الشيخ سعد بن عبد الله المليص
رجل التربية والتعليم
إذا ذكر اسم أستاذي وأستاذ الجيل الشيخ سعد بن عبد الله المليص فإن التفكير يتجه نحو التعليم. أما أسرته الكريمة فقد جمع أفرادها بين العلم والتربية والإدارة فمنهم المربي الفاضل، والإداري الكفء، ونائب الوزير المرموق.. ويسعى أفرادها للمشاركة بعلمهم وجهودهم في بناء صرح الحضارة والتقدم في هذا الوطن العزيز.
ويسرني في هذه العجالة أن أنوه بأن الشيخ سعد المليص انتظم للدراسة بالمدرسة الرحمانية والمدرسة الصولتية فكانت طفولته وحياته بين بيت والده في شارع الراقوبة وبين المسجد الحرام والمدرسة. لقد كان يعبر شارع المدعى يومياً إلى المسعى حيث تقع المدرسة الرحمانية، وكل مساء يذهب على الحرم الشريف حيث تردد إلى علماء أجلاء يتعلم منهم أمثال الشيخ محمد بن مانع، والسيد أمين كتبي، والشيخ إبراهيم فطاني، والسيد علوي مالكي رحمهم الله.. ويشب الفتى ويقرر العودة إلى منطقة الباحة لينشر العلم في ربوعها وبين أبنائها. وهكذا ولادة ونشأة بمكة المكرمة فعودة إلى القرية ومرابع الأهل.
أول لقاء:
جمعتني به الصدفة الجميلة في أول لقاء وأنا طفل صغير عائد من مكة المكرمة إلى الباحة.. وكان ذلك في نهايات شهر الحج عام 1370هـ وعمري يومها أقل من العاشرة. في الطريق أخبرته بعزمي على دخول المدرسة فرحب بي وقال سأكون في انتظارك يوم السبت القادم!!
مدرسة بني ظبيان:
شمر سعد المليص عن ساعديه وانطلق يعمل من أجل نشر العلم بين القرويين تضافراً مع دعوة التقدم والتنوير التي أطلقها الملك عبد العزيز وولي عهده في ذلك الوقت الأمير سعود بن عبد العزيز – رحمهما الله – وفي تقديري أن سعد المليص جعل من مدرسة بني ظبيان معهداً تعليمياً ومؤسسة ثقافية ومركزاً اجتماعياً متقدماً. لقد بذل الكثير من جهده ليل ونهار حتى أقنع القرويين بأن طلب العلم حاجة ضرورية وأن التعليم صلاح في الدنيا وفلاح في الآخرة.
فتح المدرسة لأبناء القرى المجاورة، وقبل للدراسة بها الكبار والصغار حتى إن بعض الأطفال درسوا مع آبائهم في فصل واحد. دعى النابغين والبارزين من أبناء القبيلة وزوارها لزيارة المدرسة وقدمهم (إلينا) إلى طلابه نماذج يحتذى بهم. أقام الحفلات المدرسية واللقاءات الجماعية لإقناع الناس بجدوى التعليم.. جاهد وطلب وكرر الطلبات بفتح المدارس في أنحاء المنطقة، وطالب بفتح معهد لإعداد المعلمين ثم واصل مطالباته بفتح مدارس متوسطة وثانوية، وتحقق له ما أراد.
الثنائية الإيجابية:
إذا تأملنا أسلوبه الإداري والتربوي نجده يتميز بثنائية إيجابية لا يجيدها إلا هو.. وهذه الثنائية لم تعرف المستحيل ولم ينتابها الكلل أو الملل. إنها باختصار اعتراف بالواقع وعدم الرضوخ له بل سعي إلى تغييره إلى الأفضل. وفي ضوء هذه الثنائية الخلاقة سأستعرض معكم بعض مواقفه التي شهدتها فيه.
الثواب والعقاب:
يفيض قلبه حباً لتلاميذه ويعطف عليهم عطف الأب على أبنائه. يتودد إليهم، يحرك ويثير مكامن المعرفة في عقولهم، يرشدهم عندما يخطئون.. ولكن عندما يقصرون فإنه لا يتسامح وعقابه صارم. كان يضع في كل فصل كراساً عنوانه "دفتر الثواب والعقاب" وقد طالت عصاه كثيراً من طلابه وقد ذقت بالطبع مرارتها الحلوة!!
التربية الوطنية:
حوّل المدرسة إلى مركز لتعزيز التربية الوطنية في نفوس الصغار والكبار على السواء. فقد كان يؤكد على هذا الهدف التربوي من خلال المناهج المدرسية للطلاب ومن خلال قراءة الرسائل الملكية التي يوجهها الملك إلى الشعب وكذلك الرسائل الدينية من سماحة مفتي المملكة.
