الموضوع: مدن خرساء
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-16-2010, 12:36 AM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية رحيق
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
رحيق is on a distinguished road

مدن خرساء


 


بمناسبة وفاة الكاتبة المدونة الروائية السعودية هديل محمد الحضيف يوم الجمعة 16 مايو 2008

هذه إحدى قصصها من كتاب "ظلالهم لا تتبعهم"


مدن خرساء

للقاصّة / هديل محمد الحضيف

لا تعُد ..
سمعها مع صرير الباب الذي أُغلق خلفه ..
لن أفعل ..
ثم مضى يثير أغبرة الأزقة .

لفظته القرية سريعا ، بعد أن ضاقت بخطاه المزعجة . لوهلة ، امتلأت روحه سعادة بهذا النفي المبكر ، لأن المكان لا يسمح لصعلكته بكثير من التسكع .. و الوجوه أكثر من أن يحتمل عبوسها ..
مشى عبر الشارع الوحيد الذي ينخر القرية المصابة بالصحراء ..
استقبل وجه الشمس ..
و شدّ رحاله الشحيح نحوها ..

* * *

النهار رماديّ السماء ..
يعبر الأوردة بذاكرة ناقصة ، و أنفس ما فارق طباعها النزق ..
مذ وعى على بلادة القرية ، و الأسئلة تموت على أعتاب علامة استفهام ، لم يجد إلا إجابات بمعالم خافتة ملقاة على حواف الدروب .
ما من بيت من البيوت التي خلّفها وراءه ، آواه يوما كاملا ؛ تفتح له أحدها بابها صباحا ، ليجد قدمه تلعق نواصي الطرق في الليل ..
و ترمي له بفتات غدائها .. لتحرمه العشاء ..

لا يعرف أي غياب أخفى والديه ..
سمعهم يتهامسون مرارا بأن وجهه (الأسود) ، تسبب في مقتل والده الذي كرّس العمر لانتظاره ..
أما أمه ..
فقد ساهم والد (محماس) في رجمها ، كما قال له محماس نفسه بعد عراك بينهما ، حينها .. لم يعبأ بالأمر كثيرا ، ابتسم ، و ترك له هالة زرقاء حول عينه الأخرى .

(أم سليّم) ، التي غالبا ما تخلط بينه و بين ابن أختها مسعود ، و أحيانا تظن أنه ابنها (عايد) الذي جرفته السيول في سنة (الغرق) ، فتحتضنه و هي تبكي ، ثم تنتبه إلى خطئها ، لتدفعه عنها بجفاء ، ثم تطرده خارج منزلها و هي تشتمه.. مرة ، حاول أن يسألها ، فأجابته :
لقد ولدتَ في نفس اليوم الذي ولد فيه (بن فالح) .

قبّل رأسها ، ثم تقيأ على عتبة دارها ..

* * *

ليلة قديمة ، تخيلتُ أن الشمس هي أم الأرض ، و أنها قد أقسمت أن تتبنى كل الأطفال التائهين ؛ لم أنم تلك الليلة ، انتظرت الشمس لأخبرها بأني عازم على الرجوع إليها .
كان صباحا مختلفا ، وجدتُ الكون مغمورا بنور هلامي لطيف ، لم يكن له مصدر واضح ، كل ما أراه : سيل من الوهج اللانهائي ، يومها .. أيقنتُ أن الشمس أمي ، و أنها بهذا النور تخبرني بقبولها بي ابنا لها .. البارحة فقط ، قررتُ السفر إليها .

يممت وجهي شطر الشمس قبل أن يستيقظ الفجر ، لم يكن قد ظهر سوى شعاعا باهتا ، ما حمل الضوء في ثناياه بعد . حملت على ظهري قليل من طعام ، و كثير من حلم .. و امتطيت صهوة أمل للرحيل .

مساحة من أبد ، تتهادى كالمستحيل.. و على خط بعيد ، تلتقي السماء بالأرض . أصوات مبعثرة لديكة و حمير تأتي من خلفي ، و صمت نديّ يمتد أمامي بلا مدى . أغمضتُ عينيّ ، و أسلمتُ خطاي لرائحة مطر عتيق .

رحتُ أركض نحو الشمس حين أطلت برأسها ، فيض من حبور داخَل روحي المترعة بالجروح الطرية ، و أخذ يملأها بنكهة الغيم و الشيح .. و تراب ما غادره البلل بعد ..
شعرتُ بحلمي يحلق بلا قيد ..
بيدين مشرعتين لاحتضاني ..
بأمي .. الشمس ، تخبئ أبي من خلفها .. ثم تعلنه لي كـهلال العيد ..
كل شيء كان يحمل فرح المرة الأولى ..
دهشة المرة الأولى ..
و ضحكة طفل امتلأ بالعالم فجأة !
حملتُ جسدي على قدميّ ، و مضيت أجري باتجاهها ..
كانت هناك ، حيث الخط الذي تتعانق فيه الأرض و السماء بمنأى عن أعين أهل القرية الثرثارين ، و في كل مرة ، كانت (أمي) توغل في البعد ، تاركة قدميّ نهبا للجروح الغائرة .. حتى سقطتُ خائر الحلم ..
* * *

لا صوت إلا صفير الكثبان البعيدة ، تعربد بها الريح ، و تدفن برمالها منابع الحياة.
طوفان من الضوء الصاخب يقتحم عينيّ ، ثم يرتد عنها تاركا بقع سوداء تسبح داخلها ، و خيال لماء بعيد .
عطش حارق يتسلق جدران حلقي ، و يزرع كتل لهيب في أرجائه ..
بحثتُ عن سلم يصعد بي إلى (أمي) التي ارتفعت في السماء ، و حين أعييتُ ، بكيتُ راجيا منها أن تسامحني ، و أن لا تتخلى عني ..
ساعات طويلة مضت ، و (أمي) تزداد غضبا ، و تزداد علواً ؛ كانت تسكب على رأسي حمما و جحيما ، دون أن تعير عطشي إرواءً ..

* * *

لم يلحظ أحد غيابه .. عبر حياتهم مجرد من الرائحة ، و غاص في النسيان سريعا .
ربما تخيله أحدهم ، كطيف لا يعرف كنهه ، و لا اسمه ، قابله يوما ما .. في زمن بعيد ، و مكان بلا ملامح ..
يراوده الحديث عن نفسه ، ثم يمضي و هو يلوك صمته ، و ينهر ذاكرته الخائنة ..

* * *

فقدت الأيام ترتيبها.. الأنهر و الليالي تتكرر على جسدي بذات المقدار ، لم أعد أعرف في أي جحيم أنا.. و لا تعويذة الخلاص ..
سكن الهواء تماما . صهير الأرض يموج من تحتي . غدا حساب الزمن غير ممكن ، و الموت يحوم فوقي دون أن يحط .
بلا وعي ، حملت يدي متلمسا بها وجهي الجاف . ثمة شعيرات أخذت تنفر من فوق فمي المتقرح ، و أقل منها بزغت في ذقني ، ربما صرختُ حينها .. أو لعلي رقصت ؛ لا أذكر ما الذي بدر مني .. لكني أذكر أني وليت الشمس ظهري ، بعد أن قلت لها :
شكرا .. لم أعد بحاجة إلى أم ، لقد أصبحت رجلا ..
أحسست بها تهبط .. تبرد .. ثم تربت على كتفي ، بعد أن ابتعدتُ عنها كثيراً ..

* * *

اقتحم خبر عودة القافلة كل البيوت . زمن غابر ذاك الذي أشاع خبر مقتل أفرادها ، و قليلون الذين يتذكرون تفاصيل ما حدث ، لكنهم تقاسموا جميعا دهشة عودتهم للحياة ..
نشطت الذاكرة الجماعية الخاملة ، و هم يحكون للعائدين من الموت كيف تلقوا نبأ نعيهم . بزغت في نتؤات الحديث : سراديب العزاء ، التجارة البائرة ، و الأموات الذين ما وجدوا من يبكي عليهم فمضوا لنهاياتهم مجردين من كل ذكرى ..
و التهم سهرهم الليل ..

