يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحات الموروث والشعر والأدب > ساحة الأدب الفصيح

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-12-2011, 01:10 AM   رقم المشاركة : 1
عبدالعزيز مشري الحياة "نص" والكتابة" انزياح"


 

القراءة كاملة




عبد العزيز مشري
الحياة " نص " والكتابة " انزياح "




علي الدميني

1 ـ من غواية اللون ... إلى فتنة الكتابة !
تبدو كل كتابة إبداعية ملاذاً لما يوشك أن يندثر من حياتنا، أو طريقاً للكشف عما لا يتضح أمامنا إلا بها.
إنها مصباح الخلوة، ووقار الحنين، ويقين الحضور، ونافذتنا على ما لا نعرف أنفسنا – ككتاب إلا به – ولا نتعرف على الآخرين إلا بواسطته.
هكذا كان يرى عبدالعزيز إلى ما وراء بياض الورقة أمام نظارته وضوء عدسة التكبير، وهكذا أخلص للحرف وللكتابة مستمتعاً بألق استعادة سيرة حياة البسطاء الذين استعار لهم كلمة " أندريه مالرو " التي تقول: " ينبغي أن نحاول توعية البشر (البسطاء) على العظمة الكامنة فيهم والتي يجهلونها".
ولذا فإن أيامه كلها قد أضيئت بقنديل تحويل تلك العظمة إلى كتابة.
ولعل طموحاً كهذا لا يعدو أن يكون مشتركاً بين كثير من المبدعين، ولكن عبدالعزيز تميز في هذا المجال بإرادة استثنائية، وذاكرة لونية وحكائية خصبة، ومزاجٍ يستمتع بالمفارقة ويجيد استثمارها حديثاً وكتابة.
وقد احتفت ذاكرته البصرية بلمعان اللون وتبدلاته في الطبيعة وحياة الناس في القرى، وامدته بالقدرة على خلق جماليات التجاور والانسجام في أعماله التشكيلية والسردية.
أما ذاكرته السمعية فقد كانت تحسن الإنصات لالتقاط الحكي الشفاهي سواءاً ما تم القبض عليه وتحويله إلى نص سردي يجد مرجعياته في واقع المعاش القروي اليومي أو في الثقافة الشفوية التي تكون الحكاية الشعبية أحد أركانها، أو في ما تم التقاطه من حياته في المدن ومعايشته للمرض والمرضى وعالم المستشفيات.
وإذا كنا نعرف ان مواهب عبدالعزيز الغنية تؤهله ولا ريب للكتابة وفق ما يفتحه السياق السردي من إمكانيات إبداع متخيل سردي موازٍ للواقع – وهو ما نراه في بعض قصص " موت على الماء " وسواها من المجموعات الأخرى – فإنه ولأسباب عديدة، اختار مغامرة الاشتغال على شفوية الحكي وبناء نص سردي بسيط وعميق في تجلياته الجمالية والدلالية.
ولأن الكلام لا يستطيع أن ينهض بوظيفته التحليلية دفعة واحدة، فسأكتفي بالقول بأن عبدالعزيز كان مفتوناً – في حياته اليومية مثلما في حياته الإبداعية – بالإنتباه الحميم إلى جمالية المفارقة الكامنة في حياة البسطاء وفي نسيج حكاياتهم اليومية والعفوية المغمورة بعتمة الهامش.
ولذلك استطاع الإمساك بالحزن القابع خلف الحكاية وإعادة رسمها بعيون تجيد غسل الألم بالكلمات ودعابة المفارقة، وانشغل بعملية إدماجها في نظام نصي مكتوب يهيئوها للتفاعل مع سياق متن الثقافة المكتوبة.
يقول في قصة الضوضاء والازدجار في مجموعة " الزهور تبحث عن آنية":
( أربع دورات ... دارها " عويد التهامي" حول مراكز الباعة، مفترشي الأرض بسوق الخميس.
.....
بيده اليسرى رباط قصير معقود برقبة الحمارة، وباليمنى مشعابه المشهور في كل القرى المجاورة بـ "طِع شَوري":
.......
و ..." طع شوري" ، هي آخر حد للتفاهم مع من لا يسمع رأي " عويد التهامي"، فإن سمعت قوله .. وإلا فإن " المشعاب سيغني"، وعليك بالطاعة وقتما يصوب "عويد التهامي" عينية اللتين يكاد يصيبهما الحول، إليك، ويشملك بالنظرة التي لا غناء لموال من التفاوض بعدها إلا ضربة" المشعاب".
وهناك قول آخر، وأخير من لسان"عويد التهامي" قبل هجوم مشعابه" طع شوري": " المشعاب بيغنّي"، وغناؤه لا محالة هو الضرب به.)
وعويد التهامي ليس شخصاً من الواقع – مثله مثل الكثيرين من ابطال نصوصه – وإنما هو شخص يسكن مخيال الحكاية الشعبية الشفوية، وقد قام عبدالعزيز بإخراجه منها وإستضافته زميلاً له في فراش المرض في أحد مستشفيات الخبر ليشاركه تعب " الديلزة" ومواجهة الموت لتأخذ المفارقة المركّبة موقعها ما بين حال وحال.
وبذلك فإن عبدالعزيز لم يكن يسجل الحكاية الشعبية تسجيلاً فوتوغرافياً او سماعياً وإنما كان يعيد الاشتغال على بعض عناصرها، إضافة وحذفاً، ويحولها – وفق رؤية فنية ونقدية تتغيا إنقاذ الحكاية من الموت – إلى عناصر فاعلة في نظام مكتوب ينتقل معه النص الشفوي من صيغة الترحال إلى صيغة الاستقرار كعنصر حي من عناصر الثقافة المكتوبة.


2- مرجعية اللون
(( كانت الشمس تجمع سيلانها الأصفر نحو الغروب، وكان الغروب يجرجر مع نهاياته الحوافر والأظلاف وشقشقات الدجاج في الساحات، وكانت الآذان الفطنة تقتنص من غير حدس مزاليج الأبواب على المواشي)) – من مجموعة أحوال الديار-.
في طفولته المبكرة انتبه عبدالعزيز إلى عملية تشكيل اللون – لا في محترفه الخاص – ولكن في ذلك الامتزاج الخصب الكامن في تعدد الالوان وتغيرها بين المكان وتبدلات الفصول الأربعة على قمم القرى الجبلية التي تحظى بكرمٍ خاص لا مثيل له من توالي تغير الألوان وانتقالها من النقيض إلى النقيض.
وفي مناخ القرى الجبيلة يلبس كلّ حيٍّ لونه وكل جماد سمته المتبدِّل حتى تكاد أن تقرأ أسماء الفصول على وجوه الرجال، وألوانها في عيون النساء، وإيقاعها في خطوات الطفولة والتفاتات الصبا الباكر.
وهناك حيث يغمس المرء أصابعه في الغيوم، ويكون قريباً من تحليق الطير في الأعالى يمكن له أن يلمس الشمس وهي تبتسم للمنحدرات كل صباح، وأن يدفعها بيده وهي تنطفىء خلف القمم التي – للتو – هبط من أعاليها وهو يتتبع بهدوء أواخر التعب خلف بياض قطعانه أو سواد ماشيته.
لم يكن عبدالعزيز يحيا هذه التفاصيل كغيره من الآلاف الذين عايشوا حياة القرى – وغادروها كعابري سبيل – ولكنه كان يؤثث بها مخيال ذاكرة الالتقاط الحميم لتفاصيل الأشياء – القابلة للاستعادة فيما بعد – ويتفاعل آنياً مع بهجة تعدد الألوان وإيقاعاتها المرتبطة بحركة الإنسان في المكان، حيث تكتب الفصول حكاياتها على الحجر والغيوم ومنابت الشجر والأنهار الصغيرة والوجوه والأقدام، فتكون مطريّة لدنة في الربيع والصيف، وتخضرّ البيوت والقطعان وتدرجات الأودية وقلوب البشر ومواسم أفراحهم، وتغدو ترابية جافة منكسرة لها طعم الغبار و جهامة الغابات العارية من أوراقها أيام القحط وانحباس المطر.
وقد تفتحت بصيرته اللونية على عالم ولود حفزه مبكراً على التعبير عن حساسية علاقته بمحيطه "بالرسم" ، فنمت ملكة القدرات الأنيقة لخلق ممكنات التجاور والامتزاج بين الأشياء الصغيرة والمرئية والمتخيلة في عالمه الشخصي والبيتي والعملي والثقافي.
ويمكن لنا القول أيضاًَ بأن ذلك "الوضوح" الضارب في الحسم بين الألوان التي تفتحت طفولته عليه في القرية قد أمده بتكوين صارم يجيد التمييز بين الألوان والمواقف الحياتية أيضاً، حيث كان واضحاً مع نفسه ومع الآخرين بدون مواربة، معتداً برأيه وما أختطه لذاته من رؤى وقناعات، حتى وإن بدت للأقربين بعيدة عن سياق المنطق أو غير ملائمة للظرف المرحلي.
وفي تجربته مع الرسم اتسمت حركة الفرشاة على صفحة اللوحة بتمايز الكتل اللونية وحرارة الألوان وكثافة الخطوط مع الاشتغال بمهارة لإقامة الانسجام بين الأشياء المتجاورة، أما فيما يخص التوازن بين عالمي الحضور والغياب فقد كان يميل إلى جانب إبراز الأول على الثاني متأثراً بحركة تبدلات اللون الحادة في الطبيعة وانعكاس ذلك على سلوك الناس وأمزجتهم.
وفي لوحاته الزيتية، التي يقارب فيها عالم المرأة، يتم التركيز على زوايا التقاط تضعها في قمة الهرم الإنساني والأخلاقي، فيما يتم إغفال ما تنطوي عليه من مثيرات عاطفية وحسية. ويتوازى هذا المنحى مع ما يدونه في سردياته عن المرأة، حيث يحتفي بإبراز جوانبها الإنسانية والأخلاقية المثالية حتى لتبدو أحياناً ككائن فوق بشري.
وهنا نرى عبدالعزيز وكأنما – أو هو كذلك – يكره الحديث عن نفسه فيذهب إلى علانية الكتابة عن الآخرين في سردياته تاركاً التعبير عن حميمية العلاقة الوجدانية والحسية بالمرأة تقبع في خلوة الفنان الخاصة، ليبوح لها بترنيماته الشعرية ويجسدها في لوحاته المرسومة بالقلم، فيشدنا إلى خطوطها الدقيقة وزواياها المقوسة وغموضها الممتزج بمباهج الجسد وتقاطعاته مع محيطه الذاتي ليرقى الكشف عن دلالاته إلى ما يشبه تحقق الرغبات المكبوتة ذاتها.
ولذا فإن اللوحة المرسومة بالقلم – وقصائده المدونة في ترنيمات – قد انشغلت بإبراز حضور الغائب و ما سكت الكاتب عنه في علاقته بالعالم الحسي والوجداني للمرأة، لتقوم اللوحة والقصيدة بعملية إعادة التوازن إلى منظور تلك العلاقة الطبيعية والحلمية لنقرأ فيها فتنة الروح العاشقة و رغبات الجسد المكبوتة حيال الأنثى، والذي جرى تفتيته وتغييبه عن عمد قسري ، في النص السردي، وفي اللوحة الزيتية، استجابة للمواضعات الاجتماعية.
ولأن الرسام يعيد بناء كل شيء حوله بقدرٍ من المماثلة أولاً، وبدرجات من الإنزياح ثانياً فإنه يختزن الكثير من هذين الفعلين حتى وهو في أقصى حالات الابتكار والخلق والمغايرة، ولعله بذلك يكون أكثر التصاقاً بالعالم المادي – الذي يشتغل عليه ويعيد تشكيله ويستنطق لغته الأخرى – من بعض المبدعين الذين يكون وسيط تعاطيهم مع الواقع هو " التجريد / اللغة " الذي ليس أكثر من معادل رمزي للوجود العياني.
ولقد تبدت لنا – مجموعة أصدقائه في جريدة اليوم حين استقر معنا للعمل في أوائل 75م – سطوة اللون على أعماله فيما ينقشه من لوحات فنية ولوحات " الخط العربي" وقصصه القصيرة، حتى أن أحد الأصدقاء النقاد – محمد الأنور عشماوي – نصحه بالتركيز على الرسم، لكن عبدالعزيز اختار وبعناد طريقه المتعدد المهموم باللوحة والحرف والكتابة والعزف على العود، جاعلاً من تلك الملاحظات وسواها دافعاً للإيغال في الاستفادة من ملكته اللونية وإيقاعاتها وتطويعها بنجاحٍ لافت في كتابة النص السردي.
ويذكر في هذا السياق صديق طفولته ودراسة المرحلة المبكرة، محمد الدميني في مقالة بعنوان " بادئ ذي بدء " :
" ربما لا يعرف الكثيرون أن العمل التشكيلي في حياة عبدالعزيز مشري، كان ينافس العمل الكتابي لديه، وخاصة في الشطر المبكر من حياته الأدبية، ولم يكن التشكيل لديه نشاطاً فائضاً، بل كان أساسياً، فقد كان اسمه ثابتاً في كل المعارض التي نظمت في المنطقة الشرقية، وكان منسجماً في عمله هذا، فلاحق الكتب والنظريات والتيارات ورموز هذا الفن العظيم سنين عديدة وجرب أشكالاً ومدارس وصيغاً، إلا انه لم يستطع السير طويلاً في المجرى الشاق لنهر الفن، فالفن التشكيلي يتطلب عدّة صحية متماسكة، قوامها النظر واليد والقامة الصلبة، وهذه صفات لم ينعم بها المشري – للأسف- كثيراً ، وإلا لكان حاله مع التشكيل حالا آخر، ولربما أختطفه من الكتابة والأدب، وحمله إلى أرض أخرى." (كتاب " إبن السروي وذاكرة القرى" – ص330).

