فيقول جابر رضي الله عنه: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلاً بكى فلما رأى ما مثِّل به شهق". وروى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به فلم ير منظراً كان أوجع لقلبه منه فقال (أي الرسول): "رحمك الله أي عمّ فلقد كنت وصولأً للرحم فعولاً للخيرات". إنه بطل الإسلام حمزة الذي أعز الله به الإسلام. استشهد في النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة وعمره سبع وخمسون سنة وكان أسنّ من الرسول صلى الله عليه وسلم بسنتين على أصح الأقوال. وصلى عليه المصطفى ودفنه بنفسه مع ابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد وقد رثاه كعب بن مالك ويقال عبد الله بن رواحه في قصيدة نجتزئ منها ما يلي:
بكت عيني وحُقَّ لها بكـاها
وما يغنـي البكــاء ولا العويـل
على أسد الإله غداة قـــالوا
لحمــزة ذلك الرجــل القتيــل
أصيب المسلمون به جميعاً
هناك وقد أصيب به الرســول
أبا يعلى لك الأركان هُدْت
وأنت الماجــد البـر الوصــول
عليك سلام ربك في جنان
يخـالطــــها نعيــــم لا يــزول
أبا يعلى: يعني حمزة، وجنان: جمع جنة (ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة، الجزء الثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، تاريخ الطبعة غير معروف).
• بكت الصحابية الجليلة أسماء بنت أبي بكر على ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين لما قتلوه وهو يدافع عن مكة المكرمة وعن المسجد الحرام وعن الكعبة المشرفة. ولكن بكاءها كان بكاء الكبرياء. وكانت قبل هذا قد ضعف بصرها أو أنها عميت. شجعت ابنها على القتال دفاعاً عن الإسلام وعن الحق. ثم تجلَّى كبرياؤها عندما ذهبت تتوكأ على عصاها لتمر على ابنها البطل القتيل معلقاً في إحدى ساحات مكة.. فلما حاذت موقع ابنها التفتت إليه وهي كالجبل الأشم وقالت في عزة إسلامية سامية متهكمة بأعدائه: "أما آن لهذا الفارس أن يترجّل".
• سمعت إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ عبد الله الخليفي يبكي أثناء الدعاء في صلاة الوتر فرحمه الله رحمة الأبرار
• (الملك الصغير) آخر ملوك المسلمين في الأندلس بكى ليلة سقوط غرناطة وكانت آخر معقل للمسلمين.. وكان الملك لا يهتم بمسؤولياته فقالت له أمه وهي تقدر هول الهزيمة والخسارة: ابك كالنساء مُلكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.
• الطفل يبكي عند ولادته معلناً وصوله إلى الدنيا.. ويبكي عند الخوف أو الألم أوالجوع.. ويبكي طلباً للعطف.. ويبكي طلباً للانتباه إليه.
• يقول أناس إن البكاء سلاح المرأة.. وآخرون يقولون إن بكاءها لضعفها.. وأنا ممن يقول إنها تبكي لرقتها ولكن يبقى لدي ولديكم – فيما أظن – سؤال حائر عن شجرة الدر، وجولدا مايير وانديرا غاندي؟
الأولى: أبقت زوجها ميتاً لديها شهوراً لتهيئ ابنها للحكم وحكمت مصر حكماً قوياً خلال الشهور التي احتفظت بسر موت زوجها الملك.
والثانية حكمت اسرائيل وقادتها إلى حرب مع العرب أيام الرئيس السادات الذي سجل انتصاراً لقومه العرب في رمضان عام 1393هـ.
والثالثة حكمت الهند ثاني أكبر دولة في آسيا وفي العالم وسارت بها إلى مدارج النجاح.. وحاربت باكستان واختلست نصف مساحتها وأقامت عليها دولة بنجلادش. وقد رأيت انديرا وصافحتها في مطار الظهران الدولي وسمعتها تتحدث بصوت خفيض، وكانت تتمتع بدعابة جعلتني أشك في أنها هي التي تقرر الحرب والسلام في بلادها.
أما أنا فإن كان البكاء دليل ضعف فإن ضعفاً (بشريا) يسكنني. ولعلَّ البكاء أسرع إلي من الفرح. وأهلي وبعض أصدقائي عندما يرون بكائي ويتذكرون حزمي ووضوح تعليماتي فإن دهشة كبيرة تتملكهم وأذكر انني بكيت:
• على والدي رحمه الله عندما فتحنا قبره لندفن معه ابني الأكبر مسفر عام 1383هـ لا حرمني الله ووالدته من شفاعته. لحظني يومها صديقي الدكتور أحمد التابعي رحمه الله وقال يا سعيد أنت شباب وسيرزقك الله غيره. فقلت إني أبكي لأبي فقط.
• على بنتي عزة (الكبرى) عندما وصلني نبأ وفاتها بالقرية وأنا غائب بمكة عام 1384هـ فقد بكيت عليها في صمت وبدمع حارق.
• عندما انهزمنا أمام إسرائيل بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله وكانت الهزيمة نتيجة الإهمال وعدم التخطيط. فضاعت الأحلام، وتعاظم الانكسار، وتراجع الزمان.
• يوم وصلني نبأ وفاة الصديق وابن العم محمد (عيسى) ابن حمدان رحمه الله فقد جاء موته يضاعف غربة السفر، وأضاع من يدي اللحظة التي كنت أتمنى أن أراه فيها. كنت أتمنى أن يعيش اللحظة التي يراني عائداً من أمريكا ومعي شهادة دراسية عليا. كان يشجعني رحمه الله ويقول: آه ما أروع اللحظة التي أقول لك فيها يا دكتور. ولكن عزائي في جميع أبنائه الذين يغمروني بالودّ والوفاء.
• بكيت يوم العاشر من رمضان عام 1393هـ عندما عرض التلفزيون الأمريكي صورة ضابط مصري يؤدي صلاة العصر بعد أن عبر بجنوده خط بارليف الذي تم تحطيمه في ذلك اليوم. إنه النصر الذي صنعه أبناء قومي.
• يوم استشهد الملك الصادق فيصل بن عبد العزيز رحمه الله رحمة الأبرار، فقد آلمني ومزق نياط قلبي أن تمتد يد الغدر لتغتال الهامة الشامخة والفكر الساطع والنجم اللامع ملك البناء والنماء. لقد استوعب رحمه الله آثار هزيمة العرب عام 1967م ووقف فيها وبعدها يبني الوطن ويضمّد جراح العرب. وجه جميع قدرات المملكة يومها:
1. لإعداد شباب بلاده علمياً حتى يساهموا في بناء وطنهم.
2. إعادة بناء ما افرزته الهزيمة من انكسارات نفسية، وضياع جيوش، وبناء اقتصاد لمصر والأردن وسوريا.
3. بلورة الشخصية الفلسطينية ومدَّها بالقوة التي تساعدها على استرداد حقها. وحدد هدفه في اداء الصلاة بالقدس محررة شريفة.
4. بناء الشخصية الإسلامية التي تتمسك بثوابت الدين وتفخر بمنجزات الماضي وتبني مستقبلاً يساهم فيه المسلمون وفي مقدمتهم العرب في التقدم العلمي والتقني.
قضى أيام حكمه رحمه الله في العمل ليلاً ونهاراً وأعطى للملك هيبته وللحكم مسؤوليته وللوطن احترامه وللمواطن حقوقه وللمقيم معنا على تراب الوطن تقديره وللعلم فضيلته. ثم تأتي يد الغدر لتغتال كل هذه المعاني التي تجمعت في رجل واحد هو فقيدنا شهيد القدس رحمه الله رحمة الأبرار.
• يوم مات أستاذي المصري محمد حسن أمين.. رحمه الله فهو لم يدرسني اللغة الإنجليزية فحسب ولكنه حلُم معي بمستقبلي الشخصي.. أنبأني بوفاته الصديق علي بن حسن وأنا أتأهب للعودة إلى الوطن عن طريق مصر الشقيقة حتى أسلِّم عليه ولكنّ الله سبحانه وتعالى يفعل ما يريد.
• بكيت لفقد والدتي رحمها الله رحمة الأبرار.. ففيها ومعها فقدت الإبتسامة والتشجيع والثناء والتوجيه... وأنا كلما ذكرتها أبكيها.. ويحقُّ لي ولمثلي أن يبكي أماً مثل أمي.
• يوم هجم ثور مصارعة اسباني على مدربه في ملعب المصارعة بالعاصمة الإسبانية مدريد وطرحه أرضاً وغرس قرنه الصلب المدبب في ظهر المدرب وأخرجه من صدره وحمله على قرنه وجرى به في الملعب.. ورغم إنقاذ الشاب إلا أنه توفي بعربة الإسعاف التي اخذته إلى المستشفى. سألتني زوجتي عن بكائي فقلت: كم أسعد قلوباً تعيسه، ولكم صفق له المتفرجون وها هو في شبابه يمضي تعيساً ولا أحد يصفق له.
• يوم مات الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز رحمه الله فقد التقيته بمكتبه بالرياض ولأكثر من خمسين دقيقة. رأيت فيه سمو الأمارة وتواضع الكبار، وتفكير العالم الذي يقدر العلم ويحترم العلماء، واستشراف المستقبل في وعي للحاضر واعتماد على الدين والتاريخ. شعرت أمامه بهيبته ولكني آنست جميل شعوره بالأخوة نحوي وأننا شركاء جميعأً في تحمل المسؤولية. مات في صيف وأنا بالباحة فهرعت إلى الرياض معزياً في (رجل دولة وابن وطن) وفي الطائرة تذكرت مسيرة حياته فما شعرت إلا بدمعي ينساب حاراً على خدي إنه بالنسبة إلي فقيد وطن وفكر.
• يوم قالوا: "الشيخ مات"... إنه فقيدنا الأب المعلم العالم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رحمة الأبرار بموته شعرت بالزهد يذبل، وبالعلم ينقص، أحسست يومها أن الجزيرة العربية ترتجف والعالم الإسلامي على سعته يهتز حزناً على فراق "الشيخ".
إن البكاء بالنسبة إلي تعبير عن الشقاء أو السرور كما هو تنفيس عن التوتر والكرب. ولقد تصنعنا البكاء صغاراً حتى نهرب من خطأ عقابه أليم،أو ننال حاجةً من أهلنا لا يقضيها إلا البكاء. وها نحن نتصنع البكاء كباراً حتى نهرب من الأسئلة والمسؤولية.
أليــــس كــــــــذلك؟؟