الاثنين 07 ربيع الأول 1436هـ
أحمد حامد عاش مع الناس
بقلم د. سعيد أبو عالي
في ليلة الخامس والعشرين من ليالي شهر رمضان المبارك عام 1435هـ أهداني الصديق الودود أحمد بن حامد المساعد (أحمد حامد كما نسميه ونناديه) كتابه الموسوم (بين هؤلاء عشت) وهو كتاب طبع لأول مرة عام 1431هـ - 2010م ويقع في مائة وسبعين صفحة من غلافه الأيمن إلى الأيسر .
والكتاب مودع في مكتبة الملك فهد الوطنية في نفس العام الذي طبع فيه؛ ولم يدون اسم المؤسسة التي طبعت الكتاب ولا عنوانها كعادة بعض المؤلفين التي لا أحبها.
الكتاب سرد أدبي رفيع حتى لتحسب أنه روايةٌ عن مسيرة جيل تجسدت في حياة مواطن يحب وطنه وأهله. أمسك الكتاب بتلابيبي وجال بي عصفأً في شاهقات الزمن ومنعطفات الجغرافيا.
أحمد فقد أباه في السنة الأولى من عمره، روى أحد أصدقاء الأسرة لأحمد أن أباه مرض مرضاً شديداً وعندما دنتْ ساعة الرحيل إلى الدار الخالدة نادى أبو أحمد أخاه الكبير وكأنه أفاق وقال له في ثقةِ ويقين : "وجهني للقبلة .. الحق وصل" (ص24) ويقول أحمد : إن ولادته تزامنت مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
يصف أحمد بيت أسرته الذي ولد فيه، وهو مبني بالحجر ومسقوف بخشب العرعر الصامد لتقلبات الطقس.. وكما قال: إن بيوت أهلنا القديمة تتشابه هندسةً وبنياناً.
كان لكل منزل مجلس لاستقبال الضيوف وآخر للعائلة وغرف نوم، والبيوت غالباً مكونة من دورين فأكثر والدور السفلي مخصص للحيوانات وأعلافها، ولكل قرية مسجد واحد على الأقل. يحرص الناس على الصلاة فيه والمحافظة على نظافته. وبعض المساجد كان يحوي مدرسة لتعليم القرآن الكريم، لكل مسجد ساحة يخرج إليها المصلون لتداول الجديد من الأخبار ، والاستماع إلى الطريف من أساليب الحياة، وغالباً بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع يستعرض أهل القرية - في هذه الساحة - ما يجب عليهم عمله مثل الإعلان عن بدء حماية مراعي القرية كي ينبت شجرها وتنمو أعشابها وازهارها.
أو للمبادرة بمساعدة أحد الأهالي في بناء بيت أو لتطوير مزرعة (ركيبة)، أو للذهاب مع عروس من بنات القرية إلى قرية أخرى أو لاستضافة أهالي قرية أخرى يأتـون إلى القرية أو يمرون بها، وغير ذلك من الأمور ، يبادر أحد أو بعض الموسرين بتخصيص مزرعة أو جزء منها وقفاً على المسجد ويصرف من هذه الأوقاف على فرش وإضاءة ونظافة المسجد، وكذلك على تفطير الصائمين في رمضان. المزارعون والتجار يحرصون على اخراج زكاة ثمارهم وتجارتهم، يهتم أهل القرى بنظافة مسارب (مساريب = أزقة ضيقة) وساحات وطرقات القرية، حياة القرويين متكافلة.
فالجار يبعث لجاره من طعامه .. ويعاونون بعضهم لو حلَّ بأحد المنازل ضيوف كثيرو العدد .. رب العائلة يدخر حب الحنطة (القمح) والتمر والسمن والعسل للضيف الطارئ والواحد منهم يقترض مالاً من قريبه أو جاره أو صديقه كي يقرئ الضيف أو يرفد (العريس) أو يقرض الصديق الذي قد يأتي لطلب قرض أو معونة. أكثرهم لا ينطق كلمة (لا) أو ( ما عندي) والجميع يلتزم برد ما يقترض.. العيد بهجة وذكر الله فيه والتكبير هو الملازم لكل أسرة.
استهل أحمد حياته بالالتحاق بمدرسة القرية، وذهب مع أترابه إلى الجبل والوادي .. ولعب معهم في ساحات قريته (بني والبة) وهي قاعدة قرى قبيلة بني كبير، وبنو كبير هم إحدى القبائل الرئيسة في بلاد غامد من منطقة الباحة. ذهب مع أترابه يستقبلون سيارة النقل (اللوري) التي تأتي إلى قراهم لأول مرة بعد أن مهد لها أبناء القبيلة الطريق، وقفوا بعيدأً عنها خوفاً منها إلى أن جاءهم رجل وطمأنهم وقال لهم: "إن السيارات لا تأكل الناس" (ص 47) ولأحافظ على قصة السرد وبلاغة النصوص أدعوك يا قارئي العزيز ، وأناديك يا قارئتي العزيزة للعودة إلى كتابه، فإن له أسلوباً لا يملكه سواه.
طفولة أحمد حامد كانت مزيجاً من الطفولة والرجولة، يدرس ثم ينقطع لطلب الرزق، يبيع ويشتري في سوق القبيلة ويقوده طموحه للسفر إلى الرياض، لكنه يعود من أجل الدراسة وفي جيبه (الف ومائة ريال سعودي فضة) في طريق عودته يتذكر أرحامه وجيرانه فيشتري لهم الهدايا من الملابس الجميلة.
يصل الى القرية ويستضيفهم بالبن والهيل والسكر والشاي، وتقيم ابنة عمه - التي ربَّته وهو صغير - حفل تكريم فتذبح له كبشاً سميناً وتدعو إليه أهل القرية، وهذا التكريم في ذاته هو تحدِّ كبير لأحمد كي يتسلم مراتب المسؤولية، جعلته هو صاحب البيت وله كلمته مع أهل القرية وأبناء القبيلة.
يتأهب أحمد لأداء اختبار شهادة الدراسة الإبتدائية في قريته إلا أن الحاجة والنخوة تستفزانه، حاجته وحاجة أهله لمستلزمات الحياة، ونخوته كي يساعد نفسه ويساعد غيره، لكنه لم يخضع ولم يستسلم للاستفزاز، بل فزَّ هو وتحدى الحاجة بالسفر مرة أخرى لطلب الرزق فيما يحفظ له ولعائلته الكرامة والعزة، وهذه المرة يسافر إلى جدة، بل إلى مطابع الأصفهاني، حيث بدأ أبو وجدي لا يتزود بالمعرفة فقط بل ينتجها للآخرين.
يا عون الله أقبل!! مائة ريال راتب في الشهر ، مجالسة أهل العلم والفكر والرأي ومواصلة الأرحام، زامل العمال والفنيين والمهندسين والأدباء ومنهم الأستاذ الشاعر محمد عمر توفيق الذي أصبح - رحمه الله - وزيراً للحج.
يحضر المحاضرات والندوات ويرتاد مجالس الأدباء والوجهاء في جدة، يتزوج أحمد في جدة "من أم الأولاد السيدة عزة بنت سعد الصبيح) (ص 105).
يعود الرجل أحمد حامد إلى قريته في بني كبير ويرأس إدارة مكتب صحيفة المدينة في منطقة الباحة ويحرر من مكتبه (صحيفة أسبوعية بعنوان "نسيم الباحة" وكانت تضم ألوانأً من المواد الصحفية وكأنها صحيفة مصغرة).
ثم ينتمي إلى الجهاز الإداري في إمارة الباحة ويصبح مديراً لمكتب وكيل الإمارة. ويقول أحمد أنه بنى بيتاً صغيراً في بلدته، وهذا تعبير الكرام المتواضعين، لكن .. انقلوا عني أيها القراء أن أحمد قامةٌ كبيرة في الشرف والكرم والصداقة، بيته قصر منيف من الكرم والشهامة والعلم والطموح إلى المستقبل، أسأل الله أن يبارك له في زوجه وذريته وعلمه وحياته ومصيره.
أبو وجدي تذكر والديه، وتحدث عن أساتذته، وأشاد بزملائه وأثنى على أصدقائه، عرفته أول مرة في لقاء حميمي في منزل كريم المحتد وواسع الصحن ابن خالي اللواء طيار ركن علي بن أحمد الغامدي.
رأيت أبا وجدي عميق الثقافة، حسن الأسلوب، أليف المعشر فهو من أصول كريمة، أبو وجدي عاش مع الناس، علَّم نفسه ولا يزال، مهَّد لأبنائه وبناته سبيل العلم والمعرفة.
قراءتي كتابه أثارت لديَّ شجوناً كثيراً، فقد تشرفت بزمالتي العالم الجليل مفسر القرآن العظيم الشيخ محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - عندما كنت أستاذاً بجامعة أم القرى بمكة المكرمة ونشأت بيني وبين أديب الجبل الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي علاقة ودِّ ومحبة.
عبد العزيز مشري - رحمه الله - أديب ووطني صارع المرض وكان المرض رفيقه، فيما أظن، في ساعات تألقه وإبداعه، علي الدميني شاعر ذو مشاعر ، تخصص في الهندسة الكهربائية وأفلح مديراً لفرع بنك مرموق بالمنطقة الشرقية، وبرز شاعراً مجدداً.
عبد الله الأفندي صديق يمتلك ناصية اللغة وكأنه يتحدث شعرا، والدكتور عبد الله بن سعيد أبو راس طامح إلى النجاح والنجاح يرنو إليه، علي بن سعيد الغامدي (أبو هاني) عصامي سوَّد نفسه ووهب نفسه لوالديه وأسرته وأصدقائه في وفاء للوطن.
أحمد حامد ذكر أسماء كثيرة والصدق يكاد ينطق في كل سطر حواه كتابه، له قدرة خاصة ومتميزة على استدعاء التراث في أبهى صورة، إذا تحدث أحمد فلا تحب أن يصمت، تجلس إليه فلا ترغب أن تودعه أو يودعك، يكرمك ويعتذر ، يسأل عنك بحب، أهنئه على كتابه (بين هؤلاء عشت) وأتمنى له مزيدا من التوفيق.