وقد انبثت فاعلية حساسيته اللونية في طريقة تأثيث المكان وزوايا التقاط الصورة، كما كانت عيناه المفتوحة على الأشياء والناقدة لها – تسخر مما لا يبدو منسجماً في ما تراه من لوحات حيث يسخر في قصته (رقم الملف بونابرت) من إحداها بقوله : (( لم يكن يشغلني واحد من المناظر الطبيعية البليدة المعلقة على الجوانب.. لقد بدت جامدة ومغلفة جميعاً بلون ضبابي باهت.. عديم الحياة.. فقيرة الإلفات، بينما كانت أطرها من ذلك النوع الكلاسيكي الفخم والمزين بخطوط ذهبية بيضاء مزخرفة)).
وبكثير من اليقين أستطيع القول بأن هذا الانشغال بالفرشاة وسن القلم لإنجاز اللوحة هو الذي حرض الرسام نفسه على استبدال الكلمات بالألوان والمضي في تفتيق الكلام وحركة "الصواتة" فيه، ونحت المفردة الخاصة التي تستند إلى التقاليد المكتسبة من استخدام الفرشاة لتشكيل العالم باللون، كما أمدته هذه التجربة، من زاوية أخرى، بالشجاعة لاستئناس عالم اللغة وتطويع الكلمات لبناء " النص" المكتوب بعفوية وسلاسة مثلما يشكل تفاصيل لوحاته، حتى غدت الكتابة عادته الأليفة ولوحته اليومية، وفي ذلك بعض ما يفسر لنا غزارة إنتاجه الإبداعي وكتاباته الصحفية معاً.




3- القصة وتربتها الخاصةلأن " كاتب القصة القصيرة – كما يقول محمد خضير – يحتاج إلى دافع خاص به، دافع محليّ، دافع أكثر التصاقاً بشخصيته وتطابقاً مع صفاته .. ( لذا) فإن شرط القصة القصيرة أرتباطها بتربة خاصةٍ بدرجة حرارة ملائمة، بباطنية سيميائية، و طوية شخصانية"، وذلك ما وجده عبدالعزيز ملتصقاً بكيانه النفسي والثقافي في عالمين متناقضين ينتمي أولهما إلى عالم مفعم بجمالية استعادة حياة تشبه التاريخ فيما هي مهددة بالاحتضار المطبق على أزقة القرى وفضاءاتها، وثانيهما عالم المستشفيات الذي ينتمي بتقنيته إلى أفق الحداثة فيما يقود في تفاصيله إلى ما يهدد الحياة بالانقراض.

موت القرية
ينتمي عبدالعزيز ( من مواليد 1375هـ) إلى جيل يمكن النظر إليه كجيل مفصلي عاش نمط الحياة القروية التقليدية في طفولته – كما عاشها أشباهه منذ مئات السنين – ثم مد قدميه في مياه الزمن ليرى صباه يتشكل في مزاج حاضنة متغيرة أخرى وليشهد – مع جيله وأجيال سابقة له ولاحقة – أضخم عملية تحول في تاريخ القرى حين دخلت مع المدينة في عملية تبادل وصراع تجاري وبشري انتهى بعدم قدرتها على المحافظة على أجمل ما تدخره من قيم المعيش القروي المنفتح على حقوقية التعبير وحضور المرأة، ثم بعجز تلك القرى عن منافسة المدينة في إنتاج الخيرات والمهن الوظيفية الكافية لإغراء أبنائها بالبقاء في أحضانها.
وقد خلفت هذه التحولات آثارها الجذرية على حياة القرية حيث بقيت خارج العصر في مراحل التغيرات الأولى مما جعلها تعيش في فراغ زمن راكد، وهذا ما حدا بعبدالعزيز لإرسال رسالة إلى في أوائل عام 75م من قريتنا المشتركة محضره يشكو فيها عطالة الحياة وجفاف ينابيعها هناك ويستصرخني في البحث له عن عمل في جريدة اليوم. وقد تم ذلك بمساعدة الأصدقاء، ولكن المدينة لم تكن حلماً يُسكب في الأقداح بل كانت فضاءً دبقاً يلتهم الغرباء الذين تيتموا بفقدان حنان القرى وبالضياع في أزقة المدن البائسة بحثاً عن مأوى ولقمة كفاف – في بداية سنوات الطفرة التي شهدتها بلادنا منتصف عقد السبعينيات – حيث عمل بوظيفة محرر متعاون في الجريدة براتب لا يتجاوز الثلاثمائة ريال.
وهكذا بدأت أولى المفارقات النفسية والوجودية في حياته بمواجهة صدمة الاغتراب في شوارع المدينة، والافتقار إلى دفء المحيط الاجتماعي والقروي، كما كان عليه أن يستكمل عدة الكاتب بالقراءة، ولقمة العيش بالعمل، ومأوى البدن بالسكن في غرفة بائسة مهجورة في حارة الكهرباء بالدمام يتقاسمها مع بعض الأصدقاء ويشاركهم فيها جيشٌ من الفئران والصراصير.
وفي مناخ كهذا لم تكن مضامين الكتب المتاحة له للقراءة اقل قسوة من تفاصيل معاشه الجديد، فانهمك في قراءة" اللامنتمي ، وضياع في سوهو" لكولن ولسون" ، والوجود والعدم وثلاثية رواية دروب الحرية " لسارتر"، وغريب " كامو" وكوابيس " كافكا" وبعض ما يدخل في نسقها من كتابات عربية ليوسف إدريس ومالك حداد و زكريا ثامر ويحي الطاهر عبدالله، وسواهم.
يقول في قصة " الدمعة والحظ الهارب"
إنك في قاع المدينة
إنك لم تعثر على حظك
اقطف دمعة من قلبك
اقطفها ولفها في منديلك
اقطفها والقها تحت الأقدام
إنك في قاع المدينة
المدينة ...
المدينة!
وهكذا يواجه في حياته الجديدة مفارقة انكسار وعود الشهب الخادعة في سماء المدينة . مدينة التقدم المادي اللاعقلاني حيث يمكن القول بأن لسان حاله آنذاك يتفق مع ما ذهب إليه " ميلان كونديرا" من أن مرحلة حلم الإنسان في الارتقاء إلى مرتبة سيد الطبيعة ومالكها قد تم تجاوزها بدخول "المدينة" مراحل تقدم قوى التقنية والسياسة والتاريخ، ولكن ذلك أفضى بها إلى ما أسماه " هيدجر" بـ (نسيان الكائن).
وإذا كان ذلك التوصيف دقيقاً ومنطبقاً على أحوال المدن الكبرى فإنه سينطبق على مدننا الطرفية الهامشية والمشوهة بشكل مضاعف.. ذلك أنها لم تكن مدينةً قط إلا في عنفها البائس، وأن كل ما قامت به هو طرد الكائن من ملكوتها. وقد كان عبدالعزيز يمد هذا التعبير " نسيان الكائن" إلى أقصى مداه – ولكن بطريقة عكسية – ليطال القرى التي تتعرض هي الأخرى لعمليات الإهمال أو التغيير القسري المفضي بها إلى نسيان الكائن والكيان أيضاً، وهذا ما صبغ إحساسه بالفقد ودفعه إلى الانشغال في جل أعماله على استعادة روح المكان والزمن القروي الذاهب إلى حواف المغيب.



4- شجن الذاكرة ..وقلق الاغتراب
أ- موت على الماء
بقراءة مجموعته القصصية الأولى " موت على الماء" سنلحظ أن أطياف القرية تتسلل بحنان وعفوية بالغة إلى القصص المعبرة عن ذلك الكيان المهيأ للدفن قبل أن تتحول الكتابة عنه إلى مشروع عقلاني وفني متعدد الجوانب تم إنضاجه بهدوء فيما بعد. وفي نفس المجموعة يمكن الوقوف على مشاعر الغربة والتمرد والإحباط والإحساس بمفارقة الأضداد - للمرة الأخيرة في كتابات عبدالعزيز – لارتباط كتابتها بمرحلة فوران الصبا والإحساس المضخم بالألم والأنا والحاجة إلى المرأة
وبدون عناء يمكننا تلمس سيمياء ذلك الاغتراب في لوحة الغلاف التي قام بتخطيطها الأولي ثم نفذها الفنان سمير الدهام، وفي عنوان المجموعة ، الذي أبرز مفارقة" الموت على الماء"، وفي الإهداء الذي يقول: " إلى الغرباء الذين تنتحر خطواتهم على سواحل الصمت، وفي عناوين القصص مثل " الدمعة ... والحظ الهارب"، ثم في بعض تفاصيل البوح القصصي مثل قوله: (( أعرفك منكسر النفس... مهزوم الوجدان... تحمل سجائر أو قداحة تحرق العالم.... أعرفك هادئاً... وسيماً.. تتعثر في الممرات المتعرجة الطويلة ... تبحث عن... وجهك بلون الزيت .. وأنت الماء تنقب عن ماء القلب.
يا وهج الماء..
يا لون الماء..
يا براءة الماء!))
كانت مجموعة" موت على الماء" تجربة كتابية متميزة في سلسلة أعماله، ففيها يتبدى حسه العالى بتوظيف اللون والصوت كمكونين من مكونات لغته الخاصة التي اشتغل على استثمارها في صياغة العديد من تقنيات كتابة النص بدءاً بالكلمة المنحوتة بطريقته الخاصة، ثم التكرار المتوازن للمفردات، واللعب الفني الحاذق بالتقديم والتأخير لتغييب أجزاء من المعنى ( قصة" شوارب القطة" ، وقصة "القطة وعينا صالح" حيث الإشارة من طرف خفي إلى مرموز القطة/ الأنثى)، ثم التعامل مع الحكاية الشعبية والتي تختزن بعض عناصر الخرافة وجعلها جزءاً عضوياً من الحكي وتغييب " ميثيلوجيته" في واقعية النص، مثل استخدامه لشجره اللوز والتشاؤم المرتبط بتسلقها، ولشجرة " الحماط" في قصة " مليحة .. الغنم وموت الحماطة"(حيث جرى تركيبها بالتقاطع مع أسطورة الحماطة وعلاقتها باللذة المحرمة على المرأة قبل زواجها) وكذلك لما يرتبط بالحيوان من تصورات أسطورية مثل الثور والحمار والثعلب.
وسنتعرف في هذه المجموعة المبكرة تحديدا على اتكائه على ثروته التشكيلية وحساسيته المتميزة لدلالة الصوت في الكثير من نصوصها حيث يبدع في استنطاق اللون الباطني للأشياء بطريقته الخاصة كما في قصة " السماء والحناجر ملتهبة" التي نجتزيء منها الفقرة التالية:
(( اتشحت أوراق اللون بخضرة مذهبة .. رفرفت كأجنحة الطير، وفي خفة وبطء كانت ترسل حفيفاً مثرثراً وسط هذا الصمت، وكان يسيل على الصخور.. شجر الطلح .. الطريق المنساب الخالي.. صمت دقيق وشفاف، الهواء يهب بارداً وخفيفاً.. رائحة النسيم تظلل كل شيء.
الأشياء نائمة .. هادئة في حين بدا النور يتسلل في كسل وخجل.
العم "عاطي" يطل بوجه متغضرف، وأنف كالضفدع المسلوخ.. من النافذة الخشبية كأنه صورة شيطان في إطار عتيق.
كان يمضغ لسانه..
كان يلوكه في امتعاض وقسوة.. و
كان قلبه يمتلئ بالسخام، العم عاطي))

ب- ما بعد موت على الماء:
قلة من الكتاب هم الذين يراجعون بواكير أعمالهم بمثل الصرامة والشجاعة التي تأمل فيها عبدالعزيز تجربته الكتابية قبل وبعد صدور مجموعة" موت على الماء" حيث توقف عن كتابة النص السردي بعدها لمدة تزيد عن خمسة أعوام. وقد تم له خلال تلك الفترة مغادرة قلق التكوين الفكري ومرارة الإحساس بالغربة، وتيسرت له فيها إقامة صداقات ثقافية وإنسانية مترعة بالغنى والآمال العريضة، وأنجز أثناءها قراءة شبه منهجية لبعض الإبداعات والمؤلفات الاجتماعية والفكرية بما مكنه من سلخ مرحلة الاغتراب من حياته والدخول في أحلام إقامة "المدينة الفاضلة".
ورغم المصاعب القاسية المالية والصحية التي عاناها خلال تجربة الاغتراب – الجسدي وليس الفكري عن الوطن عام 82م – في القاهرة بصحبة زوجته لمدة تزيد عن العام، إلا أن المعنى الجوهري لتجربة الاغتراب عن الوطن من أجل الوطن قد أمدته بقوة وصلابة لازمته طوال مراحل حياته.
وخلال تلك السنوات الخمس التي قضاها في التأمل والقراءة والمثاقفة من الدمام إلى القاهرة ومن القاهرة إلى الدمام استطاع ان يستخلص فهماً واضحاً وإجابات ناجزة على ما كان يخامره من تساؤلات حول معنى الكتابة: لمن يكتب ولماذا يكتب. وهذه المرة لم يتزود بالإجابات على أسئلته من تراث " كامو" ولا " كولن ولسن" وإنما وجدها في الشارع، في حياة الناس، وفي أخلاقية الرسالة ومسئولية الكتابة ودورها الفني و الإنساني في تطور المجتمع وتقدمه.
حقاً كان يحلم، لكنه لم يكن أول الحالمين ولا آخرهم، بل كان واحدا ًمن الذين يمتلكون فضيلة الصدق الجارح فهماً وممارسة، ولذا انتقد كتاباته السابقة رغم جماليات تقنياتها، وذهب إلى ترسيخ أهمية وضوح الرسالة بين المرسل والمستقبل، والى احتفاء الإبداع بالبسيط من السلوك والعفوي من الممارسات في حياة الناس وتكريس حضور المرأة الإنساني البهي بشكل كبير. (يمكن الرجوع إلى كتابه " مكاشفات السيف و الوردة")


5- متن الذاكرة .. وإعادة تشكيلها !
يمكننا التعاطي مع الكثير من العوامل والظروف – التي تدفع كضرورة أو تغوي كأسطورة – كاتباً مثل عبدالعزيز للأنغماس في فتنة " نستلوجيا" استعادة الماضي أو الحياة اللصيقة بطفولة الكائن من خلال النقاط التالية:
• المخيلة التشكيلية التي نمت في أحضان القرى الجبلية والتي صبغت وجدانه بحساسية اللون والإيقاع.
• حوامل الثقافة الشفوية المحفزة على الإصغاء والنقل وإعادة الصياغة والسرد.
• تعايش الأجيال بحكم المشترك الحياتي وغنى بيئته الخاصة بممكنات التعرف المباشر على شخصيات متعددة الملكات السردية تلتقي في منزل "الجد" بحكم مركزه العائلي والوظيفي كشيخ للقرية، ولعل هذا المحيط قد استحثه منذ الصغر على التأمل في مفارقات الحكاية وتحسس المعنى الأبعد خلف المظهر الساخر لها.
• حضور المرأة في كل مناحي الحياة وقيامها بدورها كشريك كامل في إنتاج الخيرات مما يسهل عملية الكتابة السردية عن المناخ القروي و" شخصنة" أبطاله في سياق موضوعي وفني متوازن.
• صدمة المدينة وانكسار وعودها البراقة.
• تداعيات المرض القاسية عليه حيث لم يعد يستطيع ممارسة حياته الطبيعية في المدينة، إضافة إلى فقر الحياة الاجتماعية ذاتها في المدينة وسيادة نمط البنية المغلقة المكتفية بذاتها، والمهددة – وبسطوة عالية – لحواضن الإبداع وفضاء تفتحه وحرية حركته.
وبدون قسر لمجالات التحليل يمكننا أن نعد كل المدونات السابقة أو بعضها كافياً للإشارة إلى دافعية الكتابة عن القرية، ولكن، وللإنصاف الموضوعي لا الحقوقي، سأعيد تركيب الصورة كما أعرفها وكما تبدت في أعمال عبدالعزيز وما كتبه عنها، حيث كان ينشد – في تلك العودة – استحضار أنماط حياة وقيم و ذاكرة هي أكثر رقياً من أنماط حياتنا الآن، ولذا يغدو التشبث بأجمل ما فيها ملاذاً للفنان من يباس الحياة الاجتماعية في المدينة، كما تسطر استعادتها بعداً أخلاقياً وأفقياً جمالياً ينقذ ضمير الكاتب من الوقوع في فخاخ النسيان أو عبثية اللامبالاة.
و التفات عبدالعزيز إلى خصوبة عالم القرى، بعد خروجه من مرحلة التأمل ومراجعة تجربة" موت على الماء" وما قبلها، يسّر له تجاوز إشكالية طغيان الكلمات على الأفكار التي قال عنها " جوته" ساخراً:" عندما تعوزنا الفكرة نستعيض عنها دائماً بكلمة تحل محلها!".
وهنا يتم استعادة مخزون الذاكرة الحميم، أفكاراً وكلمات، ضمن نسق رؤية ومشروع يدخل فيه " النستالوجي" والتسجيلي والأحتفائي، والفكري أيضاً. وقد بدأ هذا المشروع في القاهرة حيث كتب روايته الأولى التأسيسية لذلك المنحى "الوسيمة" عام 82م حيث اطلع عليها الروائي صنع الله إبراهيم وشجعه على استثمار مناخاتها في أعماله الأخرى، وقد أجابني عبدالعزيز في حوارنا المطول – والمنشور في كتاب " ابن السروي وذاكرة القرى" – عن تأثير القاهرة عليه والالتفات إلى القرية بما يلي:
(( القاهرة أو غيرها من العواصم العربية ذات مساحة تستوعب الكاتب والكتابة والقارئ والمستقصي.. لكنها جميعاً لا تمنحك الهم الخاص الذي تكون مع هويتك وانتمائك الخاص.. هي تمنحك عالماً غير منقسم في إنسانيته.. فالإنسان الكامل برجولته وأنوثته موجود، وهذا ما أفتقده في واقعنا، لذلك ربما فتحت عيني على هذا الوجود الطبيعي للمرأة في الحياة الذي يشبه زمن الطفولة القروي لدى كل إنسان، وربما حفزني ذلك على العودة إلى العالم الطبيعي.. العالم السوي حيث يقف الرجل والمرأة على قدم الإنتاج المشترك والمساواة الإنسانية في كل مناحي الحياة)).
ولعله من المناسب الإشارة هنا إلى ما يطرحه بعض الكتاب من تساؤل وقلق حول مغزى التركيز على عالم القرى باعتبارها تشكل نسقاً ثقافياً شفوياً غارقاً في عتمة اللاعقلانية والانغلاق والانتماء الضيق، على العكس من انفتاح المدينة الكوني وانتماء ثقافتها إلى الثقافة المكتوبة.
وبدون ذهاب في التفاصيل أشير إلى حقيقة أن مدننا، التي تشبه كثيراً مدن العالم المتقدم بما تتمتع به من بنية تحتية، لا تشبه تلك المدن في حياتها الاجتماعية، وبكلام يقترب من سخرية الحقيقة يمكننا اعتبارها أشد محافظة من حياة القرى و أكثر قسوة إزاء حرية الفرد والرأي ومشاركة المرأة من تلك المجتمعات القروية. ولذا فإن مشروع عبدالعزيز يستهدف الحفاظ على تلك الجماليات المتقدمة، لا بمداد التخييل وحده، ولكن بمداد حرارة معايشته التجربة والاندماج في تفاصيلها، وقد أوضح ذلك في نفس الحوار المذكور حيث أجابني على سؤال حول مشيخة القرية وبرلمانها الأسبوعي فقال:
(( أعرف أنك قد عايشت تلك القرية التي كانت برلماناً تلقائياً شديد الإنصاف، في ساحة مسجدها يوم الجمعة.. حيث كان الجماعة بعد أداء صلاة الجمعة.. يخرجون جميعهم من باب المسجد يسبق كل إلى مقعد أو متكأ على " الحجيرة" المحيطة بتلك الساحة، يستمع للجديد والمطروح.. واحدٌ يشتكي من التعديات البهائمية والآخر يشكو من مظلمة زاهق في مزرعته، وثالث يدعو الجماعة لعزيمة زواج إبنه أو دعوة ل" طينة" سقف البيت الحجري الذي بني ونما بين عيون الكل .. هل رأيت كيف كانت تأتي المرأة ملفوفة بالبياض ملثمة وفي يدها بنتها أو ولدها الذي مات أبوه وتركهم في أمانة الجماعة دون وصية، وكالعادة.. سيقف الكل مع حقها في البيت والوادي وسبيل الطريق ومجرى ماء المطر إلى مزرعتها.. فمن مد يده أو زهقت رجله أو لسانه .. فإنما يجري( العرف كقانون) عليهم جميعاً!)).
وهكذا ركزت رؤية الفنان بحساسيتها العالية وأندماجها الحقيقي في عملها على مشروع مقاومة الموت والنسيان من خلال محورين متداخلين أولهما إبراز دور المرأة وحضورها العملي والإنساني في الواقع القروي بمشاركتها الكاملة في عملية إنتاج الخيرات والخبرات والثقافة، وثانيهما استعادة روح الجماعة الواقعية التي صنعت قوانينها بفعل التعاقب فاحترمت للمرء فرديته وخصوصيته وحقه في إبداء رأيه وتحمل تبعاته، وزواجت بين ما هو فردي لصيق بخصوصية الفرد وما هو جماعي، بأن جعلت من أعرافها – المنبثقة من علاقات المعاش وإنتاج الخيرات في كنف الطبيعة نسيجاً من العادات والتقاليد الملزمة، لمن يود التمتع بحقوقه من مظلة العمل الجماعي، والمفتوحة أمام من أراد الخروج عليها!.

عالم المرض والمستشفيات:

بحميمة تبلغ ذروة الانفعال يعايش عبدالعزيز تفاصيل حياته قراءة وكتابة ورسماً، وحين يتحدث مع الآخرين فإن إيمانه بما يقول، كان كافياً لدفع جيش – بدون عتاد – لخوض معركته بدون تردد، كما أن يقينه الملموس باليدين كان يدله على أن الحياة توجد، لا في مكان آخر، ولكن هنا، حيث يخفق قلبه بالتفاؤل وحب الحياة رغم أنه كان يمشي مدفوعاً بكرسيه النقال أو محمولاً بين يدي" أخيه الجميل دائماً" أحمد.
و إذ يكتب باحتفائية حارة عن التفاصيل الكبيرة والصغيرة في ملحمة عالم القرى الآيل للنسيان، فإنه يسجل سردياته عن المرض والمستشفيات بعين تأملية ونقدية ساخطة رافقت المراحل الأولى لصدمة المرض والتعايش القسري معه، ثم ما لبثت الكتابة أن استعادت ألفتها وحميميتها مع اعتياده على المرض واعتباره شيئاً طبيعياً كالذهاب إلى الحمام أو مزاملة الأرق الليلي، أو معايشة جارٍ مزعج ما من جيرته بدّ، ليتحول المرض وفق هذه الرؤية إلى ملحمة أخرى موازية لملحمة القرى.
ولذا لم تكن الكتابة عن المرض والمستشفيات رسالة " ألم" حالة فردية خالصة وحسب، ولكنها كانت كشفاً عن معاناة جماعية يتداخل فيها الصحي والنفسي والمكونات الثقافية والروتين الوظيفي، وما يصاحب السلوك البشري من تجليات القوة والضعف والقبح والجمال.
وهنا تصبح قناني الدواء، ولمعان واجهات المستشفيات، وشدة روائح المطهرات، وأنين المرضى وتدافع المراجعين، وبياض الأسرّة وملابس الممرضات، وابتسامات الزهور و ذبولها، ورهافة الضحك وحرقة البكاء، وجمر الحياة و رماد الموت، وبتر أصبع يده، وقدمه اليمنى، وساقه اليسرى، كلها، عالماً أليفاً ومعتاداً يندمج عبدالعزيز في الانفعال به والكتابة عنه كحياته الطبيعية، كما تتم في تفاصيل هذه الكتابة إزاحة التسمية الأنيقة " لوزارات الصحة" – المعتمدة في كل أنحاء العالم – عن مواقعها واستبدالها بمسماها الحقيقي " وزارة المرض".
وبذلك الإنتاج الخصب تغدو ملحمة المرض والمستشفيات " زهوراً من آنية للكتابة" – متفردة في حقلها محلياً وعربياً – لا يستمتع بقراءتها المهتمون وحسب، ولكن سيقرأ فيها المتعبون جمال الإرادة الإنسانية المدهشة ودلالة القوة التي لا تشبه إلا عبدالعزيز الذي وجد نفسه منغمساً في فتنة الكتابة عن مناخين يسيران صوب النهاية، نسياناً أو موتاً، فكان عليه أن يقبض على ما يتبقى منهما.
تلويحة
لقد تعلم عبدالعزيز من تجربة " أنكيدو في ملحمة جلجامش" أن الخلود لا يتحقق بالبحث عن عشبة الحياة الدائمة، لذلك أجهد نفسه ليجدها في الكشف عن لحظة من معاني الحياة وجماليات الأشياء والأشخاص والسير به نحو الخلود في الكتابة.
حقاً، لقد عاش كما يليق بمبدع نبيل ورمز أنيق، وسيبقى في نبض حروفه حاضراً كأثر لا يمّحي، ولو أن أحداً يستحق استعارة هذه العبارة من صاحبها لكان عبدالعزيز أول من سيرفع صوته بها قائلاً:
" أشهد أنني قد عشت"!.

نشرت القراءة كاملة في ثقافية جريدةالجزيرة في أواخر عام 2010م

عن منبر الحوار والإبداع

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-14-2011, 12:10 PM   رقم المشاركة : 2

 

جزء مما كتبه د. حسن النعمي عن "مراحل تطور الرواية السعودية"


وإذا كانت الرواية السعودية في مرحلة الثمانينيات قد عبرت نفق التباطؤ، وتجاوزت هشاشة التجربة الفنية والفكرية، فإن ذلك لم يأت طفرة، بل اتسم بالتدرج في الحضور على أكثر من مستوى. ويمكن أن نعتبر روايات عبد العزيز مشري مرحلة انتقال من البطء في صناعة الفعل الروائي إلى إيقاع أكثر تسارعاً من ناحيتين؛ أولهما، التراكم الروائي الذي قدمه الكاتب، حيث قدم خمس روايات خلال عشر سنوات هي الوسمية، والغيوم ومنابت الشجر، وريح الكادي، والحصون، وصالحة، وفي عشق حتى. ثانياً، تقديمه لرؤية اتسمت بالبحث عن نقاء الإنسان في واقع متغير. وتبدو رواياته للوهلة الأولى معادية للتمدن، غير أنها في حقيقة الأمر، تطرح سؤال الهوية. فقد رمز لانهيار القيم في رواياته بأزمة العلاقة بين القرية والمدينة من حيث استقطاب الإنسان خارج فضاء حضوره التقليدي. لم يكن حضور المشري طارئاً في فضاء الرواية فقد بدأ كاتباً للقصة القصيرة حتى عام 1986 عندما أصدر أولى رواياته (الوسمية). ورغم الحضور الكثيف للمشري فقد ظل وحيداً في فترة الثمانينات إلا إذا استثنينا مجموعة من مجموعة من الكتاب والكاتبات منهم، رجاء عالم ورواية 4 صفر ، عبد العزيز الصقعبي ورواية رائحة الفحم 1988، وحمزة بوقري ورواية سقيفة الصفا 1984، وهي أسماء حضرت بتجاربها الأولى، حيث لم تترك أثراً كبيراً في المشهد الروائي باستثناء رواية 4 / صفر التي فازت بجائزة ابن طفيل دلالة على جودتها الفنية، رغم أنها الرواية الأولى للكاتبة. فقد كان المشري أكثر الكتاب حضوراً، وأكثرهم اهتماماً بموضوع محدد دارت حوله معظم رواياته، وهو موضوع العلاقة بين القرية والمدينة، وربما أكثرهم جودة فنية. لذا فهو يُعد كاتب هذه المرحلة بلا منازع عطفاً على ما تقدم.


المتألقة نزهة المشتاق
لديك الكثير ومعك ترتقي الساحة الأدبية

 

 
























التوقيع

حق على العاقل أن يتخذ مرآتين
ينظر في إحداهما إلى مساؤئ نفسه فيتصاغر بها
ويدع ما استطاع منها
وينظر في الأخرى إلى محاسن الناس
فيحتذ يهم فيها ويأخذ منها ما استطاع

   

رد مع اقتباس
قديم 01-15-2011, 10:17 PM   رقم المشاركة : 3

 

نزهة المشتاق جهد مشكور وامل ان تطرحي شئ من انتاجك وعن عبد العزيز مشري ورمزه وقدوته علي الدميني واليسار في محضره الذي هدى الله اكثر رموزه 0انا عملت معلما قي مدرسة محضره 86هج ولمدة 9 سنوات وعبد العزيز مشري ومحمد الدميني طلاب في المدرسه وللحق انهم من انجب الطلاب وعبد العزيز كان يحسن الرسم والكتابه وصدر له كتاب عن الامثال في المنطقه قدم له سعود السديري امير المنطقه هاجمه المرض في المرحله المتوسطه سكر من الدرجه الاولى واصل نشاطه الادبي المتعدد قصه قصيره وروايه وشعر ورسم ورسم كاريكتير وزرته مره في داره في قرية محضره واكرمني بل حملني مجموعه من الهدايا تباعدت الخطا واختلفت المشارب وتمايزت المواقف وانحاز لليسار الحداثي وكان ذلك جليا في كل اعماله رسم وقصه وحافظ على موقفه حتى اخر اعماله جعل الله كل ما اصابه في ميزان حسناته واعاد الرفاق في محضره الى جادة الصواب

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-19-2011, 05:14 AM   رقم المشاركة : 4

 

الأستاذ ابن الشمال

شكراً للإضافة الثرية
حول ماقدمه ذلك الإنسان الرائع ابن القرية عبدالعزيز مشري يرحمه الله
بكم ومعكم يمتد الجمال ويتألق الجميلون أمثال المشري
ودي

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 01-19-2011, 05:30 AM   رقم المشاركة : 5

 

الأستاذ القدير حمود بن أحمد

أشكر لك إضاءتك حول الأستاذ عبدالعزيز مشري فقد وجدتها
إضاءة رائعة بوركت
أما ماوددت أن تراه من إنتاجي فما أنا ياأستاذي سوى باحثة عن الجمال
في كل منعطف وزاوية ولا أجيد الكتابة عن العمالقة أمثال المشري
فقط آمل أن أجمع شتات ثرثراتي عبر المنتديات وأحتفظ بها كمذكرات
يقرؤها أبنائي وأحفادي ليس إلاّ
كل التقديرلك

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 02-11-2011, 02:35 PM   رقم المشاركة : 6

 


نزهة المشتاق

رائعة في الاختيار ... لروعة الذائقة .
عدتي بذاكرتي لاربعين سنه وتزيد حينها كنت طالب في المرحلة الابتدائية بمدرسة وادي العلي
ولا انسى ذلك اليوم حين احضر لنا الاستاذ والمربي والوالد الحنون / علي دغسان
يرحمه الله كراس التعبير لعبد العزيز مشري احد طلاب مدرسة محضرة وقرأ لنا بعضا
من مواضيعه / يوم مطير .. رحلة .. وغيرها من المواضيع لا زالت الكلمات والمشهد
في ذاكرتي ... أين هم اليوم ؟؟؟ غفر الله لهم وجمعنا بهم في الفردوس الاعلى من الجنة.

احييك في ساحة الادب لنرتوي من منهلك العذب فاطلقي لقلمك العنان
ونحن في انظار نزف قلمك ..
دمت بود .

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس
قديم 02-15-2011, 06:11 PM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 11
نزهة المشتاق is on a distinguished road


 

مات العمالقة وتركوا لنا إرث أدبي وتربوي
وأنت وأمثالك يا أستاذ علي من ستحملون على عواتقكم أمانة هذا الجيل
تربية وتعليماً وارتقاء أخلاقيّاً
ممتنة لقامتك
دمت بود

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 02-15-2011, 07:00 PM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
عضو ساحات
 
إحصائية العضو

مزاجي:










واحدمنكم غير متواجد حالياً

آخـر مواضيعي


ذكر

التوقيت

إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
واحدمنكم is on a distinguished road


 

كل يوم نفجع في حبيب وقريب للقلب
آخرهم أبايوسف رحمه الله وغفر له

نزهة المشتاق : أنت مبدعة والدليل هذه
اللغة الجميلة وهذا الرقي الذوقي .

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 02-15-2011, 08:00 PM   رقم المشاركة : 9

 

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نزهة المشتاق مشاهدة المشاركة
مات العمالقة وتركوا لنا إرث أدبي وتربوي
وأنت وأمثالك يا أستاذ علي من ستحملون على عواتقكم أمانة هذا الجيل
تربية وتعليماً وارتقاء أخلاقيّاً
ممتنة لقامتك
دمت بود



قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.-الأحزاب.

اسال الله ان يكون في عوننا
ولا يؤاخذنا بزلاتنا ..

لكِ ودي .. دمت بخير

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:46 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir