ليس أثر الإنسان وليد ما يتقن بل هو وليد ما يصنع وما يقوم به في هذا العالم ،
وليس كل شخص يصنع ما يتقن.
فكم من عالم ضيع عمره في البحث عن المال ومصادره والتجارة ومظانها
وكان ذلك على حساب ما يتقن من نشر العلم والفضيلة.
وكم من كاتب بارع ضيع عمره في وسواس الجودة فكلما كتب مقالاً أو كتاباً
عاد النظر فزاد ونقص وأضاف وشطب حتى تهالكت الورقة بين يديه
وغاص بين ركام الورق ، وما زال هذا حاله حتى مات الكاتب والمكتوب!.
وكم من شاعر أديب ضاع أدبه وشعره في تلك الصالونات المختصرة
واللقاءات الهامشية غير المجدية.
كل هؤلاء وأمثالهم ضيّعوا كنوزاً عظيمة.
ولعلي أضرب لكم مثلاً:
هل رأيتم التاجر الحاذق الذي جعل من ليله ونهاره وجده وهزله ومنشطه وكسله
معبراً لجمع المال وتخزينه وعاش معيشة الفقراء ولبس ما يلبسه المساكين
فلا هو أراح نفسه من عناء الجمع ولا هو بالذي انتفع ونفع بماله.
أليس كلنا يزدري ذاك الرجل ،
ففي ظني أن هذا التاجر أكثر نفعاً في الأمة
ممن كتم علمه وأضاع جهده في دائرة تضيق ذرعاً بما يملك من معرفة.
فالتاجر ماله يورث لغيره وقد يجد من يفعّل ماله تفعيلاً مناسباً ويستخدمه استخداماً نافعاً
بينما هذا يموت علمه بموته.
لذلك ينبغي علينا أن نقف مع أنفسنا وقفة صادقة وكل منا يسأل نفسه:
ماذا أتقن؟
وماذا أنفقت مما أتقن؟
وهل يتناسب عطائي مع مستوى إتقاني؟.
أقول: ليس بالضرورة كثرة الإنتاج بل ينبغي أن يتناغم الإنتاج مع حاجة الآخر به ،
فالأديب الذي يؤلف كتاباً عن حياة أديب هندي مغمور أدبه لا يتجاوز قريته التي عاش فيها
لا يلاقي كتابه أثراً في الأمة بقدر لو ألف كتاباً يوثق فيه ما كُتِب في حقبتنا هذه
من أدبيات حول قضايانا المصيرية.
وكذلك الفقيه الذي يناقش في بحث مطول - وقد يستهلك مئات الأوراق - حول أحكام الرقيق
يختلف أثره في الأمة عن ذلك الفقيه الذي يكتب بحثاً أو حتى تقريراً
قد لا يتجاوز بضع صفحات حول نازلة ملمة حارت بها البصائر .
وما أريد الوصول إليه عبر هذه المقالة المقتضبة:
أن لا نضيع جهودنا وما نتقن من فنون في أمور
قد تُضَيِّع علينا الثمرة الحقيقية لمخزوننا الثقافي ،
وتفوت علينا الفرصة السانحة في الارتقاء بمن حولنا ،
ووضع بصمة يصعب تقليدها في هذا العالم.
ولا تكون هذه البصمة إلا بالتناسق بين ما نتقن وبين ما نقوم به من إنتاج من جانب
مع مراعاة ما تحتاجه مجتمعاتنا من جانب آخر.
وأقول:
لا ترخص فهمك وعلمك في سوق التواضع الكاذب ؛
لأنك تفسح الطريق أمام من لا يستحق ،
كما أنه ينبغي عليك أن لا تقتحم مجالاً لا تتقنه فتزاحم من يستحق.
إننا أمام ميزان دقيق ينبغي علينا مراعاته حتى يكون تفاعلنا مع هذا العالم تفاعلاً صحيحاً صائباً،
وأن نصنع شيئا يذكر في سفر الحياة .
أعجبني فنقلته
تحياتي
...........