يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-02-2012, 09:51 PM   رقم المشاركة : 101

 

خطورة الفرقة
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة التاسع من شعبان 1433 هـ بعنوان: "خطورة الفرقة"، والتي تحدَّث فيها عن الائتلاف والاجتماع بين المسلمين وضرورته في المحبة بينهم، وحذَّر من الوقوع في الفُرقة والتناحُر والتنازُع فيقع الفشلُ وذهابُ الريح، وذكرَ على ذلك مثلًا حادثةَ أُحُدٍ وما استفادَه المُسلمون حينها من دروسٍ بسبب التنازُع والافتراق.

الخطبة الأولى
الحمد لله أمر بالتآلُف والاجتماع، ونهى عن الفُرقة أهلَ الإسلام، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجُو به المزيدَ من الإنعام والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدوسُ السلام، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وسيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا وقوفَكم بين يدَيه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[النحل: 111].
أيها المسلمون:
إن ائتلافَ القلوب، واتحادَ المشاعر، واجتماعَ الكلمة من أوضح صفات المُسلمين المُخلصين الذين جعل الله الأُخوَّة في الدين قاعدةَ وأساسَ العلاقات بينهم، فقال - سبحانه -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ..[الحجرات: 10] الآية، ووصفَ أمَّتَهم بأنها أمةٌ واحدةٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[المؤمنون: 52].
ولما كان التفرُّق والتناحُر والتدابُر مُباينًا لذلك كلَّ المُبايَنة؛ لأنه مِعولُ هدمٍ في بُنيان هذه الأمة، وسببٌ لتقويضِ عوامل القوة والعِزَّة والخيرية التي كتبَها الله لها جاء التحذيرُ الربانيُّ من الخلاف الذي وقع فيه مَن قبلَنا من الأمم، فحملَهم على التناحُر والتلاعُن مع مجيءِ البيِّنات الهادِيات المانِعات من الوقوع في ذلك، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[آل عمران: 105- 107].
وعدَّ الله تعالى هذا التفرُّق في الدين والاختلاف فيه مُفسِدًا له، ومُقوِّضًا لأركانه، وعامِلًا على الانفصال عنه، وسببًا لبراءة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من أهله - أي: من أهل هذا التفرُّق -: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[الأنعام: 159].
وكما جاء هذا النهيُ عن التفرُّق والتحذير منه، فقد جاءت تكاليفُ الشريعة بكل سببٍ يضمَنُ الائتلافَ ويحُولُ دون التفرُّق:
فمن حثٍّ على أداء الصلوات الخمس في اليوم والليلة في جماعةٍ بالمساجد بالترغيب القويِّ فيها، والتحذير الشديد من تركها، كما جاء في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاةُ الجماعة أفضلُ من صلاةِ الفَذِّ بسبعٍ وعشرين درجة».
وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده؛ لقد هممتُ أن آمُر بحطبٍ فيُحتَطَب، ثم آمُر بالصلاةِ فيُؤذَّن لها، ثم آمُر رجلًا فيؤُمَّ الناسَ، ثم أُخالِفَ إلى رجالٍ لا يشهَدون الصلاةَ فأُحرِّقَ عليهم بيوتَهم ..» الحديث.
إلى إيجابِ الالتقاءِ كل أسبُوعٍ لسماع الذكرِ وأداء صلاة الجُمُعة، إلى الأمر باجتماعٍ أكبر من ذلك في صلاة العيد، وجعلَ مكانَه الصحراء، وحثَّ على حضور الرجال والنساء - حتى الحُيَّضَ منهنَّ - ليحظَى بهذا الخير العددُ الغفيرُ ويعُمَّ النفعُ، إلى فرضِ اجتماعٍ يضُمُّ حشودًا تأتي من كل فجٍّ عميقٍ تؤُمُّ البيتَ في زمانٍ معلومٍ لأداء شعيرة الحجِّ، فيكونُ التقاءُ هذه الحشود أمرًا محتومًا لشهُود المنافع التي تأتي للشدِّ على الروابطِ بين الإخوة، والسعيِ إلى توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم.
وفي السنن التي سنَّها رسول الهدى - صلوات الله وسلامه عليه - من الوصية بالاتحاد والاجتماع، والتحذير من غوائِلِ الفُرقة والتنازُع ما يُفصِحُ عن شدَّة حِرصِه - صلى الله عليه وسلم - على ما يحفظُ أسبابَ ذلك، ويدلُّ عليه، ويُرشِدُ إليه.
ومن ذلك: أنه رأى - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره تفرُّقَ الناس في الشِّعابِ والأوديةِ حين ينزِلون منزلًا، فكرِهَ ذلك ونهى عنه بقوله: «إن تفرُّقَكم في الشِّعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان»، فلم ينزِلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضمَّ بعضُهم إلى بعضٍ، حتى يُقال: لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والنسائي في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ.
ولما كان التطاحُن والتنازُع على متاع الدنيا شأنَ أهل الجاهلية وعادةَ أهل الكُفر؛ فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أهلَ الإسلام، فقال في خُطبة يوم النَّحر: «لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ». قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: فوالذي نفسي بيده؛ إنها لوصيَّتُه إلى أمَّته: «لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ»؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
ولما كان الخروجُ على إجماع الأمة من أعظم أسبابِ الشِّقاق والتنازُع؛ فقد كان التحذير من الخروج عن الطاعة ومُفارقة الجماعة شديدًا، والعقوبة عليه مُغلَّظَة، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خرجَ عن الطاعة، وفارقَ الجماعةَ، فمات مات ميتةً جاهليَّةً، ومن قُتِل تحت رايةٍ عُمِّية - أي: جهالةٍ وضلالةٍ -، يغضبُ للعَصَبة، ويُقاتِلُ للعَصَبة فليس من أمَّتي، ومن خرج من أمتي على أمتي يضرِبُ برَّها وفاجِرَها لا يتحاشَى من مؤمنِها، ولا يفِي بعهدِ ذي عهدِها، فليس مني ولستُ منه»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وفي الحديث الآخر أيضًا عند مسلم - رحمه الله -: «ستكونُ هَناتٌ وهَناتٌ، فمن أرادَ أن يُفرِّقَ أمرَ هذه الأمة وهي جميعٌ فاضرِبوه بالسَّيف كائنًا من كان».
وما ذاك - يا عباد الله - إلا لأن الفُرقةَ والخروجَ على الجماعة أشبهُ بجُرثومةٍ لو سُمِح لها بالحياة لقتَلَت جسدَ الأمة وأوردَته موارِدَ الهلَكَة، وقد كان من شُؤم التنازُع ووبالِه ما حصلَ يوم أُحُد فإنما وقعَ من تنازُعٍ وعِصيان أمرِ الله وأمرِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان سببَ ما مُنُوا به من هزيمةٍ في جهادٍ بذَلوا فيه لله أنفُسَهم وأموالَهم، وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران: 152].
وكانت أول موعظةٍ وُعِظوا بها بعد ما كان من نصرِ الله لهم يوم بدرٍ أن أُمِروا بجمع صُفُوفهم، والحذَر من التنازُع المُفضِي إلى الفُرقة، فقال - سبحانه -: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[الأنفال: 46].
وإنه لفشلٌ وذهابُ ريحٍ لا عاصِمَ منه، ولا منجاةَ من غوائِلِه إلا بالاعتصامِ بحبلِ الله؛ أي: بدينه، وبكتابه، وبشرعه، وبنَبذِ التفرُّق المُفضِي إلى جحدِ نعمةِ الله علينا؛ إذ هدانا إلى الإسلام، وجعلَنا من بعد عداواتِ الجاهليَّة وأحقادِها وتفرُّقها وتحزُّبها إخوانًا في الدين، أعوانًا على الخير، كما قال - سبحانه -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[آل عمران: 103].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 07-02-2012, 09:52 PM   رقم المشاركة : 102

 

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن الاختلافَ الناشِئ عن تفاوُت المدارِك في الفهمِ، وتبايُن العقولِ في الاستِنباط لم يكن أبدًا ولا يصِحُّ أن يكون سببًا للفُرقة والتنازُع؛ لأنه اختلافٌ بين مُجتهِدين أساغَه الشارِعُ، وجعل الأمرَ فيه دائرًا بين أجرَيْن لمن أصابَ وأجرٍ لمن أخطأ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه".
وهو ارتباطٌ بين صلاحِ القصدِ ونتيجة الفِكرِ، فما دام القصدُ صحيحًا والوسيلةُ صائبةً والأهليَّةُ قائمةً فلا مُوجِبَ للتنازُع؛ إذ المقصودُ معرفةُ الحق، والعملُ به، والدَّلالةُ عليه رغبةً في التواصِي بالحق والتواصِي بالصبر، وذلك من أسباب الاجتماع لا التفرُّق، ومن عوامل الاتحاد لا التنازُع.
وما أحسنَ أن يكون الإعلامُ الجديدُ بما يُتيحُه من وسائل وما يُوفِّره من مواقع تواصُلٍ سببًا لاجتماع الكلمة، وطريقًا لاتحاد المشاعِر، لا أن يكون عامل فُرقة وخُصومةٍ وتنازُع.
فاتقوا الله - عباد الله -، واعملوا على كل ما يُحقِّقُ اتحادَ الكلمة، ووحدة الصفِّ، وحَذَارِ من التناحُر والتنازُع والتفرُّق المُؤذِنِ بالفشل وذهابِ الريح؛ فإنه أسوأُ مصيرٍ ينتظِرُ المُتخاصِمِين المُتنازِعين.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم أنزِل رحمتَك وغُفرانَك على عبدك الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله -، اللهم اغفر له في المهديين، وارفع درجاته في علِّيِّين، وألحِقه بصالحِ سلفِ المؤمنين، واجزِه عمَّا قدَّم للإسلام والمُسلمين خيرًا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده سلمان بن عبد العزيز إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم اكفِنا أعداءَنا وأعداءَك بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك يا رب العالمين.
اللهم احفظ مصر وشعبَها، ووفِّق قادتَها لكلِّ خيرٍ عاجلٍ أو آجلٍ، وانصر بهم دينَك وكتابَك وسنَّةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم أنجِ المُستضعَفين في سُوريا، اللهم احفظ دماءَهم، اللهم احفظ دماءَ المُسلمين في سُوريا، اللهم احقِن دماءَهم، وارحم موتاهم، واكتُب لهم أجرَ الشهادة في سبيلِك يا رب العالمين، اللهم كن لهم، واجبُر كسرَهم، وارحم ضعفَهم يا رب العالمين.
اللهم أطعِم جائِعَهم، واكسُ عارِيَهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:08 PM   رقم المشاركة : 103
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الإحسان


خطبة الجمعة 16 شعبان 1433هـ من المسجد الحرام بمكة المكرمة لفضيلة الشيخ /صالح بن حميد

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله استخلفَ الإنسانَ في الأرض ليعمُرها، وخلق له ما في السماوات وما في الأرض وسخَّرَها، أحمده - سبحانه - وأُثني عليه والَى علينا نعمَه وآلاءَه لنشكُرَها، ومن رامَ عدَّها فلن يحصُرَها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقينٍ أرجو عند الله أجرَها وذُخرَها، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله رسمَ معالمَ الملَّة وأظهرَها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا أفضلَ هذه الأمة وأكرمَها وأبرَّها، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - عز وجل - رحمكم الله -، وأخلِصُوا لربكم القصدَ والنيةَ فإنما الأعمالُ بالنياتِ، واجتهِدوا في الطاعة فقد أفلحَ من جدَّ في الطاعات، والزَموا الصدقَ في المُعاملة فإن دين الله في المُعاملات.
بادِروا - رحمكم الله - إلى ما يحبُّه مولاكم ويرضاه؛ فكلُّ امرئٍ موقوفٌ على ما اقترفَه وجناه يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ[النبأ: 40]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[آل عمران: 30].
أيها المسلمون:
كلمةٌ عظيمةٌ تتضمَّن معاني واسعة تدور حول صلاح الإنسان وفلاحه في معاشه ومعاده، ونفسه وأهله ومُجتمعه، وفي كل ما حوله من حيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ. كلمةٌ تدخلُ في الدين والعبادة، والقول والعمل، والخُلُق والمظهر والسلوك. كلمةٌ عظيمةٌ لها مدارُها في التعامُل والتعايُش، ولها آثارُها في رأبِ الصدع، وتضميد الجراح، وغسلِ الأسَى، وزرعِ التصافِي، والدفع إلى التسامِي صُعُدًا في مكارم الأخلاق.
كلمةٌ إليها ترجع أُصولُ الآداب وفروعُها، وحُسنُ المُعاشرة وطرائِقُها. كلمةٌ هي غايةُ الغايات، ومحطُّ نظر ذوي الهِمَم العاليات. هذه الكلمة العظيمة يُوضِّحُها ويُجلِّيها حديثان صحيحان عن نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -:
أما الأولُ: فقد سأل عن هذه الكلمة جبريلُ - عليه السلام - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين قال له: أخبِرني عن الإحسان. قال: «الإحسانُ: أن تعبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وأما الحديثُ الثاني: فحديثُ أبي يعلَى شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ؛ فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلَة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحِدَّ أحدُكم شفرَته، وليُرِح ذبيحتَه».
أخرج الحديثين: الإمامُ مسلمُ بن الحجاج في "صحيحه"، وأصحاب السنن.
معاشر الإخوة:
الإحسانُ مُشتقٌّ من الحُسن، وهو نهايةُ الإخلاص، والإخلاصُ على أكمل وجوهه من الإتقان والإحكام والجمال في الظاهر والباطن.
والإحسانُ في العبادة: أن تعبُد الله كأنك تراه، فهو قيامٌ بوظائف العبودية مع شهودك إياه. فإن لم تكن تراه فإنه يراكَ؛ أي: فتكون قائمًا بوظائف العبودية مع شهوده إياك.
إنه مُراقبةُ العبد ربَّه في جميع تصرُّفاته القولية والعملية والقلبية، علمُ القلب بقُرب الربِّ، فهو من أعلى مقامات التعامُل مع الله.
أيها المسلمون:
الإحسانُ مطلوبٌ في شأن المُكلَّف كلِّه؛ في إسلامه، وإيمانه، وفي عباداته، ومُعاملاته، وفي نفسه، ومع غيره، وفي بدنه، وفي ماله، وفي جاهِه، وفي علمِه وعمله.
وأولُ مقامات الإحسان: الإحسانُ في حقِّ الله - عز وجل -، وهو الإحسانُ في توحيده: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد: 19]، فيُوحِّدُ المُسلمُ ربَّه على الشهود والعِيان كما عبدَه بالدليل والبُرهان.
ومن الإحسان في التوحيد: الرضا بمقادِر الله؛ فيُظهِرُ الرضا والقبول في المنع والعطاء: «عجبًا لأمر المُؤمن وأمرُه كلُّه خيرٌ؛ إن أصابَته سرَّاء شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاء صبرَ فكان خيرًا له، ولا يكونُ ذلك إلا للمؤمن».
وهل عوَّدك ربُّك - يا عبد الله - إلا إحسانًا؟! وهل أسدَى إليك إلا جودًا ومِنَنًا؟!
ومن الإحسان في توحيده: فهمُ العلاقة بين السببِ والمُسبِّبِ، «وإذا سألتَ فاسأل اللهَ»، فيتوجَّه العبدُ بقلبه لربه ربِّ الأرباب ومُسبِّب الأسباب طالبًا منه، مُعتمِدًا عليه، راضيًا عنه.
ومن الإحسان: تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في صدق محبَّته، ولزوم طاعته، وحُسن مُتابعته، وعدم مُجاوزة شرعه، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[آل عمران: 31].
ومن الإحسان: إحسانُ العبد في عبادته ربَّه، والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وإحسان العبادة: الإخلاص، والخشوع، وفراغُ البال، ومُراقبة المعبود؛ فللصلاة طهورُها، وآدابُها، وسُننها، وسكينتُها، وقُنوتُها، وطُمأنينتُها حتى تقول لصاحبها: حفِظَك الله كما حفِظتَني.
والإحسانُ في الزكاة والإنفاق: أن يُخرِج من طيِّب ماله بطِيبٍ من نفسه من غير منٍّ ولا أذًى، شاكرًا لربه فضلَه؛ إذ جعلَ يدَه هي اليدَ العُليا.
والإحسانُ في الصيام: الصومُ إيمانًا واحتسابًا، يدَعُ الصائمُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل ربِّه ومولاه، ولخَلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك.
والإحسانُ في الحجِّ: أن يُهِلَّ الحاجُّ بالتوحيد، مُتمِّمًا الحجَّ والعُمرةَ لله، مُجتنِبًا الرَّفَثَ والفسوقَ والجِدالَ، فمن حجَّ ولم يرفُث ولم يفسُق خرجَ من ذنوبه كيوم ولدَتْه أمُّه.
أيها الإخوة الأحِبَّة:
وبعد حقِّ الله في الإحسان في توحيده وفي عبادته، وحقِّ رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الطاعة والمُتابعة يأتي الإحسانُ إلى عباد الله، ويأتي في المُقدِّمة الوالِدان: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء: 23، 24].
ويتبَعُ الإحسانَ إلى الوالدَيْن: الإحسانُ إلى الرَّحِم وذوي القُربَى؛ بالبرِّ والصلة واللُّطفِ في القول والعمل، وليس الواصِلُ بالمُكافِئ ولكنَّ الواصِلَ من إذا قطعَت رحِمُه وصلَها.
ومن الإحسان: الإحسانُ إلى اليتَامَى والمساكين والضُّعفاء وأصحابِ الحاجات الخاصَّة؛ قولٌ ليِّن، وإنفاقٌ من غير منٍّ، ومُعاملةٌ من غير عُنف، وصادِقُ الخدمة، ورفعُ مُعاناتهم، وعدمُ التعالِي عليهم، والحَذَرُ من إشعارهم بما ابتُلوا به، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ[الضحى: 9، 10]، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 8، 9].
وممن يتعيَّنُ الإحسانُ إليهم: الغُرباءُ وأبناءُ السبيل والوافِدون، فهم لا يعرِفون الأعرافَ الجارية ولا العادات السائدة؛ بل لا يعرِفون منكم إلا أخلاقَكم وحُسن تصرُّفكم.
ولا تغفَلوا عن الإحسان إلى المُعسَرين من المَدينين، فتكون المُطالَبة بالمعروف، والإنظارُ إلى ميسَرة، وتجاوَزوا لعلَّ الله أن يتجاوَزَ عنكم في يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتَى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.
وأحسِنوا في بيعكم وشرائِكم، وحُسن التقاضِي فيما بينكم؛ فرحِمَ الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، وسمحًا إذا قضَى، وسمحًا إذا اقتضَى.
ومن الإحسان: الإحسانُ بترك المُحرَّمات واجتنابها بالكلية، والانتهاء عنها ظاهرًا وباطنًا، وفي التنزيل العزيز: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ[الأنعام: 120].
أما الإحسانُ إلى الحيوان؛ ففي كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ.
وللجماد نصيبُه من خُلُق المُسلم وإحسانه، وأُحُد جبلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه.
عباد الله:
أما قولُه - عليه الصلاة والسلام -: «فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلَة، وإذا ذبحتُم فأحسِنوا الذِّبحَة»، فهذا شأنٌ عظيمٌ في دين الإسلام، فالله أكبر؛ استحقاقُ القتل لا يُنافِي الإحسان في كيفيَّته وآلته. قال أهل العلم: ضربَ المثالَ بالقتل والذبحِ الذي ربما يُتوهَّم أنه في غاية البُعد عن الإحسان.
إن الإحسانَ في الإسلام يرسُمُ ويُرسِّخُ القِيَم الإنسانيةَ العُليا، ويترفَّعُ عن الأحقاد والضغائن، نعم؛ الذي يستحقُّ القتلَ قد لا يُفيدُه ولا ينفعُه ترفُّقُك به، وإنما تتجلَّى القيمةُ في سُمُوِّ إنسانية المُسلم وعلوِّ منزلة الأخلاق عنده.
إن خُلُق الإحسان هذا وعلى هذه الصفة هو الذي يُجسِّدُ التحضُّر والسُّلُوكَ الإنسانيَّ الراقي، ويتجلَّى الإحسانُ فيه، «الراحِمون يرحمُهم الرحمن»، «وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه».
ومن اللطائف: ما ذكرَه بعضُ أهل العلم في قوله - سبحانه -: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ[محمد: 4]، وفي قوله - عزَّ شأنه -: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ[الأنفال: 12].
قال أهل العلم: "إن المقصودَ الإحسانُ في القتل حتى في حال الحربِ والقتالِ والكُفرِ وشدِّ الوَثاق".
معاشر المسلمين:
ذو الإحسان ينطلقُ في ميادين الإصلاح الواسِعة يبذُلُ ما في وُسعه، ينشرُ الخيرَ والفضلَ والبرَّ في كل ما يُحيطُ به أو يمُرُّ به. المُحسِنُ عنصرٌ صالحٌ، ومُسلمٌ مُستقيمٌ مع نفسه ومع الآخرين، لا يصدُرُ عنه إلا ما يُحبُّه لنفسه ويرضاه للآخرين، وفي مسلَكه تزدادُ الحياةُ استقامة، والمحبَّةُ عُمقًا، وتسُودُ الثقة، وتنتشرُ الطُّمأنينةُ، فيكونُ الإنتاجُ المُثمِر، والسعادةُ الشامِلة.
المُحسِنُ شخصيَّةٌ مُهذَّبةٌ راقِيةٌ، يستبطِنُ بين جوانِحه جُملةً من مكارِمِ الأخلاق تدورُ بين العدل والإحسان وفقَ توجيهات الشرع وترتيباته وأولوياته.
الإحسانُ مِعيارُ قياس نجاح العلاقات، وثباتها، ودوامِها، وإذا كان العلُ أساسَ الحُكم وقيامِ الدول فإن الإحسانَ هو سبيلُ رُقِيِّها ورفعتِها وتقدُّمها، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ[النحل: 90].
ومن أجل هذا - عباد الله - كان جزاءُ الإحسان عظيمًا؛ فإن الله –عزَّ شأنه - أحسنُ صِبغة، وأحسنُ قيلًا، ومن أقرضَ اللهَ قرضًا حسنًا وأبلَى بلاءً حسنًا ضاعفَ له المثوبةَ أضعافًا كثيرةً، ومنَّ علينا - سبحانه - بالرزقِ الحسن والمتاع الحسن في الدنيا، والحُسنى وزيادة في الأُخرى، ولمن أحسنَ في هذه الدنيا حسنة، ومن هاجرَ إليه بوَّأه في الدنيا حسنة، ومن اقترفَ حسنةً زادَ له فيها حُسنًا، ومن سألَه في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً فله نصيبٌ مما كسَب، ومن صدَّق بالحُسنى ودعاه بأسمائه الحُسنى أعطاه في هذه الدنيا الحُسنى، وجعلَه من الذين سبقَت لهم في الآخرة الحُسنى.
وكلما كان الإيمانُ أكمل والعملُ أحسن كان الجزاءُ أوفَى والثوابُ أعظم، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ[الزمر: 34]، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ[الذاريات: 16]. وللمُحسِنات من النساء مثلُ ذلك: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا[الأحزاب: 29].
وبعدُ، عباد الله:
فيقول الإمام النووي - رحمه الله -: "الإحسانُ هو عُملةُ الصدِّيقين، وبُغيةُ السالكين، وكنزُ العارفين، ودأبُ الصالحين، وهل جزاءُ من صبرَ على البلوَى إلا التقرُّبُ من المَولَى؟ وهل جزاءُ من أسلمَ قلبَه لربِّه إلا أن يكفِيَه ويحفظَه".
فإذا حكمتُم فاعدِلوا، وإذا تعاملتُم فأحسِنوا؛ فإن الله مُحسنٌ يحبُّ المُحسنين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ[النحل: 30، 31].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله على توفيقه وإحسانه وإرشاده، والشكرُ له على توالِي فضلِه وازدياده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تقُودُ صاحبَها إلى فوزه وإسعاده، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ رُسُله وخيرُ عباده، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم معاده.
أما بعد، أيها المسلمون:
إن للإحسان آفاقه الواسِعة في هذه الحياة؛ فهو ميزانُها الدقيقُ في كل جوانبها؛ بل هو خُلُقٌ عظيمٌ يتجاوزُ المُعاملةَ بالمثلِ أو ردَّ الجَميل، أو الشكرَ على الصنيع، إنه يرتفعُ بصاحبِه ويسمُو به إلى أن يُحسِنَ للناس ابتِداءً ولو لم يسبِق له منهم إحسانٌ؛ بل يترقَّى إلى مرتبةٍ أعلَى حين يُقابِلُ إساءَتهم إليه بالإحسان إليهم، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ[المؤمنون: 96].
مُقابلةُ الإساءة بالإحسان هي التِّرياقُ النافعُ في مُخالطَة الناس، والدواءُ الناجِعُ لإصلاحِهم وبثِّ الأمان فيهم. إحسانٌ تتحوَّلُ العداوةُ معه إلى صداقةٍ، والبُغضُ إلى محبَّة. الإحسانُ هو دواءُ السيئة وجزاؤُها من أجل أن تُسلَّ السخائِم، ويُقضَى على الضغائِن فينقلبُ العدوُّ صديقًا، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت: 34، 35].
يقول الثوري - رحمه الله -: "الإحسانُ أن تُحسِنَ إلى المُسيءِ؛ فإن الإحسانَ إلى المُحسِن تجارة"؛ أي: مُعاوَضة ومُقابلَة للإحسان بالإحسان، ومُقابلةُ السيئة بالحسنة شيءٌ عظيمٌ لا يُطيقُه إلا ذوو الهِمَم العالية، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. إنه صبرٌ جميلٌ، وتحمُّلٌ لأذى، وغُفرانٌ لإساءة.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن هذه المواقف النبيلة المُتسامِحة سُرعان ما تُعطِي ثمارَها، وتُؤدِّي نتائِجَها من الحبِّ والقَبول، كم هم النُّبلاءُ الذين يُقابِلون هذه الإساءات مهما بلغَت مساوئُها ومهما كانت آثارُها، والخلقُ كلُّهم عيالُ الله، فأحبُّهم إلى الله أنفعُهم لعياله؛ في يُسرٍ، ورفقٍ، وحُسن ظنٍّ وتجاوُزٍ.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبيِّ المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ الطاعةِ، ويُهدَى فيه أهلُ المعصيةِ، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المُنكَر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شَريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً.
اللهم انصرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرِمين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحُورِهم ونعوذُ بك من شُرُورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالَنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا، يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:18 PM   رقم المشاركة : 104
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 


الإسلام والأمن

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 23 شعبان 1433هـ بعنوان: "الإسلام والأمن"، والتي تحدَّث فيها عن الأمن والأمان في الإسلام، وأن الله تعالى أنعمَ على هذه الأمةِ بهذه النعمةِ العظيمة، ومنَّ عليها بتلك المنَّة الكريمة، وذكرَ ما حبا الله بلادَ الحرمين الشريفين من الأمن والاستقرار، وذكَّر في خطبته الثانية بضرورة توخِّي وسائل الإعلام الحذر مما يُعرضُ عليها مما يخدِشُ حُرمةَ شهر رمضان، ويُذهِبُ بركاتِه وخيراته التي تفضَّل الله بها على عباده.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُك ربَّنا ونستعينُك ونتوبُ إليك ونستغفرُك، ونُثنِي عليك الخيرَ كلَّه.
الحمدُ لله حمدًا دائمًا وكفَى
شُكرًا على سَيْبِ جَدواه الذي وكَفَا
لك الحمدُ ربِّي على الأمنِ وارِفًا
صِرنا بفضلِه موطِنَ المُحسَدِ
أحمدُه - سبحانه - مكَّنَ فينا الأمنَ وأوثقَا، وأضاءَ من نوره الكونُ فأشرقَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستكشِفُ بها دخَنً، ونستنيرُ بها دغَنًا، ونرجُو بها أمنًا مُتحقِّقًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله الهادي إلى النور المُبين فأفلَقًا، فملأَ الكونَ أمنًا وأغدَقًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الأعراق، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين الأعلاق، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم التلاقِ.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا ربَّكم - تبارك وتعالى - واشكُروه، وأطيعوه ولا تعصُوه، اشكُروه على نعمِه الباطنة والظاهرة، وعلى آلائه المُتوافِرة المُتكاثِرة، تفُوزوا بخير الدنيا ونعيمِ الآخرة.
الشكرُ يفتحُ أبوابًا مُغلَّقةً
لله فيها على من رامَه نِعَمُ
فبادِرِ الشكرَ واستغلِق وثائِقَهُ
واستدفِعِ اللهَ ما تجري به النِّقَمُ
أيها المسلمون:
في أغوار الفتنِ وأعماقِها، وبين فحيحِها وضُبَاحِها، تأتلِقُ قضيَّةٌ فيحاء، عريقةٌ بلْجَاء، هي من الضرورات المُحكَمات، والأصول المُسلَّمات، ومن أهم دعائم العُمران والحضارات، يُذكَّرُ بهذه القضية في زمنٍ روَّقَ علينا بكَلكَلِه، وأوانٍ كثُرت فيه الفتنُ البَهماء، واكفهرَّت لياليه الظَّلماء، واسبقَرَّت مِحَنُه العمياءُ الدَّهماء.
فبَين صياخِدةٍ حادَّة، وأزماتٍ مُتضادَّة، مُتشاكِسةٍ هادَّة، وأشلاءٍ ودماءٍ، ودمارٍ وأصلافٍ وأرزاءٍ، تستعِرُ جوانبُ أمَّتنا الإسلامية، وتتقلَّبُ فيها الأحداثُ الدولية والعالمية، وإلى الله وحده المُلتجَأ أن يُجلِّيَ الخُطوبَ، ويكشِف عن المُسلِمين الكُروبَ.
إنها - يا رعاكم الله –: قضيةُ الأمن والأمان، والاستقرار والاطمئنان.
وما الدينُ إلا أن تُقامَ شعائرٌ
وتُؤمَنُ سُبلٌ بيننا وشِعابُ
فيا للهِ! ما أعظمَها من نعمةٍ، وأكرمَها من مِنحةٍ ومِنَّة، فمنذُ أن أشرَقَت شمسُ هذه الشريعة الغرَّاء ظلَّلَت الكونَ بأمنٍ وارِفٍ، وأمانٍ سابغِ المعاطِفِ، لا يستقِلُّ بوصفِه بيان، ولا يخُطُّه يَراعٌ أو بَنان، فالأمنُ فيها من أولَى المطالِب، وأفضلِ الرغائِب، وأهمِّ المقاصِد؛ فهو مطلبٌ ربَّانيٌّ، ومقصدٌ شرعيٌّ، ومطلبٌ دوليٌّ، وهاجِسٌ إنسانيٌّ.
فإذا ما تحقَّق وتأكَّد، وعمَّ وتوطَّد، تأتلِقُ قُدراتُ الإنسان شطرَ الازدِهار، والتميُّز والابتِكار، والإنماء والإعمار، وينحسِرُ الاضطرابُ والبَوار.
فلله ثم لله؛ كم في الأمنِ من الفضائل والبركات، والآثار السنيَّات؛ كيف وقد جعله - سبحانه - من أجلِّ النِّعَم، وقرَنَه بالإطعام من الجوع، فقال - سبحانه -: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[قريش: 4].
معاشر المسلمين:
ولقد كان الأمنُ أولَ دعوةٍ دعا بها خليلُ الرحمن إبراهيم - عليه السلام -؛ حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ[البقرة: 126]، فقدَّم الأمنَ على الرزقِ؛ بل جعلَه قرينَ التوحيد في دُعائِه، فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[إبراهيم: 35].
وقد عمَّقَ الإسلامُ هذا المعنى ورنَّقَه، ففي ظِلالِه يتضوَّعُ الجميعُ الأمنَ والأمانَ، ويأمَنونَ الغُدَرَ الجِوان، ورميَ الرَّجَوَان؛ في "البخاري" عن أبي شُريحٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لا يُؤمِن، والله لا يُؤمِن، والله لا يُؤمِن». قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمَنُ جارُهُ بوائِقَه».
الله أكبر، الله أكبر!
ببعثَته المكارِمُ قد تجلَّت
فولَّى الشركُ وانهزَمَ انهزامًا
وسادَ الأمنُ بعد الخوف حتَّى
ترقَّى الكونُ وانتظمَ انتظامًا
أمةَ الإسلام:
تلكُم هي المنهجيَّة الإسلامية الصحيحة لهذه القضية الشاملة الرَّبيحة: قضية الأمن والأمان، فهما جنبان مُكتنِفان للإيمان مُنذُ إشراق الإسلام إلى أن يُحشَرَ الأنام، فلقد أعلَى الإسلامُ شأنَها ورفعَ شأوَها؛ حيث قال نبيُّ الهدى - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبحَ آمنًا في سِربِه، مُعافًى في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافِيرها»؛ أخرجه الترمذي، وحسَّنه.
لقد طابَت الدنيا بطِيبِ مُحمَّدِ
وزِيدَت به الأيامُ حُسنًا إلى حُسنِ
لقد فكَّ أغلالَ الضلالِ بسُنَّةٍ
وأنزلَ أهلَ الخوف في كنَفِ الأمنِ
ولقد امتنَّ الله تعالى على بلاد الحرمين الشريفين بنعمة الأمن والأمان، فقال - سبحانه -: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[القصص: 57]، وقال - سبحانه -: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ[العنكبوت: 67].
فسبحان الله - عباد الله -، ها أنتم أُولاء ترونَ الناسَ من حولكم وما يعيشونَه من خوفٍ واضطرابٍ، ما هي أنباءُ إخوانكم في الأرض المُبارَكة فلسطين؟ بل ما حال إخواننا على رُبَى الشام الحَزين؟ ناهِيكم عمَّا يجري للمُسلمين في بُورما وأراكان من تقتيلٍ وتنكيلٍ وحرقٍ شائنٍ مُهينٍ، وقُل مثلَ ذلك في كل صِقعٍ رَهينٍ.
ولو كان سهمًا واحدًا لاتَّقيتُه
ولكنَّه سهمٌ وثانٍ وثالثُ
فبلادُنا - بحمد لله - وهي قبلةُ المُسلمين، ومُتنزَّلُ وحي ربِّهم، ومبعثُ ومُهاجَرُ نبيِّهم - عليه الصلاة والسلام - آمِنةٌ - بفضل الله - من الحروبِ العاصِفة، والفتنِ القاصِفة التي تقُضُّ المضاجِع، وتُغوِّرُ الفواجِع، وتذَرُ الديارَ بلاقِع.
سلَّمها الله تعالى من الأحداث النوازل، والنَّكَبات القوازِل، وبسطَ الأمنَ في رُبُوعها، ونشرَ الأمانَ في أرجائِها، فلله الحمدُ والشكرُ أولًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا.
وليس مثلُ الأمنِ يحلُو به
رغيدُ العيش وتهنَأُ الأنفُسُ
أمةَ الأمن والأمان:
إن استِحكام الأمن في البلد الحرام عقيدةٌ راسخةٌ، أصلُها ثابتٌ ورفعُها في السماء، لا يضيرُها عُكابات الأغتام ولا ذمُّ الصَّعافِقة اللِّئام، فقد أجدَبَت أشفارُهم، وتطايَرَت أحلامُهم، ووخَرَ الحقدُ صُدورَهم، فصاروا أطيَشَ من القدُوح الأقرَح، وساءَهم كلُّ ما يُفرِح، ومهما قطَّروا الجَلَب وناهَزوا الغَلَب؛ انعكَسَ عليهم الحال، وساءَت بهم الفِعال. الأمرُ الذي أقضَّ مضاجِعَهم، وزادَ حنَقَ ناعِقهم، فأجلَبوا بخيلِهم ورجِلهم، وبثُّوا الأراجيفَ الكاذِبة، والشائعات المُغرِضة، وما أشبهَهم بقول الأول:
كناطحٍ صخرةً يومًا ليُوهِنَها
فلم يُضِرها وأوهَى قرنَه الوعِلُ
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[فاطر: 43]، مما يُؤكِّدُ وبقوةٍ لاسيَّما للأجيال الناشِئة عدمَ الإصغاء لدُعاة الفتنة، وخفافيش الظلام، ومُثيري الشَّغَب والفَوضَى، ومُروِّجي الأفكار الضالَّة، ومن أسلَسُوا قِيادَهم وجعلُوا من أنفسهم أدواتٍ في أيدي أعدائهم، لاسيَّما عبر شبكات البثِّ المعلوماتيِّ، ووسائل التواصل الاجتماعيِّ.
فبلادُنا - بحمد لله - آمنةٌ مرغُوسة، وفي تُخوم الأمانِ مغروسة، ومن الأعادي - بإذن الله - مصونةٌ محروسة، وستظلُّ - بحول الله - ثابتةً على عقيدتها، مُتلاحِمةً مع وُلاتها وقادتها، وإن أصابَتها العُضالات، ومهما فقَدَت من رجالاتٍ وكفاءاتٍ، فخلفَهم أقيالٌ قاداتٌ.
إخوة الإيمان:
وإننا إذ نُشنِّفُ الآذان في الحديث عن قضية الأمن والأمان لا ننسَى ما رُزِئَ به الأمنُ من فاجِعةٍ عظيمةٍ، وما ألمَّ به من مُصيبةٍ جسيمةٍ بوفاة رمزٍ من رموزه الكِبار الذي قادَ لأعوامٍ عديدةٍ منظومةَ العمل الأمنيِّ في البلاد، حتى انتشرَ الأمنُ - بفضل الله - في كل الأصقاع والوِهادِ.
وطلبُ الأمنِ في الزمانِ عسيرُ
وحديثُ المُنَى خِداعٌ وزُورُ
فأضحَت البلادُ - بفضل الله تعالى ومنِّه - واحةَ أمنٍ وأمان، ودَوحةَ سلامٍ واطمئنان، والله وحده أمان.
ودَّ العِدَى أن يكون من رعيَّته
ليأخذوا الأمنَ تعويضًا من الحَذَرِ
كما نتذكَّرُ الأيادي الشاهِدة والأعمال الرائِدة التي أزجاها فقيدُ الأمة - رحمه الله، وطيَّب ثراه -، وخصوصًا فيما يتعلَّقُ بأمنِ الحَجيج والمُعتمرين، وسلامة القاصِدين والزائِرين.
فرحِمَ الله عبدَه الفقيدَ رحمةَ الأبرارِ، وألحقَه بعباده المُصطفَيْن الأخيار، وأمطرَ على قبره شآبِيبَ الرحمات، وأسكنَه فسيحَ الجنات، ورفعَ درجتَه في المهديِّين، وأخلفَه في عقبِه في الغابِرين.
سلامٌ عل نفسِك الزاكِيَّة
وشكرًا لهمَّتك العالية
بل الأمنَ أرسلتَه مُحسِنًا
أمِنتُ به كيدَ أعدائِيَ
وإننا وإن رُزِئنا بفقده فعزاؤُنا فيمن خلَفَه وأتى بعده من هذه المنظومة المُتألِّقة، والسلسلة المُتأنِّقة.
وإنا إذا قمرٌ تغيَّبَ أو خبَا
إذا قمرٌ في الأُفقِ يتلُوه ساطِعُ
فوفَّقهما الله وسدَّدَهما، وأعانَهما وأيَّدَهما في تحمُّل هذه الأعباء الجَسيمة، والمسؤوليَّات العظيمة، ووفَّق الله الجميعَ لما يحبُّ ويرضَى، وجنَّبَنا ما لَه يسخَطُ ويأبَى، إنه جوادٌ كريمٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 82].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الطَّول والمنِّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أفاضَ علينا من جزيلِ آلائِهِ الإيمانَ والأمنَ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من صلَّى وصامَ، وأفضلُ من تهجَّدَ وقامَ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبِهِ سادات الأزمان، كانوا من الليل الرُّهبانَ القُوَّام، ومن النهار الفُرسان الصُّوَّام، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا ربَّكم واشكرُوه على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، ومِنَنه التي أرسلَها تَترَى ولا تُستقصَى، فكما أفاءَ علينا - سبحانه - الأمنَ والأمانَ، فقد خصَّ هذه الأمةَ بمواسم الخيرات والنَّفَحات والبَرَكات، ومن أجلِّ هذه المُناسَبَات: ما نستشرِفُ مُحيَّاه، ونتطلَّعُ إلى لُقياه، خيرُ الشهور على مرِّ الأعوام والدُّهور: شهرُ رمضان شهرُ الخير والبرِّ والإحسان.
في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه».
أهلًا بشهر التُّقَى والجُودِ والكرَمِ
شهر الصِّيامِ رفيعِ القدرِ في الأُمَمِ
أقبلتَ في حُلَّةٍ حفَّ البهاءُ بها
ومن ضِيائِكَ غابَت بصمةُ الظُّلَمِ
فيا لهُ من فرصةٍ عظيمةٍ، ومُناسبةٍ كريمةٍ، تشرئِبُّ إليها الطُّلَى لتنالَ الدرجاتِ العُلَى، لكنَّها تحتاجُ منَّا إلى تهيِئَة فؤاد، وإعدادٍ للنفوسِ والأجساد.


أمةَ الصيام والقيام:
إن الأمةَ وهي تستقبِلُ شهرَها الكريمَ، ووافِدَها العظيمَ بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى استِدعاء معاني المُحاسَبة والتدبُّر، والتقويم والتفكُّر، وتهيِئَة النفوس للصيام والقِيام، والوحدة والاعتِصام، والتسامُح والتصافِي والوِئام، والحَذَرِ من الفُرقة والانقِسام، وأعمال العُنف والاضطِرابِ والخِصام، وتجديدِ التفاؤُل والأمل بنصر هذه الأمة في فلسطين، وبلاد الشام التي تتطلَّبُ قراراتٍ سريعةً مُلزِمةً، وخطواتٍ عاجلةً صارِمةً لإنهاءِ مأساتِها الخطيرة مع حلول شهر النصر والبطولات، وصلاحِ أحوال الأمة في كل مكان، ونهاية الظَّلَمة والطُّغاة والبُغاة بقوةِ الواحد الديَّان.
فاستقبِلوا شهرَكم يا قومِ واستبِقُوا
إلى السعادةِ والخيراتِ لا الوِزرِ
أحيُوا ليالِيَه بالأذكار واغتنِموا
فليلةُ القدر هذِي فُرصةُ العُمرِ
ألا فليهنَأِ المُسلِمون جميعًا في مشارقِ الأرض ومغارِبِها بهذا الموسم العظيم، ولينعَموا بحُسن استِقبال هذا الشهر الكريم، وهنا لا بُدَّ من لفتةٍ جادَّة للقائمين على الوسائل الإعلامية والقنوات الفضائيَّة أن يُراعُوا حُرمةَ هذا الشهر الفَضيل؛ فلا يخدِشُوا روحانيَّتَه بما لا يليقُ من البرامِج والمشاهِد والأفلام، لاسيَّما ما يمَسُّ سيدَ الأنام وآله وصحابته الكرام.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وعاهِدوا أنفسَكم - أيها المُوفَّقون - على الصلاح والاستِقامة، والإخلاص والاستِجابة، والتوبة والإنابة؛ تسعَدوا في الدنيا، ودار الخُلد والكرامة.
ثم صلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على نبيِّ الرحمة والهُدى أفضلِ الصائمين، وأشرفِ القائمين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين، فقال - وهو أصدقُ القائلين -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»؛ خرَّجه مسلمٌ في "صحيحه".
يا أيها الراجُون خيرَ شفاعةٍ
من أحمدٍ صلُّوا عليه وسلِّموا
صلَّى وسلَّم ذو الجلال عليه
ما صامَ عبدٌ أو تهجَّدُ مُسلِمُ
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنعمةِ المُسداة، سيدِ الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، دمِّر الطغاةَ والظَّلمةَ وسائرَ المُفسدين وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف بين قلوبِهم، وأصلِح ذات بينهم، واهدِهم سُبُلَ السلام، وجنِّبهم الفواحِشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَنَ.
اللهم احفَظ على هذه البلاد عقيدتَها، وقيادتَها، وأمنَها، ورخاءَها، واستِقرارَها، اللهم احفَظها من شرِّ الأشرار، وكيدِ الفُجَّار، وشرِّ طوارِق الليل والنهار، وسائر بلاد المسلمين يا عزيزُ يا غفَّارُ.
اللهم انصر إخوانَنا المُجاهِدين في سبيلِك في كل مكانٍ، اللهم انصر إخوانَنا في سُوريا، اللهم انصر إخوانَنا في بلاد الشام، اللهم انصر إخوانَنا في بلاد الشام، اللهم أصلِح حالَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم برحمتك نستغيثُ، فلا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفةَ عينٍ وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، اللهم إنهم عُراةٌ فاكسُهم، اللهم إنهم جِياعٌ فأطعِمهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم يا ناصرَ المُستضعَفين، يا ناصرَ المُستضعَفين، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين.
اللهم بلِّغنا بمنِّك وكرمِك شهرَ رمضان، اللهم اجعلنا ممن يصومُه ويقومُه إيمانًا واحتِسابًا، اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّمه لنا، وتسلَّمه منا مُتقبَّلًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميع المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:28 PM   رقم المشاركة : 105
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

رمضان أقبل
أفضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة غرة رمضان 1433هـ بعنوان: "رمضان أقبل"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وما فيه من خيراتٍ وبركاتٍ ورحماتٍ، ووجَّه النصحَ لعموم المسلمين بضرورة اقتناصِ هذا الشهر والعمل فيه بما يُقرِّبُنا إلى الله تعالى؛ من إخلاصٍ وصدقٍ في الصوم والصلاة والقيام والأعمال الصالحة، وذكَّر بأن هذا الشهر هو شهر النصر والتمكين على أمة الإسلام.

الخطبة الأولى
الحمد لله يُعيد على عباده مواسمَ الخيرات، ويُهيِّئُ لهم ما تزكُو به الأنفسُ وتعلو الدرجات، ويُسهِّل لهم ما يُقرِّبُهم لربِّ البرِّيات، فمنهم من لربه يدنُو فيعلُو، ومنهم من يهِنُ ويلهُو، وآخرين تحطُّ بهم أهواؤُهم في أدنى الدَّركات، أحمد ربي تعالى وأشكره، وأُثنِي عليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يجزِي بالجليل على القليل ويغفِرُ الذنبَ العظيم، يُذهِبُ عن المؤمنين الحَزَن، ويسترُ القبيحَ ويُظهِرُ الحسن، جلَّ عن الشبيه وعن الندِّ وعن النَّظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وخليلُه ومُصطفاه، قد أفلحَ من اهتدَى بهُداه، وضلَّ من جافاه عنه هواه، صلَّى الله عليه وصلَّى على الآل والأصحاب ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[البقرة: 223].

أيها المسلمون:
تسيرُ بنا الأيام عجلَى ونحن فيها لاهِثون، وتُنتقَصُ أعمارُنا ونحن غافِلون، وتُشغِلُنا الشواغِلُ عما نحن به مُطالَبون، وقد مرَّ بنا عامٌ عاصِفٌ سقطَت فيه عروشٌ ودالَت دول، واضطربَت أحوالٌ وتغيَّر وجهٌ من التاريخ، دوَّامةٌ من الأحداث المُتسارعة لا يكادُ يُدرِكُ غورَها الإنسانُ، منها ذاتُ العِبَر وذاتُ الإحسان.
ومن رحمة الله ولُطفه أن نستيقِظ هذا اليوم على صُبح يوم من رمضان بفضله وبركته وبِشاراته وانتِصاراته، رمضان شاطئٌ ترفعُ فيه سفينةُ القلوب بعد عواصِف الأحداث وغفلةِ الأيام، عامٌ مضَى بتقلُّبات أحواله، وانشغِالنا وتفريطنا.
وقد آنَ اليوم أن تبتلَّ أرواحُنا بعد الجفاف، وتترطَّب أفئدتُنا بعد القسوة، ورغِمَ أنفُ من أدركَه رمضان فلم يُغفَر له.
اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
أيها المؤمنون:
إن مواسِم الخيرات فرصٌ سوانِح، بينما الموسمُ مُقبِلٌ إذ هو رائحٌ، والغنيمةُ فيها ومنها إنما هي صبرُ ساعةٍ، فيكون المسلمُ بعد قَبول عملِه من الفائزين، ولخالِقِه من المُقرَّبين.
فيا لله! كم تُستودَعُ في هذه المواسِم من أجور، وكم تخفُّ فيها من الأوزار الظهور، فاجعلنا اللهم لنفحَاتك مُتعرِّضين، ولمغفرتك من المُسارعين، ولرضوانك من الحائزين، ووفِّقنا لصالحِ العمل، واقبلنا اللهم فيمن قُبِل، واختِم لنا بخيرٍ عند حضور الأجل.


أيها المسلمون:
الصومُ شرعٌ قديمٌ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة: 183]، ورمضان شهرُ الرحمات والبركات، والحسنات والخيرات، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنة، وتُغلَق أبوابُ النار، فيه ليلةُ القدر هي خيرٌ من ألف شهر، ولله تعالى عُتقاءُ من النار، وقد ثبتَ في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن «من صام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قام ليلة القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
خَلوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك، وللصائم فرحتان: إذا أفطرَ فرِح بفِطره، وإذا لقِيَ ربَّه فرِح بصومه.
وفي "صحيح مسلم" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبت الكبائرُ».
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة: 185]، كان جبريلُ - عليه السلام - يُدارِسُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيه القرآن، وكان السلفُ - رحمهم الله - إذا جاء رمضان تركُوا الحديثَ وتفرَّغوا لقراءة القرآن، والصيامُ والقرآن يشفَعان لصاحبهما يوم القيامة.
هو شهرُ التراويح والقيام، والاصطفاف في محاريبِ التهجُّد والناسُ نِيام، شهرُ سكبِ العبرات وإقالة العثَرات، للصائم دعوةٌ لا تُردُّ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[البقرة: 186].
في رمضان تصفُو النفوس وتتهذَّبُ الأخلاق، وفي الصوم تربيةٌ على كسر الشهوة، وقطع أسباب العبودية للأهواء والشهوات، في رمضان يُواسَى الفُقراءُ والبُؤساء، فهو شهرُ الصدقة والمواساة.
أيها المسلمون:
أخلِصوا دينَكم لله، وتخلَّصُوا من أدران الذنوب والمعاصي، واغسِلوها بالتوبة والاستِغفار؛ فإن الذنوبَ مُقعِدةٌ عن الطاعات، وحائلٌ عن القُرُبات.
ثم صُونوا صومَكم عما يُنقِصُه أو يُحبِطُه، حقِّقُوا الإخلاصَ والمُتابعَة في كل عبادتكم، وحاذِروا الشركَ فهو أشدُّ مانعٍ لقبول العمل؛ بل هو مُحبِطٌ له، وابتعِدوا عن كل مُحدثةٍ في الدين فلا يقبَلُ الله عملًا لم يُشرَع.
صُونوا صومَكم عما يجرَحُه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه»؛ رواه البخاري.
وفي "الصحيحين" أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفَث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني صائمٌ».
أيها الصائمون:
إن مقصودَ الصيام: تربيةُ النفس على طاعة الله وتزكيتُها بالصبرِ، واستِعلاؤُها على الشهوات، وكما يُمنَعُ الجسدُ عن بعض المُباحات حال الصيام؛ فمن بابِ أولَى منعُ الجوارح عن الحرام. إن وقت رمضان أثمنُ من أن يضيعَ أمام مشاهِد هابِطة لو لم يكن فيها إلا إضاعةُ الوقت الثمين لكان ذلك كافِيًا في ذمِّها؛ كيف وقنواتُها في سباقٍ محمومٍ مع الشيطان في نشر الفساد والفتنة، والصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم مُنتهون؟!
رمضان تذكرةٌ للأمة لمُراجعة حساباتها وعلاقتها بدينها، وتفقُّد مواضع الخلل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، فهو شهرُ تزكية النفوس وتربيتها.
يا مُسلم يا عبدَ الله! دُونَك دعوةُ الجبَّار لك بالتوبة، فأجِبِ النداءَ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31]، بادِر بالتوبة - غفر الله لي ولك -، وإياك أن تضعَ في صحيفتِك اليوم ما تستحِي من ذكرِه غدًا، وإنما الراحةُ الكُبرى لمن تعِبوا.
أيها الصائمون:
وفي الأسحار أسرار، نفحاتٌ ورحماتٌ حين التنزُّل الإلهيُّ، ورُبَّ دعوةٍ يُكتَبُ لك بها الفوزُ الأبديُّ، وعند الفِطرِ دعوةٌ لا تُردُّ.
فاسعَدوا بشهركم - أيها المسلمون -، وأودِعوا فيه من الصالِحات ما تستطيعون، وتقرَّبُوا فيه لمولاكم، فللجنة قد ناداكم: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس: 25].
باركَ الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفِروا الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الصيام جُنَّة، وسببًا مُوصِلًا إلى الجنة، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه هدَى ويسَّر فضلًا منه ومنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه دلَّنا على أوضحِ طريقٍ وأقوم سُنَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


أيها المؤمنون الصائمون:
رمضان شهرُ الذكريات والفُتوحات والانتِصارات، وبقدرِ ما نستبشِرُ بحُلوله بقدر ما نعقِدُ الآمالَ أن يُبدِّلَ اللهُ حالَ الأمة إلى عزٍّ ونصرٍ وتمكينٍ، وأن يرُدَّها إليه ردًّا جميلًا، وإلا فإن رمضان يحِلُّ بنا والأمةُ مُثخنةٌ بالجِراح، مُثقلةٌ بالآلام.
يحِلُّ رمضان ومسرَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحتلٌّ يئِنُّ تحت وطأة الظالمين.
يحِلُّ رمضان والمُرابِطون في أكنافِ بيت المقدسِ من المؤمنين يُقتَلون ويُشرَّدون، وتُهدَمُ منازِلُهم وتُجرَفُ أراضيهم، وتُبادُ جماعتُهم.
يحِلُّ رمضان وإخوانُنا في سوريا يُذبَحون ويُدمَّرون، ويتواطَؤ عليهم شِرارُ أهل الأرض، وإن كنا نرى الفرجَ لهم أقربَ مما يظنُّ الظانُّون، نصرًا يُشادُ إلى سواعِد الصابرين، وتستجلِبُه دعواتُ الصائمين الضارِعين، وليس على الله بعزيزٍ أن يكون العيدُ في الشام عِيدان: عيدُ الفِطر وعيدُ النصر.
فيا ربِّ! عبادَك عبادَك، أنت بهم أدرَى، وقد جاءتهم المصائبُ تَترَى، فيا ربِّ! هبْ لهم من لدُنك نصرًا، نصرًا لا يشكُرون به سِواك، ويستغنُون به عن عِداهم وعِداك.
ثم صلِّ يا ربِّ وسلِّم على خير الورَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم أتِمَّ عليهم، اللهم أتِمَّ عليهم.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم إنك سميعُ الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:35 PM   رقم المشاركة : 106

 

مزايا الصيام في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 8 من رمضان 1433هـ بعنوان: "مزايا الصيام في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن مزايا الصيام في الإسلام وخصائصه التي اختصَّ الله بها الأمةَ عن غيرها من الأمم.

الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم المنَّان، أحمده - سبحانه - واهِبُ النعم، كريم العطايا، قديمُ الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اختصَّ بالمزايا هذا الشهرَ المُبارك رمضان، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحبُ المناقب الجميلة والصفات الحِسان، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[النحل: 111].
أيها المسلمون:
لئن كان الصيامُ فريضةً كتبَها الله على أهل الإسلام كما كان فريضةً على الذين من قبلهم من الأمم، فإن للصيام في الإسلام من الخصائص والمزايا ما جعل منه تشريعًا إصلاحيًّا وتنظيمًا ربَّانيًّا رفيعًا، يبلغُ به العبدُ الغايةَ من رضوان الله، ويحظَى عنده بالحُسنى وزيادة، ويُحقِّقُ به التقوى التي هي خيرُ زاد السالكين، وأفضلُ عُدَّة السائرين إلى رب العالمين.

وإنها لخصائصُ ومزايا كثيرة، يأتي في الطليعة منها:
أنه سببٌ لتحقيق العبودية لله رب العالمين؛ إذ لا إمساك ولا إفطار إلا على الصفة التي شرعَها الله ورسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الزمن الذي حدَّه، فإن الصائم عبدٌ لله لا تتحقَّق عبوديَّته إلا بعبادته - سبحانه - وحده بما شرع، فجِماعُ الدين ألا يُعبَد إلا الله، وألا يُعبَد إلا بما شرعَ - سبحانه -، ولن يصِحَّ للصائم صيامٌ ولا عبادة إلا إذا وُزِنت بهذا الميزان التي تقوم كِفَّتاه على الإخلاص لله والمُتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولذا كان الصومُ كلُّه - كما قال بعضُ أهل العلم -: "كان الصومُ كلُّه خضوعًا للأمر الإلهي، فلا أكل ولا شُرب ولا مُتعة بما حُظِر على الصائم بعد تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى غروب الشمس، مهما جمحَت النفس، وطغَت شهوةُ الطعام والشراب".
ولا إمساك عن الطعام والشراب وما حُذِر في النهار بعد غروب الشمس مهما جمحَت طبيعةُ الزهد والتنسُّك، فليس الحُكم للنفس والشهوة والعادة؛ لكن الحُكم لله وحده، وكلما كان الصائمُ مُتجرِّدًا عن هواه مُنقادًا لحُكم الله، مُستسلِمًا لقضائه وشرعه كان أصدقَ في العبودية وأطوعَ لله.
ومن مزايا الصيام في الإسلام - يا عباد الله - أيضًا: أنه عبادةٌ فرضَها الله على كل مُسلمٍ مُكلَّفٍ قادرٍ؛ فلم يقصُر وجوبَه على طبقةٍ دون طبقةٍ، ولا فئةٍ دون فئةٍ؛ كفئة النساء دون الرجال، كما هو الشأنُ في الأمم السابقة، وفي بعض الديانات القديمة؛ بل جعلَه واجبًا على كل من شهِد منهم هلالَ الشهر برؤيةٍ صحيحةٍ مُحقَّقة، مع استثناء أضحاب الأعذار من المرضى والمُسافرين والعاجزين عن الصيام لكِبَر سنٍّ ونحوه، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة: 185].
ومن مزاياه أيضًا: أنه سدَّ ذرائعَ التعمُّق التي تذرَّع بها العربُ في الجاهلية وبعضُ من سبقَنا من الأمم، فشرعَ ما لم يأذَن به الله بالزيادة فيه نوعًا أو عددًا ظنًّا منه بأنه قُربةٌ وزُلفَى إلى الله فأحدثَ وابتدَع، فسدَّ الشارعُ ذرائعَ التعمُّق وردَّ ما أحدثَه المُتعمِّقون حين نهى عن صوم يوم الشك ويوم الفطر،وحين رغَّب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل الفطر وتأخير السحور، وحثَّ عليه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطرَ».
وسدَّ ذرائعَ التعمُّق أيضًا حين نهى عن الوِصال - وهو استمرارُ الصائم في صومه فلا يُفطِر اليومين أو الأيام -، فجاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصال .. الحديث. وفيه: أنهم لما أبَوا أن ينتهوا عن الوِصال واصَلَ بهم - صلى الله عليه وسلم - يومًا ثم يومًا، ثم رأوا الهلالَ فقال: «لو تأخَّر الهلال لزِدتُّكم» - كالمُنكِّل لهم -، حين أبَوا أن ينتهوا.
غيرَ أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل لمن أراد الوِصالَ حدًّا لا يجوز له تجاوُزه، وهو أن يُواصِلَ إلى السَّحَر، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُواصِلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصِل فليُواصِل إلى السَّحَر».
وهو كما قال الإمام ابن القيِّم: "أعدلُ الوِصال وأسهله على الصائم، وهو في الحقيقة تأخُّر عشائه".
وسدَّ ذرائع التعمُّق أيضًا حين أباحَ للصائم ليلة الصيام الرَّفَث إلى النساء، والأكلَ والشربَ وجميع ما حُذِر عليه بالصيام: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ[البقرة: 187].
ومن مزايا الصيام في الإسلام - يا عباد الله - أيضًا: أنه ليس رمزًا للحِداد، أو شِعارًا للحُزن، أو مُذكِّرًا بالمصائب والرزايا، كما هو الحال في ديانات بعض الأمم السابقة؛ بل هو عبادةٌ وطاعةٌ وقُربَى، وسببُ تفاؤلٍ واستِبشار، وباعثُ فرحٍ وسرور، بفضل الله وبرحمته، وكريم جزائه، وحُسن ثوابه لمن صام إيمانًا واحتِسابًا، كما جاء في الحديث: «كل عمل ابنِ آدم يُضاعف الحسنةُ بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف»، قال الله تعالى: «إلا الصومُ فإنه لي وأنا أجزِي به، يدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فِطره، وفرحةٌ عند لقاء ربه ..» الحديث؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وفي "الصحيحين" عن سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن في الجنة بابًا يُقال له الريان، يدخلُ منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخلُ منه أحدٌ غيرُهم، فإذا دخلوا أُغلِق فلم يدخل منه أحد»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، والنسائي، والترمذي، وزاد: «ومن دخلَه لم يظمَأ أبدًا».
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رفعَه: «من صام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
ومن مزايا الصيام في الإسلام أيضًا: أن الإمساك ليس مُقتصِرًا عن الكفِّ عن الطعام والشراب والشهوة وسائر المُفطِّرات الحِسِّيَّة؛ بل جاء المنعُ أيضًا عن كل ما يُنافِي مقاصِدَ الصيام وغاياته، ويُضيِّع ثمراته، ويمحو آثارَه، ويُنقِصُ من أجره، كما جاء في الحديث: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، وإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني صائمٌ»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
وفي الحديث أيضًا: «من لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه».
وفي حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أن قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الصيامُ جُنَّةٌ من النار كجُنَّة أحدِكم من القتال ..» الحديث؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والنسائي، وابن ماجه في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ.
وكل أولئك - يا عباد الله - مما جعلَه الله تعالى سِياجًا واقيًا من الأدب والتقوى يحُوطُ صيامَ العبد ويصُونُه من التلوُّث بأقذار المعاصِي، ويحفَظه من أوزارِ الذنوب.ألا وإن تذكُّر الصائم هذه المزايا العظيمة الكريمة في الإسلام يجبُ أن يكون باعثًا على كمال الشكر لله تعالى المُنعِم بهذه النعمة بتمام الحِرص على حُسن أدائها، ورعايتها حقَّ رعايتها، وبالحذر من إضاعة فرصتها، وتفويتِ مغنَمها، والتفريط في جميل الموعود عليها.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الكريم الرحيم، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجو به الفضلَ السابغَ والخيرَ العميمَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[آل عمران: 74]، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من صلَّى وصامَ وسار على نهجٍ قويم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من مزايا الصيام في الإسلام: الجمعَ بين الإيجابية والسلبية، فكما أنه لا طعامَ ولا شرابَ ولا رفَث ولا فسوق ولا لغوَ ولا كذبَ ولا غيبةَ ولا نميمةَ زمنَ الصيام، فإن زمانه أيضًا زمنُ عبادةٍ ووقتُ طاعةٍ، وموسم تلاوةٍ وقيامٍ وذكرٍ، واستغفارٍ وتسبيحٍ، وصدقةٍ وصِلةٍ وبرٍّ وإحسانٍ ومُواساة.
وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجودُ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارِسُه القرآن، فلرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخير من الريح المُرسَلة"؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وأخرج الترمذي في "جامعه"، والنسائي وابن ماجه في "سننهما"، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" بإسنادٍ صحيحٍ عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره غيرَ أنه لا ينقُص من أجر الصائم شيءٌ».
إلى غير ذلك من أنواع البرِّ والإحسانِ إلى النفسِ وإلى الخلق، وهو إحسانٌ لا حدود له، حتى أصبح بهذا الإحسان أصبح هذا الشهر - كما قال بعض أهل العلم -: "ربيع الأبرار والمتقين، وعيد العُبَّاد والصالحين، تتجلَّى فيه عنايةُ هذه الأمة بإقامة أحكام دينها، وإخباتها إلى ربها، ورقَّة القلوب، والتنافُس في البرِّ، والمُواساة في أروع مظاهره مما لا تبلغُه ولا تبلغُ عُشر مِعشاره أمةٌ من الأمم، أو طائفةٌ من طوائف بني آدم".
فاتقوا الله - عباد الله -، واشكروا نعمة الله عليكم؛ إذ هداكم للإسلام، ومنَّ عليكم بفريضة الصيام، وخصَّها بمزايا لا نظيرَ لها عند غيرنا من الأنام، فأحسِنوا إن الله يحبُّ المُحسِنين، وأرُوا اللهَ من أنفسكم فيه خيرًا تكونوا عنده من الفائزين المُفلِحين.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم النبيين ورسول رب العالمين؛ فقد أُمرتُم بذلك في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم تقبَّل منا الصيامَ والقيامَ، الله اجعله صيامًا إيمانًا واحتسابًا، اللهم اجعلنا ممن يصومُ هذا الشهر إيمانًا واحتسابًا يا رب العالمين.
اللهم احفظ المسلين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في سوريا، اللهم كن لهم، اللهم كن لهم، اللهم ارحم ضعفَهم، وابُر كسرَهم، وارحم موتاهم، واكتب له أجر الشهادة في سبيلك، اللهم اشفِ مرضاهم، واكسُ عارِيضهم، وأطعِم جائِعَهم، وفُكَّ قيدَ أسراهم.
اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:52 PM   رقم المشاركة : 107

 

القرآن .. يا أمة الإسلام

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 15 رمضان 1433هـ بعنوان: "القرآن .. يا أمة الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن ضرورة اهتمام الأمة الإسلامية بالقرآن الكريم تلاوةً وتدبُّرًا لا سيَّما في شهر رمضان المبارك شهر القرآن؛ إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهِد فيه ما لا يجتهِد في غيره.

الخطبة الأولى
الحمد لله الحليم الرحيم، ذي المنة والفضل العميم، له الحمدُ - سبحانه - حتى يرضى، وله الحمد إذا رضيِ، وله الحمد بعد الرضا، وله الحمد على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وخليلُه وخِيرتُه من خلقه، خيرُ من صلى الله وصام، وأفضلُ من تلا كتابَ ربه وقام، بلَّغ الرسالةَ، ونصحَ الأمَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى من سار على طريقهم واتبع هُداهم إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - بوصية الله للأولين والآخرين في مُحكَم التنزيل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131].
أيها المسلمون:
هذه هو شهر البركات والرحمات الذي تتجلَّى فيه النفوسُ الصافية، وتصعدُ فيه الهِمَم النديَّة إلى معالي الإيمان والمعرفة بالله - سبحانه -. شهرٌ تضيقُ فيه منافذُ الشياطين، فتصفُو عبادةُ المرءِ لربه، ويلَذُّ الأُنسُ بكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت: 42].
إنه شهر القرآن الكريم، شهرُ الانكسار والمُناجاة، شهرُ التدبُّر والاعتبار والخشية؛ لأن المرءَ بلا قرآن كالحياة بلا ماءٍ ولا هواءٍ، وهو بمثابة الروح للحياة، والنور للهداية. خيرُ جليسٍ لا يُملُّ حديثُه، وتَردادُه يزدادُ به المرءُ تجمُّلًا وبهاءً.
هو الكتابُ الذي من قام يقرأه كأنما خاطبَ الرحمن بالكلِم، قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[المائدة: 15، 16].
دخل أبو جهلٍ على الوليد بن المُغيرة يُحرِّضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به من القرآن، فقال أبو جهلٍ للوليد: قُل فيه قولًا يبلغُ قومَك أنك كارهٌ له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكُم رجلٌ أعلمُ بالأشعار مني، ولا أعلمُ برجَزه ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجنِّ، واللهِ ما يُشبِه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقولِه الذي يقول حلاوةً، وإن عليه لطلاوةً، وإنه لمُثمِرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلَى، وإنه ليحطِمُ ما تحته.
نعم - عباد الله -؛ هذا هو القرآن الذي أدهشَ العقول، وأبكَى العيون، وأخذ بالألباب والأفئدة، وطأطأت له رؤوسُ الكُفر، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[المائدة: 83].
أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلقَ في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عُكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسِلَت عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء. قال: ما حالَ بينكم وبين خبر السماء إلا شيءٌ حدث، فاضرِبوا مشارقَ الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟
فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حالَ بينهم وبين خبر السماء. قال: فانطلق الذين توجَّهوا نحو تِهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنخلة وهو عامِدٌ إلى سوق عُكاظ وهو يُصلِّي بأصحابه صلاةَ الفجر، فلما سمِعوا القرآنَ تسمَّعوا له، فقالوا: هذا الذي حالَ بينكم وبين خبر السماء.
فهُنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا[الجن: 1، 2].
هذا هو حالُ الناس مع كتاب ربهم - إنسِهم وجنِّهم، مُؤمنهم وكافِرهم -، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا[الإسراء: 9].
إنه ليس شيءٌ أنفعَ للعبد في معاشه ومعاده وأقربَ إلى نجاته وسادته في الدارَين من تلاوة كتاب ربِّه آناء الليل وأطراف النهار، وتدبُّره وإطالة النظر فيه، وجمعِ الفِكر على معاني آياته؛ فإن ذلكم يُطلِعُ العبدَ على جوامع الخير والشر وعلى حال أهلها، ويُريه صورةَ الدنيا في قلبه، ويُحضِرُه بين الأمم السالفة، ويُريه أيام الله فيهم والمَثُلات التي حلَّت بهم أو قريبًا من دارهم.
فيرى المُتدبِّرُ غرقَ قوم نوح، ويعِي أثرَ صاعقة عادٍ وثمود، ويعرفُ غرقَ فرعون وسف هامان، ويستوعِبُ ماهيَّة طريق الشر وعاقبة أهله، وماهيَّة طريق الخير ومآل أهله، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[الكهف: 49].
لقد جعل الله هذا الكتابَ فُرقانًا بين الحق والباطل، من طلبَ الهُدى منه أعزَّه الله، ومن ابتغَى الهُدى من غيره أذلَّه الله.
لقِيَ عمرُ الفاروق - رضي الله عنه - نافعَ بن عبد الحارث بعُسفان - وكان عمرُ يستعملُه على مكة -، فقال: من استعملتَ على أهل الوادي؟ فقال: ابنَ أبزى. قال: ومن ابنُ أبزى؟ قال: مولًى من موالينا. قال عُمر: فاستخلفتَ عليهم مولًى؟! قال: إنه قارئٌ لكتاب الله - عز وجل -، وإنه عالمٌ بالفرائض. قال عُمر: أما إن نبيَّكم قد قال: «إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين»؛ رواه مسلم.
إنه النورُ الذي لا تُطفَأُ مصابيحُه، والمنهاجُ الذي لا يضِلُّ ناهِجُه، هو معدِنُ الإيمان، وينبوعُ العلم، ومائدةُ العُلماء، وربيعُ القلوب، ودستورُ الحياة برُمَّتها، والشفاءُ الذي ليس بعده داء، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[فصلت: 44].
كتابٌ محفوظٌ بحفظ الله له، لا يُغيِّره تحريفُ المُحرِّفين، ولا تأويلُ المُبطِلين، ولا عِنادُ النكِصين، يعلُو ولا يُعلَى عليه، ويودُّ أهلُ الباطل لو غسَلوا آياته وأحكامَه بماء البحر ليُمحَى أثره عن الوجود، ولكن الله غالبٌ على أمره، وهو القائلُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر: 9].
قال يحيى بنُ أكثَم: كان للمأمون - وهو أميرٌ إذ ذاك - مجلسُ نظر، فدخل في جُملة الناس رجلٌ يهودي. قال: "فتكلَّم فأسن الكلام والعبارة. قال: "فلما أن تقوَّضَ المجلس دعاه المأمون، فقال له: إسرائيليٌّ؟ قال: نعم. قال له: أسلِم حتى أفعل بك وأصنع. ووعده فانصرف.
فلما كان بعد سنةٍ جاء مُسلِمًا فدعاه المأمون وقال: ألستَ صاحبَنا بالأمس؟ قال: بلى. قال: فما سببُ إسلام؟ قال: انصرفتُ من حضرتك فأحببتُ أن أمتحِنَ هذه الأديان، وأنا مع ما تراني حسنُ الخط، فعمدتُ إلى التوراة فكتبتُ ثلاثَ نُسخٍ فزِدتُّ فيها ونقصتُ، وأدخلتُها الكنيسة، فاشتُرِيَت مني. وعمدتُ إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاثَ نُسخٍ فزِدتُ فيها ونقصتُ، وأدخلتُها البَيعة، فشتُرِيَت مني. وعمدتُ إلى القرآن فعملتُ ثلاثَ نُسخٍ وزِدتُ فيها ونقصتُ، وأدخلُها إلى الورَّاقين، فتصفَّحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رمَوا بها فلم يشتَروها. فعلِمتُ أن هذا كتابٌ محفوظ، فكان سببَ إسلامي.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت: 41، 42].
هذا هو كتابُ الله الكريم الذي نزل ب الروح الأمين؛ فما نحن صانِعون فيه؟! أيكون رائِدَنا ودستورَنا في حلِّنا وترحالنا، وغضبنا ورضانا، ومنشطنا ومكرهنا؟! أم أنه سيكون ضيفًا على الرفوف لا يلحقُه البرُّ إلا في رمضان؟!
أنعتصِمُ به ونعَضُّ على أنواره بالنواجِذ أم نكون كالعِيسِ في البيداء يقتُلها الظمَأ والماءُ فوق ظهورها محمول؟! أم تكون أسماعُنا كالأقماع فتدخل الآياتُ مع اليُمنى وتخرجُ مع اليُسرى.
أخرج مسلم في "صحيحه" أن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بعثتُك لأبتليك وأبتلِي بك، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا ويقظان».
قال الحسن البصري - رحمه الله -: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيدٌ وصبيان لا علمَ لهم بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأتُ القرآن كلَّه فما أسقطتُ منه حرفًا، وقد والله أسقطَه كلَّه، ما يُرى له في خُلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأُ السورةَ في نفسٍ واحدٍ، والله ما هؤلاء بالقُرَّاء ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورِعة".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وأرُوا اللهَ من أنفسكم في هذا الشهر المبارك قُربًا من كتابه تلاوةً وتدبُّرًا وعملًا وهدايةً، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[فاطر: 32].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واغتنموا هذا الشهرَ المبارك في تلاوة كتابه وتدبُّر آياته، والنَّهل من عِبَره وعِظاته؛ إذ فيه نبأُ من قبلَنا، وخبرُ ما بعدنا، وفصلُ ما بيننا، فطُوبَى لمن تدبَّرض كتابَ ربه حقَّ تدبُّره، وهنيئًا لمن تقشعِرُّ منه جلودُهم وتلينُ جلودُهم وقلوبُهم إلى ذكر الله، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ق: 37].
ولعل أمة الإسلام في هذا الشهر المبارك تعيشُ صورًا جديدةً من التدبُّر والتأمُّل مع كتاب ربها بعد هذه الأحداث المُتسارعة والزوابع المُدلهِمَّة لتقول بلسان حالِها: ما أشبَه الليلة بالبارحة، واليوم بالأمس، وها هو التاريخُ يُعيدُ نفسَه.
نعم، إن لسانَ حالها يقول: لقد كنا نظنُّ أن فرعون وقارون وهامان والنمرود وذا النواس شخوصٌ طواها التاريخ، فلن تتكرَّر على مر الزمان، وإذا بأمة الإسلام تُشاهِدُ أكثرَ من فرعون يعيشُ بين ظهرانيهم ممن يستبيحُ الأرواح والأعراضَ، ممن علا في الأرض وجعل أهلَها شِيعًا يستضعِفُ طائفةً منهم يُذبِّحُ أبناءَهم ويستحيِي نساءَهم.
نعم، لقد قرأنا جرائمَ فرعون الأول فظنَّنا أنها قصصٌ لن يكون لها ضَريب، لقد شاهَدنا ثم شاهَدنا بأم أعيننا ممن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، شاهَدنا منهم القتلَ والتشريدَ، وشاهَدت جموعُ المسلمين الظلمَ والاضطهادَ واستباحةَ الأعراض، ورأينا من يئِدُ الناسَ وهم أحياء، ورأينا من يُنشَرون بالمناشِير ومن يُحرَقون بالنيران، وكأنَّ مشاهد قوم فرعون وأصحاب الأخدود والجاهلية الجهلاء تقعُ أمام ناظِرنا، بعد أن كانت أخبارًا تُتلَى وتُسمَع.
وإن كان فرعون الأول قد قال لقومه: ما علِمتُ لكم من إلهٍ غيري، فإننا قد رأينا وسمِعنا ضريبَ قول فرعون، فامتُحِن الناسُ في تأليه طواغيتهم، وأكرهوا الناسَ على السجود لصورهم، ودمَّروا البلادَ والعبادَ انتقامًا وظلمًا وعدوانًا ليكون مثلُ هؤلاء الحاكمَ بأمره. وكأنه وأمثالُه يُجدِّدون مقولةَ فرعون الأول: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[غافر: 29]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[النمل: 76، 77].
إن كل مسلم غيُور له قلبٌ ينبِض وعينٌ تطرِف لا يتجاهلُ ما يُلاقيه إخوانُنا المسلمون في ميانمار وما فعله عدوُّهم بهم من التنكيل والتقتيل، ولا ما يُصيبُ إخوانَنا في بلاد الشام في سوريا الخلافة والأمجاد من صنوف البطش والجَور والطغيان، ولن تبرحَ جموعُ المسلمين حتى ترفع أكُفَّ الضراعة للواحد القهَّار أن ينصرهم على عدوِّهم عاجلًا غير آجِل.
ونسأل الله - جل وعلا - أن يكون هذا المُؤتمر الذي دعا إليه خادمُ الحرمين الشريفين - وفقه الله - لبِنةً صالحةً في استنهاض هِمَم المُسلمين للوقوف جنبًا إلى جنبٍ في نُصرة قضايا المسلمين، إنه - سبحانه - خيرُ مسؤول.
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[الأعراف: 127- 129].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصر إخواننا المسلمين في ميانمار وفي سوريا وفي يرها من بلاد المسلمين، اللهم انصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل مواسِمض الخيرات لنا مربَحًا ومغنَمًا، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقًا وسُلَّمًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:00 PM   رقم المشاركة : 108
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

مؤتمر القمة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 22 رمضان 1433هـ بعنوان: "مؤتمر القمة"، والتي تحدَّث فيها عن جماعة المسلمين مُمثَّلة في دعوة خادم الحرمين حكام العرب والمسلمين لعقد مؤتمر لمناقشة قضايا المسلمين المُعاصِرة، وأشادَ بهذا المؤتمر، ووجَّه نصائحَه للحكام بوضع قضايا المسلمين في كل مكانٍ نُصبَ أعينهم، والخروج بحلولٍ شافيةٍ لها، ولم يُهمِل التذكير بهذه الأيام الفاضلة أيام العشر من رمضان وما فيها من نفحاتٍ وخيراتٍ، وما ينبغي على المسلمين اغتنامه فيها.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الملك المعبود، ذي الفضل والكرم والجُود، أحمده - سبحانه - وأشكره على جزيل إنعامه وفضله الممدود، والشاكر بالمزيد موعود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تُسبِّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ومخلوقاتُه على ربوبيته وألوهيته شهود، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله المُوفين بالعهود، وأصحابه في نُصرة الحق هم الأسود، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى اليوم الموعود، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، ألا تطمعون في اللحاق بالصالحين؟ ألا تتسابقون في الخيرات مع المُتسابقين؟ كم بين الساعي والقاعد والراغب والزاهد؟ السابقون السابقون شغلَهم حبُّ مولاهم عن ملذَّات دنياهم، والمُتنافِسون المُتنافِسون دموعُهم على وجناتهم تتدفَّق، يشتاقون إلى الحبيب، والحبيبُ إليهم أشوق، ما أبهى منظرهم في ظُلمات الدُّجَى ونورُهم قد أشرق، تعرفهم بسيماهم وللصدق نورَق.
يا عبد الله:
لا يجعلُ الله عبدًا أسرع إليه كعبدٍ أبطأ عنه، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الحديد: 21].
أيها المسلمون الصائمون القائمون:
تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم، وأعظمَ أجرَكم ومثوبتكم، وأحسن جزاءَكم.
في خواتيم هذا الشهر المبارك، وفي عشره الأخيرة يحسُن النظرُ في دروس الشهر وعِبَره:
شهر رمضان شهر القرآن والفرقان، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة: 185]، قرآن وفرقان يملأُ العقولَ حكمة، والقلوبَ طهارة، والنفوسَ إشراقًا وبهجة.
شهر رمضان شهر الفرقان بين الحق والباطل، فُرقان بدرٍ المعركة الكبرى، بدر الانتصارات، وفُرقان الفتح فتح مكة، ذلكم الفتح الذي علَت به كلمةُ الدين، ومنه انطلقَت فتوحاتُ المُسلمين.
بقوة الحق والفُرقان استوثَقَت عُرى دولة الإسلام، وامتدَّ سلطانُه العادلُ، وساس الأممَ بعقيدة التوحيد وشريعة الصلاح والإصلاح.
معاشر المسلمين:
والأمة الإسلامية على مُفترق طُرقٍ، تخفقُ قلوبُها شغفًا بما يُداوي جراحَها، ويرفعُ مآسِيَها، ويسرُّ صديقَها، ويدحَرُ عدوَّها.
إنها أمام ظروفٍ ومُتغيِّراتٍ ومُستجداتٍ فيها الفرص الحقيقية لبناء سياساتٍ عربيةٍ إسلاميةٍ تملأُ الفراغَ الذي تعيشُه هذه الأمة بسبب استقطاباتٍ مُهلِكة، واصطفافاتٍ مُدمِّرة، وتشرذُماتٍ قاتلة.
في هذه الظروف والبواعث والمُستجدات تأتي بلاد الحرمين - المملكة العربية السعودية - والتي تعوَّد قادتُها أن يتصدَّوا لكوارث الأمة والعمل مع الأشقَّاء لمُعالجتها شعورًا بالواجب، ونهوضًا بالمسؤولية.
معاشر المسلمين:
الدعوةُ إلى وحدة المسلمين وتضامُنهم والتحاوُر والمُشاورة فيما بينهم هي إحدى رواسِخ هذه الدولة وثوابتها؛ فمُؤسسُ هذه الدولة: الملكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - رحمه الله - حالما فرغَ من توحيد هذا الكِيان العظيم أولُ عملٍ إسلاميٍّ قام به دعوتُه إلى أول مؤتمر إسلامي عام خمسٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وألفٍ (1345 هـ) هنا في مكة المكرمة.
ثم تعاقبَ على ذلك أبناؤُه: الملكُ سعود، وفيصل رائدُ التصامُن الإسلامي، وخالدٌ، وفهدٌ - رحمهم الله -، تعاقَبوا على احتضان مؤتمراتٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ يشهدُ لها التاريخُ وتشهَد لها الأجيال.
وقد سارَ على هذا السَّنَن: خادمُ الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله ووفقه وأعانه - في رغبةٍ صادقةٍ، وعملٍ جادٍّ من هذه القيادة الصالحة لتحذير هذه الأمة بقياداتها وزعمائها من محاولات الاستقطابات الإقليمية والدولية، ومن أجل اعتماد مسار التضامُن والوحدة.
لقد دعا قبل ذلك - حفظه الله - إلى قمتين: إحداهما: إسلامية، والأخرى: عربية من أجل هذه الأغراض النبيلة الكبرى.
وله تطلُّعاته؛ فهو يتطلَّع إلى أمةٍ إسلاميةٍ مُوحَّدة، ويتطلَّع إلى حكمٍ مسلمٍ رشيدٍ يقضي على الظلم والقهر، ويتطلَّع إلى تنميةٍ مسلمةٍ شاملةٍ تقضي على العَوز والفقر، ويتطلَّع إلى انتشار وسطية سمحة تُمثِّل سماحة الإسلام، ويتطلَّع إلى تِقنيَّة مُسلمة مُتقدمة.
هذا الملك الصالح قبل الحوار اهتمامه المُنقطع النظير، فله في ذلك سجلٌّ ناصع، ومُبادراتٌ لا تُنكر لدحض مقولة: صدام الحضارات.
وقد سجَّل مقولته: إننا صوتُ تعايُش وحوارٍ عاقلٍ وعادلٍ، صوتُ حكمةٍ وموعظةٍ وجِدالٍ بالتي هي أحسن.
وها هو - حفظه الله وسدَّده - يُوجِّه دعوتَه لإخوانه وأشقائه قيادات العالم الإسلامي وزعمائه لمُؤتمرٍ استثنائيٍّ يجتمعُ فيه فضلُ الزمان، وشرفُ المكان، ومكانةُ الداعي؛ في شهر رمضان المبارك، وفي عشره الأخيرة، وفي أرجى أيامه ولياليه، وبجوار الكعبة المُشرفة وزمزم والحَطيم.
إنه اجتماعٌ استثنائيٌّ بكل المقاييس، مشاعر تترقَّبُها الأمةُ وتأملُ أن يكون المُأتمِرون في درجاتٍ عُليا من الباعث الإيماني، والصفاء الذهني، والصدق الوجداني، في جوار بيت الله، وفي شهر رمضان المُبارك المُعظم.
نعم، إنه من المُؤمَّل أن يكون في هذا التأطير الزمانيِّ والمكانيِّ مزيدٌ من استشعار هذه القيادات الكريمة لعِظم المسؤولية أمام ربها، ثم أمام شعوبها.
وإن هذا الحضور الكريم والتجاوُب المشكور لهذه الدعوة دليلٌ ظاهرٌ إن شاء الله بأن في أعماق الأمة رغبةً حقيقيةً في التغيير نحو الأفضل، وعزمًا صادقًا - بإذن الله - على الإصلاح المنشود، وتحقيق أهداف هذا المُؤتمر العظيم.
معاشر القادة والزعماء:
ينبغي أن ينتهِج المؤتمر الكريم حوارًا راقيًا شفَّافًا يُعيدُ للأمة حيويتها، ويُزيلُ الحواجز المُفتعلة، يجبُ لنجاح القمة أن تتغلَّب القِيَم الأصيلة، والمصالح الكُبرى، والوقوف مع كل مطلبٍ عادلٍ تفعيلً لقُدرات الأمة، وتوحيدًا لطاقاتها في تضامُن حقيقي، وإرادةٍ حازمةٍ جادَّة للنهوض بالأمة، وعزمٍ صادقٍ لا يَلين لمواجهة التحديات.
حذارِ ثم حذارِ - حفظكم الله - أن تقِف المطامِع الصغرى والمصالح الضيقة أمام المصالح الكبرى وآمال الأمة وثقتها.
أيها المُؤتمِرون الكرام:
إن أولَى الأولويات: تعزيزُ التضامُن الإسلاميِّ، والسيرُ الجادُّ نحو تحقيق الوحدة الكُبرى، وحدةً تُنقِذُ الأمةَ من هذا التشرذُم والاضطراب والتقطيع والاستقطاب.
إن شعوبَكم تنتظر منكم مواقف حازِمة ضد الحملات التي يتعرَّض لها الإسلام ونبيُّ الإسلام - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وكتابُ الإسلام كتابُ الله العزيز، لا بُدَّ من مواقف حازمة ضدَّ كل من يضع الإسلام في دائرة التطرُّف ودائرة الإرهاب، ويجعلُ أهلَ الإسلام يدفعون ثمنَ ذلك غاليًا من أنفسهم وكرامتهم واقتصادهم وسياستهم وعلاقاتهم.
وإن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وإن العدلَ بيِّن، وإن الظلمَ بيِّن.
أيها القادة:
وإن الفتنة التي ذرَّ قرنُها، والأفعى التي أطلَّت برأسها هي هذه الطائفية المذهبية المقيتة التي يُحاول من يُحاول من أعداء الأمة ممن لا يُريد لها خيرًا، ولا يُريد لها قيامًا يُحاول أن يُرسِّخها، وأن يُتنامَى دورُها السلبيُّ، إنها - والله - تُنبِتُ الشِّقاق والتناحُر والخصومة والأحقاد، وهي - والله - المدخلُ العريضُ للتنافُس الدولي لتحقيق مصالحهم الخاصة ومطامعهم على حسابِ تقسيم المُقسَّم، وتوسيع الخلافات، وبثِّ روح الانكفاء على الاصطفافات الضيقة.
الطائفية هي العائقُ الصلبُ والسدُّ العظيمُ أمام تحقيق كل هدفٍ إسلاميٍّ نبيلٍ، وأعظمُها الوحدةُ الإسلاميةُ المنشودة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات: 10].
أيها القادة والزعماء:
وقضيةُ المسلمين الكُبرى ومُشكلتُهم الأوليى: فلسطين، ثم فلسطين، ثم فلسطين، فلسطين السَّليبة، فلسطين الأقصى، أولى القبلتين وثالثُ الحرمين الشريفين لا يزالُ تحت الاحتلال، ولا يزالُ العدو المُحتَلّ يُقطِّع الأراضي ويعبَثُ بالمُقدَّرات؛ بل يعبَثُ بالاتفاقيات، ويُحاصِرُ غزة، ويسرِقُ الضفة، ويسعى ومن معه بما أُوتوا من قوةٍ ليجعلوا هذه القضيةَ الكُبرى في مُؤخرة الاهتمام أو المُهم من القضايا.
أيها المُؤتمِرون المُعظَّمون:
في ديار الإسلام مذابِح جماية تُنظَّم، يذهبُ كل يومٍ ضحيتها رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ كلهم أبرياء عُزَّل، مُسالِمون، في سوريا الجريحة، وفي الروهينجا في ميانمار في بورما، يقوم بذلك كله طغاةٌ مُتجبِّرون مُجرمون، ما نقَموا منهم إلا أن لهم حقوقًا مشروعةً، ومُطالباتٍ عادلةٍ في العدل والإصلاح والعيش الكريم.
لا بُدَّ من وقفاتٍ حازمةٍ لحمايةِ هؤلاء المظلومين ورفع الظلم عنهم وتمكينهم من نيل حقهم المشروع في الحياة الآمِنة الكريمة والأخذ على يد الظالم.
وثمة قضايا أساسية هي الطريق لتحقيق الودة المنشودة يجبُ النظرُ فيها ويكون الاعتماد بعد الله في بحثها والنظر فيها على جهود دولنا الإسلامية ومواردها ورجالاتها وكفاءاتها في وضع الخطط ورصد الموارد للمشاريع المُشتركة الاقتصادية والصناعية والعسكرية، وإصلاح التعليم، وتحقيق الريادة العلمية والتقنية في أقطار المسلمين، مع ما ينبغي مُلاحظته من حفظ حقوق الناس، والحريات العامة، وحقوق الأقليات، وما يتطلَّبه ذلك من ضبطِ مسار الإعلام حتى لا يزيدَ من مناخات التوتُّر، وزرع الشكوك، وافتعال التافُر، وتقليل مواطن الالتقاء مما يُراكِمُ الأخطاءَ في حق أوطاننا ومُستقبل شعوبِنا وتربُّص أعدائنا.

معاشر الزعماء الأكارم:
هذه مطالبُ مشروعة، وتطلُّعاتٌ مُحِقَّة، وآمالٌ ليس تحقيقُها بعد توفيق الله وعونه بعزيزٍ، وما هي على هِمَم الصادقين المُخلِصين ببعيدٍ.
إن اجتماعكم المُبارك - حفظكم الله - فرصةٌ تاريخية يجب استغلالها وعدم تفويتها، فأرُوا اللهَ في هذا الشهر الكريم من أنفسكم خيرًا، وجِدُّوا وشمِّروا وانطلقوا على بركة الله في مسيرة التضامُن الإسلاميِّ في دعوةٍ إلى دينكم والتزام أحكامه، وإحياء روح الأُخُوَّة الإيمانية، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103]، من أجل أن يعود الدمُ المُسلمُ غاليًا، وتنطلقُ مشاريعُ التكامُل الإسلاميِّ في البناء والتنمية، وحتى تتحقَّق الاستقلالية الإسلامية المنشودة.
وثِقوا بوعد الله - عزَّ شأنه - في قوله - سبحانه -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55]، وبقوله - عزَّ شأنه -: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 40، 41]، وبقوله - جل وعلا -: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 46].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله حمدًا يليقُ بجلاله وعظيم سُلطانه، والشكرُ له على سابغ إنعامه وجميل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُوصِلُ إلى جنته ورضوانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاهدَ في الله حق جهاده حتى أقام الدين على أركانه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
شهر رمضان المُبارك موعدٌ معلومٌ يظهر فيه جماعة المسلمين واجتماعُهم، إنه تذكيرٌ وحدة الهدف، ووحدة الشعور، ووحدة الضمير، ووحدة المصير، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ[البقرة: 185].
المسلمون كلُّهم ينتظمِون في هذا الشهر الكريم على نمطٍ واحدٍ من المعيشة، الغنيِّ والفقير، والذكر والأنثى، والشريف والوضيع، كلُّهم صائمٌ لربه، مُستغفِرٌ لذنبه، مُمسِكٌ عن المُفطِرات في موعدٍ واحدٍ بدءًا وانتهاءً، مُتساوون في الجوع والحِرمان، وإذا أردتم استشعار مظهر الوحدة في هذه الشعيرة العظيمة فارجِعوا البصرَ ثم ارجِعوا البصرَ على هذه الجموع المُكتظَّة في حرم الله وحرم رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، لتروا مئات الألوف من المسلمين والمُسلمات والصائمين والصائمات والقائمين والقائمين وقد اجتَمعت في هذه الرحاب الطاهرة بأجناسها وألوانها لتعيشَ أجواءَ الأمن والإيمانِ والبذل والعطاء والخير والنماء.
هذه الرحاب المُباركة تحتضن الإسلام ودعوته، مهوَى أفئدة المسلمين أجمعين، تلتقي هذه الجُموع في رِحابها، وتلتقي معها آمالها، وتتجِه إليها قلوبُها وأجسادُها، وتُولِّي نحوَها في القبلةِ وجوهَها.
معاشر الأحِبَّة:
هذا هو شهرُ الصوم، وهذه شذَراتٌ من دروسه وعِبَره، وق بدأت خِيامُه تتقوَّض، فاستدرِكوا في خواتيمه، وأحسِنوا في توديعه، وجِدُّوا وشمِّروا فيما بقِيَ من أيامه؛ كيف وما بقِي منه هو أفضلُ أيلامه ولياليه، فكونوا لربكم ائعين، ومع إخوانكم بررةً مُحسنين، والأُسوةُ في ذلك نبيُّكم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان أجودَ ما يكون في رمضان، وكان إذا دخلَت العشرُ أيقظَ أهلَه، وأحيا ليلَه، وجدَّ وشدَّ المِئزَر.
فأرُوا للهَ من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي فيه من حُرِم رحمة الله، فمن كان مُجِدًّا فليُكثِر، ومن كان مُقصِّرًا فليُقصِر، ومن شاغَل فليُبادِر بالتوبة النَّصُوح، وليعظُم رجاءَه بربِّه؛ فأبوابُ التوبة مُشرَعة.
وبعد:
وأنتم في حال التوديع وأخذ العِبرة اتقوا اللهَ ربكم - رحمكم الله -، وتذكَّروا أحوالَ الأكباد الجائعة، والنساء العارية، والنساء المُترمِّلة، والأطفال الضائعة.
استشعِروا حالَ إخوانكم من ذوِي المسربة والنكبات والمُهجَّرين والمُشرَّدين، وتفاعَلوا مع ذوي الضعفِ والحاجةِ والمساكين، وكونوا ممن وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 7- 9].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا وفي بورما، اللهم واجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم يِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم اجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، وعليك اللهم بالطغاة الظلمة فإنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، الله فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وصيامَنا، وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201]، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:08 PM   رقم المشاركة : 109
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

كلمة في ختام الشهر الفضيل
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 29 رمضان 1433هبعنوان: "كلمة في ختام الشهر الفضيل"، والتي تحدَّث فيها عن ختام شهر رمضان المبارك وما ينبغي على كل مسلمٍ التأمُّل في حاله وماذا يكون بعده، وحثَّ على الثبات على الطاعات بعد شهر الرحمات حتى يُقبَل عملُ العبدِ، وأشادَ بمُؤتمر التضامُن الإسلامي وتوصياته.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونُثنِي عليه الخيرَ كلَّه، أحمدُه - سبحانه - ترادفَت نعماؤه وتوالَت نعمُه وآلاؤه.
لك الحمدُ اللهم حمدًا مُخلَّدًا
على نعمٍ لم تُحصَ عدًّا فتنفَدا
ونسألُه التوفيقَ للشكر إنه
يكونُ لنعماءِ الإلهِ مُقيِّدًا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستبصِر بها الفتنَ الصحماء، ونرقَى بها في ذُرَى المجد القَعساء، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله جاء بالحق اللألاء، وشمس الهُدى العَلياء، صلَّى الله عليه صلاةً وارِفَة الأفياء، وعلى آله الأتقياء الكُرماء، وصحابتهِ الغُرِّ بدورِ السماء، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا اللهَ حق تقاته، وابتغوا من فضله ومرضاته، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 102، 103].
فمن تدرَّع بالتقوى استنار بها
وباتَ في بهجة الأعمال جَذلانًا
فسِر أمامك دربُ الخير مُزدهِرٌ
شُجونُه امتلأت روحًا وريحانًا
في عقابيل الأيام والشهور، وبين علاجيم الأزمان والدهور، تلتمس وجِدَّتها، وإن لله في أيام الدهر لنفحات، تتنزَّل فيها الرحمات والبركات، ومنذ أيام قليلة كنا نستطلِعُ مُحيَّاه بقلبٍ ولهان، وبعد ساعاتٍ وربما سُويعاتٍ نُودِّعه وعند الله نحتسِبه ونستودِعه، وقد فاز فيه من فازَ من أهل الصلاح، وخابَ وخسِر فيه أهلُ الغفلة والجُناح.
رمضانُ ما لكَ تلفِظُ الأنفاسا
أوَلم تكن في أُفقنا نبراسًا
لُطفًا رُويدَك بالقلوب فقد سمَت
واستأنَسَت بجلالك استئناسًا
إخوة الإيمان:
ما أسرع مرور الليالي والأيام، وكرَّ الشهور والأعوام، فها هو شهر الصيام قد قُوِّضَت خيامُه، وتصرَّمَت أيامه، وأزِفَ رحيلُه ولم يبقَ إلا قليلُه، وتلك سنةُ الله في كونه؛ أيامٌ سيَّارة، وأشهرٌ دوَّارة، وأعوامٌ كرَّارة، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[فاطر: 43].
لقد مرَّ كلمحة برقٍ أو غمضة عينٍ، شمرجَ القلوبَ ببركاته، وأينعَ صرادِحَه برحماته، كم ذَرَفَت فيه العيونُ الدوامِع، ووِجلَت فيه القلوبُ الخواشِع، ورُفِعت فيه الأكُفُّ الضارِعة، ووُطِّئَت فيه الحوباءُ التالِعة.
ترحَّل الشهرُ والهفاه وانصرَما
واختصَّ بالفوز بالجناتِ من خدَما
فطُوبَى لمن كانت التقوى بضاعتَه
في شهره وبحبل اللهِ مُعتصِمًا
ها نحن نتضوَّع أريجَ ليالِيَه الزاهِرة الغامِرة، أنِسَت القلوبُ بجنب الرحيم الغفار، ولهجَت الألسُنُ بالدعاء والحمد والاستغفار، فيا من أعتقَه مولاه من النار! إياك ثم إياك أن تعود إلى رقِّ الأوزار، ويا من استجبتَ لربك في شهر الصيام! استجِب له في سائر الأيام؛ فربُّ رمضان هو ربُّ شوال وهو ربُّ أشهر العام.
أمة الإسلام:
ونحن نودِّعُ شهر الصيام والقيام، لا تزالُ مآسِي أمتنا تذرِفُ، وجراحاتُها تنزِف، وجسدُهامُثخنٌ بالجراح، وأبناؤُها يُعانون في كثيرٍ من الوِهاد والبِطاح، تُراقُ فيهم الدماء، وتتقطَّع منهم الأشلاء في صلَفٍ ورعونة، وصُدارةٍ مأفونة.
أما جاءكم أنباءُ الصامدين في الأقصى وفلسطين، والمرزوئين في سوريا الشام الحزين؟! أما علِمتم حالَ إخوانكم في بُورما وأراكان؟! لقد عمِل الطغاةُ الظالمون بالمسلمين هناك قتلًا وتشريدًا، فأراقوا الدماء، ونثَروا الأشلاء على مسارِح اليَهماء، وقتَّلوا الأبرياء، ويتَّموا الأبناء، وانتهَكوا أعراضَ النساء، وسط صمتٍ عالميٍّ، وتجاهُلٍ دوليٍّ.
هناك لا يُسمَع إلا شغشغةُ الطِّعان، وهيقعَة الصوارم في الأبدان، وضعضعة الأركان، وتقويض المساجد وعامر البُنيان، وإلى الله الملجأ والمُشتكى، وهو وحده المُستعان وعليه .
ونِعم العُدَّة المذخورة الصبرُ
وقلنا غدًا أو بعده ينجلِي الأمرُ
فكان غدًا عُمرًا ولو مُدَّ حبلُه
فقد ينطوِي في جوفِ هذا الغدِ الدهرُ
إخوة الإسلام:
وفي حوالك الكروب والضوائق، وتحت وطأة الأرزاء والعوائق تشرئِبُّ طُلى أهل الإيمان إلى إشراقات الانفراج، وبشائر الخير والتفاؤُل والانبلاج، وفي هذه الآونة العصيبة، والحِقبة التأريخية اللهيبة، ومن هذه البِقاع الطاهرة ليلةٍ من ليالي العشر الزاهِرة أُثلِجَت صدورُ المؤمنين، وقرَّت أعينُ الغَيورين بمُؤتمرٍ استثنائيٍّ تأريخي، هو مُؤتمر التضامُن الإسلامي الذي دعا إليه خادمُ الحرمين الشريفين - حفظه الله وأدام توفيقه - عملًا بقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103]، وبقوله - سبحانه -: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 92]، وبقوله - جل جلاله -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات: 10].
واستبصارًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى».
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "عليكم بالجماعة؛ فإن الله لن يجمع أمةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على ضلالةٍ".
وقد تألَّق - بحمد الله - مُؤتمرُ قادة، وتأنَّق بموضوعاته الجسيمة وتوصياته العظيمة؛ فلله درُّهم وقد أشرقَ جمعُهم، وتلألأت بالمحبة صفوفُهم في هذه الرحابِ المُباركة والأيام العابِقة، وفي ليلةٍ غرَّاء من هذا الشهر المُبارك اعتصَموا بحبل الله أجمعين، واتَّحدوا على الخير أكتَعين، فحازوا شرفَ الزمان والمكان، وطاعةَ الواحد الديَّان، قُدوةً لشعوبهم وأبناء أوطانهم في الوحدة والائتلاف، والتآزُر والإيلاف، والاعتصام ونبذ الاختلاف.
لقد جاء هذا المُؤتمرُ المُوفَّقُ في أوانه، وما بدَرَ عنه من توصياتٍ جاءت لتُبدِّد غياهِب الغُمَّة التي أظلَّت الأمة، فتُفيق من تهوينها الذي طال أمَدُه، وتغويرها الذي اسبطَرَّ عمَدُه، وتعودُ الأمةُ الإسلاميةُ إلى سابق مجدها ورفعتها، وتسترِدُّ سامِق عزِّها ومكانتها.
سدَّد الله خُطاهم، وبارَكهم ورعاهم، ووفَّقهم لما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد، وجزى الله خادمَ الحرمين الشريفين على جهوده المُباركة في جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وليهنَأ - وفَّقه الله - ولتهنَأ الأمةُ جميعًا بهذا الإنجاز والنجاح والامتياز.
ألا فالزَموا - أيها المسلمون - طاعةَ ربكم وطاعةَ رسولكم - صلى الله عليه وسلم -، ثم طاعةَ أولي الأمر في صالح الأمور في الغَيبة والحضور، وشُدُّوا من أزرِهم، وعزِّزوا أمرَهم، ولا تُنصِتوا للأبواق الناعِقة وأصحاب الأفكار الهدّامة النافِقة الذين يسعَون في الأرض فسادًا، ويحسبون السرابَ ماءً بِقيعة بعد كدَر الصنيعة، لعلهم يفطِمون نفسَهم عن مراضع الفِتَن ومراتِع الأَفَن.
فما الشِّقاقُ بناةُ المجد مبدؤكم
ولا النِّزاعُ ولا الإحجامُ عن قِيَمِ
فسارِعوا سدَّ ثغر الخُلف واعتصِموا
لو اعتصَمنا بحبل الله لم نُضَمِ
معاشر الصائمين الميامين:
وحينما تفيَّأت هذه الأمةُ ذه الأجواءَ الروحانيةَ العبِقة فإنها - بحمد الله - على الطاعة والتقوى في هذه الأيام أكثر من أي زمانٍ، فبهما تُستدفَعُ الخُطوب وتُكشَف الكُروب، ويُصلِحُ حالَنا علامُ الغيوب.
فلنستمسِك بالكتاب والسنة، ولنتأسَّ بسلَفنا الصالح قادة الحقِّ وسادة الخلقِ الذين أسَّسوا المجدَ الراسِخ، والمحتِدَ الباذِخ، وأتَوا على الباطل فضعضَعوا أركانَه، وقوَّضوا بُنيانَه في توحيدٍ خالصٍ، ومُعتقَدٍ سليمٍ، ومنهجٍ وخُلُقٍ قويم، ووحدةٍ مُتكاملة، ووسطيةٍ شاملة، وحوارٍ هادفٍ، فتن الطائفية ومسالك الغلو والجفاء.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، ولا تركنوا إلى الدنيا وقد ذُقتُم حلاوةَ الطاعة؛ فمن ركنَ إليها عكَلَته وأهلكَته، ومن أمِنَ لها كان كمن يستعيذُ من الفخِّ بالخاتل، يستعينُ على الحياة بالقاتل، ويُضارِبُ بلا ربحٍ، وفي بَهيمِ الليلِ يبحَثُ عن صُبحٍ.
هي ذي أفاعي الغدر تنفُثُ سُمَّها
أفلا نُحطِّمُ نابَها المهزولَ
لو سادَ حُكمُ الله فينا لم تهُن
في القدس قبلةُ مصطفانا الأولَى
فاللهَ اللهَ في الثبات على صراط الله المستقيم، والتمسُّك بحبل الله المتين، والله يقولُ الحق وهو يهدِي السبيلَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المُرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي رحيمٌ ودودٌ.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي تتمُّ الصالحات بنعمته، وتعظمُ الخيراتُ بمنَّته، وأُصلِّي وأُسلِّم على الداعي لملَّته وسنَّته، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأزواجه وعِترته.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حق التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
شهرِكم أعمالًا عظيمةً تسدُّ الخلل وتجبُر التقصيرَ، فندبَكم إلى الاستغفار والشكر والتكبير، كما شرعَ لكم زكاةَ الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرَّفَث وطُعمةً للمساكين، وهي صاعٌ من طعامٍ كما في حديث أبي سعيدٍ وابن عمر - رضي الله عنهما -، أو من غالبِ قُوت البلد، والأفضلُ أن يُخرِجَها قبل صلاة العيد، ويجوزُ إخراجها قبل العيدِ بيومٍ أو يومين.
أيها الإخوة في الله:
إن الثباتَ على الطاعة والتقوى لمن علامات قبول العمل، يقول الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا قول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[المائدة: 27]".
ولما سُئِل بشرٌ الحافي عن أناسٍ يتعبَّدون في رمضان ويجتهِدون، فإذا انسلخَ رمضانُ تركوا، قال: "بئس القومُ لا يعرِفون اللهَ إلا في رمضان".
فكونوا - عباد الله - ربانيين لا رمضانيين. قال الحسن البصري - رحمه الله -: "لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت، وقرأ قولَه تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]".
وما المرءُ إلا حيثُ يجعلُ نفسَه
فكُن طالبًا في الناس أعلى المراتِب
ألا وإن من التحدُّث بنِعَم الله ما نعِم به الصائمون والمُعتمِرون من أجواءٍ إيمانيةٍ آمنة، ومنظومة خدماتٍ مُتوفِّرة، وأعمالٍ مذكورة، وجهودٍ مشكورة، لم تكن لتحصُل لولا توفيقُ الله - جل جلاله - ثم ما منَّ به - سبحانه - على الحرمين الشريفين ورُوَّادهما من الولاية المُسلِمة المُخلِصة التي بذَلَت وتبذُلُ كلَّ ما من شأنه تسهيلُ أمور العُمَّار والزوَّار.
جعله الله خالصًا لوجهه الكريم، وزادَها خيرًا وهُدًى وتوفيقًا بمنِّه وكرمه.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على سيد الأنام، وقدوة أهل الإسلام، وأفضل من صلَّى وصامَ وتهجَّد وقام، خيرِ الخلق إمام الحق، كما أمرَكم المولَى - جل في عُلاه -، فقال تعالى قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
ونُهدي صلاةَ الله خالِقِنا على نبيٍّ
عظيمِ القدر للرُّسلِ خاتَمِ
صلاةً وتسليمًا يدومان ما سرَى
نسيمُ الصبا وانهلَّ صوبَ الغمائمِ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم انصر به دينَك، وأعلِ به كلمتَك، واجمع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، وأسبِغ عليه لباسَ الصحة والعافية، واجزِه خيرَ الجزاء على ما قدَّم للإسلام والمسلمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.
اللهم وفِّق قادةَ المسلمين، اللهم وفِّق جميع قادة المسلمين، اللهم اجعلهم لشرعِك مُحكِّمين، ولسنةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعين، ولأوليائِك ناصرين.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من اليهود المُعتدين، والصهاينة المُحتلِّين، اللهم اجله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم فرِّج عن إخواننا في سوريا، اللهم عجِّل بنصر إخواننا في سوريا، اللهم عجِّل بنصر إخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم يا ناصر المظلومي، ويا مُجيبَ دعوة المُضطرين.
اللهم كن لإخواننا في بُورما وفي كل مكانٍ يا حي يا قيوم.
اللهم اختِم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من يرانك، واعِده علينا أعوامًا عديدة، وأزمِنةً مديدة ونحن في خيرٍ وصحَّةٍ وحياةٍ سعيدة.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم ارزقنا الاستقامة على الأعمال الصالحة ما حيِينا، اللهم ارزقنا الاستقامة على الأعمال الصالحة بعد رمضان يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.
اللهم اختِم لنا بخيرٍ، اللهم اختِم لنا بخيرٍ، اللهم اختِم لنا بخيرٍ، والعتقِ من النار، والعتقِ من النار، والعتقِ من النار، يا عزيزُ يا غفارُ.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا وجميع المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 07:17 PM   رقم المشاركة : 110
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

عبادات يسيرة بأجور كبيرة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 6 شوال 1433هـ بعنوان: "عبادات يسيرة بأجور كبيرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإكثار من النوافل بعد شهر رمضان؛ من الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وغير ذلك، وذكرَ العديدَ من الأحاديث الدالَّة على عِظَم أجور الكثير من العبادات اليسيرة؛ كالذكر، والوضوء، والصلاة، وإماطة الأذى عن الطريق، وما إلى ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُعيد المواسم والأعياد، ومُيسِّر طرق الخير ليستكثِر العبدُ من الخير ويزداد، فالحمدُ لله على ما شرَع، والشكرُ له على ما وفَّق، والفضلُ له على ما هدى، إليه المرجعُ وإليه المعاد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شركاء له ولا أنداد، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله وخيرُ العباد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الهُدى والرشاد، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم التناد.
أما بعد:
فالتقوى - أيها المسلمون - التقوى؛ وصيةُ الأنبياء، وحليةُ الأولياء، وخيرُ عُدَّةٍ ليوم اللقاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
أيها المسلمون:
لم يزَل في ثيابنا عبَقٌ من شَذَى شهرنا لم يخِف، ولم يزَل في نفوسِنا طراوةٌ من تراتيل القرآن لم تجِف، ولم تزَل عيونُنا ندِيَّةً على وداعِ رمضان، ومن ذا يلومُها أن تجِف، وما ذاك إلا لما افتقدناه من لذَّة الطاعات، وحلاوة القُرُبات المُقرِّبات، وما جافانا عنه مركبُ الزمان من العبادات الجالِيَة لصدى النفوس ورانِ القلوبِ.
ولو صابرَ الإنسانُ نفسَه، وغالبَ هواه، وواصلَ نوافل العبادات التي اعتادَها في شهر رمضان؛ من صيامٍ، وقيام ليلٍ، وقراءةٍ للقرآن، وصدقةٍ، وخيرٍ لانقلَبَت حياتُه إلى موسمٍ للخير دائم، وتقلَّبَت نفسُه في رياضٍ من القُرُبات مُتصل، وتمثَّل قولَ الله - عز وجل -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162].
أيها المسلمون:
الأرضُ ميراثُ الله لعباده يختارون منازِلَهم من الجنةِ بقدرِ حرثِهم للآخرة، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ[الزمر: 74]، والمؤمنُ الحقُّ سائرٌ إلى ربه يسعى ويحفِد، لا ينِي حتى يكون مُنتهاه الجنة، ولا يقِفُ حتى يُدرِكَه الموتُ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
ولئن انقضَى شهرُ رمضان - وهو شهرُ مُضاعفَة الأجور - فإن اللهَ تعالى هو ربُّ كل الشهور، وفي الحياة آفاقٌ واسعةٌ للعمل الصالح، وأجورٌ تُضاعَفُ هي - واللهِ - المتجَرُ الرابح، وفي شرع الله وهديِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - فِجاجٌ تُوصِلُ إلى الله، ودُروبٌ تُؤدِّي وتهدِي لمرضاته، وأعمالٌ تستجلِبُ مراضِيَ الله ورحماته، ويُكافِئُ عليها بجنَّته. ولكن أين المُشمِّرون؟!
قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبِي فقال: «كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ». وكان ابنُ عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظِر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِر المساء، وخُذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.
وقد دلَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعمالٍ يسيرة، ورتَّب عليها أجورًا كثيرة، وفتحَ لنا أبوابًا واسعةً من الأعمال الصالحة نتزوَّدُ بها ليوم الحِساب، وندَّخِرُها عند لقاء الله ربِّ الأرباب، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء: 19].
عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُصبِحُ على كل سُلامَى من أحدِكم صدقةٌ؛ فكلُّ تسبيحةٍ صدقة، وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وكلُّ تهليلةٍ صدقة، وكلُّ تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، ويُجزِئُ من ذلك: ركعتان يركعهُما من الضُّحَى»؛ رواه مسلم.
والسُّلامَى: هي المِفصَلُ.
وعنه - رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! ذهبَ أهلُ الدُّثور بالأجور، يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصُوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالِهم. قال: «أولَيسَ قد جعلَ الله لكم ما تصدَّقون به؟ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، وفي بُضعِ أحدِكم صدقة». قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: «أرأيتُم لو وضعَها في حرامٍ أكان عليه وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلال كان له أجرٌ»؛ رواه مسلم.
وقد يبلغُ المؤمنُ أعلى المنازِل بعملٍ يسيرٍ لا يظنُّ أن يبلُغَ به ما بلغَ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّبُ في الجنةِ في شجرةٍ قطَعَها من ظهر الطريق كانت تُؤذِي المُسلمين»؛ رواه مسلم.
وفي روايةٍ له: «مرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: واللهِ لأُنحِّيَنَّ هذا عن المُسلمين لا يُؤذِيهم، فأُدخِلَ الجنة». وفي روايةٍ لهما: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجدَ غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّره فشكرَ الله له فغفرَ له».
أيها المسلمون:
وكلمةٌ يسيرةٌ قد يستجلِبُ العبدُ بها رضا ربِّه الكريم، ويشكُرُ فضلَه العَميم؛ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشرَبَ الشربَةَ فيحمَده عليها»؛ رواه مسلم.
أما الوُضوءُ والصلاةُ، وهي المُتكرِّرة في اليوم عدَّة مراتٍ، فاستمِع إلى ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضَّأ العبدُ المُسلمُ - أو المؤمنُ - فغسلَ وجهه خرجَ من وجهه كلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ يدَيه خرجَ من يدَيه كلُّ خطيئةٍ كان بطَشَتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ رجلَيْه خرجَت كل خطيئةٍ مشَتْها رِجلاه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء - حتى يخرُج نقيًّا من الذنوب»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايا ويرفعُ به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغُ الوضوء على المَكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكُم الرِّباط»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائرُ»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفِّ الأولِ ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستهَموا عليه، ولو يعلَمون ما في التهجير لاستبَقوا إليه، ولو يعلَمون ما في العتَمة والصبحِ لأتَوهُما ولو حَبوًا»؛ متفق عليه.
والتهجيرُ: التبكيرُ إلى الصلاةِ.
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - ويُقال: أبو عبد الرحمن - ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن ثوبان - قال: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عليك بكثرة السُّجود؛ فإنك لن تسجُد لله سجدةً إلا رفعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً»؛ رواه مسلم.
وذِكرُ الله تعالى عنوانُ الفلاح، وشارةُ التوفيق والصلاح؛ عن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن شرائِعَ الإسلام قد كثُرَت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به. قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكرِ الله»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهبِ والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذِكرُ الله تعالى»؛ رواه الترمذي، وقال الحاكمُ: إسنادُه صحيحٌ.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍّ فرَجًا، ورزَقَه من حيثُ لا يحتسِب»؛ رواه أبو داود.
وعن شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيدُ الاستغفار أن يقولَ العبدُ: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلَقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفِر لي؛ فإنه لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت. من قالَها في النهار مُوقِنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسِي فهو من أهل الجنة، ومن قالَها من الليل وهو مُوقِنٌ بها فمات قبل أن يُصبِح فهو من أهل الجنة»؛ رواه البخاري.
وفي الإحسان إلى الخلق؛ لا تتردَّد في معروفٍ، ولا تحتقِر خيرًا تُقدِّمه مهما قلَّ؛ يقول عديُّ بن حاتمٍ - رضي الله عنه -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اتَّقُوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ لهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجُمان، فينظُر أيمنَ منه فلا يرَى إلا ما قدَّم، وينظُر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظُر بين يدَيه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجِد فبكلمةٍ طيبةٍ».
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مسلمٍ صدقة». قال: أرأيت إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيديه، فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهوف». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمرُ بالمعروف أو الخيرِ». قال: أرأيتَ إن لم يفعل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ متفق عليه.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله:
والعملُ الصالحُ المُعظَّمُ أجرُه، والسابِغُ ثوابُه يكتنِفُ المجتمعَ المُسلِمَ بكل علاقاته من الوالدَيْن، والزوجةِ، والأقاربِ، والجيران؛ عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! من أحقُّ الناسِ بحُسن صحابَتي؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أبوك»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ: يا رسول الله! من أحقُّ الناس بحُسن الصُّحبَةِ؟ قال: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثمُّ أباك، ثم أدناك أدناك».
وقولُه: «ثُمَّ أباك» أي: ثم بِرَّ أباك. وفي روايةٍ: «ثُمَّ أبوك».
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسَأَ له في أثَره فليصِل رحِمَه»؛ متفق عليه.
ومعنى «يُنسَأ له في أثَره»؛ أي: يُؤخَّر له في أجلِه وعُمره.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
وعن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه»؛ متفق عليه.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليُكرِم ضيفَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليصِل رحِمَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»؛ متفق عليه.
وفي السِّترِ على الناس قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الجنة. قال: «تقوى الله وحُسن الخُلُق». وسُئِل عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النار. فقال: «الفمُ والفرْجُ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ صحيحٌ".


أيها المسلمون:
يا مَن أكرمَه الله بصيام شهر رمضان! إن من السُّنة أن تصُومَ ستَّة أيامٍ من شهر شوال؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صامَ رمضان وأتبَعَه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهرِ»؛ رواه مسلم.
ويصِحُّ أن تصُومَها مُتَّصلةً أو مُتفرِّقةً.
فاستكثِروا من الصالحات، وأديموا الطاعات، وحاذِروا السيئات، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا[النحل: 92]، ومن أعتقَه ربُّه من النار فلا يرجِعنَّ إلى المعاصي، فيعُود إلى رقِّ الذنبِ وإلى الإسار.
ثم صلُّوا وسلِّموا على النبي المُجتَبى، والرسول المُرتضَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِه بالخير على نُصرة قضايا المُسلمين، وسعيِه لتوحيد صفِّهم وجمع كلمتِهم، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم عاجلاً غيرَ آجلٍ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، وارحمهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ دينَك، وأظهِر أولياءَك، وأخزِ أعداءَك، في عافيةٍ لأمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم تقبَّل صيامَنا، وقيامَنا، ودعاءَنا، وصالحَ أعمالنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:28 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir