يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-01-2012, 04:46 PM   رقم المشاركة : 121
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

فضل الذكر في أيام التشريق
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 10 ذي الحجة 1433 هـبعنوان: "فضل الذكر في أيام التشريق"، والتي تحدَّث فيها عن ذكر الله تعالى وفضله في أيام التشريق، وبيَّن مواضِعه فيها.

الخطبة الأولى
الحمد لله منَّ على من شاء بحجِّ بيته الحرام، أحمده - سبحانه - على نِعَمه العِظام وآلائه الجِسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدوسُ السلام، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وسيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار الأعلام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا وقوفَكم بين يديه، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
أيها المسلمون:
حفظُ العُمر وصيانةُ الوقت من ضياعه في المُحقَّرات وكل ما يضُرُّ الاشتغالُ به، ويعظُمُ الخُسرانُ بالانصِراف إليه دَيدَنُ المُوفَّقين، ونهجُ أُولي الألباب الذين تشتدُّ عنايتُهم بمواسِم العُمر التي هيَّأها الربُّ الكريمُ لهم، وحثَّهم على اغتنام فُرصتها ببذل أسباب الزُّلفَى إليه، بألوان الطاعات، واستِباق الخيرات، والتنافُس في الباقيات الصالحات.
وإن أيامًا أمَرَ الله بذِكره فيها لهي من أجلِّ الأيام وأعظمِها، وأشرفِها، وأحراها بأن تُصرَفَ إليها الجُهود، وأن تتَّجِه إلى عمارتِها القلوبُ والجوارحُ بخير ما تُعمَرُ به.
إنها - يا عباد الله -: الأيامُ المعدودات التي ذكرَها الله بقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ .. [البقرة: 203] الآية، وهي أيامُ التشريق الثلاثة التاليةُ ليوم الَّحر، والتي وصفَها رسولُ الهُدى - صلوات الله وسلامُه عليه - بقوله: «أيامُ التشريقِ أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ لله - عز وجل -»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث نُبَيْشَة الهُذَليِّ - رضي الله عنه -.
إنها الأيامُ المُبارَكة التي اجتمَع للمُسلم فيها نعيمان: نعيمُ القلبِ بالذِّكرِ والشُّكر، ونعيمُ البدَن بالأكل والشُّرب والتمتُّع بالمُباحات التي حُظِرَت على الحاجِّ وقتَ إحرامه.
وإن ارتباطَ هذين النعيمَيْن دالٌّ على أن نِعَمَ الله تعالى يجبُ الاستعانةُ بها على طاعتِه، واستِعمالُها فيما يُرضِيه - سبحانه -، وأنَّ من استعانَ بها على طاعته فقد شكَرَ المُنعِمَ بها - عز وجل -، وعلى العكسِ منه؛ المُستعينُ بنِعَم الله على معصيته، المُستعمِلُ لها فيما يُسخِطُه - جلَّ شأنُه - فإنه جاحدٌ لها، غيرُ مُؤدٍّ شُكرَها.
ومن أخصِّ هذه النِّعَم بهذه الأيام المُبارَكة: نِعمةُ الأكل من لُحوم الأنعام، فإنها - كما قال أهلُ العلم - مُطيعةٌ لله لا تعصِيه، وهي مُسبِّحةٌ له قانِطة، كما قال - سبحانه -: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا[الإسراء: 44]، وأنها تسجُد لها، كما ذكرَ تعالى في سورة النحل، وربما كانت أكثرَ ذِكرًا لله من بعضِ بني آدم.
فأباحَ الله - عز وجل - ذبحَ هذه البهائِم المُطيعَة الذاكِرة له لعباده المُؤمنين حتى تتقوَّى بها أبدانُهم، وتكمُلَ بها لذَّاتُهم، فيستعينُون بذلك على علومٍ نافعةٍ، وأعمالٍ صالحةٍ، وذِكرٍ لله تعالى وشُكرٍ له.
ولما كان صومُ هذه الأيام مانِعًا من تحقيق ذلك، فقد نُهِيَ عن صيامِها في مِنى وفي غيرها من الأمصار؛ إذ هي من أعياد المُسلمين، كما أخبرَ بذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يومُ عرفة ويومُ النَّحر وأيامُ التشريق عيدُنا أهل الإسلام، وهنَّ أيامُ أكلٍ وشُربٍ».
وأما ذِكرُ الله في هذه الأيام المعدودات فتتنوَّع أنواعُه؛ لتكثُر بها وتزيد أسبابُ الثواب، وليعظُم منها رصيدُ المُسلم؛ فمنها:
ذِكرُه - سبحانه - أدبار الصلوات المكتوبة بالتكبير والتهليل؛ فإنهما يُشرَعان إلى آخر أيام التشريق عند جمهور أهل العلم.
ومنها: ذِكرُ الله تعالى عند ذبحِ النُّسُك، كما قال - عزَّ اسمُه -: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ[الحج: 36، 37].
ومنها: الذِّكرُ بالتكبير عند رمي الجِمار، كما فعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه جابرُ بن عبد الله في صفَة حجَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجَه مُسلمٌ وغيرُه، وكما في حديث ابن عُمر عند الشيخين أيضًا، وهو ذِكرٌ خاصٌّ بأهل مِنى دون غيره.
ومنها: ذِكرُ الله عند الأكل والشُّرب؛ فإنه سببٌ لرِضوان الله تعالى، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" عن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن اللهَ ليَرضَى عن العبد أن يأكُلَ الأكلَةَ فيحمَدَه عليها، ويشربَ الشَّربَةَ فيحمَدَه عليها».
ومنها: ذِكرُه - سبحانه - ذِكرًا مُطلقًا غيرَ مُقيَّدٍ بزمنٍ أو بحالٍ من الأحوال؛ بل هو ذِكرٌ يعُمُّ جميعَ الأوقات، ويُستحبُّ الإكثارُ منه في هذه الأيام، "وقد كان أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - يُكبِّرُ في مسجد مِنى"، وفي روايةٍ: "في قُبَّته، ويُكبِّرُ من في المسجد، فترتَجَّ أسواقُ مِنى من التكبير، حتى يصِلَ التكبيرُ إلى المسجد الحرام، فيقولون: كبَّرَ عُمرُ، فيُكبِّرُون"؛ رواه الإمام البخاري في "صحيحه" تعليقًا، ووصَلَه غيرُه.
ومنها: ذِكرُه - عز وجل - عند انقِضاء النُّسُك امتِثالاً لأمر الله القائل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 200، 201].
وقد روى سعيدُ بنُ جُبَيْر - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "كان قومٌ من الأعراب يجيئُون إلى الموقفِ فيقولون: اللهم اجعَله عامَ غيثٍ وعامَ ولادٍ حسنٍ، لا يذكُرون من أمر الآخرة شيئًا، فانزلَ الله فيهم قولَه: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[البقرة: 200]، وكان يجِيءُ بعدَهم آخرون من المُؤمنين فيقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، فأنزلَ الله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 202]".
وهو دعاءٌ جامعٌ لكل خيرٍ في الدنيا والآخرة، وقد كان أكثرَ دُعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخبرَ بذلك أنسُ بن مالكٍ - رضي الله عنه - في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بسندٍ صحيحٍ.
ولذلك؛ استحبَّ كثيرٌ من السَّلَف - رضوان الله عليهم - الإكثارَ من الدعاء به في هذه الأيام.
وفي الأمر بذِكرِه - سبحانه - عند انقِضاء النُّسُك إشارةٌ - كما قال أهل العلم - إلى أن سائرَ العبادات تنقضِي ويُفرَغُ منها، وذِكرُ الله باقٍ لا ينقضِي ولا يُفرَغُ منه؛ بل هو مُستمرٌّ للمُؤمنين في الدنيا والآخرة، والأعمالُ كلُّها يُفرَغُ منها، أما الذِّكرُ فلا فراغَ له ولا انقِضاء، والأعمالُ تنقطِعُ بانقِطاع الدنيا، والذِّكرُ لا ينقطِع، فالمؤمنُ يعيشُ على الذِّكر، ويموتُ عليه، وعليه يُبعَث.
اللهم اجعَلنا من الذَّاكرين كثيرًا لك، الشاكرين لأنعُمِك، المُبتغين الوسيلةَ إلى رِضوانك.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن هذه الفضائلَ والدرجاتِ التي يحُوزُها أهلُ الموسِم في مِنى ليست مُختصَّةً بهم، ولا مقصورةً عليهم؛ بل إن لغيرهم من المُسلمين في الأمصار نصيبًا وافِرًا منها، فإنهم كانوا شُركاء لأهل الموسِم في الاجتِهاد والنَّصَبِ بالصوم والذِّكرِ وسائر الطاعات التي ازدَلَفوا بها إلى مولاهم في هذه الأيام العشرِ، وكانوا شُركاءَ لهم في التقرُّب إلى الله أيضًا بإراقة دمِ الأضاحي، واشترَكَ جميعُهم لذلك في الراحة في الأعياد، وفي الأكل ولاشُّرب وسائر ما أحلَّ الله.
كما اشترَكوا في هذه العَشر في ألوان الطاعات التي اقتضَت منهم نَصَبًا في أدائها، وصبرًا على القيام بها، وغدَت الأمةُ قاطبةً في ضِيافة الله تعالى تنالُ من واسعِ فضلِه، وتحظَى بجُوده وكرمِه وإحسانه، وتجتمعُ على ذِكره - سبحانه - وذُكرِه، وإيثار مراضِيه ومحابِّه على أهواء النفوس وشهواتها، وتُصوِّرُ للعالمين واقعَ الأمةِ التي وصَفَها ربُّنا - سبحانه - بقوله: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 92].
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا نِعمةَ الله عليكم؛ إذ هيَّأَ لكم من مواسِم العُمر ونفائسِ الأيام ما تعمُرونَه بعبادةٍ تُرضونَ بها ربَّكم، وتطمئنُّ بها قلوبُكم، وتزكُو بها نفوسُكم، وتطيبُ بها حياتُكم.
واذكروا على الدَّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين، ورسول ربِّ العالمين، فقال في الكتاب المُبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم التَّناد.
اللهم أحسِن لهم المثوبةَ، وأعظِم لهم الأجرَ على ما يُقدِّمونَه من خدماتٍ لحُجَّاج بيتك الحرام، اللهم اكتُب المثوبةَ وعِظَم الأجر لكل من كان له يدٌ في خدمة حُجَّاج بيت الله الحرام مدنيِّين وعسكريِّين يا رب العالمين.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نسألك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفِر لنا وترحمَنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتونين.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم احفَظ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم احفَظهم في سوريا، وفلسطين، وفي بورما، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم انصُرهم نصرًا مُؤزَّرًا، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم اجبُر كسرَهم، وارحَم ضعفَهم، واشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لموتاهم يا رب العالمين، اللهم استُر عوراتهم وآمِن روعاتهم يا رب العالمين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم اجعَله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وعمرةً مُتقبَّلةً.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران: 8]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-18-2012, 08:52 AM   رقم المشاركة : 122

 

مقاصِد الحج وشواهِدُه

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 17 ذي الحجة 1433هـ بعنوان: "مقاصِد الحج وشواهِدُه"، والتي تحدَّث فيها عن الحجِّ ومقاصِده وشواهِده، وبيَّن أن من أعظم مقاصِد هذه الشعيرةِ المُبارَكة تقوى الله تعالى، وإخلاصُ العمل له - سبحانه -، واتباعُ سنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ بعضَ روحانيَّات الحجِّ، ثم ختمَ خُطبتَه بضرورة الاستِغفارِ بعد الأعمال؛ حِفاظًا عليها ورعايةً لها من البُطلان.

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونسنغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
ألا وإن خيرَ الوصايا بعد المحامِد والتحايا: الوصيةُ بتقوى الله العظيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أسلِموا لله القِياد، وأعِدُّوا ليوم المعاد، وأخلِصوا لله في السرِّ والإعلان؛ فكم من إنسانٍ كثيرِ الثياب، عارِي الثواب، مذكورٍ في الأرض، مهجورٍ في السماء.
أيها الحُجَّاج في هذي البِطاح! يا مَن وفَدتم من كل ناحيةٍ وساح، ها هنا المورِدُ فعُلُّوا، وهنا الرواءُ فانهَلوا، أكرمَكم الله بإدراك يومٍ عظيمٍ من أيام الإسلام، وموقفٍ جليلٍ من مواقفِ المُسلمين، فأتممتُم حجَّكم، وقضيتُم تفَثَكم، وقد سبقَكم إلى هذه الصُّعُدات آدمُ ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأنبياءٌ كُثُر، ومحمدٌ النبي الكريم، وصحبُه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، والصحابةُ العِظام، وأئمةُ المذاهبِ وصُلَحاءُ المُسلمين.
وها أنتم تخلُفونهم على هذه الرُّبُوع، الربُّ واحدٌ، والمشاعِرُ هي نفسُها، والهدفُ مُتَّحِد، فلماذا الحالُ غيرُ الحال، والرجالُ دون الرِّجال؟!
نسَبُكم - أيها المُسلمون - في المُعتقَد تسلسلَ إلى أنبياء الله ورُسُله؛ فلِمَ الحَيدَة؟
وديوانُ الإسلام - قُرآنٌ وسنَّةٌ - لا زالَت حيَّةً، وشواهِدُ التوحيد ما زالَت قائمةً من عهد إبراهيم؛ فلماذا الخلْطُ؟
ودينُكم أعظمُ شِرعةٍ نزلَت من السماء إلى الأرض؛ فلِمَ الذِّلَّة؟
قضيتُم نُسُكًا شِعارُه التوحيد، فاجعَلوه شِعارَكم حتى تلقَوا ربَّكم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخل الجنةَ»؛ رواه مسلم.
عظِّمُوا اللهَ وأجِلُّوا رسولَه، وعظِّموا ما جاء من عندهما وأسلِموا له، أخلِصوا لله القصدَ والعملَ، واقتَفوا هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبِه الذين رضِي الله عنهم ورضُوا عنه، واعرِضوا العبادةَ على الكتاب والسنة، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وما لم يرِد في السنَّة فاطَّرِحوه.
أيها المسلمون:
حُجَّاج بيت الله العتيق! إن من حجَّ البيتَ واعتمَرَ فقد ازدادَ من الله قُربًا، وتقرَّبَ إليه زُلفَى، والمُقرَّبُون هُم أولَى الناس بالتأدُّبِ مع الله - جل في علاه -، يحدُوهم الرجاءُ في الازديادِ من الطاعة، ويمنعُهم الحياءُ من التلطُّخ بشيءٍ من المعاصِي بعد أن أكرمَ الله وسادَتَهم، وغفرَ ذنوبَهم، وأتمَّ مناسِكَهم.
أما وقد وفَّقَكم الله لمرضاته، ويسَّر لكم التعرُّضَ لنفحاته؛ فاستقِيموا على أمره، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا [النحل: 92].
وإن من أولَى ما يُوصَى به المُسلِمُ بعد التقوى: ما أوصَى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سُفيانَ - رضي الله عنه - حينما قال: يا رسولَ الله! قُل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك. قال: «قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم»؛ رواه مسلم.
ألا وإن من أولَى ما استقامَ عليه المُؤمنُ بعد التوحيد: المُحافظةُ على الصلاة؛ فهي عمودُ الدين، وفارِقُ المؤمنين عن الكافرين، وقد قال الله - عز وجل -: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2].
روى الترمذي والنسائي والحاكم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُنزِلَ عليَّ عشرُ آياتٍ، من أقامهنَّ دخلَ الجنة، ثم قرأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، حتى ختمَ عشر آياتٍ».
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 1- 11]، هذه هي أسبابُ الفلاحِ وأسبابُ دخول الجنة؛ الصلاةُ، والزكاةُ، واجتِنابُ ما لا نفعَ فيه من الأقوال والأعمال، وحِفظُ العورات والمحارِم، واجتِنابُ الفواحِش، والمُحافظةُ على الأمانة والعهد.
أيها المؤمنون:
الإسلامُ هو الاستِسلامُ لله، والانقِيادُ له بالطاعة، والخُلُوص من الشِّرك وأهلِه، والاستِسلامُ لله عبَّرَت عنه أحكامُ الحجِّ كما جسَّدَته المشاعِرُ، ومثَّلَته سيرةُ نبي الله إبراهيم وآله، تلك الأُسرةُ الصالحةُ التي استسلَمَ فيها إبراهيمُ لأمر الله بترك زوجته ورضِيعها في وادٍ قَفْرٍ؛ لأن اللهَ أمرَه بذلك، وقالت زوجُه هاجَر: "آللهُ أمرَكَ بهذا؟". قال: "نعم". قالت: "إذًا، لن يُضيِّعَنا".
فلم يُضيِّعهم ربُّهم، وفجَّرَ الأرضَ بعين زمزم، وباركَ فيها، وعمَرَ الوادي بالبشر، فهوَت أفئدَةُ الناسِ إليهم، ورزقَهم الله من الطيبات، وجعلَ بلدَهم آمنًا مُطمئنًّا.
واستسلَم إبراهيمُ لأمر الله بذبحِ ابنِه، واستسلَم إسماعيلُ أيضًا لهذا الأمر، وقال الله عنهما: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103]؛ أي: استسلَما، لكنَّ اللهَ الرحيمَ لطَفَ.
إنه مثالٌ للأُسرة الصالحةِ المُستسلِمة، ودرسٌ للأمة بكل تفاصيل الحدَث، وكان الجزاءُ في الموقِفَين: أن اللهَ كان لهم، ورفعَ درجتَهم، وجعلَ النبُوَّةَ فيهما وفي ذريَّتهما، وجعلَ آثارَهما مناسِكَ للمُؤمنين إلى يوم الدين.
عباد الله:
ومن روحانيات الحجِّ: التربيةُ على التقوى، وفي ثنايا آيات الحجِّ: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، إنها عبادةٌ محدودةٌ في أيامٍ معدودةٍ، يجهَدُ الحاجُّ في تمامِها، ويحذَرُ من نُقصانِها أو بُطلانِها، ويلتمِسُ من ربِّه القبولَ راجيًا رحمتَه، طالبًا الخلاصَ من ناره. وهذا مُختصرُ الحياة ومُلخَّصُها.
والتقوى شعورٌ قلبيٌّ يحدُو المُسلِمَ خلال ذلك للسير وفقَ مُراد الله، يُزجِيه خوفُ الله، ورجاءُ ما عند الله لا ما عند الناس، وإذا جعلَ المُسلِمُ قصدَه استِرضاءَ ربِّه أفلحَ ونجا.
أيها المسلمون:
الحجُّ موسمٌ روحانيٌّ نشرَ بين المُسلمين حقيقةَ العبادة المُقدَّسة؛ طاعةٌ واستِجابةٌ لنداء الرحمن، واستِسلامٌ لشرعه وأحكامه، ومهما أحاطَ الإنسانُ نفسَه بمظاهر التَّرَف فلن ينفكَّ عن الشُّعورِ بالحقيقة حقيقةِ أنه فردٌ من بين ملايين البشر، وأنه فقيرٌ إلى الله كبقيَّة السائرين إليه، المُستجدِين منه الرحمةَ والمغفرةَ والرِّضوانَ.
لذا، فإنه من الخطأ تطلُّبُ حجٍّ مُرفَّهٍ، أو التذمُّرُ من مشقَّةٍ يلقاها من لم يتعوَّد المشاقَّ؛ فإن اللهَ تعالى قال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل: 7]، فالبساطةُ والتخلِّي عن الرفاهيَة من مقاصِد الحجِّ، فيها التربيَةُ والعبوديَّةُ والتواضُع، والمُساواةُ عند الضَّراعة بين يدَي الله.
وفي ذلك أيضًا: تربيةٌ للمُسلِمين بأن يكونوا رحمةً على إخوانِهم مُتواضِعي لهم، قائمِين على مصالِحِهم، في بُعدٍ عن الأنانيَّة والأثَرَة، فضلاً عن التقصير في حقِّهم، أو الإخلالِ بما أُنيطُوا به من واجبِهم.
عباد الله:
ومن مشاهِد الحجِّ: أن الله تعالى أحاطَه بالرعاية والحفظِ، وأسبغَ على حُجَّاج بيته الأمنَ والطُّمأنينة، في أيامٍ يضطربُ فيها العالَمُ كما تضطرِمُ نارُ الحروبِ في بِقاعٍ شتَّى، ولسنا بمَنأى عن الحُسَّاد والمُعتدين، ولكنَّ الله تعالى هو الذي لطَفَ وآمنَ، وستَرَ وعافَى، وأسبغَ علينا نعَمَه ظاهرةً وباطنةً، وسخَّرَ لهذا البلد حُماةً صادقين، حفِظَ الله بهم العبادَ والبلادَ.
فلله الحمدُ والشُّكرُ، وله الثناءُ الحسن، وصدق الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67].
إنها نعمةٌ تستوجِبُ الذِّكرَ والشُّكرَ والتنبيهَ؛ تحدُّثًا بنعمة الله تعالى، وشُكرًا له وحمدًا.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-18-2012, 08:57 AM   رقم المشاركة : 123
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

التفكر في الرِّيح والرِّياح

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 24 ذي الحجة 1433 هـ بعنوان: "التفكر في الرِّيح والرِّياح"، والتي تحدَّث فيها عن آيةِ الرِّيح والرِّياح، وعِظَم مكانتها لقَسَم الله بها فيكتابه، وذِكرِها في العديد من المواضِع في القرآن الكريم، وذكرَ أنواعَها، وبيَّن الهديَ النبويَّ في التعامُل معها.

الخطبة الأولى

الحمد لله المُتوحِّد في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالي بعظمته ومجده الذي نزَّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالمُعجزات، والمنصورُ بالصَّبا من ربِّ البريَّات، عليه من الله أفضلُ صلاةٍ وأزكى تسليمٍ، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن أحسنَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المُسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة، وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].
أيها الناس:
آيةٌ من آيات الله في هذا الكون العظيم، تتوقَّفُ عليها الحياة في جسم الإنسان الحي، وتبعثُ النشاطَ والحركة، وتمنحُ العزيمةَ بعد الفتور، بوجودها يقوَى الإنسانُ بعد ضعفٍ، ويتَّسِعُ بعد ضيقٍ، إن تفكَّرَ فيها المرءُ ازدادَ إيمانًا بربِّه، وعلِمَ أنه خالقُ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنه لا إله بحقٍّ سِواه.
هي آيةٌ في الأرض وفي السماء، أقسمَ الله بها في كتابه، وقد ذكَرَها الباري - جلَّ شأنه - في مُحكَم التنزيل مُتصرِّفةً في تسعةٍ وعشرين موضِعًا، وكلُّ قسَمٍ يُقسِمُه الله في كتابه فهو عظيمٌ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: 76].
كما أن له - سبحانه - أن يُقسِمَ بما شاءَ من مخلوقاته وآياته التي جعلَها عِظةً وعبرةً لأُولي الألباب، وحُجَّةً وحسرةً على كل غافلٍ عنها، لا يذكُرُ اللهَ بها، ولا يؤوبُ إليه بالنظر فيها ممن يصدُقُ فيهم قولُه - سبحانه -: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 105، 106].
نعم، لقد أقسمَ الله بهذه الآية العظيمة أربع مراتٍ في كتابه العزيز، فقد قال - سبحانه وتعالى -: وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [المرسلات: 1- 3]، وقال - سبحانه -: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات: 1]. إنها آيةُ الرِّيح والرياح - عباد الله -.
الرِّيح التي يُصرِّفُها الله كيف يشاءُ مُطيعةً له - سبحانه -، إنما يقول لها: كوني، فتكون، مُذلَّلةً لخالقها ومُدبِّرها كما ذلَّت السماوات والأرضُ له - سبحانه وتعالى -، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11].
وقد جعلَ الله - سبحانه - تصريفَ الرِّياح من الآيات لقومٍ يعقِلون، فتكون باردةً وحارةً، وجنوبًا وشرقًا، وشمالاً ودبورًا، وتُثيرُ السَّحاب وتُؤلِّفُ بينَه، وتجعلُه رُكامًا يخرُج الودْقُ من خلاله، وتكونُ لواقِح للمطر والنبات، ومصدرًا للطاقة الكهربائية، والطواحين، وسير السُّفن، وحركة الطيران، ولا يُخرِجُها ذلكم كلُّه عن كونها آيةً من آيات الله، ومحلاًّ لإطلاق الفِكر والنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلقَ الله من شيءٍ.
وإن تعجَبوا - عباد الله -، فعجبٌ وصولُ فِكر بعض المُسلمين إلى درجةٍ من الهوان العقليِّ والدُّونِ العلميِّ؛ حيث إنهم قد خُدِعوا بدراساتٍ ومُعتقَداتٍ وثقافاتٍ ليست من الإسلام في شيءٍ، تجعلُ النظرةَ إلى الظواهر الكونيَّة، والكوارِث المُشاهَدة نظرةً ماديَّةً بحتةً، من جهة مصدرها، وسببها، ومن جهة التعامُل معها، في زمنٍ يُدرِكُ فيه بعضُ من يُنسَبُون إلى غير الإسلام في دراساتهم واكتشافاتهم لأحوال تلك الظواهر أن الأمرَ ليس مُوكلاً إلى الطبيعة لا ابتداءً ولا انتهاءً، وأن هذه الرِّياح لها حكمةٌ وحكيمٌ مُدبِّرٌ يعلمُ وهم لا يعلَمون.
وربما ازدادَ عجبُهم، بل وربما أسلمَ بعضُهم حينما يعلمُ أن الإسلامَ قد أصَّلَ هذا الجانبَ، وأن الرِّياحَ خلقٌ من مخلوقات الله العجيبة في كونه العظيم.
ففي الوقت الذي يظنُّ فيه بعضُهم أنه بلغَ درجةً من الاكتِشافِ لأسرار الرِّياح بعد لأْيٍ وأبحاثٍ ومُضيِّ أعمارٍ على أن الرِّياح لا تخلو من أربع حالاتٍ: إما أن تكون رِيحًا ساكنةً، أو رِيحًا هادئةً ساكِنةً عليلةً، أو رِيحًا عاصِفةً، أو رِيحًا قاصِفًا.
وتبلغُ الدهشةُ أوجَها، والمُفاجأةُ ذروتها حينما يعلَمون أنّض كتاب الله - سبحانه - قبل خمسة عشر قرنًا من الزمان قد بيَّن هذه الأصنافَ للرِّيح بهذا الترتيب في زمن الأمة الأُمِّيَّة التي لا تقرأُ ولا تكتُب؛ فقد قال - سبحانه وتعالى - عن الرِّيح الساكِنة: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى: 32، 33].
وقد كان المفهومُ عند عموم المُفسِّرين الذين فسَّروا كتابَ الله تعالى منذ أمدٍ بعيدٍ أن المقصودَ بذلكم هي السُّفُن الشراعِية التي لا تستطيعُ السيرَ في البحر إذا سكَنَ الهواء، وإذا بالإعجاز العلميِّ في القُرآن الكريم يُبهِرُنا بأنه قد سبقَ الاكتِشافات الحديثة، وأنَّ الرِّيح إذا سكَنَت سُكونًا تامًّا فلن تستطيع السُّفُن السيرَ على البِحار؛ لا السُّفُن الشِّراعيَّة، ولا السُّفُن البُخاريَّة، ولا السُّفُن العملاقة التي تعملُ بالطاقة النوويَّة؛ لحاجةِ كلِّ مصادر الطاقة المُستخدَمة في دفع تلك السُّفُن إلى أوكسجين الهواء، فإذا سكنَت الرِّيح انعدمَ الأوكسجين فركَنَت السُّفُن.
وقولوا مثلَ ذلكم في الطائرات والطواحين الهوائيَّة ونحو ذلكم.
وأما الرِّيحُ الطيبة والرِّيحُ العاصِف، فقد ذكرَها الله بقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ .. [يونس: 22] الآية؛ حيث إن الموتَ يصِلُ في الارتفاع إلى درجةٍ تعلُو فوقَ السُّفُن، مع شدَّةٍ في السُّرعة مُغرقة، حيث استحالَت رِيحًا عاصِفًا بعد أن كانت رِيحًا طيبَةً.
وأما الرِّيحُ القاصِف، فهي التي تُسمَّى الإعصار، وهي التي تكونُ بشكلٍ عموديٍّ إلى السماء، وتجعلُ أمواجَ البحر شاهِقةً تُدمِّرُ السُّفُن وتغرَقُ بسببها، وقد يكونُ الإعصارُ فيه نارٌ، وقد يكونُ بلا نارٍ، وهو الأكثر.
ومن الاكتِشفات الحديثة عند رُوَّاد الأبحاث الجيولوجيَّة والجُغرافيَّة أنَّ الإعصارَ الذي فيه نارٌ إنما يكونُ ويتولَّدُ من حرائق الغابات الكثيفة، ومن المعلوم بداهةً أن القُرآن أُنزِل على أمَّةٍ يغلِبُ عليها الوضعُ الصحراويُّ وتُفتقَد فيه الغابات، ومع ذلك قال الله - سبحانه وتعالى - في زمنهم: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: 266].
فها هو كتابُ الله قد سبقَهم بخمسة عشر قرنًا من الزمان، دينًا حقًّا قِيَمًا، هو صِبغةُ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة: 138].


وبعدُ - يا رعاكم الله -:
فإن الرِّيحَ جندٌ من جنود الله، تكونُ رأفةً لعباده المُؤمنين، وبُشرى بين يدي رحمته، تُقِلُّ سحابًا ثِقالاً فيسوقُه الله إلى بلدٍ ميِّتٍ ليُسقِيَه مما خلقَ أنعامًا وأناسِيَّ كثيرًا، وتكونُ نعمةً لعباد الله المُؤمنين، وهي من جنود ربِّ العالمين - سبحانه - حين يُرسِلُها على عدوِّهم ومن بغَى عليهم؛ فقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نُصِرتُ بالصَّبا»؛ رواه مسلم.
والصَّبا هي الرِّيحُ الشرقيَّة.
لم يُحصِ جُندَ الله في ملَكوته غيرُ العليم القاهر التوَّابِ
قد أنجزَ النصرَ العظيمَ لعبده بجنُودِه كالرِّيحِ في الأحزابِ
وقد تكون الرِّيح نقمةً وعذابًا يرسِلُه الله على من يشاءُ من عباده وهو الحكيمُ العليمُ؛ فقد أهلكَ عادًا بالدَّبُور العقيم الصَّرصَر، وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة: 6]، وأهلكَ بها الأحزابَ الذين تآمَروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقال الله عنهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب: 9].
والرِّيحُ أيضًا من دلائل نبُوَّته - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد قال جابرٌ - رضي الله عنه -: "قدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من سَفَر، فلما كان قُربَ المدينة هاجَت رِيحٌ شديدة تكادُ تدفِنُ الرَّاكِبَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «بُعِثَت هذه الرِّيحُ لموت مُنافِقٍ»، فلما قدِمَ المدينة فإذا مُنافِقٌ عظيمٌ من المُنافقين قد مات"؛ رواه مسلم في "صحيحه".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وتأمَّلوا في منَّة الله على عباده بالرِّيح الطيِّبة والرِّياح؛ حيث يقول - سبحانه -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الروم: 46].
قال بعضُ السَّلَف: " أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ فتفرحُ النفوسُ بالرِّياح، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي: بالمطر الذي تحمِلُه الرِّياح، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ أي: الفُلك التي تُحرِّكُها الرِّياح، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: بتجارة البِحار التي تُحرِّكُ الرِّياحُ بواخِرَها، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: تشكُرون اللهَ على نعمة الرِّياح".
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 57].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمنَ الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفَى، والصلاة والسلام على رسوله المُصطفى، وعلى آله وصحبِه ومن اقتفَى.
وبعد، فيا أيها الناس:
لله ما أعظمَ هذا الدين وما أحسنَه، وما أوسَعه وأشملهَ، لم يدَع شرًّا إلا حذَّرَ منه، ولا خيرًا إلا دلَّ عليه، قال أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -: "لقد تُوفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائرٌ يُقلِّبُ جناحَيْه في السماء إلا ذكرَ لنا منه علمًا"؛ رواه أحمدُ، وابن حبان.
وقد قال بعضُ المُشركين لسلمان - رضي الله عنه -: قد علَّمَكم نبيُّكم كلَّ شيءٍ حتى الخِراءة؟! فقال: "أجل؛ لقد نهانا أن نستقبِلَ القِبلةَ لغائطٍ أو بولٍ .. الحديث"؛ رواه مسلمٌ في "صحيحه".
وقد جاء في شريعتنا الغرَّاء ما هو محلُّ التوجيه والإرشاد إلى كيفيَّة التعامُل مع الرِّيح والرِّياح؛ فقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عصَفَت الرِّيح يقول: «اللهم إني أسألُك خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسِلَت به، وأعوذُ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسِلَت به»؛ رواه مسلم.
وقد نهانا - صلوات الله وسلامه عليه - عن سبِّ الرِّيح بأي نوعٍ من أنواع السبِّ أو الذَّمِّ؛ بل إنه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يومُ الرِّيح والغَيْم عُرِفَ ذلك في وجهه، وأقبَلَ وأدبَرَ، فإذا مطَرَت سُرَّ به، وذهبَ عنه ذلك. قالت عائشة - رضي الله عنها -: فسألتُه فقال: «إني خشيتُ أن يكون عذابًا سُلِّط على أمتي»؛ رواه مسلم.
وكان من هديِه - صلى الله عليه وسلم - أن مُنادِيَه في الليلة المطيرة أو الليلة البارِدة ذات الرِّيح: "صلُّوا في رِحالِكم".
وقد ذكرَ أهلُ العلم جوازَ الجمع في الرِّيح الشديدة البارِدة، ونهَوا عن التبوُّل عكسَ الرِّيح حتى لا يقعَ عليه شيءٌ من النجاسة.
هذا هو دينُنا، وهذه هي شِرعتُنا، رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء: 66- 69].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصُر إخواننا المُسلمين في بُورما، وانصُر إخواننا المُسلمين في سُوريا، اللهم انصُرهم على من بغَى عليهم وطغَى يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وبال، واجعلها عليه سِنِيَّ كسِنيِّ يوسف يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك فلا تمنَع عهنا ذنوبِنا فضلَك يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 11-18-2012, 09:01 AM   رقم المشاركة : 124

 

الأمل والتفاؤل بقدوم عام جديد

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 2 محرم 1434 هـ بعنوان: "الأمل والتفاؤل بقدوم عام جديد"، والتي تحدَّث فيها عن ضرورة التلبُّس بالتفاؤل والأمل في نصر الله وتمكين عباده المؤمنين، وذلك في مطلع عامٍ جديدٍ وأحوال المسلمين فيه تسُوءُ يومًا بعد يوم، وأشارَ إلى أن هذا ابتلاءٌ وتمحيصٌ من الله ليعلمَ الصادقين من الكاذبين، وليميز الخبيثَ من الطيبِ، ولم ينسَ التذكير بفضل صيام عاشوراء، وعِظَم هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي غيَّرَت وجهَ التأريخ.

