عندما أسرد قدرا من معاناتي بالعمل بإحدى قرى الطائف النائية في تلك الفترة ( 1391 هجرية ) حيث تخلو القرى من مقومات الحياة والاحتياجات الأساسية والطرق غير المعبدة التي تصل إليها , لست الوحيد ممن قاسى حياة البعد عن الأهل وعدم الاستقرار وتحمل مشقة الحرمان والسفر , هناك آخرون يتعايشون مع تلك الظروف وهم مستمتعون جدا وقد لا ينظرون إلى ما يمرون به على أنها مشقة ومعاناة , ذلك أن طبيعة البشر تختلف من شخص لآخر في تعامله مع الحياة .
مثال على ذلك : تعين معلم زميل لي ( حسين بن رجا ) في مدرسة أبعد منى بمسافة مائة وعشرين كيلا من الطائف وهي مدرسة أكثر من نائية وصادف أن المدرسة جميع معلمي المدرسة متعاقدون وهو المعلم الوطني الوحيد بينهم , ومدير المدرسة المتعاقد كان يتعامل مع زميلي الشاب النحيل الأسمر بقسوة وفوقية , لكن صادف أن بدر من المدير مشكلة إدارية – لا أتذكرها حاليا - على إثر تلك المشكلة حضر المفتش الإداري الأستاذ ( محمد أنور ) رحمه الله وكان أديبا مشهورا بعلمه وسعة اطلاعه وشخصيته وقدراته الإدارية الفذة ولا غرابة في هذا فقد كان يوما ما مديرا لإدارة تعليم الباحة لسنوات خلت .
بعد أن تقصى المفتش الإداري الأمور واتضحت له الحقيقة , أصدر أمرا بإعفاء المدير السابق ونقله معلما إلى مدرسة أخرى وفي نفس الوقت عرض على الزميل ( حسين ) استلام إدارة المدرسة فوافق على هذا العرض وقام بإدارتها على الوجه المطلوب وأكثر بالرغم أنه حديث التخرج وعمره لا يتجاوز الثامنة عشرة .
وكمثال بسيط على القدرات الإدارية النادرة لشاب في مستوى تعليمه وعمره :
كما هو معروف أن طلاب الصف السادس كان يتم تجميعهم من مختلف القرى لأداء الامتحان النهائي في مراكز لجان موزعة داخل مدينة الطائف فيفدون من الضواحي البعيدة إلى تلك المراكز دون النظر إلى صعوبة المواصلات والسكن , بعضهم يفد من مسافة مائتي كيلومتر ولا يوجد نظام للإسكان والتغذية , كل ولي أمر أو مدرسة تتصرف بطريقتها الخاصة
الزميل ( حسين بن رجا ) يقوم بتجميع طلاب مدرسته نهاية العام ويحشرهم جميعا في سيارته ( جيب شراع ) عددهم في تلك السنة اثني عشر طالبا , ثم يستأجر لهم على حسابه مسكنا – كما قال لي شخصيا – في حي باب الريع بالطائف لتأدية الاختبار بالمدرسة السعودية , ويسكن معهم طيلة فترة الاختبار منظما ومتابعا لهم أوقات المذاكرة يوميا حسب جدول الاختبار , بل كان يقوم بشراء لوازم التغذية من حلقة الخضار واللحوم بباب الريع ويطبخ لهم , يقول : كنت أشتري لهم ( كرشة وتقاطيع ) باعتبارها الأنسب سعرا , مع خبز التميس البخاري وشاي وأحيانا فول , كل هذا بشكل يومي حتى تنتهي فترة الاختبار المقدرة بعشرة أيام , ثم يعود بهم إلى أهاليهم بعد انتهاء المدة .
يحدثني وهو مسرور أن جميع أولئك الطلاب اجتازوا الاختبار بنجاح ومن المؤكد أن ذلك النجاح يختلف عما نشاهده هذه الأيام من نجاح وترفيع آلي لا طعم له ولا أثر , مقارنة بتلك الأيام التي تتسمر فيها الأسر عند المذياع لسماع نتائج الشهادة الابتدائية التي تصحح في العاصمة الرياض ويوضع لكل طالب ترتيبه على مستوى المملكة , بل كان الكثير يحصل على بشارة نقدية إذا بلغ أسرة بنجاح ابنها قبل سماعهم للخبر مباشرة من المذياع .
ولما سألته : لماذا لا يقوم بهذا العمل آباؤهم وتوصيلهم إلى مقر لجان الاختبار بالطائف , أوضح لي أن الأهالي كلهم فقراء وليس لديهم أي سيارة في القرية , وأنا بصفتي المدير رأيت أن أداء الطلاب للامتحان يقع ضمن مسئوليتي , ولو تأخروا عن أداء الامتحان فقد أكون أنا المسئول عن تبعات هذا الأمر .
من خلال هذا المثال يتضح لنا نوعية أولئك الشباب المخلصين المتفانين في عملهم بلا حدود حتى أنهم يكملون ما لم يقم به الآباء تجاه أبنائهم , أو الإدارة التعليمية تجاه طلابها , فقام الأستاذ حسين بسد تلك الثغرات بجهده وماله بطيبة نفس وبأريحية تفوق كل تصور* .
تكملة للدور الإنساني والإداري والتربوي للزميل الذي أشرت إليه آنفا ( حسين بن رجا ) بعد قرابة ربع قرن عام 1417 هجرية كنت مسئولا عن المراكز الصيفية وعملية تحديد أماكن افتتاحها ومتابعتها , كنا غالبا نبحث عن مدير متعاون ونشط أمثال الأستاذ حسين لكي يستضيف تلك المراكز الصيفية بعد أن أصبحت المدرسة التي يديرها في قريته مجمعا كبيرا لمدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية , خاصة وأن الميزانية المقررة لكل مركز تتأخر عدة أشهر لكي تصل من الوزارة , فيقوم المدير بتدبر الأمر بطريقته الخاصة حيث يتعاون معه متعهدي التغذية ومحلات الرياضة والجوائز لتأمين المتطلبات بالأجل من باب الثقة في المدير , وأحيانا يدفع المدير من ماله الخاص حتى تصله المبالغ من الوزارة بعد عدة أشهر حيث نبلغه بوجودها حال وصولها لصندوق الإدارة .
كان من طبيعة عملي فيما بعد القيام بزيارة تلك المراكز من باب الدعم المعنوي لهم أولا فهم أصلا محل ثقة ويقومون بأعمال مميزة بمنتهى الإخلاص والتفاني , وعندما وصلنا للمدرسة أنا وزميل لي على شكل لجنة للمتابعة وعلى غير موعد مسبق لم نجد أحدا في المركز الصيفي عصر ذلك اليوم , وساورنا شك أن هناك شيء من الإهمال أو أنه لم يسجل أحد من الطلاب بالمركز , بالرغم أن المقر مفتوح تجولنا داخله وأخذنا جولة خارجية ولم نشاهد أي أثر لأي معلم أو طالب .
في تلك اللحظات وبعد مشوارنا الطويل قدوما من الطائف لابد لنا من الانتظار لكي نستبين الأمر بأي طريقة إذ أن هواتف الجوال تلك الأيام لم تصل بعد , وفي أثناء وجودنا خلف مبنى المركز لاحظنا طابورا من الطلاب على مسافة بعيدة وهم بلباسهم الرياضي قادمين باتجاه المركز , هذا أمر طبيعي أن يكون ضمن فعاليات المركز نشاط رياضي جماعي , لكن المثير في الأمر أن الأستاذ حسين كان يتقدم ذلك الطابور بطوله الفارع وسحنته السمراء يرتدي زيا رياضيا في وسط المعمعة فقد شارك أبناؤه الطلاب ميدانيا في نشاط سباق الضاحية , وهو بهذا يضرب مثالا رائعا آخر شاهدته بنفسي بعد ربع قرن من عمله الإنساني الأول تجاه طلاب الصف السادس .
لا نعلم كم من المآثر قدمها ( حسين بن رجا ) ذلك المعلم المخلص تجاه أبناء وطنه في الفترة من أول سنة رشح مديرا حتى مقابلتنا له بعد ربع قرن ! وكم من عمل مماثل قدمه حتى أنهى عمله الوظيفي ؟ وفي نفس الوقت أتساءل ؟ هل تم تكريم ذلك المربي القدير تكريما يليق بما قدم تجاه وطنه ؟