الموضوع: مقال اليوم...
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-20-2009, 10:34 AM   رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
أحمد بن فيصل is on a distinguished road


 






الوشاح
الخميس, 19 نوفمبر 2009
ثريا الشهري
يروي الفيلسوف السويسري جان جاك روسو قصة حصلت له وهو في الـ16 من عمره، وكانت أحد أهم الأسباب التي دفعته في ما بعد إلى كتابة «اعترافاته» أو مذكراته، وملخصها أنه كان يشتغل كخادم لدى إحدى العائلات الإيطالية بعد هروبه من أهله في جنيف، وفي يوم وقع بصره على وشاح جميل فقرر سرقته وإهداءه إلى خادمة تشتغل معه وكان اسمها «ماريون»، ولكن انكشف أمره فخاف، فاتهمها بالسرقة، فطلب سيد البيت منهما المثول بين يديه ليعرف الحقيقة، وقد بهتت المسكينة وراحت تتوسل وتحلف الأيمان بأنها ليست الفاعلة، وهي تنظر إلى روسو باستعطاف وعتاب ظل يلاحقه طوال حياته، وبخاصة حين قالت: «كنت أعتقد أنك شخص طيب، هذا لا يليق بك، ولا أحب أن أكون مكانك»، ولكنه، وبإصراره على الكذب حتى الوقاحة ألصق التهمة بها، فاستحقا الطرد معاً. إنها الحادثة التي سرقت النوم القرير من عيون روسو، فضميره المعذب أخذ يؤنبه إلى درجة أنه كان يراها في المنام تسأله: لماذا فعلت بي ذلك؟ ماذا فعلت لك كي تحطمني؟ فكانت تتراءى له بعد أربعين سنة وكأن الحكاية حصلت البارحة، فيفيق والدموع تملأ عينيه، حتى تضخمت هواجسه وكبّر له عقله حجم الخطيئة إلى أن تحولت إلى جريمة تقريباً، متسائلاً في لحظات الخلوة مع نفسه: ماذا حصل لماريون التي لم تؤذ أحداً في حياتها؟ أين ذهبت الفقيرة، وفي أي الدروب ضاعت؟

كلمة أخيرة: بسبب حادثة ولد أصدق كاتب عرفته أوروبا، صادق إلى حد تعرية نفسه بضعفها وقصورها، مؤسساً بعذابه مبدأ محاسبة الضمير في الفكر الأوروبي المعاصر، يقول روسو: «ما كنت أخشاه بعد اندلاع الفضيحة ليس العقاب ولا الضرب أو الطرد، وإنما العار، حتى كنت أخشاه أكثر من الموت»، وهو ما اضطره إلى اتهامها، في مفارقة محزنة، فالسرقة - وهي لا تبرر - كانت لوشاح ليهديه لفتاته، فإذا بالهدية تنتقم منه ومنها، ولا أدري لم ربطت بينها وبين رغيف «جان فالجان» الذي ظلت سرقته تطارده بلعنتها في رائعة «البؤساء» لـ «فيكتور هيجو»!!.

وإن كانت قصة روسو لم يخطها الخيال، إنما الفكرة أن حادثة واحدة في حياتك قد تمر بك وتتكفل بكتابة تاريخ أيامك حتى آخر لحظة، حادثة واحدة تنفضك نحو الأعلى أو تجرك إلى الهاوية وفي الحالتين لا تخطط لها، مثير ولكنه مخيف هذا الأمر، والأكثر منه أنك «قد لا تعي ماهو»، فقد يحصل لك في طفولتك أمر ما، وكل ما سيأتي وما ستقوم به لاحقاً يدور حوله دون إدراك منك، وعلى العموم، قصة روسو تقودنا إلى أهم ما في الموضوع وهو الصدق وفضيلة الضمير الحي، فلا حضارة من غير صدق وثبات على المبدأ، فأين حضارتنا وقد تعودنا على خداع غيرنا حتى انتهينا بخداع أنفسنا! فلا نكره الكذب إلا إذا كان كذباً علينا، ومن السهل علينا تصديق كذبة سمعناها مراراً وتكراراً على أن نؤمن بحقيقة لم نسمعها حتى وقعنا ضحية الأكاذيب والألاعيب، حتى لم يعد هناك من يصدِّقنا إذا صدقنا، فمتى نؤمن أن الصدق يحررنا؟!

وقالوا: «الصدق أهم من الحقيقة» فرانك لويد رايت.

 

 

   

رد مع اقتباس