أشرنا في الحلقة الماضية إلى إعجاب رئيس المحكمة بقصيدة الشاعر محمد ملاسي فماسرّ ذلك ياترى ؟! ولماذا خصها هي بالذّات بإعجابه ؟ وهل كان حجم الإعجاب بالقدر الذي يستدعي جلب الشاعر بتلك الطريقة لمجرد التأكد من أنه هو القائل ؟!
والجواب : أن رئيس المحكمة بالطبع قاضي والقضاة تخصصهم في الأساس علوم شرعيّة بحته وبُنيَةِ القصيدة تناولت أمراًَ شرعياً صِِرفاً فكانت تتحدث عن الملكين المكلّفين بإحصاء أعمال العباد في الحياة الدنيا والذين ورد ذكرهما في قول الله تعالى في سورة ( ق ) ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) وقد خاطب الشاعر مجازاً هذين الملكين خطاب المؤمن الواثق من إيمانه فلم يوجه لهما سؤالا استنكاريا أو استفساريا عن طبيعة عملهما بل أكد على أنهما مسؤولان عن إحصاء أقوال وأفعال العباد في ( الحياة الدنيا ) كما أشارت إليه الآية ثم أتبع ذلك بوصفهما ب( كرام كاتبين ) مستوحيا ذلك من سورة أخرى في القرآن الكريم وهي سورة الانفطار ( وإن عليكم لحافظين ، كراما كاتبين ، يعلمون ماتفعلون ) وأضاف شيئا آخر وهو أن ( الحسنة تكتب لصاحبها إذا عملها بعشر أمثالها ) ودليله قول الله تعالى في سورة الأنعام ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) وقول النبي صلى الله عليه وسلّم عند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فيما يرويه عن ربه - عز وجل - قال: " إن الله - عز وجل - كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ثم هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ".وأضاف مسلم حدثنا يحيى بن يحيى، ثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان في هذا (الحديث) بمعنى حديث عبد الوارث وزاد: " ومحاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك ". وحديث أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عفان، ثنا جعفر بن سليمان بهذا الإسناد قال: قال رسول الله : " إن ربكم رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتب له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة، أو يمحوها الله،ولا يهلك على الله إلا هالك " أ.هـ
أما التائب من الذنب فيقول ملاسي بحقه ( والسيّه لا تاب راعيها كتب غفرانها ) فما هو دليله على ذلك ؟
يقول الله تعالى في سورة الفرقان ( والذين لايدعون مع الله إله آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاما (68 ) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ( 69 ) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما
( 70 ) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا )فمن علّم ملاسي وهو الرجل الأميّ كل هذا ؟! أليس هذا مثار إعجاب يستدعي مقابلته والتعرّف عليه ؟! لقد كان القاضي محقا فيما فعل ولو كنت مكانه لفعلت ما فعله ولكن الأهم من ذلك معرفة أسباب هذا البدع الغريب العجيب وهل يحمل في طياته توريةَ لأمر ما والمعنى الحقيقي في بطن الشاعر كما يقول المثل المعروف ؟!
لقد كان بيت محمد ملاسي يحوي فناءً أمامه ليس له سورٌ يحميه ( لقلة ذات اليد ) وكان القادمون من خارج القرية لطحن حبوبهم لدى صاحب البابور الوحيد في الوادي العمّ صالح بن فرحة -رحمه الله- يربطون حميرهم في فناء منزل محمد ملاسي ظنا منهم بأن ذلك لايؤذيه فعمد في إحدى المرات لفكّ رباط بهائم أشخاص أتوا من قرية العطاردة وهي بالمناسبة ليست من قرى الوادي فعادت البهائم من حيث أتت دون علم أصحابها ومع أن ملاسي مشهور بالحكمة فقد جانبته الحكمة هذه المرّة وليس محقا فيما فعل مهما كان عذره خصوصا وأن أصحاب البهائم من قرية أجنبية لهم ولبهائمهم حق الحماية كما تقضي به الأعراف القبليّة المتداولة آنذاك، فاشتكى أصحاب البهائم ملاسي لعريفة القرية وموامين الجماعة فأصدروا حكما تعزيرياً يقضي بأن يدفع المعني أربعين ريالا لصندوق الجماعة مع أن العامل وقتئذٍ يتقاضى ريالين ونصف الريال عن كل يوم عمل يمتد من وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها لكن هذه هي الأحكام القبليّة التي في حال صدرت أصبحت قطعية واجبة النّفاذ وليس هناك مجال لاستئنافها .
شَعُرَ محمد ملاسي بأن الحكم مجحف بحقه ومع ذلك لم يكن له مفرٌ من تنفيذه فأنشأ هذا البدع الذي هرب فيه من مخاطبة بني البشر وخاطب الملائكة على سبيل التورية وكأني به يقول ( يا أبناء جنسي انظروا إلى الملائكة يحصون الحسنات والسيئات فما بالكم أنتم لاتحصون إلا السيئات فقط ؟! ثم إن الحسنة عند الملائكة ومن أرسل الملائكة بعشر أمثالها والسيئة لا تكتب إلا واحدة وفي حال أقلع صاحبها وتاب كتب له الغفران فلماذا أنتم تتناسون حسنات المخطئ ولا تغفرون ذنبه وتتجاوزون عنه طالما اعترف وأقلع عن زَلّته ) .
هكذا كان محمد ملاسي شديد البأس قوي الشكيمة عزيز النفس لا يقبل الخنوع والاستجداء رغم فقره وقلة حيلته فقد دفع الأربعين ريالا وخاطب الملائكة مستعيضا بهم عن بني جنسه .
أما الرد على القصيدة فلم ينبر له أحد من شعراء الوادي المتواجدين على قيد الحياة في ذلك الحين وخاصة دغسان ( عريفة القرية ) فلديه من الفطنة ما يجعله ينأى بنفسه عن جدل لاخاسر فيه ولا منتصر لكنّه مع ذلك بقي يراقب الموقف عن بعد ويترقّب رد ملاسي فلما استبطأ الرد بعث له برسالة شفهية بطريقة غير مباشرة على لسان شقيقي ( علي ) والذي كان وقتها يعمل مع مجموعة من شباب القرية لدى محمد ملاسي في قطع ( ربض ) لجدار الفناء الذي قرر الشاعر بناءه بعد جرح الأربعين حيث امتنع الأخ (علي ) عن مزاولة عمله في صبيحة يوم من أيام العمل قارس البرد شديد القرّ كوسيلة ضغط على ملاسي حتى يرد على القصيدة فقال له ملاسي وهم متحلّقين من شدة البرد حول ( الصلل ) قبل طلوع الشمس ( لا لا وأنا عمك أنا أعرف ذا يحرّشونك لا توقف شغلك، هات ورقة وقلم واكتب الرد ).
الردّ
القلب لا عاد يعيا(1) علم طيب ياعت ايد
وان كان قدّام(2) عيني ما انكر الأنكات(3) بين
كم واحداً ولّع(4) الفتنه ومات حصونها(5)
من حكمته جنّب(6) الصاحب وعشرم(7) ثالها(8)
والبرّ موجود ما حد قال من غفرا(9) نهى(10)
معاني الكلمات :
1) يعيا ـ يفقه أو يدرك
2) قدّام ـ أمام
3) الأنكات ـ من التنّكيت أي غير الجآدّ
4) ولّع ـ أشعل
5) حصونها ـ لهبَها
6) جنّب ـ أبعد
7) عشرم ـ الأشرم مقطوع الشّفه
8) ثالها ـ نَشَرَها
9) غُفرا ـ إسم مكان مشهور بإنتاج البُرّ
10) نَهى ـ إنتهى
الشّرح :
لم يخرج الشاعر حتى في رده على القصيدة عن موضوع العقوبة التي صدرت بحقه وذاك يشير إلى أمرين :
أ ) مرارة المعاناة التي تجرّعها جرّاء العقوبة الصادرة بحقه وعدم قدرته على تناسيها رغم الوقت الطويل الذي أشرنا إلى أنه مرّ بين بدعه القصيدة ورده عليها .
ب) قمّة الإبداع الشعري لدى الشاعر وقدرته على تطويع المفردات واستخدامها للطرق على الموضوع ذاته مرتين ( في البدع والرد ) وذلك من غير تكرار ممل فماذا يقول .....؟
يقول على سبيل الإخبَار عن القلب أنه إذا وعى أمرا ما فإن اليَدَ تابعة له تعي ما يعي وتُنفِّذ ما يأمر به
( إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر ) وهذه دِقّة في التعبير أشار من خلالها إلى علاقة القلب بأعمال الجوارح وهو مايوافق قول الله تعالى ( لهم قلوب لايفقهون بها ) فالقلب ليس مضخة للدم فقط كما يشير إلى ذلك كثير من الأطباء بل إن له سُلطة على أعمال الجوارح وهناك العديد من الأدلّة ليس هنا مكان إيرادها .
نعود إلى مقصد الشاعر الذي ورّا ( من التورية ) فيه عن السلطة القضائية التي أصدرت الحكم عليه ( بالقلب ) وعن السلطة التنفيذية ( باليد ) فقال ـ القلب لاعاد يعيا علم طيِّب ياعت ايد ـ وجاء بكلمة ( طيِّب ) ولم يأت بغيرها،مع أن في وسعه أن يقول( صاحي ، صادق ، واكد ، جيّد .... الخ ) لكنّه قصد الكلمة بعينها .... لو كنتم طيبين ونويتم الطيب لم يأت حكمكم عليّ بهذه القسوة، أما في البيت الثاني ( وإن كان قدام عيني ما انكر الأنكات بين ) يقول وقع الجدل والنقاش على مرأى ومسمع مني وأنا القادرعلى تمييزالهزل من الجِدّ والصدق من الكذب ومن كان منكم معي ومن كان ضدي فكل ذلك واضح بيِّن .
في البيت الثالث صرّح بأن فيهم من يشعل نار الفتنة وهو القادر إذا نوى أن يطفئ لهبها الذي شبَّه علوه وارتفاعه بارتفاع الحصون ( جمع حصن ) وعلى سبيل التهكم يقول في البيت الرابع أن من حكمة مشعل نار الفتنة تجاهل الصاحب وعدم الوقوف إلى جانبه حتى أصبحت تلوكه الألسن ومنها لسان الأشرم الذي لا يُفهم كلامه، وعلى الرغم من كل حجم التشاؤم لدى الشاعر وعدم ثقته فيمن حوله كما هو واضح من سياق القصيدة إلا أنه ختمها ببيت فيه من التفاؤل الشئ الكثير حيث أشار إلى أنه لم يفقد الأمل وأن الخير لم ينقطع فقال ( والبر موجود ما حد قال من غفرا نهى )