أحبه الناس كباراً وصغاراً وتجمعوا حوله على هدف نبيل واحد وهو طلب العلم، فأحياناً تجد الوالد يدرس مع ولده وتجد التلميذ يتنافس معه عمه أو خاله حتى نجح المليص في تحدي الجهل ومحاربة الكسل، وفتح باب الأمل أمام الكثيرين.
ليل القرية الناعس:
استطاع المليص في حركة اجتماعية متناغمة أن يوقظ ليل القرية الناعس ففتح بضع مدارس ليلية على حسابه الخاص، وأنار المساجد للدراسة ليلاً فانبرى تلاميذه يدرّسون آباءهم وأعمامهم وأخوالهم. وأحمد الله سبحانه إني كنت أحد هؤلاء التلاميذ عندما توليت تعليم الكبار في مسجد قريتي.. تحول السمر لدى القرويين إلى تلاوة القرآن الكريم ومدارسة الحديث ومطارحة الشعر ودراسة التاريخ.
مكتبته:
وفي سياق نشر العلم وتعميم الثقافة أقام في منزله مكتبة عامرة بالكتب القيمة وسخرها للناس يقرءون ويستعيرون.. ووظف علاقاته الشخصية لجلب أمهات الكتب في علوم الدين واللغة العربية والتاريخ ووزعها مجاناً على الناس.
البر والإحسان:
يتمتع القرويون بالعطف على الضعفاء ومساعدة المحتاجين فبادر إلى تعزيز هذه المعاني الحسنة وأنشأ أول جمعية بر خيرية بمنطقة الباحة. وشجع الناس على المشاركة في تحقيق أهدافها بالتبرعات والإشتراكات الشهرية والسنوية واستفاد منها عدد كبير من الأسر والأفراد، وذلك خلال الأعوام من 1374هـ إلى بدايات 1376هـ كما أذكر. فقد كان لي شرف المساهمة معه فيها بالعمل كاتباً وإدارياً. ولكنَّ هذه الجمعية وئدت، حيث أوقفت بحجة أنه لم يصدر بها إذن مسبق.
التصميم:
يتمتع سعد المليص بعزم لا يلين فهو لا يتوقف عندما يقرر فعل شيء، تشرح أمامه الصعاب فيبادرك بأن الهدف السامي لا يحققه إلا الصابرون. تقول له أنا لا أفهم ما تريد، يدهشك قائلاً في هدوء: سوف تفهم عندما ترى النتائج.
كنا ندرس بالسنة الخامسة الإبندائية عام 1372هـ وقال لنا: ستصبحون مدرسين.. ضحكنا فيما بيننا منه ومن الفكرة فقد كنّا أطفالاً صغارأً لا نتورع عن اللعب.. وبالرغم من ذلك قادنا لنكون مدرسين ومديري مدارس.
أقام حفلاً كبيراً في مزارع حول بيته في قرية الريحان وحضره المئات من أهل القرى والأعيان. كان الحفل حفاوة بنا عندما تخرجنا من المرحلة المتوسطة بنظام الإنتساب. يومها حصلت على شهادة السنة الأولى الثانوية وأعمل مديراً لمدرسة خفة وبني حدة.. وخطب في الحفل قائلاً للناس: أرجو الله ان تحتفلوا معي قريباً عندما يحصل هؤلاء الشباب على درجة البكالوريوس والليسانس والماجستير والدكتوراه؟ بعد الحفل بأيام سألناه عن معنى الماجستير والدكتوراه فقال لنا وعيناه تنظران إلى الأمام: أدرسوا وسوف تفهمون.
وإذا كان الخليل بن أحمد رحمه الله قال: عندما يتعذر عليك تحقيق أمر ما فانهض إلى غيره، فإن أستاذنا سعد المليص يقول في تصميم: إذا تعذر عليك أمر فاعزم على تحقيقه. إنه يتمتع بروح القيادة ويطبق أساليبها في حزم أكيد فكانت تعاليماته:
• تقدم ولا تتردد
• نفذ ولا تتأخر
• واصل ولا تتوقف
الزهد فيما عند الناس:
جعل من مدرسة بني ظبيان الأإبتدائية منتدى مفتوحاً للجميع، هذا يتعلم، وذاك يسأل عن مسألة علمية، وثالث عن كتاب. وبيته مفتوح لطالبي الرأي والمشورة ومع ذلك فهو مستودع أسرار الناس ويتعامل مع الجميع باحترام وتقدير.
الشورى والعزيمة:
يميل إلى معرفة الرأي الآخر والاستفادة منه. وهو ديمقراطي إلى درجة التماهي مع الآخرين. ولكنه عندما يرى الصواب فإن عزمه يغلب كل رأي.
حب الجديد:
يحتفل بالمفكرين وبأفكارهم كثيراً.. ولكن بشرط أن يكون الفكر الجديد متناغماً مع الدين الحنيف والعادات الحميدة.
المصلحة العامة:
أفكاره وأعماله وطموحاته تخضع لمعيار المصلحة العامة، وهذه المصلحة تسبق أي فهم وتتجاوز أي منافع شخصية.
رأس المال والمكسب:
إذا عدَّد الناس حياة إنسان في ضوء الكسب والخسارة، فإن رأسمال سعد المليص يتمثل في طلابه بالأمس والذين يحتلون اليوم مناصب قيادية عليا في الوزارات والجامعات والقوات المسلحة ومراكز التجارة المتقدمة.
رحلتي مع الدراسة:
قررت عام 1378هـ أن أواصل التعليم وأحتفظ بوظيفة التدريس في نفس الوقت. ناقشت الأمر مع عدد من المدرسين العرب فشجعوني على ذلك. اتفقت مع الأستاذ محمد حسن أمين (مصري) لدراسة اللغة والحساب والهندسة لديه أما بقية المواد فدرستها بنفسي.
تقدمت لاختبار السنة الأولى متوسط وقبل سفري بيوم واحد اجتمعت مع استاذي وموجهي الشيخ سعد المليص لأستمع إلى نصائحه وكانت ثمينة. سألني في لغة حانية: هل تحس إنك ستنجح؟ قلت آمل ذلك. قال: احسب حسابك أنك لو أخفقت – لا سمح الله - فإن الناس لن يرحموك.
قلت: وإن نجحت فلن أكون الأول وإن رسبت فلن أكون الأخير.
قال: توكل على الله الذي اسأله أن يردك سالماً ناجحاً.
المدرسة الريحانية:
في عام 1379هـ اقتنع الشيخ المليص بفكرتي فجمع بعض زملائي من طلابه وشجعهم على مواصلة الدراسة بنفس الأسلوب الذي اتبعته إلا أنه فتح لهم بيته ليلتقوا بمدرسيهم فيه.. تطور الموقف بصدور قرار الشيخ المليص بفتح المدرسة الأهلية الريحانية على نفقته الخاصة.. وليس على الدارسين إلا دفع رسوم المدرسين الزهيدة بالمشاركة فيما بينهم مما سهل عليهم نفقات الدراسة.
أما أنا فواصلت الدراسة وحدي وعلى نفقتي الخاصة في بيتي أحياناً وأحياناً أخرى كثيرة في بيت الأستاذ محمد أمين. وجميع الاختبارات من المنازل بمدارس جدة والطائف تقدمت لها باسمي شخصياً.
طموح متجدد:
يمضي الرجل في حياته.. لا يأبه بالصعاب ولا يتهيب وعورة المسالك فهو في هذه الأيام وفي هذه اللحظة مسكون بالتخطيط لفتح معهد عال لعلوم القرآن.
جمعية البر الخيرية بالباحة:
هو أول في كل فكرة جميلة وهو مجلِّي في كل عمل طيب. لقد قام بتأسيس أول جمعية بر خيرية رسمية بمنطقة الباحة بالتعاون مع إمارة المنطقة والمحكمة الشرعية.. ولعلَّ أعلى برج عمراني في مدينة الباحة يشهد على خيرية إنجازات هذا الرجل العظيم.
النادي الأدبي:
لم أر الحديث عن النادي الأدبي في الباحة ولا عن جهوده من خلاله. لقد قام بتأسيس النادي وجعله بيتاً مفتوحاً للأدباء. ولا أستطيع الإسهاب في الحديث عن هذه الفترة لأني قد شاركته العمل في هذا النادي خلال السنوات الأخيرة من مسؤولياتنا عن هذا النادي.
دعوة إلى مدارسة حياته دراسة علمية:
إن حياة الشيخ سعد بن عبد الله المليص وما تحقق على يديه من إنجازات تقتضي وتستحق أن يتولاها أكاديميون مخلصون بالدرس والتحليل.. حفظاً لتاريخ منطقتنا وتعزيزاً لفكرة الأسوة الحسنة التي يمثلها هذا الرجل العظيم لنا وللأجيال القادمة.
وختاماً أدعو الله أن يبارك لنا فيه وينفعنا بعلمه، ويبارك لنا في عمره...