إذن لم يمت أحد ؟!!
لا ! ابتلعتنا الصحراء ، حتى إذا ما لاكت أعمارنا .. بصقتنا .. فعدنا إليكم !

اجتاح القرية فرح غريب ، هي التي لم تتقن سوى الجفاف و الجدب على مدّ عمرها القديم ، حتى أولئك الذين لم يبك عليهم أحد يوم ماتوا ، وجدوا أنفسهم يرقصون ، و حناجرهم تضخ الغناءَ ببذخ . للمرة الأولى تضوع الأزقة كلها برائحة اللحم و العود .

من بين الصخب ، نزّت صرخة شقت الضوضاء :
رجل ميت .. رجل ميت !!
توقف الفرح فجأة .. و التفت الجميع لـ حمود ابن الخباز ، مذيع أنباء القرية ..
أقول لكم .. هناك رجل ميت على مشارف البلدة ..
من هو ؟
لا أعرفه !!
مشى الجميع نحو المكان ، يقودهم حمود بوجه لم يخلُ من نشوة سبق الاكتشاف ..
هل يعرفه أحد ؟ سأل العمدة ..
كل الرؤوس اهتزت بالنفي .. و بعضها أبدت عدم اكتراثها ، و عادت لاستئناف الفرح ..
ربما كان عبدا آبقا من إحدى القرى .. هكذا قرر العمدة ، و أمر بأن يدفن في مكانه .
..اعترضت ثلة من الموجودين ، مطالبة بأن يصلى عليه و يدفن في مقبرة القرية ؛ لكن العمدة استفتى إمام المسجد فأفتاه بأن العبد الآبق لا يصلى عليه و لا يدفن مع المسلمين ، لأنه خالف ولي أمره .
انتشى العمدة لموافقة حكمهُ حكمَ الشرع ، ثم أخذ يحث الموجودين على العودة لإكمال الحفل .

* * *

استيقظت القرية على شعور يشبه الندم . الحناجر التي صدحت بالغناء طوال الليل ، تآكلت صمتا . تدلت الرؤوس على الصدور بحياء كثيف ، و كل الأعين تحاشت بعضها . البهجة إثم ينبغي أن لا يتكرر في مكان كهذا ، و ما كان من اللازم أن يبالغوا بالفرح لعودة قافلة !

أخذ الصمت يتكور ، يمتلئ بلزوجة الخطأ ، و الأنفس اللوامة . الدكاكين فتحت أبوابها دون كثير من الإزعاج لـ قلة ارتادوها قبل أن يغادروا على عجل . اكتفت الحيوانات بشيء من ثغاء و نباح و مواء ، و أصوات أخرى تتعثر بالصمت ..

صوت وحيد ، أخذ يتسلق جدران السكون ، يطرق الأبواب المغلقة على عارها .بدأ خافتا مبحوحا ، مكدسا بالرجاء و آثار نشيج طويل ، ،و انتهى بصياح فتح مصاريع النوافذ المظلمة . من خلف العتمة ، ومَضت الأعين مستنكرة ، و تركت في الدروب رائحة شرر قبل أن توصد النوافذ مرة أخرى .

ليال طويلة ، و الصوت لا يعبأ به أحد ، لكنه ما عاد يعبر الأزقة وحيدا ، صوت آخر مشبّع بالبكاء انضم إليه ، و أصبحا يوقظان الصبح مبكرا ؛ ينثران الدمع على عتبات البيوت ، و يستجديان إجابات لأسئلتهما .

* * *

ضائع في الغياب ..
غائب في الضياع ..
و مجنونان يبحثان عن ولد لهما ابتلعه ثقب حالك !

 

 
























التوقيع





شكراً لأختي الغالية " ضياء القمر " على تصميم توقيعي الرائع


   

رد مع اقتباس