عرض مشاركة واحدة
قديم 05-03-2014, 10:50 AM   رقم المشاركة : 240

 


السكن المؤقت بالمقاهي

أنهيت الخطوة الأولى من الاستقرار بتسجيل انتقالي لمعهد الطائف . .بقي على مسألة السكن . فقد كان لي اثنين من الزملاء درسا معي بمعهد الدمام وكل منهما له ظرف خاص ويرغبان الانتقال للطائف وسبق أن أوضحت لهما إمكانية وطريقة الانتقال . الزميل الأول اسمه عبد الله علي أبو عريج القحطاني لديه بعض الأسباب المماثلة لما هو موجود عندي . فأهله في الجنوب ومعهد الطائف هو أقرب معهد إلى أهله بقحطان الجنوب . أما الزميل الثاني فهو من أسرة كبيرة تحمل اسما تجاريا معروفا على مستوى المملكة . إنه الزميل : محمد إبراهيم المجدوعي الغامدي . لقد كان يعيش مع أسرته في رغد من العيش فوالده وأخيه الأكبر علي بن إبراهيم المجدوعي يعملان بالتجارة والنقليات ويسكنون بفيلا فخمة بمدينة العمال أفضل حي سكني بمدينة الدمام , لكن من وجهة نظري أحيانا قد يسبب الغنى والترف نوعا من الكآبة ففضل هذا الزميل الانتقال معي إلى الطائف من باب التغيير والمغامرة , بعد أن عرف برغبتي للانتقال إلى الطائف بالرغم أنه كان زميل دراسة فقط ومعرفتي به ليست بذاك العمق من الصداقة , ولم يكن لدي أي تأثير على انتقاله للطائف , لقد كان كل منا لديه حرية وقدرة على التصرف واتخاذ القرارات ونحن في عمر السابعة عشر من العمر .
إذا نحن الآن ثلاثة طلاب والرابط بيننا أننا قادمون من الدمام ومن الطبيعي أن نسكن سويا , قبل بدء الدراسة بأيام كنا نبيت في مقهى عام بوادي وج يسمى قهوة ( الرمادي ) موقعها حاليا مقابل لجسر حسان بن ثابت جنوب غرب مثلث الحديقة الصغيرة حاليا , كما يشرف المقهى على وادي وج الذي يشكل اتساعا من التراب والبطحاء وعلى جانبه الآخر مقابل المقهى توجد حلقة الأخشاب والحطب والفحم . كنا نشاهد أمامنا في بعض الأحيان طابورا من الجمال تفرع حمولتها من الفحم قيل لنا أنها قادمة من تهامة بني سعد , وفي سنوات لاحقة وقفنا على سيول قوية تجتاح كل ما تجده في الوادي , وكل تلك المشاهدات تعطينا انطباعا أن كل شيء هنا يختلف تماما عن مشاهداتي وحياتي بمدينة الدمام وكأنني انتقلت إلى دولة أخرى .
يعتبر هذا المقهى نقطة تلاق لمختلف العابرين . أمام المقهى موقف لسيارات الجنوب الأجرة كلها سيارات فورد تسمى ( ابلاكاش ) على شكل باص صغير مصنع محليا يحمل عشرة ركاب . إضافة إلى سيارات أخرى من طراز ( بيجو ) هنا وجدت عددا كبيرا من قبيلتنا سائقي سيارات ركاب من طراز فورد أبلاكاش وبيجو , ومسافرون من وإلى الباحة . وزملاء سابقين من الباحة . لهم ارتباطاتهم وطرقهم الخاصة بالسكن . أما أنا فآثرت عدم الارتباط بهم من باب الشعور بالتميز , فأنا قادم من الدمام ولدي زملاء من الدمام أيضا .
المبيت بالقهوة كان شيئا مخجلا جدا بالنسبة لي , والسبب الأول أنني كنت في موقع متقدم في الدراسة في المرحلة المتوسطة وما قبلها فقد كان ترتيبي إن لم يكن الأول فلا يمكن أن أتجاوز الثاني , ولا أود أن أقابل أحدا من قدامى زملائي ومعارفي القادمين من الباحة طالما أنني التحقت بالمعهد فأنا أخجل أن أكون أحد طلابه متساويا معهم في هذا المستوى .
والسبب الثاني أن أسرتي قبل انتهاء ارتباط الوالد بعمل الشركة . كنا في حالة ميسورة جدا ونعد أنفسنا سواء في الباحة أو الدمام وضعنا أفضل مقارنة بغيرنا . لذا فقد كان لدي حساسية شديدة وخيبة أمل من هذا الموقف كيف انتهى بي المطاف للمبيت في مقهى قذر وفراش أقذر يستخدم من قبل عدة أشخاص بشكل يومي , كان عبارة عن لحاف وبطانية ومخدة متكررة الاستعمال والسرير مقعد خشبي معروف في مقاهي الحجاز . فإذا أردت المبيت تنادي القهوجي اليماني بمصطلح متعارف عليه من باب الفهلوة واللهجة الحضرية الدارجة وتقول : ( واحد كرت ) وقد ينام بجوارك أو خلفك مشردون ومجرمون ومسافرون وأشخاص لا تعرفهم , وما لدي من نقود قليلة أخفيها في ملابسي الداخلية وأطوي الثوب بشكل منظم ثم أضعه تحت المخدة حتى ألبسه في الصباح بدون كي . قيل لنا أن ساعتك أحيانا تسرق من يدك وأنت نائم .
من مصاعب المبيت في المقاهي أنه لا يوجد بها دورات مياه . بالكاد تجد صباحا إبريقا به بقايا ماء متسخ . ولا مسجد مجاور , حتى المساجد البعيدة القليلة لا يوجد بها إطلاقا دورة مياه ولا مواضئ. فإذا صحوت صباحا عليك أن تدبر أمورك في أي ركن خلفي بأي شارع أو زاوية خلفية لا أود أن أتذكرها أو أصف تلك المهانة التي وصلت لها . لكنها في قرارة نفسي هي مجرد مرحلة وسوف تعدي بإذن الله فلدي طموح بأن أكمل دراستي وأصحح وضعي ومسيرة حياتي من جديد , حالما انتهي من دراستي بالمعهد .
الزميل القحطاني القادم معنا من الدمام . فيه شيء من الحدة والشراسة يعيش ويتأقلم مع أي ظرف كان . والمبيت في قهوة أو ما هو أسوأ منها لا تشكل بالنسبة له أدنى اهتمام . أما الزميل المجدوعي القادم من بيت التجارة والثراء فيرى أن المبيت في القهوة وكل شيء في الطائف تجربة حلوة ومثيرة . مستمتع بكل شيء بهدوء وتواضع وانبساط تام . أمور لا يجدها في الدمام . ففي الصباح نشتري تميس بخاري ونصف ( هورية ) عنب طائفي نفطر عليه . أحيانا نطلب براد حليب بالزنجبيل مع حبة تميس في القهوة , لو تجلس على مقاعدها الخشبية أربع وعشرين ساعة ما حد سأل عنك
– عدى مسألة النوم بالمقهى - تعتبر جلسة المقهى نهارا أو ليلا متعة بحد ذاتها فهي أشبه بالنادي الاجتماعي الذي يضم خليطا من السكان . فتجد الأخبار والمستجدات والمعارف والوجوه الجديدة القادمة من مناطق الجنوب بالذات . ينقضي النهار والليل بدون أن تشعر بملل . تلك الفعاليات لم تك موجودة بالدمام لذا فقد كانت بالنسبة لي ولزميلي المجدوعي تجربة جديدة مسلية
أثناء تواجدنا بالمقهى حصل تعارف كبير لعدد من طلاب المعهد ممن نعرفهم من قبل . وآخرين استجدت بنا معرفتهم . هنا تتعرف من الطلاب السابقين عن مناطق السكن والأسعار وأهمية القرب من موقف الباصات والحارات التي لا تصلح للسكن . حذرونا من السكن ببعض الحارات لأسباب خاصة , فقد يقع طالب قروي ساذج في ( مسار عاطفي ) لا يستطيع الفكاك منه .
فيما نحن بصدد البحث أبلغنا أحد الزملاء بوجود طالب ( ذو شأن كبير ) يبحث عن سكن وأشاروا علينا بأهمية إسكانه معنا . ثم حصل بيننا وبينه تقارب وتفاهم وموافقة على السكن سويا
بدأنا حملة البحث عن بيت خاص غالبا يكون دور واحد مستقل ذو ثلاث غرف في حي الشهداء الجنوبية حيث كل البيوت تسمى ( أرباع ) فأي أن قطعة ارض تقسم إلى أربعة أقسام أرضية وكل ( ربع ) يعتبر سكنا مستقلا . لم نتعب كثيرا في البحث إذا قادنا المشوار إلى شخص يدعى سراج الحارثي يؤجر البيوت من منزله الخاص . استقبلنا في مجلس جميل يدل على سعة الحال مع وجود تلفون بالمجلس . التلفون بحد ذاته يعتبر أمرا في غاية الترف . ثم أرسل معنا مندوبا لمشاهدة المنزل مع تحديد السعر المقرر بتسعمائة ريال أجرة سنة دراسية ( تسعة أشهر ) , وشروط شفهية أخرى على شكل تلميح : ( عندكم جيران .. و كل واحد يمشي رجال في دربه ) . لم يكثر علينا بزيادة في الشرح لأنه له نظرة وفراسة فيما يراه من وجوه أمامه . كان ذلك الرجل والد الأستاذ سعد بن سراج الحارثي مدير مدرسة موسى بن نصير الابتدائية - رحمه الله – إدارته للمدرسة وانضباطه وصرامته ونتائج المدرسة لمدة ستة وثلاثين عاما قضاها مديرا كانت من الأمور المعروفة لدى أهالي الطائف ولدى منسوبي التعليم بشكل عام .

 

 

   

رد مع اقتباس