عرض مشاركة واحدة
قديم 10-30-2013, 11:45 AM   رقم المشاركة : 176

 


ذكرياتي في الربع الخالي والخرخير..
بقلم: د. سعيد بن عطية أبو عالي

يقول مربو الإبل، وهكذا هي الحقيقة، أن بول الجمل يتجه إلى الخلف. ومشكلتي مع المواضيع المتعددة الصفحات على هذا الموقع (ساحات وادي العلي) أنني لا أعرف كيف أدخل على الصفحة المطلوبة سواءً برقمها أو بتاريخها. فألجأ إلى القراءة من آخر صفحة ثم أعود إلى التي سبقتها وهكذا فأليس قراءتي تشبه لهذه الصفحات مسيرة بول الجمل؟!!

قبل شهر وأكثر دخلت الساحات وشاقني عنوان (ذكريات من هنا وهناك) فعمدت لآخر صفحة فإذا بها شيئ بأن مجموعة من أبنائنا لهم ذكريات ومواقف مع التعليم، ومع الصدف، ومع الرجال، ومع بعضهم البعض في منطقة نجران.. وكلهم معلمون وأنا لا أستطيع التحكم في نفسي فأطلع على كل ما يخص التعليم.

وجدت أسماء أعرف أصحابها مثل غرم الله الفرنك، عبد الله أبو علامه – رحمه الله، ومعهم متداخلون منهم الابن عبد الرحيم قسقس الذي تداخل بنبذة تاريخية عن (منطقة نجران) وقد استفدت منها كثيراً. وكنت أتمنى لو شملت شيئاً عن (الأخدود) وكيف هي الآن وكذلك سدّ نجران وأثره على العباد والبلاد والاقتصاد. (هكذا انداح السجع!).

ولفت نظري أن منطقة نجران تتكون من سبع محافظات، ولا اعتراض على هذا، ولكن جاءت محافظة (الخرخير) لتكون المحافظة السابعة وقد كانت إلى فترة قريبة جزءاً من المنطقة الشرقية. وقد زرتها ضمن وفد ضم العديد من رؤساء الإدارات الحكومية بالمنطقة الشرقية في عام 1410هـ.

قبل هذا التاريخ زارني بالإدارة العامة للتعليم بالمنطقة الشرقية عدد من البدو القادمين من الربع الخالي وطرحوا حاجتهم لمدرسة الخرخير يومها يتبع إمارة المنطقة وكانت بما يسمى قطاع الربع الخالي.. وطيبت خواطرهم.. ووعدتهم بدراسة الأمر مع زملائي وأنه سيصلهم وفد من الإدارة. أوكلت هذا الأمر للزميل الأستاذ السيد عبد اللطيف الخليفة (وهو من أبناء الأحساء ويتمتع بالحصانة والإخلاص مع موجه تربوي لا أذكره الآن مع أسفي واعتذاري كذلك) وطلب السيد عبد اللطيف أن تذهب سيارتا جيب واحدة تقلهم والأخرى للاسعاف لو عرض عارض. وتم التنسيق مع أحد أهالي الخرخير (عثرنا عليه يراجع إمارة المنطقة) غاب عنا الزملاء أكثر من أسبوع. وجِلنا عليهم. ثم عادوا عودة الفالحين. عليهم آثار الصحراء (رياح شديدة، ورمال تتحرك، طرق تضيع منهم، اتجاهات يفقدونها، أمطار شديدة، جفاف قاسي).ولكنهم قدموا لي معلومات عن ثلاث هجر هي الخرخير وهي الأبعد عن المنطقة، وكذلك السحمة وذعبلوتن. (للمعلومية الهجرة تعني مكان بعيد عن العمران ولكن لدى أهله رغبة في الاستقرار).

قررت فتح ثلاث مدارس ابتدائية للبنين في عام واحد في كل من الخرخير والسحمة وذعلوتن تلبية لحاجة أهاليها إلى التعليم، وكونها ثلاث مدارس نقدم لها الخدمات تعوض تعب ونصب الرحلة إليها بالنسبة للموجهين والمعلمين. وضعنا خطة للسير نحو افتتاح المدارس.. وأظنها فتحت في عام 1407هـ تقريباً وحسب الآتي:
1. طلبت إلى الأخ سيف القحطاني – رحمه الله – (وقد كان مدير عام الأوقاف بالمنطقة آنذاك) توفير ثلاث وظائف أئمة وثلاث وظائف مؤذنين في تلك الأنحاء لنعتمد لكل هجرة إماماً ومؤذناً من بين المعلمين.
2. خصصنا في بيت الطلاب بالدمام سكناً خاصاً يستوعب أكثر من عشرة أشخاص لكي يقيم فيه مدرسو مدارس الربع الخالي قبل توجههم إلى مدارسهم وعند قدومهم أو قدوم أحدهم إلى الدمام وخاصة في الإجازات المدرسية.
3. اخترنا لكل مدرسة ثلاثة مدرسين يكون أحدهم مدير للمدرسة وقررنا فتح مدرسة ليلية بكل مدرسة ونكون بهذا وفرنا لكل مدرس وظيفة أخرى يتقاضى راتبها إضافة إلى راتبه الأساسي ويقوم بواجباتها لأنها لا تتعارض مع عمله الرسمي (التدريس).
4. وفرنا على مسؤوليتي الشخصية خمس خيام أحدها لإدارة المدرسة والثانية سكن للمدرسين والباقي فصول. وعلى مسؤوليتي أيضاً أمَّنا لوازم فرش خيمة السكن بما في ذلك أسرَّة ومراتب النوم ولوازم صناعة الشاي والقهوة والطعام.
5. أصدرت توجيهاً للهيئة الفنية (شؤون المعلمين) ولقسم المتعاقدين وللمحاسبة باعتماد صرف بدل السكن كاملاً لكل منهم إلى جانب الراتب وذلك تشجيعاً لهم وتحفيزاً لغيرهم في المستقبل.

كانت هذه المدارس للبنين هي أول مؤسسات حكومية تقوم في قطااع الربع الخالي... وأخالها كانت نداءً لجهات حكومية أخرى مثل مدارس البنات، والمراكز الصحية تحديداً.

في عام 1410هـ تقريباً – وكما أذكر – قرر الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز أمير المنطقة الشرقية أن يقوم رؤساء الإدارات الحكومية المعنية بتنمية وتطوير هذا القطاع، قطاع الربع الخالي، أن يزوروا الخرخير. قام سموه بتوفير السيارات المجهزة، سيارة لكل رئيس إدارة، يرافقنا مساعدون يقومون بتوفير الطعام والشراب والقهوة والشاي، وينصبون لنا الخيام على الطريق ثم إنهم أقاموا لنا في الخرخير مخيماً كبيراً يتوسطه مسجد وقاعة اجتماعات وصالة طعام عصرية حديثة.

أخذنا دليل الرحلة صباح يوم السبت من الدمام إلى الأحساء ومن ثَمَّ إلى منفذ سلوى حيث قادنا إلى الربع الخالي.. كانت رحلة ماتعة لأول مرة لمست شجر الغضا بيديّ. أوقدوا لنا ناراً من هذا الشجر فرأيت اللهب الأبيض (في نظري) الحرَّاق.

لأول مرة رأيت الرمال جبالاً تتحرك وتسمع لحركتها لجيباً وصخيباً. ولم أستطع البقاء في السيارة لتهبط بنا من رؤوس الجبال إلى السفح.. فتركت السيارة خوفاً ونزلت الجبل جالساً وقام الرمل بمهمة إيصالي بسرعة فائقة إلى السفح. وبالرغم من الجبال الرملية وحركتها المهيبة فقد تبدَّى لنا سهلاً سارت بنا فيه السيارات بسرعة تجاوزت مائة وخمسين كيلاً (ما كان ساهر حاضراً!!).

لأول مرة رأيت ولمست وشربت ماء صافياً من نبات ذي ساق أخضر يشبه نبات الكرَّات. قال لنا زميلنا اللواء معجب القحطاني (الفريق معجب أمدَّ الله في حياته) إن البدو يتبعون هذا النبات في رحلاتهم ليروون من جذوعه عطشهم. وبكل يُسر وسهولة نزع أحد السيقان فإذا أساسه أبيض ناصعاً يختزن قطرات من الماء السلسبيل وسبحان الله القادر على كل شيء.

على طريقنا رأينا بئر ماء فوارة يرتفع ماؤها إلى ما يقارب خمسين متراً على مدار الساعة واليوم والشهر والسنة... ويسميها البدو قلْمة (بئر) الملك فيصل حيث حفرت بأمره – رحمه الله – وحولها أحواض لإرواء المواشي.

وصلنا الخرخير بعد عصر يوم الأحد والدهشة تغمرنا بصعوبة الرحلة السهلة، وتعبها المريح... وفرحتنا بلقاء الأهالي يتقدمهم الشيخ النشيط الباسم عيضة المنهالي، رحبوا بنا بلغة كلها كرم وإكرام وفرحة بقدومنا وأدينا وإياهم صلاة المغرب وكان إمامنا هو الشيخ عثمان السيف (أحد الأئمة المرموقين بالدمام) الذي انتدبه سمو الأمير ليؤمنا في الصلاة.

أهالي الخرخير ينتمون إلى قبائل متعددة فبعضهم حميريون وبعض كثيريون وقليل من الهمدانيين. ولكن القبيلتين الأبرز هما قبيلة المناهيل وقبيلة الصيعر. يقارب عددهم آنذاك ثلاثة آلاف نسمة لهجتهم تقرب إلى الفصحى ولكن بعض المفردات لا نفهمها نحن وينطقون الهمزة (عينا) فيقولون: المسعولين بدلاً من المسؤولين.

المواشي التي يقتنونها تكاد تكون من (الماعز) فقط لأن الماعز يستطيعون المشي على الرمال العميقة والمتحركة.. وأكثرها ذات لون أبيض. تراهم وتسمعهم يتهامسون وهم يتحدثون إلى بعضهم. يحبون الوطن وقد عقدنا لهم اجتماعأً في مخيمنا حضره منهم ما لا يقل عن أربعين رجلاً وعرضوا حاجاتهم واقتراحاتهم، وقد طلبت إلى منظم الرحلة (كان الأستاذ مستور بن علي رحمه الله) أن يتركوهم يتحدثون بما يشاؤون وكيف يشاؤون. حركتهم عفوية ولكنها تبدو منظمة فهم يطيعون شيخهم. واستغرق الاجتماع ساعة تم تسجيله (بالفيديو) وقيل لنا أن الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز شاهده وعرضه على الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية آنذاك – رحمه الله -.

كثير من الأهالي لهم أقارب في تنزانيا (زنجبار) واليمن والإمارات وعمان وبعضهم له بيت في الخرخير وآخر في الإمارات خصوصاً وكذلك في سلطنة عمان.

قمنا بجولة في المدرسة الإبتدائية وكان أعلى فصل دراسي هو فصل السنة الخامسة الإبتدائية. قرأ الطلاب أمامنا وكتبوا على السبورات والسرور يغمر أنفسهم ووجوههم. وقد تخيلتهم وكأنهم يمسكون بخيوط الشمس ويعدون إلى المستقبل عدواً. كانت المدرسة ما تزال في خيام.. أما مدرسة البنات (لم نزرها طبعاً) وكانت مبنية من الحجر الأزرق الفاتح ومسقوفة بالخشب وتم استخراج الحجر من أعماق الرمال بمعرفة الشيخ عيضة المنهالي الذي يعرف البلد وأهلها ويقود عملية المطالبة بتنمية تلك الناحية ويعاون على التنفيذ.

زرنا المركز الصحي وكان به طاقم مؤلف من طبيب وطبيبة وممرض وممرضة. وأفادوا بأن مستوى الأهالي الصحي جيد جداً فالعائدون للوحدة قليلون والعائدات نادرات. تهب على الخرخير في فصول السنة رياح عاتية تقتلع الخيام والأثاث وكل شيء، وحتى مولد الكهرباء الكبير. يوجد بالهجرة يومها بقالة واحدة في مبنى من صفيح له أساسات من الحجر.

الجو بارد جداً في الشتاء حار جداً جداً في الصيف ولكنه لطيف بليالي الربيع والصيف. أقمنا ثلاث ليالٍ وأربعة أيام عدنا بعدها إلى الدمام.

أصبح الأهالي يترددون علينا في مكاتبنا وقمنا في التعليم بتوظيف أكثر من عشرة شبان في المدارس، وحرصت على إلحاقهم بمدارس ليلية.. بعضهم ما كان يرغب في الدراسة ولكني الححت عليهم بالوعود والوعيد.
مساء اليوم الثاني للزيارة تم فتح خط الهاتف الذي يرافقنا بتوجيه من الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز وكان مربوطاً بالقمر الصناعي وتحدث بعضنا إلى أهله.. وفوجئ المنظم بأني طلبت الحديث إلى سمو الأمير محمد شخصياً وبعد التحية قلت: يا سيدي هنا بالخرخير زملاؤنا المدرسون من مصر فهل تسمح بأن يهاتفوا أسرهم في جمهورية مصر العربية سيما وأن الخدمة الهاتفية ليست متوفرة هنا: فقال سموه: بالحيْل (بالتأكيد) وشكراً لك يا دكتور على هذه اللفتة الطيبة. وقام ثلاثة من المدرسين بمهاتفة أهلهم.. وبكوا وبكى أهاليهم من هناك وقطع هذا الموقف المحزن دوي الزغاريد في بداية المكالمة الأخيرة في إحدى قرى مصر العزيزة علينا.

طلبنا في تقريرنا صرف راتب زيادة لكل موظف سعودي يعمل في قطاع الربع الخالي.. وقد تنفذ هذا الطلب.. طلبنا مضاعفة مكافأة السفر إلى تلك البقاع لمتابعة سير تنفيذ الخدمات المطلوبة.. طلبنا مكان لطائرة بريد تصل إلى الخرخير يوماً واحدأً في الأسبوع على الأقل.

***
بعد سنوات وأظن ذلك في عام 1415هـ كان أحد الباعة يعرض فواكه طازجة على عربة متحركة أمام منزلي بالدمام... وذهب ابني أحمد بفضول الأطفال – ليشتري منه. فوجئ أحمد بالبائع يقول له: أبوك المسعول عن التعليم.. والله لتأخذ الذي تريد ولا تدفع قرش.. ولما رفض أحمد لحقه بالعنب والكمثرى والطماطم إلى باب البيت.. سررت لهذا الموقف لأنه يتعلق بانجاز عمل من قبلي وأنا مكلف به أصلاً.. ولكن الناس يقدرون العمل الصالح..

وأتوقف هنا لعلَّ تعليقات من القراء والقارئات تثير عندي ذكريات أكثر تفصيلاً..

 

 

   

رد مع اقتباس