[color="rgb(0, 100, 0)"]الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونُثني عليه الخيرَ كلَّه.
يا ربِّ حمدًا ليس غيرُك يُحمَدُ يا مَن له كلُّ الخلائِقِ تصمُدُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستمنِحُ منها العزيمةَ والبأس، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أنارَ الله به دياجيرَ الظُّلُمات والياس، صلَّى الله وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الآس، وصحبِه المُتفائِلين في جُملة الأغراس، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا يُطيِّبُ مرائرَ الأنفاس.
أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به على الدوام ومرِّ الأيام والأعوام: تقوى الله الملكِ العلاَّم؛ فتقوى الله نورٌ يُضيءُ الظُّلمات، وحصنٌ من الفتن المُوبِقات، وشفاءٌ من النوائبِ الحادِثات، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
فلازِم تُقَى الرحمن واسأله نُصرةً يُمدِدك من إسعافِه بالعجائبِ
فإن التُّقَى حِصنٌ حصينٌ لأهله ودرعٌ يقِي حادِثات النوائِبِ
أيها المسلمون:
في صحماء الفتن المُدلهِمَّة، ويَهماء التحديات المُحدِقة بالأمة، يدورُ الزمانُ دورتَه، ويُكمِلُ عامٌ من أعوامه مُهمَّته، عامٌ قد قُوِّضَت خِيامُه، وتصرَّمَت أيامُه، وتلك سُنَّةُ الله في كونه؛ أيامٌ سيَّارة، وأشهرٌ دوَّارة، وأعوامٌ كرَّارة، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62].
عامٌ أطلَّ على الأنام جديدُ فلكلِّ قومٍ في البسيطة عيدُ
حيَّتْه حينَ أطلَّ آمالُ الورَى ولَكَم صبَونَ إليه وهو بعيدُ
معاشر المُسلمين:
ها هي الأمة الإسلامية قد ودَّعَت عامًا هجريًّا مضى وتولَّى، ولم يبقَ منه إلا ذِكرى ما تبدَّى فيه من الخير وتجلَّى، ودَّعنا عامًا كما يُودِّعُ أحدُنا يومَه عند انقِضائه، لا يراه طويلاً ما بين صباحه ومسائه.
وفي مطلَع عامِنا الوليد الأغرِّ - جعلَه الله بارِقةَ نصرٍ وعزٍّ وتمكينٍ - لا بُدَّ أن نعيشَ الأملَ والتفاؤُلَ؛ فمع أنَّ أمَّتنا الإسلامية لا تزالُ رهينةَ المآسِي والنَّكَبات، والشَّتات والمُلِمَّات، جسدُها مُثخنٌ بالجراح، وأبناؤُها يُعانون في مُختلِف الوِهاد والبِطاح، تُراقُ فيهم الدماء، وتتقطَّعُ منهم الأشلاء، في صَلَفٍ ورُعونةٍ، وصُدارةٍ مأفونةٍ، بما يدكُّ الأطواد، ويرُضُّ لفائفَ الأكباد.
فلا ينبغي أن يحمِلَ ذلك على الإدلاجِ في سراديبِ الإحباط، والوُلوجِ في غياهِبِ الشِّمات والشِّماط. واليأسُ سُدفةٌ من حُلَك الظلام؛ لذا نهانا عنه الواحدُ العلاَّم، فقال - سبحانه -:
وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]، وقال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر: 56].
إذا اشتملَت على اليأس القلوبُ وضاقَ لما به الصدرُ الرَّحيبُ
وأوطأَت المكارِهُ واطمأنَّت وأرسَت في أمكانِها الخُطوبُ
أتاكَ على قنوطٍ منك غوثٌ يمُنُّ به اللطيفُ المُستجيبُ
أمة الإسلام:
ليس أنجعَ في ساعات اليأس والقُنوط من إعمال سيف الأمل البتَّار، والادِّراع بالتفاؤُل والاستِبشار؛ فالأملُ يُخفِّفُ عناءَ العمل، ويذهبُ باليأس والقُنوط والملَل، وبعد حُلكة الليل الشديد تُشرِقُ شمسُ يومٍ جديدٍ.
إذا الأمسُ لم يعُد فإن لنا يومًا نُضيءُ به الدنيا ونملؤُها حمدًا
وتُلبِسُنا في الليل آفاقُه سَنَن وتُنشِئُنا في الفجر أنسامُه ندَى
بالتفاؤُل والأمل تتدفَّقُ روحُ العزيمة، وتتألَّقُ نسَماتُ النبُوغ، وتتأنَّقُ بواعِثُ الثِّقةِ والتحدِّي. وهذه القوةُ الأخَّاذة، والكُوَّةُ النورانية هي من أزاهير الشريعة الربانية، والسيرة المُحمَّدية لرسول الهُدى - صلى الله عليه وسلم -.
وإن حياتَه الكريمة - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - لأنموذجٌ عمليٌّ للتدرُّع بالتفاؤُل والأمل والاستِبشار، في أحلَك الأزَمات والنوازِل والمُلِمَّات، حتى كان ليُبشِّرُ أصحابَه ويقول: «ليبلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهار، ولا يترُكُ الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَرٍ إلا أدخلَه الله هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلاًّ يُذِلُّ الله به الكُفرَ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "المسند".

نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ من الرُّسْل، والأوثانُ في الأرض تُعبَدُ
فأمسَى سِراجًا مُستنيرًا وهادِيًا وعلَّمَنا الإسلامَ، فاللهَ نحمَدُ
أمة الإيمان:
وفي حوالِك الكُروب، ومعامِع الخُطوب، ومُدلهِمَّات الدُّروب تشرئِبُّ طُلَى أهل الإيمان إلى إشراقات النَّصرِ وبشائر الانبِلاج، وتتطلَّعُ إلى أرَجِ الانفِراج، وها هو واقعِنا خيرُ شاهِدِ عِيان، وأصدقُ مُنبِئٍ وبُرهان.
فكم من أممٍ وانيةٍ عزَّت من بعد هُمود، ونهضَت بعد خُمود، وسادَت بعد جُحود، وها هي فُلولُ الظلم والطُّغيان في بلاد الشام تحسِبُ سُويعَات حياتها، وإن كانت في عُقر القِلاع الحَصينة المَشيدة، وخلفَ المتارِسِ الشديدة؛ فالبشائرُ تأتي بتضييق الحِصار، ونِعمَّا هي الأخبار، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55].
نعم، لنا اللهُ مولانا نُؤمِّلُه عند الرَّخاءِ وفي الشِّدَّاتِ والنُّوَبِ
ربٌّ يَغارُ ومن يطلُبه يُدرِكه لا أرضٌ تقِيه ولا قصدٌ إلى هرَبِ
أهلَنا وإخوانَنا في فلسطين الصامِدة، بلد الأقصى الأسير! أبشِروا بالنَّصرِ الأثِير، بعد ما فُتِحَت المعابِر، وخُفِّفَ الحِصار، مما يزيدُ التفاؤُل والاستِبشار؛ فإننا نُؤمِّلُ الفرَجَ بعد الشدَّة والحرَج، واليُسرَ من بعد الضِّيقِ والعُسر، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر: 2].
إننا لنتفاءَلُ - بإذن الله - بانبِلاجِ صُبحِ النصر المُبين في كل مكانٍ، على الظِّرابِ والآكام، لإخواننا في بلاد الشام، وفي فلسطين، وبُورما وأراكان؛ فالنصرُ للإسلام وإن تكالَبَ اللِّئامَ، ونشَروا التدميرَ والظلمَ والإرهابَ والإجرامَ.

إنها سُنَّةُ الله في خلقِه، لكنَّه الابتلاءُ الابتلاءُ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31].
لا خيرَ في اليأسِ كلُّ الخيرِ في الأمَلِ أصلِ الشجاعةِ والإقدامِ في الرَّجُلِ
نُعلِّلُ النفسَ بالآمالِ نرقُبُها ما أضيَقَ العيش لولا فُسحةُ الأملِ
أمة النصر الموعود:
ليكُن منكم بحُسبان أن الأملَ والتفاؤُلَ لُحمُهما وسَداهُما التطوُّرُ والتجديدُ، ونبذُ الرَّتابَةِ والنَّمَطيَّة؛ فهُما للكَسَل والخُمول نِعمَ المطيَّة، مع المُحافَظة على الأُصول والثوابِت، فبِهما يتمُّ المُرادُ - بإذن الله -.
فابدأوا - رحمكم الله - مع بداية العامِ بالجدِّ والاجتِهاد، والتفاؤُل بالنَّصرِ والأمجادِ، والمغانِم الفِراد؛ فغوالِي الأماني لا تُدرَكُ بالتوانِي، وأنَّى يُدرِكُ العوالي الفَدمَ العالي؟!
يقول عبدُ الله بن الزُّبير - رضي الله عنهما -: "من جاء يطلُبُ ما عند الله فإن طالبَ الله لا يخيبُ، فصدِّقُوا قولَكم بفعلٍ؛ فإن مِلاكَ القول الفِعلُ".
وبعدُ، يا رعاكم الله:
ليكُن منكم بحُسبان أن الزمان أنفاسٌ لا تعُود، ولو جُمِعَت له الحرسُ والبُنود، وهو وحِيُّ التقضِّي، أبِيُّ الجانبِ، بطيءُ الرُّجوع، وهو مُنقضٍ بذاته، مُنصرِمٌ بنفسه، فمن غفَلَ عنه تصرَّمَت أوقاتُه، وعظُمَ فواتُه، واشتدَّت حسَراتُه، فإذا علِمَ حقيقةَ ما ضاع طلبَ الرُّجعَى، فحِيلَ بينه وبين الاستِرجاع.
وما المرءُ إلا راكِبٌ ظهرَ عُمره على سَفَرٍ يُفنيه باليوم والشَّهرِ
يَبيتُ ويُضحِي كلَّ يومٍ وليلةٍ بعيدًا عن الدنيا قريبًا من القبرِ
فاللهَ اللهَ في تحقيق العقيدة والتوحيد، ولُزوم السُّنَّة والجماعة، وتحكيم الشريعة، والعناية بالشباب والأجيال، والتحلِّي بالوسطيَّة والاعتِدال، والاستِثمار الأمثَل لوسائل الاتِّصال، وتسخير وسائل الإعلام في خدمةِ الإسلام، والله - عز وجل - يقول: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيمٌ.

[color="rgb(0, 100, 0)"]
الخطبة الثانية
[/color]
الحمد لله مُقدِّر الأزمان والآجال، ومُبدِع الكون على غير مِثال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الكمال والجلال والجمال، يعجَزُ عن وصفِه بليغُ البيان والمقال، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من عبَدَ ربَّه في الغِنَى والإقلال، صَلَّى الله عليه صلاةً دائِمةً في الأسحار والآصَال، وعلى آله وصحبه خيرِ صحبٍ وآلٍ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وصالحِ الأقوال والأعمال، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المؤمنون:
اتقوا الله حقَّ التقوى؛ فإن تقواه - سبحانه - أوثقُ الوثائِق، وهي العُدَّةُ في المضائِق، وبها تُكشَفُ وجوهُ الحقائق.
إخوة الإيمان:
إن استِهلالَ عامٍ هجريٍّ جديدٍ يُذكِّرُنا بحدَثَيْن عظيمَيْن جليلَيْن غيَّرَا مجرى التأريخ، وكان فيهما نصرٌ وتمكينٌ، وعِزٌّ للأنبياء والمُرسلين والمُؤمنين، يبعَثان في النفس التفاؤُلَ والأملَ.
وأولُ هذين الحدَثَين: يومُ عاشوراء، ذلك اليوم الذي أنجَى الله فيه موسى وقومَه، ولذلك صحَّت السُّنةُ النبوية بفضل صيامِه عن الحبيب المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: «أحتسِبُ على الله أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبلَه»؛ خرَّجه مسلمٌ في "صحيحه".
أما ثانيهِما: فهو هِجرةُ النبي المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وإنه لحدَثٌ لو تعلَمون عظيمٌ، فيه من الفوائد والفرائد ما تحوِيه أجلاد، ولا يُوفِّيه جلَدٌ ولا اجتِهاد، وإن ذِكراها لتُشمرِجُ القلوبَ، وتزيدُ الشَّوقَ إلى النبي الحبيبِ المحبوبِ - صلى الله عليه وسلم -، وشمائله الزكيَّة، وأخلاقِه وقِيَمه السنِيَّة.
ولقد كان حدَثُ الهِجرة النبويَّة أمرًا فارِقًا في تأريخ البشريَّة جمعاء، لذا جعلَه الفاروقُ عمرُ - رضي الله عنه - بدايةَ التأريخ الإسلامي، ومُستندَ الوقائع والأحداث.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وتفاءَلوا بالخير تجِدوه، واستفتِحوا عامَكم بمُحاسبةٍ جادَّةٍ صادقةٍ، وتوبةٍ نَصوحٍ من الزلاَّت والسيئات، وداوِموا على الأعمال الصالحات، وأكثِروا من القُرُبات والطاعات، وسجِّلوا في صحائِف عامِكم هذا ما يسُرُّكم في دُنياكم وأُخراكم، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على البشير النذير، والسراجِ المُنير، كما أمرَكم بذلك اللطيفُ الخبيرُ، فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
أزكى صلاةٍ بتسليمٍ يُؤازِرُها على نبيٍّ كريمِ الأصلِ مُختارِ
محمدٍ خيرِ مبعوثٍ وعِترتِه وصحبِه خيرِ أصحابٍ وأنصارِ
اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ والتابعين، وعن الطاهرات أمهات المؤمنين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وأسبِغ عليه لِباسَ الصحةِ والعافيةِ، وارزُقه البِطانةَ الصالحةَ التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعَلهم نُصرةً لعبادك المُؤمنين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، برحمتك نستغيثُ، فلا تكِلنا إلى أنفُسنا طرفةَ عينٍِ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه.
اللهم انصُر إخوانَنا المُجاهدين في سبيلك في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصَّهايِنة المُعتدين المُحتلِّين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من عُدوان المُعتدين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كُن لإخواننا في سوريا، اللهم كُن لإخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم كُن لإخواننا في بُورما وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّولِ والإنعام.
اللهم إنا نسألُك من الخير كلِّه عاجِلِه وآجِلِه، ما علِمنا منه وما لم نعلَم، ونعوذُ بك من الشرِّ كلِّه ما علِمنا منه وما لم نعلَم.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، وارفع الضُّرَّ عن المُتضرِّرين، والبأساءَ عن البائسين المُضطهَدين يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك فلا تمنَع عنَّا بذنُوبِنا فضلَك.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مِدرارًا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمسلمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
[/color]

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-15-2012, 10:37 AM   رقم المشاركة : 125
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

قصة يوم عاشوراء

ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 9lpvl 1434iJبعنوان: "قصة يوم عاشوراء"، والتي تحدَّث فيها عن الواجبِ على كل مسلمٍ من تذكُّر الأيام الخالِدة، والوقوف أمامها لأخذ العِبرة والعِظة، وأن من أعظم الأيام التي تُستقبَلُ: يوم عاشوراء، وذكرَ طرفًا من قصة إنجاء الله لموسى – عليه السلام – ومن معه، وإهلاك فرعون وجنوده، وبيَّن العِبَرَ والدروسَ المُستفادة منها، وذكَّر بفضل صيام هذا يوم عاشوراء، وحذَّر من الابتِداع فيه بما أحدثَه الناسُ من مُحدثاتٍ وخرافاتٍ.


الخطبة الأولى

الحمد لله يُنجِّي المؤمنين، ويمحَقُ ويُذِلُّ الكافرين، أحمده - سبحانه - والحمدُ واجبُ له في كل حينٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجُو بها الفوزَ يوم الدين، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمامُ المتقين ورحمةُ الله للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الأبرار الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وراقِبوه واذكُروا أنكم مُلاقوه، موقوفون بين يديه، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19].
أيها المسلمون:
التذكيرُ بأيام الله الخالِدة، والوقوفُ أمامَها لأخذ العِبرة، وتذكُّر النِّعَم، ورسمِ مناهجِ السَّير لما يُستقبَلُ من الأيام شأنُ كلِّ أوَّابٍ حفيظٍ، وطريقُ الصَّفوة من عباد الله، ودَيدَنُ المُوفَّقين أُولي الألباب.
وإن من أعظم أيام الله التي يستقبِلُها المُسلمون: يوم عاشوراء، ذلك اليومُ الصالحُ الذي يُذكِّرُ الله فيه أهلَ الإيمان بنعمةٍ من أجلِّ نعمِه، وأعمقِها أثرًا، وأعظمها دلالةً، تلك هي: نعمةُ إنجاء موسى - عليه السلام - ومن معه من المؤمنين، وإغراق الطاغية فرعون وحِزبه وجنوده الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ [الفجر: 11، 12]، حين استكبَروا في الأرض بغير الحقِّ، ونفَوا القيامة، وأنكَروا المعاد، وبلغ بفرعون عُتُوُّه وعلُوُّه وإسرافُه واستِكبارُه أن قال لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]، وقال لهم أيضًا: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24].
فقصَّ الله خبرَه في كتابٍ يُتلَى ليكون عِبرةَ الأبد، وعِظةَ الأيام، فقال - سبحانه -: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 52- 68].
ويبسُطُ الإمامُ الحافظُ ابن كثيرٍ مدلولَ هذه الآيات العظيمة فيقول: "لما طالَ مقام موسى - عليه السلام - ببلاد مصر وأقام بها حُجَجَ الله وبراهينَه على فرعون وملَئِه، وهم مع ذلك يُكابِرون ويُعانِدون لم يبقَ لهم إلا العذابُ والنَّكال، فأمرَ الله موسى - عليه السلام - أن يخرُج ببني إسرائيل ليلاً من مصر، وأن يمضِيَ بهم حيث يُؤمَر، ففعل موسى - عليه السلام ما أمرَه به ربُّه - عز وجل -، وخرجَ بهم بعد ما استعارُوا من قوم فرعون حُلِيًّا كثيرًا.
وكان خروجُه بهم - فيما ذكرَ غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين - وقتَ طلوع القمر، فلما أصبحَ قومُ فرعون وليس في نادِيهم داعٍ ولا مُجيبٌ، غاظَ ذلك فرعون واشتدَّ غضبُه على بني إسرائيل لما يُريدُ الله به من الدَّمار، فأرسلَ سريعًا في بلاده من يحصُرُ الجُندَ ويجمعُه، ونادى فيهم قائلاً: إن بني إسرائيل طائفةٌ قليلةٌ، وفي كل وقتٍ يصِلُ لنا منهم ما يغيظُنا، ونحن لذلك نحذَرُ منهم، ونُريدُ أن نستأصِلَ شأفتَهم.
فجُوزِيَ في نفسِه وجُنده بما أراد لهم، فخرجوا من النعيم الذي كانوا فيه، وتركوا تلك المنازِلَ العالية والبساتين والأنهارَ والأموالَ والأرزاقَ والمُلكَ الجاهَ الوافِرَ في الدنيا، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137].
وذكرَ غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين أن فرعون خرجَ في محفلٍ عظيمٍ وجمعٍ كبيرٍ من أُولِي الحلِّ والعقد والدول من الأُمراء والوزراء والكُبراء والرُّؤساء والجُنود، فوَصَلوا إليهم عند شروق الشمس، فلما رأى كلٌّ من الفريقَيْن صاحبَه فعند ذلك قال أصحابُ موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، فقال لهم موسى - عليه السلام -: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]؛ أي: لا يصِلُ إليكم شيءٌ مما تحذَرون؛ فإن الله - سبحانه - هو الذي أمرَني أن أسيرَ ها هُنا بكم، وهو - سبحانه - لا يُخلِفُ الميعاد.
وكان هارون - عليه السلام - ومعه يُوشعُ بن نون ومؤمنُ آل فرعون، وموسى - عليه السلام - في السَّاقَة؛ أي: في المُؤخِّرة.
وذكرَ غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين أنهم وقَفوا لا يدرُون ما يصنَعون، وجعلَ يُوشعُ بن نُون أو مُؤمنُ آل فرعون يقول لموسى - عليه السلام -: يا نبيَّ الله! ها هُنا أمرَك الله أن تسيرَ؟ فيقول: نعم.
واقتربَ فرعونُ وجنودُه ولم يبقَ إلا القليل، فعند ذلك أمرَ الله نبيَّه موسى أن يضرِبَ بعصاه البحر، فضربَه وقال: انفلِق بإذن الله، فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63]؛ أي: كالجبل الكبير.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: صار البحرُ اثنَيْ عشر طريقًا لكلِّ سِبطٍ طريقٌ، وبعثَ الله الرِّيحَ إلى قعر البحر، فلفحَته فصار يَبَسًا كوجه الأرض، قال الله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [طه: 77].
وقال في هذه القصة: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ [الشعراء: 64]؛ أي: قرَّبنا من البحر هُنالك فرعون وجُنودَه وأدنيناه إليه، وأنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتَّبَعهم على دينهم، فلم يهلِك منهم أحدٌ، وأغرقَ فرعونَ وجُنودَه فلم يبقَ منهم رجلٌ إلا هلَك".
عباد الله:
إن في هذه الواقِعة من الدلالات والعِبَر ما لا يحُدُّه حدٌّ، ولا يستوعِبُه بيانٌ، وفي الطَّليعة من ذلك: أن الله تعالى هو المُنجِّي من الكُروب والشدائد التي تنزِلُ بأهل الإيمان، لا سيَّما الرُّسُل منهم، كما قال - سبحانه -: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 103].
وهو دليلٌ بيِّنٌ على أن الإيمان والإسلام سببٌ للنجاة من كل ضُرٍّ وشرٍّ في الدنيا، وطريقٌ للفوز بكلِّ خيرٍ ونعيمٍ في الآخرة، إذا التزمَ المرءُ بمُقتضياتهما، وعمِلَ بأحكامهما، وهذا يقتضِي من العبدِ إخلاصَ العبادة لله، وصدقَ اللُّجوء إليه، وكمالَ التوكُّل عليه، ولُزومَ بابه بشدَّة الضراعة والإلحاح والتوسُّل إليه، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: 65].
ومن ذلك: أن سُنَّةَ الله في دحرِ الطُّغيان وهزيمة جُنده ماضيةٌ لا تتخلَّفُ ولا تتبدَّلُ، ولهذا قال - سبحانه - في بيان عاقبة فرعون: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص: 40- 42].
وعلى العكس منهم: أولئك الذين استُضعِفوا في الأرض، فنالَهم من صُنوف الأذى والعُدوان ما نالَهم، ونزلَ بهم من الضرِّ والشدائد ما نزَل، فقد جعلَ الله عاقبتَهم عِزًّا وسيادةً ورِيادةً وتمكينًا في الأرض، واستِخلافًا فيها، كما قال - سبحانه -: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 5، 6].
وهذه عاقبةُ الحقِّ وأهله على الدوام، مهما اغبرَّ وجهُ الحق، وغشِيَته غواشِي الباطل، وإن بشائرَ تحقُّق هذه العاقبةِ للمُؤمنين المُستضعَفين في غزَّة وسائر فلسطين، وفي سُوريا وميانمار، لتلُوحُ في الأُفُق القريب - إن شاء الله -.
فبُشرى لهم، ثم بُشرى، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم: 4، 5].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
لقد سنَّ رسولُ الهُدى - صلواتُ الله وسلامُه عليه - للأمَّة صيامَ هذا اليوم العظيمِ المُبارَك شُكرًا لله تعالى على نعمةِ إنجائِه موسى - عليه السلام - ومن معه من المُؤمنين، وإغراقِ فرعون وجُنودِه، وإظهارًا لوَثيقِ الصِّلةِ بين الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ولبيان أن دينَهم واحدٌ وإن كانت شرائِعُهم شتَّى.
فقد أخرجَ الشيخان في "صحيحيهما"، واللفظُ للبُخاريِّ - رحمه الله -، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، فرأى اليهودَ تصومُ يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟». قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومُ نجَّى اللهُ بني إسرائيل من عدُوِّهم، فصامَه موسى. قال - صلى الله عليه وسلم -: «فأنا أحقُّ بمُوسى منكم»، فصامَه وأمرَ بصيامه.
وفي لفظٍ لمُسلمٍ - رحمه الله -: «هذا يومٌ عظيمٌ أنجَى الله فيه موسى وقومَه، وأغرقَ فرعون وقومَه، فصامَه موسى».
وفي لفظٍ للطبراني - رحمه الله -: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: «نحن أحقُّ باتباع مُوسى منكم».
وأخبرَ - صلوات الله وسلامه عليه - عن عِظَم ثواب صيام هذا اليوم فقال: «صيامُ يوم عاشوراء أحتسِبُ على الله أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبلَه»؛ أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" من حديثِ أبي قتادةَ الأنصاريِّ - رضي الله عنه -.
ومن السُّنَّة - يا عباد الله - في صيامه: أن يُصامَ يومٌ قبلَه؛ فقد أخرجَ مُسلمٌ في "صحيحه" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لئن بقِيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسِعَ».
والمُعتمَدُ لدى أهل العلمِ بالحديث - يا عباد الله - أنه لا يصِحُّ في يوم عاشوراء ولا في ليلته ولا في التوسِعةِ فيه على العِيالِ حديثٌ، وكلٌّ ما يُروَى في ذلك فهو مردودٌ لا يصِحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يُستحبُّ فيه سِوى صيامِه وصيامِ يومٍ قبلَه.
فيجبُ اجتِنابُ ما أُحدِثَ فيه من البِدَع؛ كإحياء ليلته وتخصيصِها بالذِّكر والتعبُّد، وتخصيصِه بدعاءٍ خاصٍّ له يُسمَّى "دعاء عاشوراء"، واعتقاد أن من قرأَه لم يمُت سنتَه تلك، وقراءة سُورةٍ يُذكرُ فيها نبيُّ الله موسى - عليه الصلاة والسلام - في صلاة الصبح يوم عاشوراء، والاجتِماع في يومِه للذِّكر والدعاء، ونعيِ الحُسين - رضي الله عنه - ذلك اليوم على المنابِر، واعتِقاد أن البَخورَ يوم عاشوراء رُقيةٌ يُدفَعُ بها السِّحرُ والحسَدُ والمسُّ والنَّكَد، إلى غير ذلك مما لم يأذَن به الله ولم يشرَعه رسولُه - صلوات الله وسلامه عليه -، ولا عمِلَه أحدٌ من صحابته - رضوان الله عليهم أجمعين -.
وقد حذَّر رسولُ الهُدى - صلوات الله وسلامُه عليه - من الإحداثِ في دين الله فقال: «من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ» - أي: مردودٌ على صاحبه -؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -.
وفي لفظٍ لمُسلمٍ - رحمه الله -: «من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ».
فاتقوا الله - عباد الله -، واحرِصوا على إدراك هذا الفضلِ العظيم؛ بصيام هذا اليوم العظيم، ولُزوم السنَّة فيه، بالاتباع لهدي خيرِ الورَى - صلى الله عليه وسلم -، وحذارِ من ابتِداع ما لم يأذَن به اللهُ في هذا اليوم وفي سائر الأيام؛ فكلُّ خيرٍ في اتباع من سلَف، وكلُّ شرٍّ في ابتِداع من خلَف.
واذكروا على الدَّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدقِ الحديث وأحسنِ الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم أسبِغ عليه نعمةَ الصحة التامة والعافية يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم التَّناد.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أحسِن لهم المثوبةَ، وأعظِم لهم الأجرَ على ما يُقدِّمونَه من خدماتٍ لحُجَّاج بيتك الحرام، اللهم اكتُب المثوبةَ وعِظَم الأجر لكل من كان له يدٌ في خدمة حُجَّاج بيت الله الحرام مدنيِّين وعسكريِّين يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطك، اللهم إنا نسألُك من خيرِ ما سألَك منه عبدُك ونبيُّك محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذَك منه عبدُك ونبيُّك محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، أنت المُستعانُ وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم انصر واحفَظ المُسلمين في سوريا، وفي غزَّة وفي سائر فلسطين، وفي ميانمار، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم على عدوِّهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم اشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لقتلاهم يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23]، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-15-2012, 10:41 AM   رقم المشاركة : 126

 

الشائعات وأثرها السيئ على الأمة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 16lpvl 1434iJ بعنوان: "الشائعات وأثرها السيئ على الأمة"، والتي تحدَّث فيها عن الشائعات وما تُسبِّبُه من آثارٍ سيئة وعواقِبَ وخيمةٍ في عضُد الأمة الإسلامية، مُتمثِّلةٍ في مقالاتٍ وتغريداتٍ، في مواقع وشبكاتٍ ومُنتدياتٍ، ومُراسلاتٍ بين فِتيانٍ وفَتياتٍ، وحذَّرَ من نقلِ الأخبار دون توثُّقٍ من مصدرِها ومدى نفعِها أو ضررِها، ونبَّه على خطورة المِساس بأصول الدين وثوابته عبرَ هذه التِّقنيَّات.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله ذي العزِّ القاهِر، والسلطان الظاهر، سبحانه عزَّ مجدُه، وعلا سلطانُه، علِمَ فستَر، وقدَّر فغفَر، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه، أسبغَ النعمة، وأجزلَ المنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تقودُ إلى رِضوانه والجنَّة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ خلق الله وأهداهم إليه سبيلاً، وأدلُّهم عليه طريقًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأبرار، وأصحابه الميامين الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالكيِّسُ من دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني.
في مُرور الأعوام تصرُّم الأعمار، فما أسرعَ انقِضاء الليالي والأيام، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93]. جعلَنا الله وإياكم ممن طالَ عُمرُه، وحسُنَ عملُه، وغُفِر ذنبُه، وثقُلَ ميزانُه.
أيها المسلمون:
وإن من أعظم ما يستوقِفُ الناظِر، ويبعثُ على المُحاسَبة الجادَّة: قولُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح: «كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع»؛ رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. إنها المُحاسبةُ الجادَّة، والفحصُ الدقيق.
معاشر المسلمين:
للكلمة أثرُها، وللصورة مفعولُها في أي وسيلةٍ، في خُطبةٍ أو مقالةٍ، أو مُحاضرةٍ أو تغريدةٍ، من خطيبٍ أو مُتحدِّث، أو كاتبٍ أو داعيةٍ، أو مُعلِّقٍ أو مُتابِعٍ، وفي أي وسيلةٍ من وسائل الإعلام والتواصُل.
وفي هذا الزمن بتِقنِيَّاته واتصالاته، وتدويناته وتغريداته، ومواقعه وشبكاته، وإعلامه وقنواته، ومواقعه وتدويناته وسيلتُها كلُّها: الكلمةُ والصورةُ؛ فويلٌ للمُتهاوِنين من المُغرِّدين والمُتابِعين!
كم هي العواقِبُ التي تُكلِّفُ الكثيرَ والكثيرَ من الأنفُس والأموال والجهود؟!
معاشر الأحِبَّة:
إن تهاوُن الناس - ولا سيَّما الفِتيان والفَتيات - مما ينعتُونَه بالثَّرثَرة الجماعيَّة من خلال المجامِيع التي يُنظِّمُونها أو ينتظِمون فيها في هواتِفهم وأجهزتهم؛ بل يتسارَعون لإحراز قصَب السَّبْق في نشر المعلومات أو تلقِّيها، بقطع النَّظر عن صحَّتِها أو دقَّتِها أو خطرِها، بل الخطرُ فيما تؤولُ إليها من نتائج خطيرة على الدين والعقيدة، وعلى البلاد وأهلها، وعلى الأمن والاستِقرار،مما ينشرُ الإرباك والاضطِراب، بل اخوفَ والإرهابَ.
ويزدادُ الخطرُ والخوفُ وسوءُ العواقِب حين لا تُعرفُ مصادرُ هذه الأخبار والإشاعات، ولا أغراض نشرِها وأهدافِهم، فلا مِصداقيَّةَ ولا موثوقيَّة، «كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع».

هذه الوسائلُ والمواقعُ وسطٌ خصبٌ، وبيئةٌ للإشاعات والأخبار المُختلفة والمُختلَقَة والآراء والرُّؤَى غير المسؤولة، ناهِيكم بأنَّ كثيرًا ممن يشتغِلُ بنقلِ هذه الكلِمات والصُّور والأخبار الخطيرة هم الفارِغون البطَّالون الذين ليس لديهم ما يشغَلون به أوقاتَهم من الخير والنفع لهم ولدينهم وأمتهم وأوطانهم.
ويعلمُ المُتابِعُ العاقلُ - فضلاً عن المُتخصِّص - أنهم لا في العِير ولا في النَّفير، الواحدُ منهم مُتَّكِئٌ على أريكته، ومُلازِمٌ للوحته، وعاكِفٌ على جِهازه، يُلقِي الكلامَ على عواهِنه هنا وهناك.
كم كلمةٍ أو تغريدةٍ قالت لصاحبِها: دعني! وكم تدوينةٍ تهوي بقائلِها في نار جهنَّم أبعدَ ما بين المشرق والمغرب!
كلماتٌ تخرجُ كالسِّهام من أفواه البنادِق يقتلُ بها نفسَه، ويُهلِكُ أهلَه، ويُفسِدُ بلدَه، ويُجرِّئُ الأعداءَ، ويُمكِّنُ للخُصوم، ويبذُرُ بُذورَ الفُرقة، وينفَخُ في أبواق الفتنة. زاحمَ البَنانُ عنده اللسان ليُوغِلَ في التعقيبِ والتصنيفِ، والهدمِ والإفساد.
في كلماتٍ وصورٍ ومقاطع تستهزِئُ وتسخرُ من مُكوِّنات مُجتمعه، وكأنَّه قد تطوَّعَ يُسوِّدَ صُورتَه أمام الآخرين، ويُوثِّقَها صوتًا وصورةً، وكأنه مأجورٌ ليُدمِّرَ نفسَه، ويهدِمَ بيتَه، ويتنكَّرَ لهويَّته.
إذا سمِعَ خبرًا طارَ به كلَّ مطارٍ، ينشُرُه ويبُثُّه يُفاخِرُ بأنه حازَ السَّبْقَ في نشره، والكلمةُ تبلغُ الآفاق مُتخطِّيةً حواجِز الزمان والمكان في أجزاء من الثواني بلمسة بَنان أو غمزة أزرار. بل حقُّه أن يُحاسِبَ نفسَه قبل أن يُطلِقَ لسانَه، أو يغمِزَ بنانَه، أو يخُطَّ مقالَه، أو يُغرِّدَ تغريدتَه.
أين الحقيقة؟ وأين المصلحة؟ وأين الديانة؟ وأين الأمانة؟
يا تُرى هل هؤلاء يُسِّعون الآفاق أو يحفُرون الأنفاق؟! هل هم يَبنُون أو يهدِمون؟! هل هم يجمَعون أو يُفرِّقون؟! هل يزرَعون الأمل أو ؤيقودون لليأس؟! هل يرفعون من مقام أهلِهم وأوطانهم أو يُحقِّرون الذّوات ويسحَقون النفوسَ؟!
إنما يُفسِدُه هؤلاء المساكينُ الأغرار في لحظاتٍ قد لا يُمكنُ علاجُه في سنواتٍ، وقد يُكلِّفُ أموالاً ونفوسًا، وقد يستعصِي على العلاج. فلا حول ولا قوة إلا بالله!
معاشر المسلمين:
«كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع»، «ولا يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقًا، ولا يزالُ الرجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِب حتى يُكتبَ عند الله كذَّابًا».
وقد أخبَرَنا نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في الحديث الصحيح فيما رآه من أحوال الآخرة أنه: «يرَى الرجلَ يكذِبُ الكِذبَة فتبلغُ الآفاق، فيُنشرُ شِدقُه ومِنخَرُه وعينُه إلى قَفاه». فما أشدَّه من عذابٍ، وما أطولَه من زمانٍ!!
معاشِرَ الأحبَّة:
هذه قضيةٌ، وثمَّة قضيَّةٌ أخرى مُرتبطةٌ بها، وهي أكبرُ وأخطرُ؛ بل قد تكونُ أثرًا من آثارها، أو هدفًا من أهدافها، إنها: أمنُ المعلومات؛ بل الأمنُ على الدين وثوابتِه وأصُوله، والأمنُ على الأوطان ووحدتها وتماسُكها.
هذه التِّقنيَّاتُ والآلاتُ والوسائطُ والمواقعُ جعلَت المسؤوليَّةَ أعظمَ، وجعلَت مفهوم الحرية أدقَّ، فالحرُّ هو المُسيطرُ على نفسه، الضابطُ لها بضوابط العقل والدين والعلم. الحريةُ هي التخلُّص من قيود الشهوات، وسجون الرَّغَبات. الحرُّ هو المسؤولُ الذي يُفكِّرُ بانضِباطٍ لا بانفِلاتٍ.
إن هذه التِّقنيَّات فضَحَت بعضَ الذين يودُّون التفلُّتَ من عيون الرَّقيب، ناهِيكم برقيبِ الدين والضمير والأخلاق والمبادِئ.
الإيمانُ دينٌ صحيحٌ، والمُواطَنةُ عقلٌ راشِدٌ، والمسؤوليَّةُ أمانةٌ وثباتٌ وسعيٌ في المصالحِ العُليا والدُّنيا، وسيرٌ في دُروبِ الخير والرشاد، والحثّ عليها.
أيها العُقلاء:
الهدمُ سهلٌ، والانحِدارُ إلى الهاوِية لا يُكلِّفُ - عياذًا بالله -، تأمَّلُوا في بعضِ جيرانِنا الذي يُصبِحون على العبوَّات الناسِفة، ويُمسُون على قذائِف مُدمِّرة تستهدِفُ المنازِلَ والمتاجِرَ والمعابِدَ والمكاتِبَ والطوائِف.
إن المُراقِبَ لبعض القُوى الإقليمية والدولية الذين يُحاوِلون أن يُذكُوا الصراعات الطائِفيَّة القَبَلِيَّة والمذهبيَّة والمناطِقيَّة في منطقتنا يُحاوِلون أن يُذكُوا الصراع، ثم يُوظِّفُوه ليُقطِّعوا الدولَ، ويُبعثِروا الشُّعوبَ، ويُشرِّدوا الناسَ، ليتوزَّعوا الغنائِمَ، ولا يُهِمُّهم البَتَّة ولا يكترِثون لمصالح شعوب المنطقة وأهلِها أماتُوا جوعًا، أو تفرَّقُوا شِيَعًا، أو تناثَرُوا طوائِفَ، أو تقطَّعُوا أحزابًا؟
والسعيدُ الحكيمُ من وُعِظَ بغيره.
معاشر الإخوة والأحِبَّة:
نحن في هذه البلاد الطاهرة لقد تركَ لنا الآباءُ والأجدادُ وطنًا مُوحَّدًا وآمِنًا، بلدًا كريمًا عريضًا واسعًا مُترامِيَ الأطراف، عليه وُلاةُ أمرٍ جادُّون حازِمون في المُحافَظة على هذه الوحدة وعلى هذه الأمة تحت راية: (لا إله إلا الله، محمدٌ رسولُ الله) وخدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما.
فيجبُ أتن تُقدَّر هذه النعمةُ الكُبرى، وأن يُحافَظَ عليها وتُورَّثَ للأبناء ثم الأجيال من بعدِهم - بإذن الله - لينعَموا بما ننعَمُ به من أمنٍ وإيمانٍ وخيرٍ وفضلٍ.
الحَذَرَ ثم الحَذَرَ من خُطباء الفتنةِ والتحريضِ، دُعاة تمزيق الأوطان، والعبَث بوحدتها، السُّعاة إلى تأجيج الفتنة وإثارة الفُرقة، في تُهمٍ باطلةٍ، وطعونٍ ظالمةٍ، وناصيةٍ كاذِبةٍ خاطِئةٍ، يصِفون أوطانَهم وأهلِيهم ورجالَهم بأقبَح الأوصافِ، في أسلوبٍ فجٍّ، وسوءٍ من القولِ.
يقومُ قائمٌ مأفونٌ هو الأغشُّ للأمة والأئمة، والأشدُّ على جماعة المسلمين ليهدِم الشوكة، ويُضعِف القوة، ويخدِم الأعداء، يزعُمُ أنه يُطالِبُ بحقوقٍ، ولن يكون نَيلُ الحقوق بفُحش القول، والتحريض، وامتِطاء مطيَّة العُنصريَّة والطائفيَّة، والاستِقواء بالسمَّاعين والدول الأجنبيَّة وأعداء الأمة، يُثيرُ الفتن، ويجرُّ الأغراب، ويتقوَّى بالخارجِ، وهذه خيانةٌ ظاهرةٌ، وتفريطٌ بالبلاد ومُقدَّراتها وأهلِها، ومثلُ هذا لا بُدَّ من الحَزم معه وأطرِه على الحقِّ وإلزامِه جادَّة الصواب، وحفظِ أمن البلاد والعباد، ووحدة الصفِّ والكلمة.
أيها المسلمون:
إن من مسؤولية الدولة وواجبِها أن تضرِبَ بيدٍ من حديدٍ على كل من يقتربُ من هذه الثوابِت ليهُزَّها أو ينالَ منها، إنه عبثٌ غيرُ مسؤولٍ ينالُ من الدين والوطن. الدولة مسؤولةٌ عن أمن الناس وحمايتهم وصيانة حقوقِهم ومُمتلكاتهم، وتنظيم شؤونهم في أسواقهم وبيوتهم ومرافِقهم.
الدولةُ بأجهزتها القضائيَّة والتنظيميَّة والتنفيذيَّة مسؤولةٌ عن أمن الناس واستِقرارهم، وتحقيق العيش الكريم لهم، مسؤولةٌ عن تحقيق العدل وتهيِئةٍ أسباب الحياة الطيِّبة.
وبعد، عباد الله:
فالحقوقُ مُتكافِئة، والحياةُ مُنظَّمة، والمصالِحُ مُعتبَرة، ولا يتحقَّقُ ذلك إلا في وطنٍ قويٍّ هادئٍ، مُستقرٍّ آمنٍ، تحكمُها دولةٌ قويةٌ مُهيمِنةٌ بقضائِها وأجهزتها وعدالتها.
وليحذَر المُسلمُ أن يكون مطيَّةً للإفساد وبثِّ روح الفُرقة، والخذلان لدينه، والخيانة لوطنه ولسائر أهله.
الحَذَر ثم الحَذَر أن يكون الإنسان من حيث يشعُر أو لا يشعُر وقودًا أو حطَبًا لمثلِ هذه الدعوات الفئويَّة الضيِّقة التي لا تأخُذُ حسابًا لأهلها وبلدِها وأمنِها وسلامتها، والضررُ سيلحقُ بالجميع، والنارُ ستُحرِقُ الجميع، ومن يتقاعسُ عن التصدِّي لهؤلاء الشُّذَّاذ والمُرجِفين والمُتطرِّفين، أو يُحاوِلُ إيجادَ أعذارٍ أو مُسوِّغاتٍ أو ينقُدهم بضعفٍ أو استِحياءٍ فهو شريكٌ في إضعاف الوطن وهزِّ كِيانه.
ووحدةُ الأوطان وسلامتُها والحفاظُ على دينها وأمنِها لا يجوزُ المِساسُ به أو العبَثُ به، بأي حالٍ وتحت أي مُسوِّغ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 25، 26].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، أنارَ بالإيمان قلوبَ أهل السعادة، فأقبَلَت على طاعة ربِّها مُنقادَة، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه وعَدَ على الشُّكر بزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعظِم بها من شهادةٍ، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المخصوصُ بالاصطِفاء والاجتِباء والسيادة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صدَقوا في الإيمان وأحسَنوا العبادة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما بقِيَت أعلامُ الدين مرفوعة وراياتُه مُشادَة، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد، فيا أيها المسلمون:
المُطالبةُ بالحقوق حقٌّ، وبابُ التناصُح مشروعٌ ومُشرَعٌ، وللناس حقوقُهم ومطالِبُهم، والنقصُ يجبُ أن يُسدَّد، والمطالِبُ تُرفَعُ وتُسمَعُ، ومسالِكُ النقد والمُطالبة بالإصلاح حقوقٌ مشروعةٌ إذا سُلِك بها المسالِكُ الصحيحةُ.
حقُّ النقد والتعبي والرأي كلُّ ذلك مشروعٌ مكفولٌ، ويجبُ أن يكون مبذولاً ومُتاحًا ما دام مُلتزِمًا بالثوابت من المُحافَظة على الدين بأُصوله، والوطن بوحدته، والأمة بمُكوناتها.
من المقبول أن يقسُو الناقِدُ والمُصلِحُ بعضَ القسوة في ألفاظه وعرضِه، ولكن لا يُمكنُ أن يُقبَل الاستِقواء بالأغراب، واستِعداء الأعداء، وامتِطاء مطيَّة الكذِب والتلبيس والتدليس.
إن في أوطاننا وبُلداننا كُتَّابًا وخُطباء ونُقَّادًا يكتُبون وينتقِدون بجُرأةٍ وقوَّةٍ وعقلٍ ويُطالِبون، لكنَّهم لا يتجاوَزون ثوابِتَ دينهم ومصالشحَ بُلدانهم، ولاؤُهم لأهلهم لا يُساوِمون، ولا يُدارُون، والقُصورُ وارِدٌ، والكمالُ عزيزٌ، والاجتِهاداتُ تُخطئُ وتُصيبُ.
يجبُ أن يكون الفرقُ واضِحًا بين حرية التعبير وحرية الرأي، وبين التحريض والتحريش ودقِّ معاوِل الهَدم والتفريق. فرقٌ بين النقد البنَّاء والدعوة للإصلاح، وبين زرع بُذور الفتن الطائفيَّة والقَبَليَّة والمناطقيَّة.
أصحابُ الحقوق والمطالِب المشروعة حقٌّ أن يُسمَع لهم، وأن تُستنهَضَ كلُّ المُؤسَّسات المُتخصِّصة الرسمية وغير الرسمية ليُستمَع إليهم، ويُنظَر في مطالبِهم، فما ثبَتَ من حقٍّ فيجبُ المُسارعةُ إلى تحقيقه حسبَ إمكانات الزمانِ والمكان والقُدرات، وما كان غير ذلك فيكونُ الردُّ بالحُسنى، وتقدير حقِّ المُطالبة.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالسعيدُ من وُعِظ بغيره، والحكيمُ من نظرَ في العواقِب.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادقُ في قِيلِه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك.
وإننا نحمدُك اللهم على ما مننتَ به عليه من الشفاء والعافية، فهو وليُّ أمرنا، وراعِي أمَّتنا، والدُنا خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ الصالحُ، المؤمنُ بربِّه، الواثِقُ بفضلِه وبرِّه وإحسانه، فنسألُ الله أن يُتِمَّ عليه نعمةَ الصحةِ والعافيةِ، وأن يمدَّ في عُمره، ويُبارِكَ في عمله، وأن يحفظَ بلادَنا في أمنِها وإيمانها، وأن يرزُقنا الثباتَ على التقوى في ظلِّ هذه القيادة المُبارَكة.
لقد أتمَّ الله علينا نعمةَ الفرح والسرور، وبُشرى الصحة والبَهجة، فرحةٌ وبهجةٌ تغمُرُ كلَّ المُحبِّين، نابِعةً - بعد فضل الله ومنَّته - من مواقِف قائدِنا الثابتةِ الصادقةِ، وأيادِيه البيضاء، وصفاء قلبِه، وشفافية مسلكِه. ذلكم هو جسرُ العلاقة بينَه وبين أبناء شعبِه وأمَّته، فالحقائقُ والشفافيَةُ والعقلُ والاتِّزانُ هي النهجُ الذي ينتهِجُه ويُوجِّهُ إليه - حفظه الله -.
فلا عجبَ أن يتبوَّأ مكانة أكثر الشخصيات الإسلامية تأثيرًا في سنواتٍ مُتتالياتٍ.
فالحمدُ لله على فضلِه ونعمائِه، ولا عزاءَ لأسرَى الشائعات، ولا نامَت أعيُن المُتقوِّلين.
اللهم أدِم عليه نعمةَ الصحة والعافية، ووفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، وفي بورما، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، واجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم عليك اللهم بالطغاة الظلمة في سوريا وفي بورما، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في الطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، الله فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
سبحان ربك رب العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-15-2012, 10:47 AM   رقم المشاركة : 127
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

وقفةٌ مع معنى البركة

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 23 lpvl 1434iJ بعنوان: "وقفةٌ مع معنى البركة"، والتي تحدَّث فيها عن البركة ومعناها، وذكرَ بعضَ الآيات والأخبار والآثار التي وردَ فيها فضلُها وعِظَمُ أثرها ونفعِها، وبيَّن أن الذنوبَ والمعاصِي سببُ محقِها وذهابِها.

الخطبة الأولى

الحمد لله، تباركَ في ذاته وباركَ من شاءَ من خلقه، الحمدُ لله العليِّ الأكرم، لا يُوفِي قدرَه بشرٌ ولا يقومُ بحقِّه، ولا ينفكُّ مخلوقٌ من رِقِّه، ولا يستغنِي بشرٌ عن جُودِه ورِزقِه، هو الأولُ في هذا الوجود وله وحده القيامُ والسُّجود، وجودُه - سبحانه - لا يُشبِهُه وجود، وجُودُه - سبحانه - لا يُشبِهُه جُود، وبطشُه يبغَتُ المُعرِضين وهم في صحوِهم أو هم هُجود، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله؛ فهي العُدَّةُ في الشدائد، والعونُ في المُلِمَّات، وهي أُنسُ الروح والطُّمأنينة، ومُتنزَّلُ الصبر والسَّكينة، ومبعثُ القوةِ واليقينِ، ومِعراجُ السموِّ إلى السماء،وهي التي تُثبِّتُ الأقدامَ عند المزالِق، وتربِطُ على القلوبِ عند الفتن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].


أيها المسلمون:
في تحايانا وفي دعواتنا عباراتٌ تستحقُّ التأمُّلَ، كلماتٌ نُردِّدُها كل يومٍ بيننا، وفي صلواتنا، قد جمَعت خيرَي الدنيا والآخرة، وسعادةَ الحال والمآل، إنها الدعاءُ بالبركة.
يلقَى المُسلمُ أخاه فيقول له: السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته؛ فهل تأمَّلنا معنى الدعاء بالبركة؟
وفي صلاتنا ندعُو: «وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ على إبراهيم»، وفي دُعاء قيام الليل: «وبارِك لي فيما أعطيتَ»، ونقول للزوجَين: «باركَ الله لكما، وباركَ عليكما».
فما حقيقةُ هذه البركات؟
عباد الله:
أصلُ البركة: الثُّبوتُ والدوامُ والاستِقرارُ، والبركةُ: النَّماءُ والزيادةُ وكثرةُ الخير. يُقال: باركَه الله وباركَ فيه وباركَ عليه وباركَ له، والمُبارَك: الذي قد باركَه الله تعالى، قال - سبحانه -: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ [الأنبياء: 50]، وذلك لكثرة خيرِه ونفعِه ووجوه البركةِ فيه.
البركةُ كلُّها من الله؛ فإن الربَّ تعالى هو الذي تباركَ وحدَه، وكلُّ ما نُسِبَ إليه مُبارَكٌ، فكلامُه مُبارَك، ورسولُه مُبارَك، وعبدُه المُؤمنُ النافعُ لخلقه مُبارك، وبيتُه الحرام مُبارَك، وكِنانتُه من أرضه - وهي الشام - أرضُ البركة، وصفَها بالبركة في آياتٍ من كتابه، وباركَ المسجدَ الأقصى وما حولَه.
والله تعالى يُقال في حقِّه: تبارك؛ أي: تعالى وارتفع وتقدَّس وتمجَّد، ولا يُقال: تبارك في حقِّ أحدٍ غير الله تعالى، تباركَ في ذاته، وباركَ من شاءَ من خلقه، كما يُقال: تعاظمَ وتعالى، فهو دليلٌ على عظمته وكثرة خيره ودوامِه واجتِماع صفات الكمال فيه، وأن كلَّ نفعٍ في العالَم فمن نفعِه - سبحانه - ومن إحسانه، فهو ذو العظمة والجلال وعلوِّ الشان.
ولهذا إنما يذكُره غالبًا مُفتتِحًا به كلامَه وعظمتَه وكبرياءَه، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1]، وقال - سبحانه -: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54].
أيها المسلمون:
وقد يجعلُ اللهُ بعضَ خلقه مُبارَكًا، فيكثُر خيرُه، ويعظُم أثرُه، وتتصِلُ أسبابُ الخير فيه، وينتفعُ الناسُ منه، كما قال المسيحُ عيسى - عليه السلام -: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم: 31].
البركةُ فضلُ الله يأتي للإنسان من حيث لا يُحِسُّ ولا يحتسِب، فكلُّ أمرٍ تُشاهَدُ فيه زيادةٌ غير محسوسة يُقال: مُباركٌ، وفيه بركةٌ.
البركةُ هِبةٌ من الله فوق الأسباب الماديَّة التي يتعاطاها البشرُ، وإذا باركَ الله في العُمر أطالَه على طاعته أو جمع فيه الخيرَ الكثيرَ، وإذا باركَ الله الصحةَ حفِظَها لصاحبِها، وإذا باركَ في المال نمَّاه وكثَّرَه، وأصلحَه وثمَّره، ووفَّق صاحبَه لصرفه في أمور الخير وأبواب الطاعة، وإذا باركَ الله في الأولاد رزقَ بِرَّهم وهداهم وأصلَحَهم، وإذا باركَ الله في الزوجة أقرَّ بها عينَ زوجا؛ إن نظرَ إليها سرَّتْه، وإن غابَ عنها حفِظَتْه.
وإذا باركَ الله في العمل امتدَّ أثرُه، وعظُم نفعُه وبِرُّه، وما باركَ الله الأعمالَ بمثلِ الإخلاصِ لله ومُتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكلُّ شيءٍ لا يكونُ لله فبركتُه منزوعةٌ؛ فإن الله تعالى هو الذي تباركَ وحده، والبركةُ كلُّها منه".
وفي الأثر الإلهي: «يقول الربُّ - تبارك وتعالى -: إني إذا أُطِعتُ رضيتُ، وإذا رضيتُ باركتُ، وليس لبركتي نهاية»؛ أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" بسندٍ صحيحٍ إلى وهب بن مُنبِّه.
وكم رأى الناسُ من بركة الله في الأشياء والأوقات، والأقوال والأعمال والأشخاص، فيكثُر القليلُ، ويعمُّ النفعُ، ويتَّصِلُ الخيرُ، وتتمُّ الكفايةُ، ويعلُو الرِّضا، وتطيبُ النفوس.
في سِيَر العُظماء عِبَرٌ من البركات، وقد كانوا بشرًا من الناس، ولكنَّ الله باركَ في أعمالهم وأعمارهم، وأشرفُ الخلق محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - كا يومُه يومًا مُباركًا، وقد عمَّ نفعُه، وتوالَت بركتُه، ولا زالت تتْرَى إلى أن يرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، مع أن دعوتَه لم تتجاوَز ثلاثًا وعشرين عامًا.
وكانت خِلافةُ أبي بكرٍ - رضي الله عنه - سنتين وأشهُرًا، ومع ذلك حقَّقَ فيها ما يحتاجُ إلى عُقودٍ.
وفي العلمِ ترى من العُلماء عجبًا؛ فهذا الإمامُ الشافعيُّ - رحمه الله - تُوفِّي وهو في سنِّ الرابعةِ والخمسين، وهذا الطبريُّ والنوويُّ وابن تيمية وغيرهم تركُوا لنا إرثًا من العلم والتواليف والكتب ما تنقضِي دونَه الأعمار، ويعجزُ عنه الفِئامُ من الرجال، وليس ذلك إلا إعانةً من الله وبركةً جعلَها في أوقاتهم وفي آثارهم.
وأما البركةُ في حياة الناس؛ فقد كان يكفِيهم القليلُ رِزقُ كل يومٍ بيومِه، يُؤوِي البيتُ الواحدُ جمعًا من الأُسَر، وطعامُ الواحدِ يَكفِي الاثنين، تُظلِّلُهم القناعة، ويعلُوهم الرِّضا، وتُرفرِفُ عليهم السعادة.
فما بالُ الناس اليوم؟! ضاقَت أرزاقُهم أم ضاقَت نفوسُهم؟! قصُرَت أوقاتُهم أم قصُرَت هِمَمُهم؟!
لقد فُتِح على الناس من أسباب الرَّخاءِ ما لم يُفتَح على أحدٍ قبلَهم، وتفجَّرَت كنوزُ الأرض، وتوافَرَت الأموالُ والتجارات، وتعدَّدت طُرقُ الكسب تُذكِيها المُخترعات والمُكتشفات والصناعات؛ فهل ازدادَ الناسُ إلا فقرًا، وهل كسَبوا إلا شِقوةً وقهرًا؟!
غلَبَ على العالَم الشكوَى من الفقر، والقِلَّة، وضيقِ العيش، وشُحِّ الوقت، والخوف من المُستقبَل، مع توافُر كلِّ أسباب الرَّخاءِ؛ فأين الخلل؟! إنه محقُ البركة.
ومن نفيسِ الكلِم: "ليست البركةُ من الكثرة، ولكنَّ الكثرةَ من البركة".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليست السَّنةُ بألا تُمطَروا، ولكنَّ السنةَ أن تُمطَروا وتُمطَروا ثم لا يُبارَكُ لكم فيه»؛ رواه مسلم.
وفي كتاب ربِّنا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96].
الإيمانُ والتقوى والعملُ الصالحُ سببُ البركة والرِّزق، والطُّمأنينة والرِّضا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124].
نعم، الإعراضُ عن الله سببُ الشقاء الذي يشكُو منه الأفراد، كما تشكُو منه الأُمم.
ألا نتفكَّرُ في أسباب تضعضُع أكبر التجمُّعات الاقتِصاديَّة مع ما أقدرَهم الله عليه من العلم والتدبير؟! ألا نتفكَّرُ في غلَبَة الخوف وانعِدام الأمن في أقوى دول العالم وأشدِّها جبروتًا وبطشًا، وانتشار الحروب والقتل والاضطراب، مع ازدِحام القوانين والمُعاهَدات والمُنظَّمات.
إن الذي يُديرُ العالَمَ حقًّا هو الله - جلَّ في عُلاه -، ولا تسيرُ الأمورُ إلا وفقَ سُننه، ولا يحصُلُ الرخاءُ والسعدُ إلا وفقَ توجيهاته، وهو - سبحانه - القائلُ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة: 276]، وهو - سبحانه - القائلُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، وهو - سبحانه - القائلُ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97].
الإيمانُ والتقوى والعملُ الصالحُ سببُ البركة والسعادة والرِّضا، والذنوبُ والمعاصي تمحَقُ البركةَ، وتُنغِّصُ العيشَ، وتُضيِّقُ الأرزاق، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
الجوعُ والخوفُ شبحٌ يُرعِبُ كلَّ الأحياء.
بل إن من آثار الذنوبِ والمعاصِي ما لا يخطُر على بالٍ؛ ففي الحديث: «ما توادَّ اثنان فيُفرَّقُ بينهما إلا بذنبٍ يُحدِثُه أحدُهما»؛ رواه البخاري في "الأدب المفرد".
وفي العلاقات الزوجية: تأمَّل تكرار التقوى وآثارَها في سُورة الطلاق، ثم التعقيبَ بقول الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [الطلاق: 8- 10].
إنها السُّننُ نفسُها تجري على البيوت والأفراد، كما تجري على الأُمم والقُرى.
عن حكيم بن حِزامٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «البيِّعانِ بالخِيار ما لم يتفرَّقَا، فإن صدَقَا وبيَّنَا بُورِكَ لهما في بيعِهما، وإن كذَبَا وكتَمَا مُحِقَت بركةُ بيعِهما»؛ رواه مسلم.
وفي حديث ابنِ عمر - رضي الله عنهما - ذكرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أُصولَ المعاصي الماحِقة للبركة والجالِبة للفقر والبلاء والضَّنْك، وهي: انتشارُ الفواحِش، ونقصُ المكاييل والموازين، ومنعُ الزكاة، ونقضُ العهود، وخيانةُ الأمانة، وتحكيمُ غير شرع الله.
فهل يعِي ذلك التجارُ والمُتبايِعون؟! هل يعِي ذلك من لا يتورَّعُ عن الغشِّ وأخذ الرِّشوة ونقضِ العهود والتلاعُب بالعقود؟! هل يعِي ذلك دُعاةُ الرَّذيلة والانحِلال ممن يُشيعون الفاحشةَ في الذين آمنوا؟!
لقد صدقَ الله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165].
عباد الله:
لازِموا التُّقَى والصلاحِ، وتأمَّلُوا أثرَ ذلك في صحةِ أبدانِكم، وطُمأنينة نُفوسكم، ورغَد عيشِكم، وتمام سعادتكم، اطلُبُوا البركةَ من الله، وخُذوا بأسبابها، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132].
اللهم بارِك لنا في القرآن العظيم، واهدِنا صراطَك المُستقيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، عباد الله:
في "الصحيحين" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقِيَني كعبُ بن عُجرة - رضي الله عنه - فقال: ألا أُهدِي لك هديَّةً سمعتُها من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلتُ: بلى، فأهدِها إليَّ. فقال: سألْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقُلنا: يا رسول الله! كيف الصلاةُ عليكم أهلَ البيت؟ فإن اللهَ علَّمَنا كيف نُسلِّم. قال: «قُولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد».
فالدعاءُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقولِنا: «وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيم» يتضمَّنُ إعطاءَه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامتَه وثبوتَه له، ومُضاعفتَه له وزيادتَه، وقد قال تعالى في إبراهيم وآله: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ [الصافات: 113]، وقال تعالى في إبراهيم وأهل بيته: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 73].
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصُر المسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمين بسوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل دائرةَ السَّوءِ عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر المُجاهدِين في سبيلك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجك القريب.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.
اللهم لك الحمدُ على ما أنعمتَ به من شفاء خادم الحرمين الشريفين، اللهم أتِمَّ عليه عافيتك، وألبِسه لباسَ الصحة وتمام الشفاء، اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين لتحكيم شرعِك، واتباع سنة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المُؤمنين.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المُسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 147].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء. اللهم إنا نسألُك رِضاك والجنةَ، ونعوذُ بك من سخَطك ومن النار، اللهم اجعلنا من عُتقائِك من النار. نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ ونتوبُ إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبَقًا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِر والبَادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-15-2012, 10:51 AM   رقم المشاركة : 128

 

سلوا الله اليقين

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة yvm wtv 1434iJ بعنوان: "سلوا الله اليقين"، والتي تحدَّث فيها عن اليقين وأثره في حياة المسلم، وذكرَ بعضَ الأدلَّة من القرآن والسنة وآثار الصحابة على أهميتِه وفضلِه وعِظَم أثرِه.

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
أيها المسلمون:
صفةٌ عزيزٌ نوالُها، ومطمعٌ تتوقُ إليه كلُّ نفسِ عاقلٍ لبيبٍ، هي طريقٌ قلَّ سالِكوه، وإنها الحادِي في المهامِه، والمُؤنِس في وحشَة الأثَرة، وهي القوةُ في زوبَعةِ الضَّعفِ، والرِّيِّ في ذروة العطَش. هي قبسٌ في ظُلمةٍ، وكثرةٌ في قلَّةٍ.
من اتَّصَفَ بها بلغَ عنانَ السماءِ وإن كان مُضطجِعًا على فِراشِه، للمُتدثِّر بها من الهيبة والوقار والرِّفعة ما لا يفتقِرُ معه إلى حسَبٍ أو نسَبٍ أو جاهٍ، فلا هي بالمال تُشتَرى، ولا بالقوة تُكتسب.
هي صفةٌ وخصلةٌ حضَّ عليها نبيُّنا وقُدوتُنا - صلوات الله وسلامه عليه -، ولا يأمرُنا إلا بما هو خير؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «سلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاة؛ فإنه لم يُؤتَ أحدٌ بعد اليقين خيرًا من المُعافاة»؛ رواه أحمد.
إنه اليقينُ - عباد الله -، اليقينُ الذي يستقرُّ معه العلمُ بالله - جل وعلا -؛ فلا ينقلِبُ ولا يحُول، ولا يتغيَّرُ في قلبِ المُوقِن؛ بل تغشاه طُمأنينةُ القلبِ على حقيقة الشيء، وتحقيق الإيمان بالغيب الغابِر والحاضر والمُستقبل، بإزالةِ كلِّ شكٍّ أو ريبٍ في جنب الله.
يُحقِّقُ المرءُ في ذلك من خلال يقينه جميعَ مراتبِ اليقين المشهورة، وهي: علمُ اليقين، وعينُ اليقين، وحقُّ اليقين.
هو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد؛ فمن عاشَ بلا يقينٍ ففيه من صفاتِ الميت بلا روحٍ، فلا بُدَّ للمُؤمنِ من اليقين في خبر الله - سبحانه -، فيُوقِنُ المرءُ بكل ما أخبرَ به - سبحانه -، وبكل ما أخبرَ به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، ويُؤمنُ بأمر الله ونهيِه وأمرِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم – ونهيِه.
ليشعُر بالرِّفعةِ والغِبطةِ بأن يصِلَ درجةً فيه قد سبقَه إليها خيارُ أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بعده، وهو الصدِّيقُ - رضي الله تعالى عنه - الذي جعله اليقينُ صامِدًا ثابتًا في ثلاثة مواقف سجَّلها التأريخُ بمِدادٍ من نورٍ في زمنِ فتنةٍ تهتزُّ لها الجبالُ الراسيات:
أولُها: حينما أتاه كُفَّارُ قريشٍ يُريدون أن يُشكِّكوه في دينه، وما يُخبِرُ به نبيُّه وصاحبُه - صلوات الله وسلامه عليه -، فيقولون له: إن صاحبَك زعمَ أنه أُسرِيَ به لبيت المقدِس، وعُرِج به إلى السماء. فأجابَ دون تريُّثٍ حتى يسمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا يقول؛ بل قال - مُوقِنًا بعلمه بخبر الصادق المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه -، فقال قولتَه المشهورةَ: "إن كان قالَه فقد صدقَ".
نعم، "إن كان قالَه فقد صدقَ".
والموقفُ الآخر: حينما صعدَ أمام الملأ وهم يصطرِخون غيرَ مُصدِّقين بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من كان يعبُدُ محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبُدُ اللهَ فإن اللهَ حيٌّ لا يموت".
والموقفُ الثالث: حينما صمَدَ فردًا كأمَّةٍ في قتال المُرتدِّين، وقال قولتَه المشهورةَ: "واللهِ لأُقاتِلنَّ من فرَّقَ بين الصلاةِ والزكاةِ، واللهِ لو منَعوني عِقالاً كانوا يُؤدُّونَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتَلتُهم عليها".
فاليقينُ ليس اقتِناعًا عقليًّا مُجرَّدًا فحسبُ؛ بل لو كان الأمرُ كذلك لما احتاجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أكملُ الناس عقلاً، وأنقاهم لُبًّا قبل بعثتِه - صلوا الله وسلامه عليه -، ومع ذلك قال الله عنه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 52، 53].
ومن هذا المُنطلَق؛ سألَ هِرقلُ أبا سفيان - رضي الله عنه - قبل إسلامه -: هل يرجِعُ أحدٌ - أي: من أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دينه سخطةً له بعد أن يدخل فيه؟ قال: "لا"، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطَت بشاشتُه القلوبَ لا يسخطُه أحدٌ.
ومعلومٌ - عباد الله - أن الإيمانَ إذا لامسَت بشاشتُه القلبَ ارتفعَ بصاحبِه إلى درجةِ اليقين التي لا يعقبُها سخَطٌ على شيءٍ من دين الله.
إن المرءَ المُؤمِنَ بربِّه إذا عاشَ حياتَه باليقين بالله علِمَ أن الدنيا لا تُساوي عند الله جناحَ بعوضةٍ، وأنه لن يأخُذ منها إلا ما كُتِبَ له فيها؛ لأن له غايةً ساميةً ترتفعُ عن غايات الآخرين، ومن ذاقَ عرَفَ، وليس راءٍ كمن سمِع؛ لأنه عملٌ قلبيٌّ بين المرء وبين ربِّه لا يرى أثرَه عليه من الناس إلا ذوو البصيرة اللمَّاحُون، وبخاصَّةٍ حالَ خشية الله في الغيبِ والشهادة، وقولِ الحقِّ في الغضبِ والرِّضا، والامتِثال بأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في المنشَط والمكرَه.
وحُقَّ لصاحب اليقين هذا أن يُؤتَى البصيرة والهُدى والرحمة، وما قِوامُ الحياة الدينية الحقَّة إل بتلكُم الخِصال الثلاث، ولقد صدقَ الله - سبحانه -: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 20].
المُوقِنُ حقًّا - عباد الله - هو من لا يعرِفُ إلا الله، ولا يرجُو غيرَه، ولا يخافُ إلا هو، لا يضُرُّه من ضلَّ إذا هو اهتدَى، يرضَى أن يذهبَ الناسُ بالشاء والبعير، والدينار والدرهَم، والحسَب والجاهِ، ويذهبَ هو بربِّه - جلَّ شأنُه -؛ لأن من عرفَ اللهَ فلن يُبالِيَ بمن لا يعرِفُ الله، ومن عرفَ الحقَّ فلن يُضيرَه من لا يعرِفُ إلا الباطلَ.
ولا جرَم - عباد الله -؛ فمن وجدَ اللهَ فماذا فقدَ؟! ومن فقدَ اللهَ فماذا عساه أن يجِد؟!
لقد أكرمَ اللهُ الخليلَ إبراهيم - عليه السلام - باليقين؛ حيث قال: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75].
فكان يقينُه بالله لا يزيدُه إلا إيمانًا بربِّه، وأنه على الحقِّ المُبين، ولا يزيدُه إلا قناعةً بضلال قومِه وانحِرافِهم عن جادَّة الطريقِ، الذين اتَّخَذوا من دون الله آلهةً وصدُّوا عن سبيل الله وكانوا مُستبصِرين.
اليقينُ - باد الله - هو الذي جعلَ الخليلَ إبراهيم - عليه السلام - يمتثِلُ أمرَ ربِّه في ذبحِ ابنِه إسماعيل، وهو الذي جعلَ ولدَه إسماعيل يقول لأبيه: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102].
قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أحبُّ الأعمال إلى الله: إيمانٌ لا ريبَ فيه، أو لا شكَّ فيه»؛ رواه أحمد.
وهذه مرتبةُ علمِ اليقين المشهورة.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "الصبرُ شطرُ الإيمان، واليقينُ الإيمانُ كلُّه"؛ رواه البخاري.
إنه لا يُمكن لأحدٍ أن يكون هادِيًا مهديًّا في بيته وسُوقه، ومُجتمعه وأمَّته وهو فاقدٌ أهمَّ مُقوِّمات اليقين بالله؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]، ولم يقُل: يشكُرون، أو يعقِلون، أو يسمَعون؛ لأن المُتَّصفين بها كثُر.
ولأجل هذا؛ لما كانت الإمامةُ في الدين عزيزةً ربَطَها بأمرٍ عزيزٍ في القلوبِ - وهو اليقينُ بالله -، ولا يُدرِكُ حقيقةَ اليقين ولا يستطعِمُ ثمرتَه إلا من نظرَ للموت والحياةِ نظرَ العالِمِ العارِفِ.
ولقد اختصرَ أميرُ المؤمنين عليٌّ - رضي الله عنه - صورةَ اليقين في أوجز عبارةٍ في التعامُل مع العيش والموت، اللَّذَيْن هما محلُّ اليقين بالله، فقال - رضي الله تعالى عنه -:
أيُّ يوميَّ من الموتِ أفِرُّ يومَ لا يُقدَر أو يوم قُدِر
يوم لا يُقدَر لا أحذَرُه ومن المقدورِ لا ينجُو الحَذِر
فهذا يقينٌ استحضَرَ فيه كلَّ لحظةٍ تضعُفُ فيها النفسُ مع زُخرُف الدنيا على حسابِ خالقِها ومولاها، أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38].
بسم الله الرحمن الرحيم: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 1- 8].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاعلَموا - يا رعاكم الله - أن اليقينَ بالله قد أوصلَ عبادَه الراسِخين في العلمِ إلى أن يقولوا عن دين الله وأمرِه ونهيِه: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7]، لا يُمارُون في ذلك، ولا يُجادِلون في حقيقته، ولا ينكُثون عنه، ولا يُؤمِنون ببعضِه ويكفُرون ببعضٍ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور: 49، 50].
فارتِضاءُ شرع الله بحذافِيره على أكمل وجهٍ هو أساسُ اليقين بالله الذي لا يقبَلُ التجزِئةَ والتبعيضَ، ولقد صدقَ الله: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].
ولقد كان من دُعاء المُصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - في الحديث المشهور: «ومن اليقين ما تُهوِّنُ به علينا مصائبَ الدنيا»؛ رواه الترمذي.
أي: هبْ لنا من اليقين ما نرضَى به على كل بلاءٍ ومُصيبةٍ لك فيها حِكمة؛ لئلا نسخَطَ شيئًا من أمرِك وقدرِك، وألا نرتدَّ على أعقابنا بمُجادلتِنا في الاستِسلام لشرعِك.
إن يقينَ المُؤمن كالنور من فوقِه النور يُضيءُ في سمائه على الدوام؛ لأنه يُدرِكُ أن اللهَ يرى مكانَه، ويسمعُ نجواه، ويعلمُ بلْواه وأزيزَ صدره المُفعَم باليقين، ليُدرِك أن ما أصابَه لم يكن ليُخطِئه، وما أخطأَه لم يكن ليُصيبَه، وأنه ما ابتلاهُ إلا ليُعافِيَه، وما أخذَ منه إلا ليُعطِيَه، وما نقصَ منه إلا ليزيدَه، يأخُذ بيدِه في المضايِق، ويطوِي له الطريقَ إذا جدَّ به المسيرُ، وفي نهاية النفقِ المُظلِم ضوءٌ ساطِعٌ، وللأقفال مفاتيح، وللظمآن مورِد، وفي المِحَن منَح، وبعد التَّرَح فرَح، وتحت الرُّغوة اللَّبنُ الصريحُ، وما الدُّنيا إلا كسرابٍ بقيعةٍ، وأنَّ مردَّنا إلى الله، وأنَّ الآخرةَ هي دارُ القرار.
من رامَ أن يحيا حياةً حرَّةً ويُعزَّ في دنيا الورَى والدينِ
فليَرْجُ عافيةً يقَرُّ بمثلِها وليحمِ إيمانًا له بيقينِ
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ صاحبِ الوجه الأنور، والجبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسِن أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أحسِن أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم ألِّف بين قلوبِهم، اللهم كُن لإخواننا المُضطهَدين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، وانصُرهم ولا تخذُلهم، اللهم انصُرهم على من ظلمَهم.
اللهم انصُر إخواننا المُسلمين في بُورما، وفي سُوريا يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وبال يا حي يا قيوم، يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك فلا تمنَع عنا ذنوبِنا فضلَك.
اللهم لتَجْعلَه بلاغًا للحاضرِ والباد يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 12-28-2012, 06:42 PM   رقم المشاركة : 129

 

اتقاء الفتن
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 15 محرم 1434هـ بعنوان: "اتقاء الفتن"، والتي تحدَّث فيها عن الفتنِ وكيفية اتِّقائِها والنجاة منها، وبيَّن أنها نوعان: فتنُ الشُّبُهات وهي أخطرُها وأشدُّها، وفتنُ الشَّهوات، وذكرَ بعضَ الآيات والأحاديث المُدعِّمةِ لذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله الملك القدوس السلام، أحمده - سبحانه - على آلائه ومِنَنه العِظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله قدوةُ المُتقين وسيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبِه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا أنكم وقوفَكم بين يديه - سبحانه -، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الشعراء: 88، 89].
أيها المسلمون:
كمالُ الحِرصِ على اتِّقاءِ الفتنةِ، والحذرِ من سُلوك سبيلِها والتعرُّض لأسباب الوقوع فيها ديدَنُ أُولِي الألباب، وطريقُ من خشِيَ الرحمنَ بالغيب، ونهجُ ذوي البصيرة من عباد لله، يحدُوهم إلى ذلك قوةُ يقين، وكمالُ تصديقٍ بما جاء عن الله ورسوله - صلوات الله وسلامه عليه - من البيِّناتِ المُحذِّرة من غوائِلها، الدالَّة على سبيل السلامة من شُرورها، المُرشِدة إلى الطريق الواجبِ انتِهاجُه وقتَ وقوعِها.
وفي الطليعةِ من ذلك: قولُ ربِّنا - سبحانه - في التحذير منها، وبيان عمومِ الضَّرر بها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال: 25]، وقولُ نبيِّنا - صلواتُ الله وسلامه عليه -: «ستكونُ فتنٌ القاعِدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشِي، والماشِي فيها خيرٌ من السَّاعِي، ومن تشرَّف لها - أي: تُهلِكُه، بأن يُشرِفَ منها على الهلاك -». وحاصِلُه: أنَّ من تعرَّض لها بشخصِه تعرَّضَت له بشرِّها.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن وجدَ ملجَأً أو معاذًا فليَعُذْ به - أي: فليلْجَأْ إليه -»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
وقولُه - عليه الصلاة والسلام -: «بادِرُوا بالأعمال فِتَنًا كقِطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ولا ريبَ أن معرفةَ حقيقة الفتنةِ أصلُ درءِ خطرِها،وصون النفس عن الاصطِلاء بنارِها.
والفتنةُ - كما قال ابن القيم - رحمه الله - نوعان: "فتنةُ الشُّبهات - وهي أعظمُ الفتنتَيْن -، وفتنةُ الشَّهوات. وقد يجتمِعان للعبد، وقد ينفرِدُ بإحداهما. ففتنةُ الشُّبُهات ناشِئةٌ من ضعفِ البصيرة، وقِلَّة العلم، لا سيَّما إذا اقترنَ بذلك: فسادُ القصد، وحُصولُ الهوَى، فهنالك الفتنةُ العُظمى، والمُصيبةُ الكُبرى".
فقُل ما شئتَ في ضلال سيِّئ القصدِ الذي حكَمَ عليه الهوَى لا الهُدى، مع ضعفِ بصيرتِه، وقِلَّة علمِه بما بعثَ اللهُ به رسولَه - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ[النجم: 23].
وقد أخبرَ الله - سبحانه - أن اتِّباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيلِه فقال: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[ص: 26].
وهذه الفتنةُ - يا عباد الله - مآلُها إلى الكفر والنِّفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنةُ أهل البِدَع على حسب مراتبِ بدَعهم، ولا يُنجِّي من هذه الفتنة إلا تجريدُ اتِّباع الرسُول - صلى الله عليه وسلم - وتحكيمُه في دقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنِه، عقائِدِه وأعمالِه، حقائِقِه وشرائِعِه.
فيُتلقَّى عنه - عليه الصلاة والسلام - حقائقُ الإيمان وشرائعُ الإسلام، وما يُثبِتُه لله من الصفاتِ والأفعال والأسماء، وما ينفِيه عنه، كما يُتلقَّى عنه وجوبُ الصلوات وأوقاتُها وأعدادُها، ومقاديرُ الزكاة ومُستحقِّيها، ووجوبُ الوضوء، وصومُ رمضان، وحجُّ البيت لمن استطَاع إليه سبيلاً، وغيرُ ذلك من شرائع الإسلام.
فلا يجعلُه رسولاً في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسولٌ في كل شيءٍ تحتاجُ إليه الأمةُ في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذُ إلا منه - عليه الصلاة والسلام -.
وأما النوعُ الثاني من الفتنة: فهي فتنةُ الشَّهوات. وقد جمع - سبحانه - بين ذكرِ الفِتنتَيْن في قوله - عزَّ اسمُه -: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ[التوبة: 69]؛ أي: تمتَّعوا بنصيبِهم من الدنيا وشهَواتِها، والخلاقُ هو النَّصيبُ المُقدَّر، ثم قال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا، فهذا الخوضُ بالباطلِ وهو الشُّبُهات.
فأشارَ - سبحانه - في هذه الآية إلى ما يكونُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستِمتاع بالخلاقِ والخوضِ في الباطل؛ لأن فسادَ الدين إما أن يكون باعتِقاد الباطلِ والتكلُّم به، أو بالعمل بخلافِ العلمِ الصحيح.
وأصلُ كلِّ فتنةٍ إنما هو من تقديمِ الرأي على الشرع، والهوى على العقل، وتقديمُ الرأي على الشرع أصلُ فتنةِ الشُّبهة، وتقديمُ الهوى على العقل أصلُ فتنةِ الشَّهوة. وفتنةُ الشُّبهات تُدفعُ باليقين، وفتنةُ الشَّهوات تُدفَعُ بالصبر.
ولذلك جعلَ - سبحانه - إمامةَ الدين منوطةً بهذَين الأمرَيْن؛ فقال - عز وجل -: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة: 24]، وهو دليلٌ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين، ودليلٌ أيضًا على أن فتنةَ الشَّهوة تُدفَعُ بكمال العقل والصبر، وأن فتنةَ الشُّبهة تُدفَعُ بكمال البصيرةِ واليقينِ؛ أي: بما جاء عن الله من البيِّنات والهُدى.
فاتقوا الله - عباد الله -، وحَذارِ ثم حذارِ من فتنِ الشُّبهات وفتنِ الشَّهوات.
اللهم إنا نسألك الثَّباتَ على دينِك، والاستِقامةَ على شرعِك، ونسألُك أن تقِيَنا من مُضِلاَّت الفِتَن، إنك سميعٌ مُجيبُ الدعاء.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلقَ فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله المُصطفى وحبيبُه المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن بهديِه اهتدَى.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن المُخالفَةَ عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيلُه، ومنهاجُه، وطريقتُه، وسُنَّتُه، وشريعتُه - هو من أعظم أسباب الفِتنةِ في الدين، كما قال - سبحانه -: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
والمُراد: فليحْذَر وليَخشَ من خالفَ شريعةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطِنًا وظاهِرًا أن تُصيبَهم فتنةٌ - أي: في قلوبهم - من كُفرٍ، أو نفاقٍ، أو بدعةٍ، أو يُصيبَهم عذابٌ أليمٌ؛ أي: في الدنيا بقتلٍ، أو حدٍّ، أو حبسٍ. كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلي ومثَلُكم كمَثَل رجلٍ استوقَدَ نارًا، فلما أضاءَت ما حولَها جعلَ الفَراشُ وهذه الدوابُّ يقَعْنَ في النار، وجعلَ يحجِزُهنَّ ويغلِبْنَه فيقتحِمْنَ فيها». قال: «فذلِكَ مثلِي ومثَلُكم، أنا آخِذٌ بحُجَزِكم هلُمَّ عن النار فتغلِبُونَني وتقتحِمون فيها».
فاتقوا الله - عباد الله -، وحَذارِ من المُخالفَة عن أمر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن عاقبةَ ذلك الإصابةُ بالفِتنةِ في الدنيا، والعذابِ الأليم في الآخرة.
واذكروا على الدَّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المُتَّقين، ورحمةِ الله للعالمين، فقال - سبحانه - في الكتابِ المُبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ، وكتابكَ، وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم التَّناد.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطك، اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكَرات، وحُبَّ المساكين، وأن تغفِرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونين.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم قِنا شرَّ الفتن، اللهم قِنا شرَّ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن عن بلدنا هذا خاصَّةً، وعن كافة بلاد المُسلمين عامَّةً يا رب العالمين.
اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شرورهم، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين.
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران: 8]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم احفَظ المُسلمين في كل دِيارِهم، اللهم احفَظهم في سوريا، وفي فلسطين، وفي ميانمار، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين، اللهم كُن لهم، الله اجبُر كسرَهم، وارحَم ضعفَهم، واشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشهادة لقتلاهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى اللهم وسلَّم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 03-05-2013, 10:37 AM   رقم المشاركة : 130
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الفساد.. آثاره وكيفية مكافحته

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 22 صفر 1434هـ بعنوان: "الفساد.. آثاره وكيفية مكافحته"، والتي تحدَّث فيها عن الفساد وآثاره الوخيمة على الأفراد والمُجتمعات، وذكرَ في عدَّة نقاطٍ السُّبُل الصحيحةَ في كيفية مُحاربته ودفعِه والتخلُّص منه.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله العلي العظيم، الجوادُ الكريم، جلَّ عن الشبيه والنَّظير، وتعالى عن المَثيل والظَّهير، أحمدُه - سبحانه - على سوابِغ نعمه، وأشكرُه على ما صرفَ من أسباب سخَطه ونِقَمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ توحيدٍ يأتي صاحبُها آمنًا يوم القيامة ويُحِلُّه بها ربُّه دارَ الكرامة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله علَّمه ربُّه ما لم يكن يعلم، وجعلَ أمَّتَه خيرَ الأمم، صلَّى الله عليه وبارَك وسلَّم، وعلى آله الطيبين الطاهرين نالُوا بهذا الدين عِزًّا وسُلطانًا، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين كانوا على الحق والخير إخوانًا وأعوانًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ممن إذا ذُكِّروا بآيات ربِّهم زادَتهم إيمانًا، ولم يخِرُّوا عليها صُمًّا وعُميانًا، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، واستعينوا بربِّكم على تصاريف المقادير، آثِروا في الله حُبَّكم، وارعَوا حقوقَه في دينِكم، ولا يعظُمُ في أعيُنكم كبيرٌ من المعروف تفعلونَه، ولا تحتقِروا صغيرًا من المُنكَر تقترفُونَه، واعتبِروا بمن مضى، وتفكَّروا في مُنصرَف الفريقين: فريقٍ في الجنة يحبُّه الله ويرضاه، وفريقٍ في السَّعير يُبغِضُه الله ويأباه،
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ[المؤمنون: 101- 103].
أيها المسلمون:
حين يكونُ المُسلمُ الصالحُ في موقع المسؤوليَّة فهو الحارسُ الأمينُ - بإذن الله - لمُقدَّرات البلاد والعباد، يحفظُ الحقَّ، وينشُر العدل، ويُخلِصُ في العمل، ويُحافِظُ على مُكتسَبات الأمة. صاحبُ المسؤولية المُخلِصُ صالحٌ في نفسه مُصلِحٌ لغيره، يأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد.
والإسلام قد جعلَ من الرَّقابة مسؤوليَّةً يتحمَّلُها الفردُ كما تتحمَّلُها الجماعة، وهذا هو الاحتِسابُ في بابِه الواسِع. فالاحتِسابُ بسَعته وشمُوله رَقابةً ومُراقبةً يحمِي الفردَ والمُجتمعَ والمُنشآت والدولة، يحميها - بإذن الله - من الفساد والإفساد، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 41].
«من رأى منكم مُنكرًا فليُغيِّرهُ بيدِه، فإن لم يستطِع فبلِسانِه، فإن لم يستطِع فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان».
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة: 71]، وفي الحديث: «إن اللهَ لا يُعذِّبُ العامَّةَ بعملِ الخاصَّة، حتى يرَوا المُنكرَ بين ظهرانَيهم وهو قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِرونَه، فإذا فعلُوا ذلك عذَّبَ الله الخاصَّةَ والعامَّةَ».



معاشر المسلمين:
وظيفةُ الاحتِساب وظيفةٌ رقابيَّة في ميادين الأخلاق والدين والسياسة والاجتماع والإدارة والاقتصاد، وغيرها.
وقد قال أهلُ العلم: "إن الاحتِساب هو الأمرُ بالمعروف إذا ظهرَ تركُه، والنهيُ عن المُنكَر إذا ظهر فعلُ، تحقيقًا للعدل، ونشرًا للفضيلة، ومُكافحةً للفساد والرَّذيلة، وحمايةً للنَّزاهة والصلاح".
معاشر الإخوة:
الاحتِسابُ عملٌ رقابيٌّ توجيهيٌّ إرشاديٌّ لكل نشاطٍ مُجتمعيٍّ عامٍّ أو خاصٍّ؛ لتثبيتِ أصول الدين وأحكام الشرع، ومعايير الأخلاق، ورفع كفاءة الأداء كفاءةً وأداءً يتحقَّقُ به السلوك الرشيد، وتُعظَّمُ به المصلحةُ الفردية والاجتماعيَّة في الدنيا والآخرة.
إن العاملَ الصالحَ، والمُوظَّف الصالحَ، والمُواطِنَ الصالحَ بإيمانه بربِّه وبوازِعٍ من دينه يجتهِدُ في أداء عمله، ويحرِصُ على منع المُمارسات الخاطِئة، أو يكشِفُ عنها لمن يستطيعُ منعَها.
العاملُ الصالحُ عنده من الصدق في دينه، والأمانة في عمله، والولاء لمُجتمعه، والحِرص على المصلحة العامَّة ما يدفعُه إلى الإحسان وإلى الجدِّ وحُسن الإنتاجِ، وعدمِ الرِّضا بالفساد والانحِراف.
ذلكم - معاشر الأحبَّة - أن الفسادَ بكل أنواعه سلوكٌ مُنحرِفٌ في الأفراد وفي الفئات، يرتكِبُ صاحبُه مُخالفاتٍ من أجل أن يُحقِّقَ أطماعًا ماليَّةً غير شرعيَّة، أو مراتِبَ وظيفيَّة غيرَ مُستحقَّة، مما يُؤدِّي إلى الكسبِ الحرام، وإضعافِ كفاءة الأجهزة والمُؤسَّسات والمُنشآت.
الفسادُ منهجٌ مُنحرِفٌ مُتلوِّنٌ مُتفلِّتٌ مُتستِّرٌ، مُحاطٌ بالسريَّة والخوف، يدخلُ في كل مجالٍ: في الدين، وفي السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الاجتماع، وفي الثقافة، وفي الإدارة.
الفسادُ تواطُؤٌ وابتِزازٌ، وتسهيلٌ لارتكِاب المُخالفات الممنوعة والمُمارسات الخاطِئة. الفسادُ استِغلالٌ مقيتٌ للإمكانات الشخصيَّة والرسميَّة والاجتماعية، يستهدِفُ تحقيقَ منافع غير شرعيَّة، ومكاسِب مُحرَّمة لنفسِه ولمن حولَه. سوءُ استِغلالٍ للسُّلطة والصلاحيَّة، في مُخالفةٍ للأحكام الشرعيَّة، والقِيَم الأخلاقيَّة، والأنظمَة المرعيَّة.
الفسادُ داءٌ مُمتدٌّ لا تحُدُّه حدودٌ، ولا تمنعُه فواصِلُ، يطَالُ المُجتمعات كلَّها مُتقدِّمها ومُتخلِّفها بدرجاتٍ مُتفاوِتة، وفي التنزيل العزيز: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الروم: 41].
معاشر المسلمين:
وكل انحرافٍ بالوظيفة العامَّة أو الخاصَّة عن مسارِها الذي وُضِعَت له ووُجِدت لخدمته فهو فسادٌ وجريمةٌ وخِيانةٌ. بالفساد تضطربُ الأولويات في برامج الدولة، وفي برامج الدول ومشاريعِها، وتُبدَّدُ موارِدُها، وتُستنزَفُ مصادِرُها.
بالفساد تتدنَّى مُستوى الخدمات العامَّة، وتتعثَّرُ مشارِيع، ويسُوءُ التنفيذ، وتضعُفُ الإنتاجيَّة، تُهدَرُ مصالحُ الناس، ويضعُفُ الاهتِمامُ بالعمل وقيمة الوقت، ويضطربُ تطبيقُ الأنظمة وعدالةُ المعايير.
الفساد يُؤدِّي إلى التغاضِي عن المخاطِر التي تلحَقُ الناسَ في مآكِلهم وفي مشاربِهم وفي مرافِقِهم الصحيَّة والتعليمية، وفي طُرقهم، وفي أنظِمة الأمان والحصول على الخدمات العامَّة.
الفسادُ يُزعزِعُ القِيَم الأخلاقيَّة القائمةَ على الصدق والأمانة والعدل وتكافُؤ الفرص وعدالة التوزيع، وينشُر السلبيَّة، وعدمَ الشعور بالمسؤولية، والنوايا السيئة، وينشُر الشعورَ بالظلم، مما يُؤدِّي إلى حالاتٍ من الاحتِقانِ والحِقدِ والتوتُّر والإحباط واليأسِ من الإصلاح.
الفسادُ يجعلُ المصالحَ الشخصيَّة تتحكَّمُ في القرارات، ويضعُفُ الولاءُ الصادقُ للحق وللأمة وللدولة، ويُعزِّزُ العصبيَّةَ المذمومة مذهبيَّةً أو قبَليَّةً أو حِزبيَّةً، فهو يُهدِّدُ الترابُط الأخلاقيَّ، وقِيَم المُجتمع الحميدة المُستقرَّة.
الفسادُ يُولِّدُ مُشكلاتٍ خطيرةً على استِقرار المُجتمعات وأمنِها وقِيَمها الأخلاقيَّة، وسيادة الأنظمة. الفسادُ يتواصَلُ مع أشكال الجريمة المُنظَّمة والجرائم الاقتصادية بما فيها ما يُعرَفُ بـ "غسيل الأموال".
الفسادُ يُعيقُ تطبيقَ الخُطط الصحيحة، والسياسات الإيجابيَّة، كما يُعرقِلُ جهودَ التغيير نحو الأفضل؛ بل إنه يُقوِّضُ الدولَ والمُؤسَّسات، ويُبعثِرُ الثَّروات، وينخَرُ في الإدارات، ويتناسَبُ طردًا مع الانحِرافات والمُنكَرات والأمراض المُجتمعيَّة والأخلاقيَّة.
معاشر الأحبَّة:
وللفساد مظاهرُ كثيرة، وصورٌ عديدة، ومسالكُ مُتنوِّعة؛ من الاختِلاس، والرِّشوة، وسوء استِخدام السُّلطة والصلاحيات، وإفشاء أسرار العمل، أو كِتمانِ معلوماتٍ حقُّها أن تكون معلومةً مُعلَنةً؛ سواءً في شأنٍ ماليٍّ أو وظيفيٍّ، والتزوير، والعبثُ بالوثائق والمُستندات والقرارات، وعدم احتِرام العمل وأوقات الدَّوام حُضورًا أو انصِرافًا، وضعف الإنجاز، والتشاغُل أثناء العمل بقراءاتٍ خارجيَّة، أو استِقبال من لا علاقةَ لهم بالعمل، والبحث عن منافِلَ وأعذارٍ، والتهرُّب من تنفيذِ الأنظِمة والتعليمات والتوجيهات، وعدمِ المُبالاة، والعُزوف عن المُشاركة الفاعِلة، والإسرافِ في استِخدامِ المالِ العام - ولو كان يسيرًا - في الأثاث والأدواتِ المكتبيَّة، والمُبالَغة في إقامةِ المُناسَبات، وسُوء توظيف الأموال، وإقامة مشارِيع وهميَّة، والعبَث بالمُناقَصات والمُواصَفات، في صُورٍ وأشكالٍ لا تقعُ تحت حصرٍ.
أيها المسلمون:
إذا كان الأمرُ كذلك؛ فلا بُدَّ من مُحاربة الفساد ومُكافحته، والتِزام الصلاح والإصلاح والنزاهة والشفافية، وذلك هو المِفتاحُ القائدُ - بإذن الله - لأسباب الخير والفلاح، والتوفيق والصلاح، والأمن والطمأنينة، وانتشار العدالة.
ومُحاربةُ الفساد ليست وظيفةً لجهةٍ مُعيَّنةٍ أو فِئةٍ خاصَّةٍ؛ بل هي مسؤوليَّةُ الجميع ديانةً وأمانةً وخُلُقًا ومسؤوليَّة.
النزاهةُ والعدالةُ في الإصلاح تحفَظُ هيبةَ الدول وكرامتَها وتُؤكِّدُ التلاحُم بينَها وبين مُواطِنيها، وتغرِسُ الثِّقةَ في الأجهزة والأنظمة. النزاهةُ تُعطِي قيادات الدول دفعًا أكبر في مُحاربة الفساد في جميع صُوره وأشكاله؛ إداريًّا وماليًّا وأخلاقيًّا.
مقاييسُ النزاهة هي: الديانة، والصدق، والعدالة، والوضوح والشفافية. في أجواء النَّزاهة تكونُ المُنافَسات النَّزيهة، والتنافُس الشريف على تقديم الأفضل والأجود والأنسَب.
أيها المسؤولون:
ومما يُعينُ على ذلك: تحديدُ مسؤوليَّات المُوظَّف، وإصدارُ الأدلَّة الإرشاديَّة، والتوعيَّة المُنظَّمة، وتبصيرُ الناس بحقوقِهم، وتشجيعُهم على المُساعَدة في كشفِ المُفسِدين.
ومما يُعينُ على ذلك كذلك: إصلاحُ أجهزة الرَّقابة، وتقويتُها، ودعمُها في كفاءاتها، وتبسيطُ أساليب العمل الإداريِّ، وتقويةُ الرَّقابة المُحاسبيَّة الإداريَّة والنظاميَّة والماليَّة، وسنُّ الأنظمة الصارِمة في مُواجَهة الفساد، وتطبيقُها بحزمٍ وعدالةٍ وحياديَّةٍ، والبُعدُ عن المُجاملات المُضعِفة، والعناية ببرامِج الإصلاح الإداريِّ ومنحُها الأولوية، وتوسيعُ دائرة تكافُؤ الفُرص والمُساواة على أساسِ معايير الجدارة والاستِحقاق، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ[القصص: 26].
وغرسُ قِيَم الجدِّ في العمل، وحِفظُ الوقت، والتواصِي بالحقِّ، والتِزامُ الأخلاق؛ من الصِّدقِ، والأمانة، والإخلاص، وحُسن الظنِّ، بعد الإيمان بالله وصدقِ التعلُّق به والاعتِماد عليه، والاهتِمام بالمصلحة العامَّة، والشعور الحق بالمسؤوليَّة، وزرعُ الثِّقَة من الجميع، مع بثِّ أجواء حرية الرأي والمناقَشة والمُكاشَفة.
وبعدُ - حفِظكم الله -؛ فالخللُ ليس في الأنظمة والقوانين والنُّصوص، ولكنَّه في الإدارات والمُجتمعات والنفوس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[القصص: 77].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد بكمال الذات، وجميل الصفات، لا إله إلا هو وسِعَ سمعُه جميعَ الأصوات، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على سوابِغ نعَمه المُتوالِيات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُبلِّغُ من رِضوانه أعلى الدرجات من الجنَّات، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه الهادي إلى الحقِّ والمُنقِذ - بإذن ربِّه - من الضلالات، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الفضائل والمكرُمات، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما دامَت الأرضُ والسماوات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
في حماية النَّزاهة وأهلِها ومُحارَبة الفساد ومُكافَحة المُفسِدين ليس الهدفُ محصورًا في البحث عن المُذنِبين والفاسِدين؛ بل يُضمُّ إلى ذلك ويتوازَى: إيجادُ الوعيِ الفعَّال بحجم الأضرار الناجِمة عن الفساد، وهي أضرارٌ دينيَّةٌ وسياسيَّةٌ وماليَّةٌ وأمنيَّةٌ وثقافيَّةٌ واجتماعيَّةٌ، في برامِج إصلاحٍ شاملةٍ، وتعاوُنٍ من الأجهزة كلِّها العامَّة والخاصَّة، ومُشاركة المُجتمع بكل مُؤسَّساته، وإعطاء الفُرص للاستِماع إلى آراء العامِلين ومُلاحظاتهم ومُقترحاتهم وشكاواهم ومُناقشاتهم.
وفي هذا البابِ للإعلام دورُه الفعَّال في نشر الوعيِ الصحيحِ، والمعلومات والحقائق، في تثبُّتٍ وتحرٍّ وحِياديَّةٍ ووقارٍ، وعدم التسرُّع في توجيه الاتهام للأفراد أو الجِهات، مع الثَّناء على ما يستحقُّ الثَّناء، والإشادة بالصالحين والشُّرفاء، وأصحاب الأداء الحسن والإيجابيَّة في العمل، وهم كثيرٌ في بلاد المُسلمين - ولله الحمد -، والحِفاظُ على العلاقات الطيبة والإيجابيَّة بين زُملاء العمل، والتعاوُن فيما بينهم، وتجنُّب تصيُّد الأخطاء وتتبُّعها، وتغليب حُسن الظنِّ.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وأصلِحوا واعمَلوا صالحًا، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[الأعراف: 56].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك سيِّدنا ونبيِّنا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم واجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم انصرهم على عدوِّك وعدوِّهم.
اللهم عليك اللهم بالطغاة الظلمة في سوريا، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعَل ما أنزلتَه قوَّةً لنا على طاعتِك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم واجعَل ما أنزلتَه عونًا لنا على طاعتِك، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:04 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir