الموضوع: المعلامة
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-09-2010, 10:39 PM   رقم المشاركة : 20

 

المعلامة

الجزء العاشر :




ذات يوم من عام (1376)هـ حدث في القرية في الجبل الشرقي انفجار لغم في رجلين أحدهما من أهل القرية (فائز) والآخر رجل يمني, كانا يقومان بتكسير وقطع الصخور لجلب الحجارة على الجمال واستخدامها في بناء المنازل وقد كانا طوال النهار يثقبان الصخر في عدة أماكن, مع وضع (البارود), ولعله حصل خطأ ما فأنفجر اللغم (اللغب) فيهما.. سمعنا الانفجار والاستغاثة فأصيبا إصابات شديدة , ولم يكن في ذلك الوقت مستشفى أو طبيب سوى في الظفير (الحكيم ابن طلميس) ثم بعده قدم الدكتور بشندي في الظفير نقل (فائز) إلى بيته ونقل الرجل اليمني إلى بيت هاشم بن عدنان شيخ القرية والقبيلة..
انطلقنا إلى الجبل نحن الصغار للمشاهدة, فرأينا أحدهما محمولاً على ظهر رجل من أهل القرية (عبدالله بن سعيد), والآخر على سرير. في ذات اليوم أو بعده بيوم حدثت (الفاجعة الكبرى) لأهل القرية في الطائف, حين وصل أسوأ خبر عن حادث احتراق (أحمد عقيل وعبدالرحمن مجحود وسعدي بن ضرمان, ورجل من أهل الطائف اسمه الأسيود) ماتوا جميعا حين انفجرت سيارة عمي, وهم بها متجهين من الشهداء إلى (سوق البلد) وبجوار مسجد (البقيرة) أُقيم العزاء في الطائف وفي القرية ( رغدان ), والجميع في حزن عميق.. لأول مرة أشاهد والدي يحجب عينيه بكفه ويبكي. حضر الناس والأقارب وأفراد القرية للمشاركة والعزاء والتحقق من هذه المصيبة.. وقد صادف أن جدتي لأمي (مستورة) قدمت إلينا من قرية في زهران, ورأت البكاء والعويل من جميع النساء, فأخذت تبكي وتواصل البكاء, وبعد أن هدأ البكاء وسكنت الأصوات, قامت –يرحمها الله– تسأل ببراءة إحدى النساء قائلة: (يا بنتي.. ليش يبكون..؟).
وبعد فترة طويلة كانت الأهل يتذكرون هذا الموقف منها, ويتندّرون به عليها قائلين: (كيف تبكين ولاتدرين..) فقد كانت تبكي بحرقة شديدة.
توجه الرجال من ذوي المصابين ومعهم آخرون من أفراد القرية إلى الطائف بعد بحث في القرى المجاورة عن سيارة تنقلهم فلم يجدوا بسهولة, وأخيراً وجدوا سيارة (إسماعيل بن ملّة) يرحمه الله (الأبلاكاش) فرحل بهم إلى الطائف ثم وصل خبر تفاصيل الحادث كما قيل: فقد ركبوا _يرحمهم الله_ السيارة وكان معهم في السيارة (تنكة) صفيحة مليئة بالبارود لإيصالها إلى دكان عبد الرحمن مجحود, وكان إلى جانب الصفيحة بطارية للسيارة, فربما كانت ألصفيحة فوق البطارية, وبعد سيرهم مسافة قصيرة, وأمام مسجد البقيرة حدث الانفجار داخل السيارة .. اكتظ الدخان داخلها.. حاول الناس مساعدتهم وإنقاذهم, لكن أبواب السيارة تمددت من الحرارة ولم تفتح, حاول الناس استخدام السواطير والفؤوس من المجزرة المجاورة.., وبدأت النيران واللهب يخرج من النوافذ, وقيل أن (عبدالرحمن بن مجحود) كان في جيبه وثائق أو أمانات ولفّها في عمامته وقذف بها من داخل السيارة, وبعد وصول (الإطفاء) كما يسمى ذلك الوقت, وأُطفئت النيران وفتحت الأبواب أخرج الرجال ولم يعرفوا, وقد كان عمي موظفاً مرموقاً في الإطفاء (الدفاع المدني). وقد فارقوا الحياة وبقي (الأسيود) فيه رمق، وحين سئل قال: معي (أحمد عقيل وعبد الرحمن مجحود, وواحد حجازي من جماعتهم _يعني سعدي بن ضرمان) ثم توفي (يرحمهم الله) وتعرف عليهم للتأكد ابن عمي (سعيد) بمعرفته لسيارة والده. يقول (عبدالله بن محمد): كنت معهم في ذلك الوقت, وتمنيت أن أركب معهم في السيارة لكنني تأخرت قليلاً فذهبوا بدوني..
وكثيرا ما يتذكر والدي مقولتهما منذ زمن, وأمنيتهما إذا جاءت الوفاة, أن يموتا معاُ: (عبدالرحمن بن مجحود, وعمي).





* * * * *

حصلت على (الشهادة الابتدائية ) عـــام 1378هــ, وكأنها شهادة الدكتوراه, والدي يود أن أذهب إلى معهد المعلمين الابتدائي الذي افتتح حديثا في (عراء/بني ضبيان) أما أخي عبدالهادي فقد اقترح أن أدرس في متوسطة بلجرشي الجديدة وتبعد عنا ثلاثين كيلاً, وهي المتوسطة الوحيدة في المنطقة, كان يستمع إلى هذا الحديث أحد الأرحام من المنطقة وكان مقيما في الطائف, فأبدى ترحيبه بأن أدرس في الطائف, وأسكن معه في منزله بعد وفاة عمي.
كانت هذه الفكرة غاية ما أتمناه بأن أرحل للدراسة في مدينة الطائف, فرحت فرحاً شديداً, فلم أصدق أنني سأذهب إلى الطائف وأقيم فيها للدراسة, رافقت والدي إلى الطائف للمرة الثانية من أجل أن أسجل في المتوسطة أو المعهد,.. لم أقبل في المعهد _لصغر سني_ كما قيل لنا, وكان المعهد أو مقر التسجيل في مبنى مجاور لمقر إدارة التعليم السابق في حي العزيزية, وفي المدرسة المتوسطة العزيزية سجلت للدراسة بها, وكان موقعها في شارع الملك فيصل, ثم انتقل مقرها في (نجمة) تلك المباني الفخمة في ذلك الوقت (تبرع بها للتعليم محمد سرور الصبان يرحمه الله), وتضم المتوسطة والثانوية بمسمى (المدرسة الفيصليّة المتوسطة والثانويّة) ومديرها حين ذاك (الأستاذ حامد مير) يرحمه الله, ودّعني والدي عائداً إلى(الحجاز), بعد أن قام بشراء حاجاتي البسيطة , وأصر على إعطاء (رحيمنا محمد بن علي) يرحمه الله مبلغاً وقدره (مائة ريال), فرفضها قائلا: (أتريد أن تعطيني مصاريف طعامه؟ هذا لا يمكن, فأقنعه والدي قائلا: (إنها ليست للطعام, اعتبرها لفسحة المدرسة كل يوم نصف ريال).
أقمت مع صهرنا هو وإحدى زوجاته (من الحوطة) لا أكاد افهم حديثهما وكنت أعاني من الخجل والوحدة والغربة, كان يقيم مع الأسرة غلام في سنّي من أبناء (الديرة) لأهله صلة أو معرفه بربّ هذه الأسرة (محمد بن علي) فأُرسل للطائف للعمل في فترة الصيف فكان يعمل في هذا المنزل (صبياً), وفي المحل يقوم بجلب المقاضي والمهام الأخرى, فكان سلوتي في هذه الغربة لعدة أيام, لكن مشاعر الحزن على ذهاب والدي وفراق أسرتي, واشتياقي إلى قريتي البعيدة أخذت تتزايد حين علمت أن هذا الذي يؤنس غربتي سيذهب ويعود إلى أهله ليدرس بعد فتح مدرسة ابتدائية في قريتهم, وتفاقم إحساسي بمرارة الغربة والوحدة بعد أن سافر (خميس), وبالتدريج وبطريقة غير مباشرة، أخذت أقوم بمهام (خميس) في خدمة الأسرة في المراسلات فلا أجد غضاضة أو إحساساً ما, أول الأمر لكنّي تفاجأت بعد ذلك, بأن معارف (رحيمنا) وجيرانه في السوق وفي المنزل يعتبرونني (الصبي) صبي هذه الأسرة, وأنا البديل للصبي السابق (خميس) مرّ رجل برحيمي (محمد), وتحدثنا قليلا, ثم قال له: (أرسل لي الصبي..) يعنيني طبعاً, فلم يكلف نفسه بالتعريف بي, بأني لست (صبيا), وتذكرت عبارة: (ياواد تجاود..) فتزايد قهري وحنيني للعودة إلى أهلي, فأنفرد بنفسي باكياً منطوياً..
لم يكن الوسط المدرسي أخف وطأة, فلم أستطع الاندماج أو الانسجام مع من حولي, أجلس منفرداً مع أوقات الفسح, اكتشف كثير من طلاب الفصل أنني أتحدث بكلمات ذات لهجة قروية يضحكون منها, فأتوقف عن التحدث معهم, أما مادة الانجليزي فكانت أثقل الدروس علي, منذ أن بدأ المعلم يحفظنا نطق بعض المفردات, ويطلب منا ترديدها جماعياً, ثم فرادي ومنها مثلا (ييس... نو) ولا أدري ما الذي يضحكهم حين أنطقها, وسرعان ما يضحك المعلم, ثم ينفجر التلاميذ يضحكون مني, وكرهت الانجليزي, ومدرس الانجليزي.. حتى الدراسة كنت أذهب إليها بجسمي أما قلبي وعقلي فهما يحلقان هناك عبر المسافات البعيدة نحو قريتي الحبيبة "رغدان".
علمت أن أحد أبناء العم من المقيمين في المدينة انتظم للدراسة في هذه المدرسة, فاستأنست به, مع أنه يدرس في فصل آخر.. فرحت بوجوده لتبديد وحدتي, وكآبتي في الييت وفي المدرسة, وكنت أشاهده يحضر إلى المدرسة قبل الدخول, وأبحث عنه في الفسحة أو بين حصة وأخرى فلا أراه؟! وكل يوم لا همّ لي سوى البحث عنه داخل المدرسة، أشاهده يومياً قبل الدخول, لكنه يتجنبني, وينسحب عني بطريقه لبقة ثم لا أجده؟! حيّرني أمره, سألته في صباح أحد الأيام عن مكانه وأين فصله, قال: إنني موجود, لم تقنعني إجابته, تساءلت في نفسي, لعله لا يحب أن يلتقي بي, فعزمت بإصرار على مرافقته لندخل إلى المدرسة معا ولأعرف فصله الدراسي, لكنه بقي بجوار المدرسة, ولم يدخلها, ودخل جميع الطلاب, ولم يبق إلا أنا وهو, وتلميذاً آخر بقي بعيداً سألته: لم لا تدخل المدرسة؟ قال: وأنت لماذا لاتدخل قلت: إنني انتظرك, فأجابني متذمراً مني: لن ادخل اليوم.
أين ستذهب.. هل أنت مريض؟ لست مريضاً.. فلم أقم بحل الواجبات, فهل تذهب معنا إلى شهار, فنشتري (تميسة) ونفطر في (قهوة) هناك.. في قهوة البستان. استنكرت هذا الأمر قائلا: أتريد أن نهرب من المدرسة؟! فأجابني بغضب.. ادخل.. ادخل. ماذا تنتظر؟!
وركبا الدراجة (البسكليت) وانطلقا تتبعهما نظراتي الحائرة.. بلغ ضيقي مداه من كل شي.. البيت.. المدرسة.., الطائف كله ضاق بي, لم أهتم بالدراسة, وحل الواجبات, ولم أجد من يحس بحالتي وعقدتي النفسية التي تراكمت من كل جانب تبخرت تلك السعادة التي كنت أنتظرها للعيش في مدينة الطائف, كان كل همي أن يأتي والدي لأعود معه.
ذات يوم وصلت إلى المدرسة متأخراً, المنزل يقع من حي الشرقية من جهة وادي وج, والمدرسة في (نجمة) دار التوحيد حالياً, وذهابي على الأقدام.., حين وصلت وجدت الطلاب قد دخلوا.. عدا من يريد الهروب, وجدت ابن العم ومعه آخر, سألته ماذا تفعلان؟ قال: (سنفرك) سألته: ماذا يعني؟ قال: (سأغيب) قلت: سآتي معكما, وكان مع كل منهما دراجته, فكم كنت أتمنى أن أتعلم قيادة (البسكليت) أو ركوبها على الأقل, رحبا بي فرِحَين, ركبت خلفه على الدراجة, وأكاد أسقط بين مرة وأخرى. وصلنا إلى مقهى البستان بعد شراء (التميس والجبنة والسجائر والفصفص) كانت القهوة ترى منفردة من بعيد في حي شهار الخالي من العمران حينذاك، سببت لرفيقي ضيقاً وتذمراً لسقوطي عدة مرات من فوق الدراجة, وبقينا في المقهى حتى وقت الانصراف, ثم عدنا إلى المنزل, وتواصل التغيّب مره بعد أخرى بهذه الطريقة, فكانت النتيجة نصف العام الرسوب في أكثر المواد, مع نجاحي في ركوب (السيكل) وقيادته

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس