يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحة الثقافة الإسلامية > الساحة الإسلامية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-12-2012, 06:08 PM   رقم المشاركة : 1

 

الإحسان


خطبة الجمعة 16 شعبان 1433هـ من المسجد الحرام بمكة المكرمة لفضيلة الشيخ /صالح بن حميد

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله استخلفَ الإنسانَ في الأرض ليعمُرها، وخلق له ما في السماوات وما في الأرض وسخَّرَها، أحمده - سبحانه - وأُثني عليه والَى علينا نعمَه وآلاءَه لنشكُرَها، ومن رامَ عدَّها فلن يحصُرَها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقينٍ أرجو عند الله أجرَها وذُخرَها، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله رسمَ معالمَ الملَّة وأظهرَها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا أفضلَ هذه الأمة وأكرمَها وأبرَّها، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - عز وجل - رحمكم الله -، وأخلِصُوا لربكم القصدَ والنيةَ فإنما الأعمالُ بالنياتِ، واجتهِدوا في الطاعة فقد أفلحَ من جدَّ في الطاعات، والزَموا الصدقَ في المُعاملة فإن دين الله في المُعاملات.
بادِروا - رحمكم الله - إلى ما يحبُّه مولاكم ويرضاه؛ فكلُّ امرئٍ موقوفٌ على ما اقترفَه وجناه يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ[النبأ: 40]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[آل عمران: 30].
أيها المسلمون:
كلمةٌ عظيمةٌ تتضمَّن معاني واسعة تدور حول صلاح الإنسان وفلاحه في معاشه ومعاده، ونفسه وأهله ومُجتمعه، وفي كل ما حوله من حيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ. كلمةٌ تدخلُ في الدين والعبادة، والقول والعمل، والخُلُق والمظهر والسلوك. كلمةٌ عظيمةٌ لها مدارُها في التعامُل والتعايُش، ولها آثارُها في رأبِ الصدع، وتضميد الجراح، وغسلِ الأسَى، وزرعِ التصافِي، والدفع إلى التسامِي صُعُدًا في مكارم الأخلاق.
كلمةٌ إليها ترجع أُصولُ الآداب وفروعُها، وحُسنُ المُعاشرة وطرائِقُها. كلمةٌ هي غايةُ الغايات، ومحطُّ نظر ذوي الهِمَم العاليات. هذه الكلمة العظيمة يُوضِّحُها ويُجلِّيها حديثان صحيحان عن نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -:
أما الأولُ: فقد سأل عن هذه الكلمة جبريلُ - عليه السلام - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين قال له: أخبِرني عن الإحسان. قال: «الإحسانُ: أن تعبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وأما الحديثُ الثاني: فحديثُ أبي يعلَى شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ؛ فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلَة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحِدَّ أحدُكم شفرَته، وليُرِح ذبيحتَه».
أخرج الحديثين: الإمامُ مسلمُ بن الحجاج في "صحيحه"، وأصحاب السنن.
معاشر الإخوة:
الإحسانُ مُشتقٌّ من الحُسن، وهو نهايةُ الإخلاص، والإخلاصُ على أكمل وجوهه من الإتقان والإحكام والجمال في الظاهر والباطن.
والإحسانُ في العبادة: أن تعبُد الله كأنك تراه، فهو قيامٌ بوظائف العبودية مع شهودك إياه. فإن لم تكن تراه فإنه يراكَ؛ أي: فتكون قائمًا بوظائف العبودية مع شهوده إياك.
إنه مُراقبةُ العبد ربَّه في جميع تصرُّفاته القولية والعملية والقلبية، علمُ القلب بقُرب الربِّ، فهو من أعلى مقامات التعامُل مع الله.
أيها المسلمون:
الإحسانُ مطلوبٌ في شأن المُكلَّف كلِّه؛ في إسلامه، وإيمانه، وفي عباداته، ومُعاملاته، وفي نفسه، ومع غيره، وفي بدنه، وفي ماله، وفي جاهِه، وفي علمِه وعمله.
وأولُ مقامات الإحسان: الإحسانُ في حقِّ الله - عز وجل -، وهو الإحسانُ في توحيده: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد: 19]، فيُوحِّدُ المُسلمُ ربَّه على الشهود والعِيان كما عبدَه بالدليل والبُرهان.
ومن الإحسان في التوحيد: الرضا بمقادِر الله؛ فيُظهِرُ الرضا والقبول في المنع والعطاء: «عجبًا لأمر المُؤمن وأمرُه كلُّه خيرٌ؛ إن أصابَته سرَّاء شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاء صبرَ فكان خيرًا له، ولا يكونُ ذلك إلا للمؤمن».
وهل عوَّدك ربُّك - يا عبد الله - إلا إحسانًا؟! وهل أسدَى إليك إلا جودًا ومِنَنًا؟!
ومن الإحسان في توحيده: فهمُ العلاقة بين السببِ والمُسبِّبِ، «وإذا سألتَ فاسأل اللهَ»، فيتوجَّه العبدُ بقلبه لربه ربِّ الأرباب ومُسبِّب الأسباب طالبًا منه، مُعتمِدًا عليه، راضيًا عنه.
ومن الإحسان: تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في صدق محبَّته، ولزوم طاعته، وحُسن مُتابعته، وعدم مُجاوزة شرعه، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[آل عمران: 31].
ومن الإحسان: إحسانُ العبد في عبادته ربَّه، والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وإحسان العبادة: الإخلاص، والخشوع، وفراغُ البال، ومُراقبة المعبود؛ فللصلاة طهورُها، وآدابُها، وسُننها، وسكينتُها، وقُنوتُها، وطُمأنينتُها حتى تقول لصاحبها: حفِظَك الله كما حفِظتَني.
والإحسانُ في الزكاة والإنفاق: أن يُخرِج من طيِّب ماله بطِيبٍ من نفسه من غير منٍّ ولا أذًى، شاكرًا لربه فضلَه؛ إذ جعلَ يدَه هي اليدَ العُليا.
والإحسانُ في الصيام: الصومُ إيمانًا واحتسابًا، يدَعُ الصائمُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل ربِّه ومولاه، ولخَلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك.
والإحسانُ في الحجِّ: أن يُهِلَّ الحاجُّ بالتوحيد، مُتمِّمًا الحجَّ والعُمرةَ لله، مُجتنِبًا الرَّفَثَ والفسوقَ والجِدالَ، فمن حجَّ ولم يرفُث ولم يفسُق خرجَ من ذنوبه كيوم ولدَتْه أمُّه.
أيها الإخوة الأحِبَّة:
وبعد حقِّ الله في الإحسان في توحيده وفي عبادته، وحقِّ رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الطاعة والمُتابعة يأتي الإحسانُ إلى عباد الله، ويأتي في المُقدِّمة الوالِدان: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء: 23، 24].
ويتبَعُ الإحسانَ إلى الوالدَيْن: الإحسانُ إلى الرَّحِم وذوي القُربَى؛ بالبرِّ والصلة واللُّطفِ في القول والعمل، وليس الواصِلُ بالمُكافِئ ولكنَّ الواصِلَ من إذا قطعَت رحِمُه وصلَها.
ومن الإحسان: الإحسانُ إلى اليتَامَى والمساكين والضُّعفاء وأصحابِ الحاجات الخاصَّة؛ قولٌ ليِّن، وإنفاقٌ من غير منٍّ، ومُعاملةٌ من غير عُنف، وصادِقُ الخدمة، ورفعُ مُعاناتهم، وعدمُ التعالِي عليهم، والحَذَرُ من إشعارهم بما ابتُلوا به، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ[الضحى: 9، 10]، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 8، 9].
وممن يتعيَّنُ الإحسانُ إليهم: الغُرباءُ وأبناءُ السبيل والوافِدون، فهم لا يعرِفون الأعرافَ الجارية ولا العادات السائدة؛ بل لا يعرِفون منكم إلا أخلاقَكم وحُسن تصرُّفكم.
ولا تغفَلوا عن الإحسان إلى المُعسَرين من المَدينين، فتكون المُطالَبة بالمعروف، والإنظارُ إلى ميسَرة، وتجاوَزوا لعلَّ الله أن يتجاوَزَ عنكم في يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتَى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.
وأحسِنوا في بيعكم وشرائِكم، وحُسن التقاضِي فيما بينكم؛ فرحِمَ الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، وسمحًا إذا قضَى، وسمحًا إذا اقتضَى.
ومن الإحسان: الإحسانُ بترك المُحرَّمات واجتنابها بالكلية، والانتهاء عنها ظاهرًا وباطنًا، وفي التنزيل العزيز: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ[الأنعام: 120].
أما الإحسانُ إلى الحيوان؛ ففي كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ.
وللجماد نصيبُه من خُلُق المُسلم وإحسانه، وأُحُد جبلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه.
عباد الله:
أما قولُه - عليه الصلاة والسلام -: «فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلَة، وإذا ذبحتُم فأحسِنوا الذِّبحَة»، فهذا شأنٌ عظيمٌ في دين الإسلام، فالله أكبر؛ استحقاقُ القتل لا يُنافِي الإحسان في كيفيَّته وآلته. قال أهل العلم: ضربَ المثالَ بالقتل والذبحِ الذي ربما يُتوهَّم أنه في غاية البُعد عن الإحسان.
إن الإحسانَ في الإسلام يرسُمُ ويُرسِّخُ القِيَم الإنسانيةَ العُليا، ويترفَّعُ عن الأحقاد والضغائن، نعم؛ الذي يستحقُّ القتلَ قد لا يُفيدُه ولا ينفعُه ترفُّقُك به، وإنما تتجلَّى القيمةُ في سُمُوِّ إنسانية المُسلم وعلوِّ منزلة الأخلاق عنده.
إن خُلُق الإحسان هذا وعلى هذه الصفة هو الذي يُجسِّدُ التحضُّر والسُّلُوكَ الإنسانيَّ الراقي، ويتجلَّى الإحسانُ فيه، «الراحِمون يرحمُهم الرحمن»، «وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه».
ومن اللطائف: ما ذكرَه بعضُ أهل العلم في قوله - سبحانه -: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ[محمد: 4]، وفي قوله - عزَّ شأنه -: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ[الأنفال: 12].
قال أهل العلم: "إن المقصودَ الإحسانُ في القتل حتى في حال الحربِ والقتالِ والكُفرِ وشدِّ الوَثاق".
معاشر المسلمين:
ذو الإحسان ينطلقُ في ميادين الإصلاح الواسِعة يبذُلُ ما في وُسعه، ينشرُ الخيرَ والفضلَ والبرَّ في كل ما يُحيطُ به أو يمُرُّ به. المُحسِنُ عنصرٌ صالحٌ، ومُسلمٌ مُستقيمٌ مع نفسه ومع الآخرين، لا يصدُرُ عنه إلا ما يُحبُّه لنفسه ويرضاه للآخرين، وفي مسلَكه تزدادُ الحياةُ استقامة، والمحبَّةُ عُمقًا، وتسُودُ الثقة، وتنتشرُ الطُّمأنينةُ، فيكونُ الإنتاجُ المُثمِر، والسعادةُ الشامِلة.
المُحسِنُ شخصيَّةٌ مُهذَّبةٌ راقِيةٌ، يستبطِنُ بين جوانِحه جُملةً من مكارِمِ الأخلاق تدورُ بين العدل والإحسان وفقَ توجيهات الشرع وترتيباته وأولوياته.
الإحسانُ مِعيارُ قياس نجاح العلاقات، وثباتها، ودوامِها، وإذا كان العلُ أساسَ الحُكم وقيامِ الدول فإن الإحسانَ هو سبيلُ رُقِيِّها ورفعتِها وتقدُّمها، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ[النحل: 90].
ومن أجل هذا - عباد الله - كان جزاءُ الإحسان عظيمًا؛ فإن الله –عزَّ شأنه - أحسنُ صِبغة، وأحسنُ قيلًا، ومن أقرضَ اللهَ قرضًا حسنًا وأبلَى بلاءً حسنًا ضاعفَ له المثوبةَ أضعافًا كثيرةً، ومنَّ علينا - سبحانه - بالرزقِ الحسن والمتاع الحسن في الدنيا، والحُسنى وزيادة في الأُخرى، ولمن أحسنَ في هذه الدنيا حسنة، ومن هاجرَ إليه بوَّأه في الدنيا حسنة، ومن اقترفَ حسنةً زادَ له فيها حُسنًا، ومن سألَه في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً فله نصيبٌ مما كسَب، ومن صدَّق بالحُسنى ودعاه بأسمائه الحُسنى أعطاه في هذه الدنيا الحُسنى، وجعلَه من الذين سبقَت لهم في الآخرة الحُسنى.
وكلما كان الإيمانُ أكمل والعملُ أحسن كان الجزاءُ أوفَى والثوابُ أعظم، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ[الزمر: 34]، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ[الذاريات: 16]. وللمُحسِنات من النساء مثلُ ذلك: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا[الأحزاب: 29].
وبعدُ، عباد الله:
فيقول الإمام النووي - رحمه الله -: "الإحسانُ هو عُملةُ الصدِّيقين، وبُغيةُ السالكين، وكنزُ العارفين، ودأبُ الصالحين، وهل جزاءُ من صبرَ على البلوَى إلا التقرُّبُ من المَولَى؟ وهل جزاءُ من أسلمَ قلبَه لربِّه إلا أن يكفِيَه ويحفظَه".
فإذا حكمتُم فاعدِلوا، وإذا تعاملتُم فأحسِنوا؛ فإن الله مُحسنٌ يحبُّ المُحسنين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ[النحل: 30، 31].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله على توفيقه وإحسانه وإرشاده، والشكرُ له على توالِي فضلِه وازدياده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تقُودُ صاحبَها إلى فوزه وإسعاده، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ رُسُله وخيرُ عباده، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم معاده.
أما بعد، أيها المسلمون:
إن للإحسان آفاقه الواسِعة في هذه الحياة؛ فهو ميزانُها الدقيقُ في كل جوانبها؛ بل هو خُلُقٌ عظيمٌ يتجاوزُ المُعاملةَ بالمثلِ أو ردَّ الجَميل، أو الشكرَ على الصنيع، إنه يرتفعُ بصاحبِه ويسمُو به إلى أن يُحسِنَ للناس ابتِداءً ولو لم يسبِق له منهم إحسانٌ؛ بل يترقَّى إلى مرتبةٍ أعلَى حين يُقابِلُ إساءَتهم إليه بالإحسان إليهم، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ[المؤمنون: 96].
مُقابلةُ الإساءة بالإحسان هي التِّرياقُ النافعُ في مُخالطَة الناس، والدواءُ الناجِعُ لإصلاحِهم وبثِّ الأمان فيهم. إحسانٌ تتحوَّلُ العداوةُ معه إلى صداقةٍ، والبُغضُ إلى محبَّة. الإحسانُ هو دواءُ السيئة وجزاؤُها من أجل أن تُسلَّ السخائِم، ويُقضَى على الضغائِن فينقلبُ العدوُّ صديقًا، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت: 34، 35].
يقول الثوري - رحمه الله -: "الإحسانُ أن تُحسِنَ إلى المُسيءِ؛ فإن الإحسانَ إلى المُحسِن تجارة"؛ أي: مُعاوَضة ومُقابلَة للإحسان بالإحسان، ومُقابلةُ السيئة بالحسنة شيءٌ عظيمٌ لا يُطيقُه إلا ذوو الهِمَم العالية، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. إنه صبرٌ جميلٌ، وتحمُّلٌ لأذى، وغُفرانٌ لإساءة.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن هذه المواقف النبيلة المُتسامِحة سُرعان ما تُعطِي ثمارَها، وتُؤدِّي نتائِجَها من الحبِّ والقَبول، كم هم النُّبلاءُ الذين يُقابِلون هذه الإساءات مهما بلغَت مساوئُها ومهما كانت آثارُها، والخلقُ كلُّهم عيالُ الله، فأحبُّهم إلى الله أنفعُهم لعياله؛ في يُسرٍ، ورفقٍ، وحُسن ظنٍّ وتجاوُزٍ.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبيِّ المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ الطاعةِ، ويُهدَى فيه أهلُ المعصيةِ، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المُنكَر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شَريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً.
اللهم انصرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرِمين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحُورِهم ونعوذُ بك من شُرُورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالَنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا، يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:18 PM   رقم المشاركة : 2

 


الإسلام والأمن

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 23 شعبان 1433هـ بعنوان: "الإسلام والأمن"، والتي تحدَّث فيها عن الأمن والأمان في الإسلام، وأن الله تعالى أنعمَ على هذه الأمةِ بهذه النعمةِ العظيمة، ومنَّ عليها بتلك المنَّة الكريمة، وذكرَ ما حبا الله بلادَ الحرمين الشريفين من الأمن والاستقرار، وذكَّر في خطبته الثانية بضرورة توخِّي وسائل الإعلام الحذر مما يُعرضُ عليها مما يخدِشُ حُرمةَ شهر رمضان، ويُذهِبُ بركاتِه وخيراته التي تفضَّل الله بها على عباده.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُك ربَّنا ونستعينُك ونتوبُ إليك ونستغفرُك، ونُثنِي عليك الخيرَ كلَّه.
الحمدُ لله حمدًا دائمًا وكفَى
شُكرًا على سَيْبِ جَدواه الذي وكَفَا
لك الحمدُ ربِّي على الأمنِ وارِفًا
صِرنا بفضلِه موطِنَ المُحسَدِ
أحمدُه - سبحانه - مكَّنَ فينا الأمنَ وأوثقَا، وأضاءَ من نوره الكونُ فأشرقَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستكشِفُ بها دخَنً، ونستنيرُ بها دغَنًا، ونرجُو بها أمنًا مُتحقِّقًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله الهادي إلى النور المُبين فأفلَقًا، فملأَ الكونَ أمنًا وأغدَقًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الأعراق، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين الأعلاق، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم التلاقِ.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا ربَّكم - تبارك وتعالى - واشكُروه، وأطيعوه ولا تعصُوه، اشكُروه على نعمِه الباطنة والظاهرة، وعلى آلائه المُتوافِرة المُتكاثِرة، تفُوزوا بخير الدنيا ونعيمِ الآخرة.
الشكرُ يفتحُ أبوابًا مُغلَّقةً
لله فيها على من رامَه نِعَمُ
فبادِرِ الشكرَ واستغلِق وثائِقَهُ
واستدفِعِ اللهَ ما تجري به النِّقَمُ
أيها المسلمون:
في أغوار الفتنِ وأعماقِها، وبين فحيحِها وضُبَاحِها، تأتلِقُ قضيَّةٌ فيحاء، عريقةٌ بلْجَاء، هي من الضرورات المُحكَمات، والأصول المُسلَّمات، ومن أهم دعائم العُمران والحضارات، يُذكَّرُ بهذه القضية في زمنٍ روَّقَ علينا بكَلكَلِه، وأوانٍ كثُرت فيه الفتنُ البَهماء، واكفهرَّت لياليه الظَّلماء، واسبقَرَّت مِحَنُه العمياءُ الدَّهماء.
فبَين صياخِدةٍ حادَّة، وأزماتٍ مُتضادَّة، مُتشاكِسةٍ هادَّة، وأشلاءٍ ودماءٍ، ودمارٍ وأصلافٍ وأرزاءٍ، تستعِرُ جوانبُ أمَّتنا الإسلامية، وتتقلَّبُ فيها الأحداثُ الدولية والعالمية، وإلى الله وحده المُلتجَأ أن يُجلِّيَ الخُطوبَ، ويكشِف عن المُسلِمين الكُروبَ.
إنها - يا رعاكم الله –: قضيةُ الأمن والأمان، والاستقرار والاطمئنان.
وما الدينُ إلا أن تُقامَ شعائرٌ
وتُؤمَنُ سُبلٌ بيننا وشِعابُ
فيا للهِ! ما أعظمَها من نعمةٍ، وأكرمَها من مِنحةٍ ومِنَّة، فمنذُ أن أشرَقَت شمسُ هذه الشريعة الغرَّاء ظلَّلَت الكونَ بأمنٍ وارِفٍ، وأمانٍ سابغِ المعاطِفِ، لا يستقِلُّ بوصفِه بيان، ولا يخُطُّه يَراعٌ أو بَنان، فالأمنُ فيها من أولَى المطالِب، وأفضلِ الرغائِب، وأهمِّ المقاصِد؛ فهو مطلبٌ ربَّانيٌّ، ومقصدٌ شرعيٌّ، ومطلبٌ دوليٌّ، وهاجِسٌ إنسانيٌّ.
فإذا ما تحقَّق وتأكَّد، وعمَّ وتوطَّد، تأتلِقُ قُدراتُ الإنسان شطرَ الازدِهار، والتميُّز والابتِكار، والإنماء والإعمار، وينحسِرُ الاضطرابُ والبَوار.
فلله ثم لله؛ كم في الأمنِ من الفضائل والبركات، والآثار السنيَّات؛ كيف وقد جعله - سبحانه - من أجلِّ النِّعَم، وقرَنَه بالإطعام من الجوع، فقال - سبحانه -: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[قريش: 4].
معاشر المسلمين:
ولقد كان الأمنُ أولَ دعوةٍ دعا بها خليلُ الرحمن إبراهيم - عليه السلام -؛ حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ[البقرة: 126]، فقدَّم الأمنَ على الرزقِ؛ بل جعلَه قرينَ التوحيد في دُعائِه، فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[إبراهيم: 35].
وقد عمَّقَ الإسلامُ هذا المعنى ورنَّقَه، ففي ظِلالِه يتضوَّعُ الجميعُ الأمنَ والأمانَ، ويأمَنونَ الغُدَرَ الجِوان، ورميَ الرَّجَوَان؛ في "البخاري" عن أبي شُريحٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لا يُؤمِن، والله لا يُؤمِن، والله لا يُؤمِن». قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمَنُ جارُهُ بوائِقَه».
الله أكبر، الله أكبر!
ببعثَته المكارِمُ قد تجلَّت
فولَّى الشركُ وانهزَمَ انهزامًا
وسادَ الأمنُ بعد الخوف حتَّى
ترقَّى الكونُ وانتظمَ انتظامًا
أمةَ الإسلام:
تلكُم هي المنهجيَّة الإسلامية الصحيحة لهذه القضية الشاملة الرَّبيحة: قضية الأمن والأمان، فهما جنبان مُكتنِفان للإيمان مُنذُ إشراق الإسلام إلى أن يُحشَرَ الأنام، فلقد أعلَى الإسلامُ شأنَها ورفعَ شأوَها؛ حيث قال نبيُّ الهدى - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبحَ آمنًا في سِربِه، مُعافًى في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافِيرها»؛ أخرجه الترمذي، وحسَّنه.
لقد طابَت الدنيا بطِيبِ مُحمَّدِ
وزِيدَت به الأيامُ حُسنًا إلى حُسنِ
لقد فكَّ أغلالَ الضلالِ بسُنَّةٍ
وأنزلَ أهلَ الخوف في كنَفِ الأمنِ
ولقد امتنَّ الله تعالى على بلاد الحرمين الشريفين بنعمة الأمن والأمان، فقال - سبحانه -: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[القصص: 57]، وقال - سبحانه -: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ[العنكبوت: 67].
فسبحان الله - عباد الله -، ها أنتم أُولاء ترونَ الناسَ من حولكم وما يعيشونَه من خوفٍ واضطرابٍ، ما هي أنباءُ إخوانكم في الأرض المُبارَكة فلسطين؟ بل ما حال إخواننا على رُبَى الشام الحَزين؟ ناهِيكم عمَّا يجري للمُسلمين في بُورما وأراكان من تقتيلٍ وتنكيلٍ وحرقٍ شائنٍ مُهينٍ، وقُل مثلَ ذلك في كل صِقعٍ رَهينٍ.
ولو كان سهمًا واحدًا لاتَّقيتُه
ولكنَّه سهمٌ وثانٍ وثالثُ
فبلادُنا - بحمد لله - وهي قبلةُ المُسلمين، ومُتنزَّلُ وحي ربِّهم، ومبعثُ ومُهاجَرُ نبيِّهم - عليه الصلاة والسلام - آمِنةٌ - بفضل الله - من الحروبِ العاصِفة، والفتنِ القاصِفة التي تقُضُّ المضاجِع، وتُغوِّرُ الفواجِع، وتذَرُ الديارَ بلاقِع.
سلَّمها الله تعالى من الأحداث النوازل، والنَّكَبات القوازِل، وبسطَ الأمنَ في رُبُوعها، ونشرَ الأمانَ في أرجائِها، فلله الحمدُ والشكرُ أولًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا.
وليس مثلُ الأمنِ يحلُو به
رغيدُ العيش وتهنَأُ الأنفُسُ
أمةَ الأمن والأمان:
إن استِحكام الأمن في البلد الحرام عقيدةٌ راسخةٌ، أصلُها ثابتٌ ورفعُها في السماء، لا يضيرُها عُكابات الأغتام ولا ذمُّ الصَّعافِقة اللِّئام، فقد أجدَبَت أشفارُهم، وتطايَرَت أحلامُهم، ووخَرَ الحقدُ صُدورَهم، فصاروا أطيَشَ من القدُوح الأقرَح، وساءَهم كلُّ ما يُفرِح، ومهما قطَّروا الجَلَب وناهَزوا الغَلَب؛ انعكَسَ عليهم الحال، وساءَت بهم الفِعال. الأمرُ الذي أقضَّ مضاجِعَهم، وزادَ حنَقَ ناعِقهم، فأجلَبوا بخيلِهم ورجِلهم، وبثُّوا الأراجيفَ الكاذِبة، والشائعات المُغرِضة، وما أشبهَهم بقول الأول:
كناطحٍ صخرةً يومًا ليُوهِنَها
فلم يُضِرها وأوهَى قرنَه الوعِلُ
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[فاطر: 43]، مما يُؤكِّدُ وبقوةٍ لاسيَّما للأجيال الناشِئة عدمَ الإصغاء لدُعاة الفتنة، وخفافيش الظلام، ومُثيري الشَّغَب والفَوضَى، ومُروِّجي الأفكار الضالَّة، ومن أسلَسُوا قِيادَهم وجعلُوا من أنفسهم أدواتٍ في أيدي أعدائهم، لاسيَّما عبر شبكات البثِّ المعلوماتيِّ، ووسائل التواصل الاجتماعيِّ.
فبلادُنا - بحمد لله - آمنةٌ مرغُوسة، وفي تُخوم الأمانِ مغروسة، ومن الأعادي - بإذن الله - مصونةٌ محروسة، وستظلُّ - بحول الله - ثابتةً على عقيدتها، مُتلاحِمةً مع وُلاتها وقادتها، وإن أصابَتها العُضالات، ومهما فقَدَت من رجالاتٍ وكفاءاتٍ، فخلفَهم أقيالٌ قاداتٌ.
إخوة الإيمان:
وإننا إذ نُشنِّفُ الآذان في الحديث عن قضية الأمن والأمان لا ننسَى ما رُزِئَ به الأمنُ من فاجِعةٍ عظيمةٍ، وما ألمَّ به من مُصيبةٍ جسيمةٍ بوفاة رمزٍ من رموزه الكِبار الذي قادَ لأعوامٍ عديدةٍ منظومةَ العمل الأمنيِّ في البلاد، حتى انتشرَ الأمنُ - بفضل الله - في كل الأصقاع والوِهادِ.
وطلبُ الأمنِ في الزمانِ عسيرُ
وحديثُ المُنَى خِداعٌ وزُورُ
فأضحَت البلادُ - بفضل الله تعالى ومنِّه - واحةَ أمنٍ وأمان، ودَوحةَ سلامٍ واطمئنان، والله وحده أمان.
ودَّ العِدَى أن يكون من رعيَّته
ليأخذوا الأمنَ تعويضًا من الحَذَرِ
كما نتذكَّرُ الأيادي الشاهِدة والأعمال الرائِدة التي أزجاها فقيدُ الأمة - رحمه الله، وطيَّب ثراه -، وخصوصًا فيما يتعلَّقُ بأمنِ الحَجيج والمُعتمرين، وسلامة القاصِدين والزائِرين.
فرحِمَ الله عبدَه الفقيدَ رحمةَ الأبرارِ، وألحقَه بعباده المُصطفَيْن الأخيار، وأمطرَ على قبره شآبِيبَ الرحمات، وأسكنَه فسيحَ الجنات، ورفعَ درجتَه في المهديِّين، وأخلفَه في عقبِه في الغابِرين.
سلامٌ عل نفسِك الزاكِيَّة
وشكرًا لهمَّتك العالية
بل الأمنَ أرسلتَه مُحسِنًا
أمِنتُ به كيدَ أعدائِيَ
وإننا وإن رُزِئنا بفقده فعزاؤُنا فيمن خلَفَه وأتى بعده من هذه المنظومة المُتألِّقة، والسلسلة المُتأنِّقة.
وإنا إذا قمرٌ تغيَّبَ أو خبَا
إذا قمرٌ في الأُفقِ يتلُوه ساطِعُ
فوفَّقهما الله وسدَّدَهما، وأعانَهما وأيَّدَهما في تحمُّل هذه الأعباء الجَسيمة، والمسؤوليَّات العظيمة، ووفَّق الله الجميعَ لما يحبُّ ويرضَى، وجنَّبَنا ما لَه يسخَطُ ويأبَى، إنه جوادٌ كريمٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 82].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الطَّول والمنِّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أفاضَ علينا من جزيلِ آلائِهِ الإيمانَ والأمنَ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من صلَّى وصامَ، وأفضلُ من تهجَّدَ وقامَ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبِهِ سادات الأزمان، كانوا من الليل الرُّهبانَ القُوَّام، ومن النهار الفُرسان الصُّوَّام، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا ربَّكم واشكرُوه على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، ومِنَنه التي أرسلَها تَترَى ولا تُستقصَى، فكما أفاءَ علينا - سبحانه - الأمنَ والأمانَ، فقد خصَّ هذه الأمةَ بمواسم الخيرات والنَّفَحات والبَرَكات، ومن أجلِّ هذه المُناسَبَات: ما نستشرِفُ مُحيَّاه، ونتطلَّعُ إلى لُقياه، خيرُ الشهور على مرِّ الأعوام والدُّهور: شهرُ رمضان شهرُ الخير والبرِّ والإحسان.
في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه».
أهلًا بشهر التُّقَى والجُودِ والكرَمِ
شهر الصِّيامِ رفيعِ القدرِ في الأُمَمِ
أقبلتَ في حُلَّةٍ حفَّ البهاءُ بها
ومن ضِيائِكَ غابَت بصمةُ الظُّلَمِ
فيا لهُ من فرصةٍ عظيمةٍ، ومُناسبةٍ كريمةٍ، تشرئِبُّ إليها الطُّلَى لتنالَ الدرجاتِ العُلَى، لكنَّها تحتاجُ منَّا إلى تهيِئَة فؤاد، وإعدادٍ للنفوسِ والأجساد.


أمةَ الصيام والقيام:
إن الأمةَ وهي تستقبِلُ شهرَها الكريمَ، ووافِدَها العظيمَ بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى استِدعاء معاني المُحاسَبة والتدبُّر، والتقويم والتفكُّر، وتهيِئَة النفوس للصيام والقِيام، والوحدة والاعتِصام، والتسامُح والتصافِي والوِئام، والحَذَرِ من الفُرقة والانقِسام، وأعمال العُنف والاضطِرابِ والخِصام، وتجديدِ التفاؤُل والأمل بنصر هذه الأمة في فلسطين، وبلاد الشام التي تتطلَّبُ قراراتٍ سريعةً مُلزِمةً، وخطواتٍ عاجلةً صارِمةً لإنهاءِ مأساتِها الخطيرة مع حلول شهر النصر والبطولات، وصلاحِ أحوال الأمة في كل مكان، ونهاية الظَّلَمة والطُّغاة والبُغاة بقوةِ الواحد الديَّان.
فاستقبِلوا شهرَكم يا قومِ واستبِقُوا
إلى السعادةِ والخيراتِ لا الوِزرِ
أحيُوا ليالِيَه بالأذكار واغتنِموا
فليلةُ القدر هذِي فُرصةُ العُمرِ
ألا فليهنَأِ المُسلِمون جميعًا في مشارقِ الأرض ومغارِبِها بهذا الموسم العظيم، ولينعَموا بحُسن استِقبال هذا الشهر الكريم، وهنا لا بُدَّ من لفتةٍ جادَّة للقائمين على الوسائل الإعلامية والقنوات الفضائيَّة أن يُراعُوا حُرمةَ هذا الشهر الفَضيل؛ فلا يخدِشُوا روحانيَّتَه بما لا يليقُ من البرامِج والمشاهِد والأفلام، لاسيَّما ما يمَسُّ سيدَ الأنام وآله وصحابته الكرام.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وعاهِدوا أنفسَكم - أيها المُوفَّقون - على الصلاح والاستِقامة، والإخلاص والاستِجابة، والتوبة والإنابة؛ تسعَدوا في الدنيا، ودار الخُلد والكرامة.
ثم صلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على نبيِّ الرحمة والهُدى أفضلِ الصائمين، وأشرفِ القائمين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين، فقال - وهو أصدقُ القائلين -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»؛ خرَّجه مسلمٌ في "صحيحه".
يا أيها الراجُون خيرَ شفاعةٍ
من أحمدٍ صلُّوا عليه وسلِّموا
صلَّى وسلَّم ذو الجلال عليه
ما صامَ عبدٌ أو تهجَّدُ مُسلِمُ
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنعمةِ المُسداة، سيدِ الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، دمِّر الطغاةَ والظَّلمةَ وسائرَ المُفسدين وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف بين قلوبِهم، وأصلِح ذات بينهم، واهدِهم سُبُلَ السلام، وجنِّبهم الفواحِشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَنَ.
اللهم احفَظ على هذه البلاد عقيدتَها، وقيادتَها، وأمنَها، ورخاءَها، واستِقرارَها، اللهم احفَظها من شرِّ الأشرار، وكيدِ الفُجَّار، وشرِّ طوارِق الليل والنهار، وسائر بلاد المسلمين يا عزيزُ يا غفَّارُ.
اللهم انصر إخوانَنا المُجاهِدين في سبيلِك في كل مكانٍ، اللهم انصر إخوانَنا في سُوريا، اللهم انصر إخوانَنا في بلاد الشام، اللهم انصر إخوانَنا في بلاد الشام، اللهم أصلِح حالَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم برحمتك نستغيثُ، فلا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفةَ عينٍ وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، اللهم إنهم عُراةٌ فاكسُهم، اللهم إنهم جِياعٌ فأطعِمهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم يا ناصرَ المُستضعَفين، يا ناصرَ المُستضعَفين، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين.
اللهم بلِّغنا بمنِّك وكرمِك شهرَ رمضان، اللهم اجعلنا ممن يصومُه ويقومُه إيمانًا واحتِسابًا، اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّمه لنا، وتسلَّمه منا مُتقبَّلًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميع المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:28 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

رمضان أقبل
أفضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة غرة رمضان 1433هـ بعنوان: "رمضان أقبل"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وما فيه من خيراتٍ وبركاتٍ ورحماتٍ، ووجَّه النصحَ لعموم المسلمين بضرورة اقتناصِ هذا الشهر والعمل فيه بما يُقرِّبُنا إلى الله تعالى؛ من إخلاصٍ وصدقٍ في الصوم والصلاة والقيام والأعمال الصالحة، وذكَّر بأن هذا الشهر هو شهر النصر والتمكين على أمة الإسلام.

الخطبة الأولى
الحمد لله يُعيد على عباده مواسمَ الخيرات، ويُهيِّئُ لهم ما تزكُو به الأنفسُ وتعلو الدرجات، ويُسهِّل لهم ما يُقرِّبُهم لربِّ البرِّيات، فمنهم من لربه يدنُو فيعلُو، ومنهم من يهِنُ ويلهُو، وآخرين تحطُّ بهم أهواؤُهم في أدنى الدَّركات، أحمد ربي تعالى وأشكره، وأُثنِي عليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يجزِي بالجليل على القليل ويغفِرُ الذنبَ العظيم، يُذهِبُ عن المؤمنين الحَزَن، ويسترُ القبيحَ ويُظهِرُ الحسن، جلَّ عن الشبيه وعن الندِّ وعن النَّظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وخليلُه ومُصطفاه، قد أفلحَ من اهتدَى بهُداه، وضلَّ من جافاه عنه هواه، صلَّى الله عليه وصلَّى على الآل والأصحاب ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[البقرة: 223].

أيها المسلمون:
تسيرُ بنا الأيام عجلَى ونحن فيها لاهِثون، وتُنتقَصُ أعمارُنا ونحن غافِلون، وتُشغِلُنا الشواغِلُ عما نحن به مُطالَبون، وقد مرَّ بنا عامٌ عاصِفٌ سقطَت فيه عروشٌ ودالَت دول، واضطربَت أحوالٌ وتغيَّر وجهٌ من التاريخ، دوَّامةٌ من الأحداث المُتسارعة لا يكادُ يُدرِكُ غورَها الإنسانُ، منها ذاتُ العِبَر وذاتُ الإحسان.
ومن رحمة الله ولُطفه أن نستيقِظ هذا اليوم على صُبح يوم من رمضان بفضله وبركته وبِشاراته وانتِصاراته، رمضان شاطئٌ ترفعُ فيه سفينةُ القلوب بعد عواصِف الأحداث وغفلةِ الأيام، عامٌ مضَى بتقلُّبات أحواله، وانشغِالنا وتفريطنا.
وقد آنَ اليوم أن تبتلَّ أرواحُنا بعد الجفاف، وتترطَّب أفئدتُنا بعد القسوة، ورغِمَ أنفُ من أدركَه رمضان فلم يُغفَر له.
اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
أيها المؤمنون:
إن مواسِم الخيرات فرصٌ سوانِح، بينما الموسمُ مُقبِلٌ إذ هو رائحٌ، والغنيمةُ فيها ومنها إنما هي صبرُ ساعةٍ، فيكون المسلمُ بعد قَبول عملِه من الفائزين، ولخالِقِه من المُقرَّبين.
فيا لله! كم تُستودَعُ في هذه المواسِم من أجور، وكم تخفُّ فيها من الأوزار الظهور، فاجعلنا اللهم لنفحَاتك مُتعرِّضين، ولمغفرتك من المُسارعين، ولرضوانك من الحائزين، ووفِّقنا لصالحِ العمل، واقبلنا اللهم فيمن قُبِل، واختِم لنا بخيرٍ عند حضور الأجل.


أيها المسلمون:
الصومُ شرعٌ قديمٌ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة: 183]، ورمضان شهرُ الرحمات والبركات، والحسنات والخيرات، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنة، وتُغلَق أبوابُ النار، فيه ليلةُ القدر هي خيرٌ من ألف شهر، ولله تعالى عُتقاءُ من النار، وقد ثبتَ في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن «من صام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قام ليلة القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
خَلوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك، وللصائم فرحتان: إذا أفطرَ فرِح بفِطره، وإذا لقِيَ ربَّه فرِح بصومه.
وفي "صحيح مسلم" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبت الكبائرُ».
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة: 185]، كان جبريلُ - عليه السلام - يُدارِسُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيه القرآن، وكان السلفُ - رحمهم الله - إذا جاء رمضان تركُوا الحديثَ وتفرَّغوا لقراءة القرآن، والصيامُ والقرآن يشفَعان لصاحبهما يوم القيامة.
هو شهرُ التراويح والقيام، والاصطفاف في محاريبِ التهجُّد والناسُ نِيام، شهرُ سكبِ العبرات وإقالة العثَرات، للصائم دعوةٌ لا تُردُّ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[البقرة: 186].
في رمضان تصفُو النفوس وتتهذَّبُ الأخلاق، وفي الصوم تربيةٌ على كسر الشهوة، وقطع أسباب العبودية للأهواء والشهوات، في رمضان يُواسَى الفُقراءُ والبُؤساء، فهو شهرُ الصدقة والمواساة.
أيها المسلمون:
أخلِصوا دينَكم لله، وتخلَّصُوا من أدران الذنوب والمعاصي، واغسِلوها بالتوبة والاستِغفار؛ فإن الذنوبَ مُقعِدةٌ عن الطاعات، وحائلٌ عن القُرُبات.
ثم صُونوا صومَكم عما يُنقِصُه أو يُحبِطُه، حقِّقُوا الإخلاصَ والمُتابعَة في كل عبادتكم، وحاذِروا الشركَ فهو أشدُّ مانعٍ لقبول العمل؛ بل هو مُحبِطٌ له، وابتعِدوا عن كل مُحدثةٍ في الدين فلا يقبَلُ الله عملًا لم يُشرَع.
صُونوا صومَكم عما يجرَحُه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه»؛ رواه البخاري.
وفي "الصحيحين" أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفَث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني صائمٌ».
أيها الصائمون:
إن مقصودَ الصيام: تربيةُ النفس على طاعة الله وتزكيتُها بالصبرِ، واستِعلاؤُها على الشهوات، وكما يُمنَعُ الجسدُ عن بعض المُباحات حال الصيام؛ فمن بابِ أولَى منعُ الجوارح عن الحرام. إن وقت رمضان أثمنُ من أن يضيعَ أمام مشاهِد هابِطة لو لم يكن فيها إلا إضاعةُ الوقت الثمين لكان ذلك كافِيًا في ذمِّها؛ كيف وقنواتُها في سباقٍ محمومٍ مع الشيطان في نشر الفساد والفتنة، والصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم مُنتهون؟!
رمضان تذكرةٌ للأمة لمُراجعة حساباتها وعلاقتها بدينها، وتفقُّد مواضع الخلل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، فهو شهرُ تزكية النفوس وتربيتها.
يا مُسلم يا عبدَ الله! دُونَك دعوةُ الجبَّار لك بالتوبة، فأجِبِ النداءَ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31]، بادِر بالتوبة - غفر الله لي ولك -، وإياك أن تضعَ في صحيفتِك اليوم ما تستحِي من ذكرِه غدًا، وإنما الراحةُ الكُبرى لمن تعِبوا.
أيها الصائمون:
وفي الأسحار أسرار، نفحاتٌ ورحماتٌ حين التنزُّل الإلهيُّ، ورُبَّ دعوةٍ يُكتَبُ لك بها الفوزُ الأبديُّ، وعند الفِطرِ دعوةٌ لا تُردُّ.
فاسعَدوا بشهركم - أيها المسلمون -، وأودِعوا فيه من الصالِحات ما تستطيعون، وتقرَّبُوا فيه لمولاكم، فللجنة قد ناداكم: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس: 25].
باركَ الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفِروا الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الصيام جُنَّة، وسببًا مُوصِلًا إلى الجنة، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه هدَى ويسَّر فضلًا منه ومنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه دلَّنا على أوضحِ طريقٍ وأقوم سُنَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


أيها المؤمنون الصائمون:
رمضان شهرُ الذكريات والفُتوحات والانتِصارات، وبقدرِ ما نستبشِرُ بحُلوله بقدر ما نعقِدُ الآمالَ أن يُبدِّلَ اللهُ حالَ الأمة إلى عزٍّ ونصرٍ وتمكينٍ، وأن يرُدَّها إليه ردًّا جميلًا، وإلا فإن رمضان يحِلُّ بنا والأمةُ مُثخنةٌ بالجِراح، مُثقلةٌ بالآلام.
يحِلُّ رمضان ومسرَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحتلٌّ يئِنُّ تحت وطأة الظالمين.
يحِلُّ رمضان والمُرابِطون في أكنافِ بيت المقدسِ من المؤمنين يُقتَلون ويُشرَّدون، وتُهدَمُ منازِلُهم وتُجرَفُ أراضيهم، وتُبادُ جماعتُهم.
يحِلُّ رمضان وإخوانُنا في سوريا يُذبَحون ويُدمَّرون، ويتواطَؤ عليهم شِرارُ أهل الأرض، وإن كنا نرى الفرجَ لهم أقربَ مما يظنُّ الظانُّون، نصرًا يُشادُ إلى سواعِد الصابرين، وتستجلِبُه دعواتُ الصائمين الضارِعين، وليس على الله بعزيزٍ أن يكون العيدُ في الشام عِيدان: عيدُ الفِطر وعيدُ النصر.
فيا ربِّ! عبادَك عبادَك، أنت بهم أدرَى، وقد جاءتهم المصائبُ تَترَى، فيا ربِّ! هبْ لهم من لدُنك نصرًا، نصرًا لا يشكُرون به سِواك، ويستغنُون به عن عِداهم وعِداك.
ثم صلِّ يا ربِّ وسلِّم على خير الورَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم أتِمَّ عليهم، اللهم أتِمَّ عليهم.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم إنك سميعُ الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
قديم 09-12-2012, 06:35 PM   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

مزايا الصيام في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 8 من رمضان 1433هـ بعنوان: "مزايا الصيام في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن مزايا الصيام في الإسلام وخصائصه التي اختصَّ الله بها الأمةَ عن غيرها من الأمم.

الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم المنَّان، أحمده - سبحانه - واهِبُ النعم، كريم العطايا، قديمُ الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اختصَّ بالمزايا هذا الشهرَ المُبارك رمضان، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحبُ المناقب الجميلة والصفات الحِسان، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[النحل: 111].
أيها المسلمون:
لئن كان الصيامُ فريضةً كتبَها الله على أهل الإسلام كما كان فريضةً على الذين من قبلهم من الأمم، فإن للصيام في الإسلام من الخصائص والمزايا ما جعل منه تشريعًا إصلاحيًّا وتنظيمًا ربَّانيًّا رفيعًا، يبلغُ به العبدُ الغايةَ من رضوان الله، ويحظَى عنده بالحُسنى وزيادة، ويُحقِّقُ به التقوى التي هي خيرُ زاد السالكين، وأفضلُ عُدَّة السائرين إلى رب العالمين.

وإنها لخصائصُ ومزايا كثيرة، يأتي في الطليعة منها:
أنه سببٌ لتحقيق العبودية لله رب العالمين؛ إذ لا إمساك ولا إفطار إلا على الصفة التي شرعَها الله ورسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الزمن الذي حدَّه، فإن الصائم عبدٌ لله لا تتحقَّق عبوديَّته إلا بعبادته - سبحانه - وحده بما شرع، فجِماعُ الدين ألا يُعبَد إلا الله، وألا يُعبَد إلا بما شرعَ - سبحانه -، ولن يصِحَّ للصائم صيامٌ ولا عبادة إلا إذا وُزِنت بهذا الميزان التي تقوم كِفَّتاه على الإخلاص لله والمُتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولذا كان الصومُ كلُّه - كما قال بعضُ أهل العلم -: "كان الصومُ كلُّه خضوعًا للأمر الإلهي، فلا أكل ولا شُرب ولا مُتعة بما حُظِر على الصائم بعد تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى غروب الشمس، مهما جمحَت النفس، وطغَت شهوةُ الطعام والشراب".
ولا إمساك عن الطعام والشراب وما حُذِر في النهار بعد غروب الشمس مهما جمحَت طبيعةُ الزهد والتنسُّك، فليس الحُكم للنفس والشهوة والعادة؛ لكن الحُكم لله وحده، وكلما كان الصائمُ مُتجرِّدًا عن هواه مُنقادًا لحُكم الله، مُستسلِمًا لقضائه وشرعه كان أصدقَ في العبودية وأطوعَ لله.
ومن مزايا الصيام في الإسلام - يا عباد الله - أيضًا: أنه عبادةٌ فرضَها الله على كل مُسلمٍ مُكلَّفٍ قادرٍ؛ فلم يقصُر وجوبَه على طبقةٍ دون طبقةٍ، ولا فئةٍ دون فئةٍ؛ كفئة النساء دون الرجال، كما هو الشأنُ في الأمم السابقة، وفي بعض الديانات القديمة؛ بل جعلَه واجبًا على كل من شهِد منهم هلالَ الشهر برؤيةٍ صحيحةٍ مُحقَّقة، مع استثناء أضحاب الأعذار من المرضى والمُسافرين والعاجزين عن الصيام لكِبَر سنٍّ ونحوه، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة: 185].
ومن مزاياه أيضًا: أنه سدَّ ذرائعَ التعمُّق التي تذرَّع بها العربُ في الجاهلية وبعضُ من سبقَنا من الأمم، فشرعَ ما لم يأذَن به الله بالزيادة فيه نوعًا أو عددًا ظنًّا منه بأنه قُربةٌ وزُلفَى إلى الله فأحدثَ وابتدَع، فسدَّ الشارعُ ذرائعَ التعمُّق وردَّ ما أحدثَه المُتعمِّقون حين نهى عن صوم يوم الشك ويوم الفطر،وحين رغَّب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل الفطر وتأخير السحور، وحثَّ عليه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطرَ».
وسدَّ ذرائعَ التعمُّق أيضًا حين نهى عن الوِصال - وهو استمرارُ الصائم في صومه فلا يُفطِر اليومين أو الأيام -، فجاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصال .. الحديث. وفيه: أنهم لما أبَوا أن ينتهوا عن الوِصال واصَلَ بهم - صلى الله عليه وسلم - يومًا ثم يومًا، ثم رأوا الهلالَ فقال: «لو تأخَّر الهلال لزِدتُّكم» - كالمُنكِّل لهم -، حين أبَوا أن ينتهوا.
غيرَ أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل لمن أراد الوِصالَ حدًّا لا يجوز له تجاوُزه، وهو أن يُواصِلَ إلى السَّحَر، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُواصِلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصِل فليُواصِل إلى السَّحَر».
وهو كما قال الإمام ابن القيِّم: "أعدلُ الوِصال وأسهله على الصائم، وهو في الحقيقة تأخُّر عشائه".
وسدَّ ذرائع التعمُّق أيضًا حين أباحَ للصائم ليلة الصيام الرَّفَث إلى النساء، والأكلَ والشربَ وجميع ما حُذِر عليه بالصيام: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ[البقرة: 187].
ومن مزايا الصيام في الإسلام - يا عباد الله - أيضًا: أنه ليس رمزًا للحِداد، أو شِعارًا للحُزن، أو مُذكِّرًا بالمصائب والرزايا، كما هو الحال في ديانات بعض الأمم السابقة؛ بل هو عبادةٌ وطاعةٌ وقُربَى، وسببُ تفاؤلٍ واستِبشار، وباعثُ فرحٍ وسرور، بفضل الله وبرحمته، وكريم جزائه، وحُسن ثوابه لمن صام إيمانًا واحتِسابًا، كما جاء في الحديث: «كل عمل ابنِ آدم يُضاعف الحسنةُ بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف»، قال الله تعالى: «إلا الصومُ فإنه لي وأنا أجزِي به، يدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فِطره، وفرحةٌ عند لقاء ربه ..» الحديث؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وفي "الصحيحين" عن سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن في الجنة بابًا يُقال له الريان، يدخلُ منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخلُ منه أحدٌ غيرُهم، فإذا دخلوا أُغلِق فلم يدخل منه أحد»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، والنسائي، والترمذي، وزاد: «ومن دخلَه لم يظمَأ أبدًا».
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رفعَه: «من صام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
ومن مزايا الصيام في الإسلام أيضًا: أن الإمساك ليس مُقتصِرًا عن الكفِّ عن الطعام والشراب والشهوة وسائر المُفطِّرات الحِسِّيَّة؛ بل جاء المنعُ أيضًا عن كل ما يُنافِي مقاصِدَ الصيام وغاياته، ويُضيِّع ثمراته، ويمحو آثارَه، ويُنقِصُ من أجره، كما جاء في الحديث: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، وإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني صائمٌ»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
وفي الحديث أيضًا: «من لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه».
وفي حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أن قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الصيامُ جُنَّةٌ من النار كجُنَّة أحدِكم من القتال ..» الحديث؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والنسائي، وابن ماجه في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ.
وكل أولئك - يا عباد الله - مما جعلَه الله تعالى سِياجًا واقيًا من الأدب والتقوى يحُوطُ صيامَ العبد ويصُونُه من التلوُّث بأقذار المعاصِي، ويحفَظه من أوزارِ الذنوب.ألا وإن تذكُّر الصائم هذه المزايا العظيمة الكريمة في الإسلام يجبُ أن يكون باعثًا على كمال الشكر لله تعالى المُنعِم بهذه النعمة بتمام الحِرص على حُسن أدائها، ورعايتها حقَّ رعايتها، وبالحذر من إضاعة فرصتها، وتفويتِ مغنَمها، والتفريط في جميل الموعود عليها.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الكريم الرحيم، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجو به الفضلَ السابغَ والخيرَ العميمَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[آل عمران: 74]، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من صلَّى وصامَ وسار على نهجٍ قويم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من مزايا الصيام في الإسلام: الجمعَ بين الإيجابية والسلبية، فكما أنه لا طعامَ ولا شرابَ ولا رفَث ولا فسوق ولا لغوَ ولا كذبَ ولا غيبةَ ولا نميمةَ زمنَ الصيام، فإن زمانه أيضًا زمنُ عبادةٍ ووقتُ طاعةٍ، وموسم تلاوةٍ وقيامٍ وذكرٍ، واستغفارٍ وتسبيحٍ، وصدقةٍ وصِلةٍ وبرٍّ وإحسانٍ ومُواساة.
وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجودُ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارِسُه القرآن، فلرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخير من الريح المُرسَلة"؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وأخرج الترمذي في "جامعه"، والنسائي وابن ماجه في "سننهما"، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" بإسنادٍ صحيحٍ عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره غيرَ أنه لا ينقُص من أجر الصائم شيءٌ».
إلى غير ذلك من أنواع البرِّ والإحسانِ إلى النفسِ وإلى الخلق، وهو إحسانٌ لا حدود له، حتى أصبح بهذا الإحسان أصبح هذا الشهر - كما قال بعض أهل العلم -: "ربيع الأبرار والمتقين، وعيد العُبَّاد والصالحين، تتجلَّى فيه عنايةُ هذه الأمة بإقامة أحكام دينها، وإخباتها إلى ربها، ورقَّة القلوب، والتنافُس في البرِّ، والمُواساة في أروع مظاهره مما لا تبلغُه ولا تبلغُ عُشر مِعشاره أمةٌ من الأمم، أو طائفةٌ من طوائف بني آدم".
فاتقوا الله - عباد الله -، واشكروا نعمة الله عليكم؛ إذ هداكم للإسلام، ومنَّ عليكم بفريضة الصيام، وخصَّها بمزايا لا نظيرَ لها عند غيرنا من الأنام، فأحسِنوا إن الله يحبُّ المُحسِنين، وأرُوا اللهَ من أنفسكم فيه خيرًا تكونوا عنده من الفائزين المُفلِحين.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم النبيين ورسول رب العالمين؛ فقد أُمرتُم بذلك في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم تقبَّل منا الصيامَ والقيامَ، الله اجعله صيامًا إيمانًا واحتسابًا، اللهم اجعلنا ممن يصومُ هذا الشهر إيمانًا واحتسابًا يا رب العالمين.
اللهم احفظ المسلين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في سوريا، اللهم كن لهم، اللهم كن لهم، اللهم ارحم ضعفَهم، وابُر كسرَهم، وارحم موتاهم، واكتب له أجر الشهادة في سبيلك، اللهم اشفِ مرضاهم، واكسُ عارِيضهم، وأطعِم جائِعَهم، وفُكَّ قيدَ أسراهم.
اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:19 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir