الموضوع: من هون وهون
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-25-2010, 10:26 PM   رقم المشاركة : 107
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية أبوناهل
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 12
أبوناهل is on a distinguished road


 



أستاذي القدير : أبافارس
يبقى لكلماتك شذى يفوق طعم الشهد وبوارق الحلم
تبقى مميزاً في كل شيء ومحفزاً لكل شيء لاعدمتك .


---- 59 ----

لــذّة الـمــشــقــة
بقلم عقل العويط


يتأمل الكاتب المميز عقل العويط في شؤون وشجون الكتابة
كحالة وموقف وبوح مريح بل ومربح ويتناولها من زوايا منها :


***


الكتابة، أعني الكتابة الأدبية، هل هي لذةٌ أم مشقة؟
أنه سؤال تفكيكي مفتعل. بل مدرسيّ. يذكّرني بالأسئلة التي تُطرَح عادةً في الامتحانات، على تلامذة الأدب في المدارس الثانوية، أو حتى على طلاّب الجامعات المتخصصين في هذا المجال.
فلأعترف منذ البداية بأنه سؤال لا مكان له، فعلياً، في زمن العملية الكتابية نفسها. ففي اعتقادي أن لا أحد من الكتّاب يضع أمامه مثل هذا السؤال، وهو يجلس الى طاولة الكتابة. أتحدث حصراً عن نفسي، انطلاقاً من تجربة محض شخصية، وبدون أيّ اختزال لأحوال الكتّاب وهواجسهم المؤرقة خلال العملية ذاتها.

****
لذةٌ أم مشقة؟ هذا السؤال ليس مهماً البتة، عندي. فأنا في الكلّ، ولا أريد أن أقيم مفاضلةً بين الشقيقتين، العدوّتين، الصديقتين، الضرّتين. وأنا أيضاً، لا أريد أن أنحاز الى واحدة منهما، متجاهلاً الأخرى، رامياً إياها في المكان اللاأدبي، الأليم والمقفر.

****
لا مفاضلة ولا انحياز. لأني، إذا فعلتُ، أكون في الجزء. بل أكون خارج الصحن. خارج صحن الكتابة. كمَن يقول فقط إن الحياة مرّة وصعبة. أو العكس: حلوة وسهلة. كمَن يقول فقط إنه يحبّ الحياة. أو العكس: يكرهها. ذلك أن المسألة الكتابية، شأن الحياة، شأن الشغف، أكثر تعقيداً، وفي الآن نفسه أكثر بساطة. فهي كل شيء، معاً وفي آن واحد. أو هي لا شيء من ذلك، البتة. هكذا يكون الشخص المعني، أي الكاتب المفترَض، داخل المسألة، أو خارجها. داخل الكتابة أو خارجها.
ألفت الى أن المنطق يسري بالقوة نفسها على الحياة والشغف. فعندما أقول مثلاً: هذا الشخص هو داخل الحياة، أو خارجها، فأنا أعني ذلك تماماً، بما هي الحياة، بما هو الشغف، كجوهرين، مشتعل ومنطفئ، في الآن نفسه. كضربتَي نرد، ساطعة وتافهة، في الآن نفسه.

*****
لا حلول وسطاً في العملية الكتابية. لا أنصاف حلول، على طريقة "رِجل في البور ورِجل في الفلاحة". هنا رِجلٌ في بور اللذة، وهناك رِجلٌ في فلاحة المشقة. لا شيء من ذلك البتة. بل تورّطٌ كامل. مطلق. وإن الى حين.
عندما لا تكون المسألة الكتابية على هذا المنوال، وكذا يقال عن الحياة، والشغف، أي أنها عندما لا تنطلق من هذا المعيار – المعادلة - الكيمياء، وعندما، في مرحلة ما، لا تعود كذلك، فهي للتوّ تبطل أن تكون.
كان السؤال: الكتابة الأدبية، لذةٌ أم مشقة؟ من الممكن أن يكون السؤال: موهبةٌ أم تعلّم، فنٌّ أم علم؟ طبعٌ أم تطبّع؟ كما يمكنه أن يكون سوى ذلك، تماماً أو تقريباً. من مثل: هل يولد الكاتب كاتباً أم يصير؟
جوابي هو واحد بالنسبة الى الكتابة الخلاّقة والكاتب الخلاّق. إما كل شيء، وإما لا شيء البتة.
نادراً، ما يكون الجواب مختلفاً. نادراً، ما يكون في الضدّ من هذا المعيار – المعادلة - الكيمياء.
أقول نادراً، لأن هناك استثناءات "غير طبيعية"، لا يمكن التأسيس عليها لإعطاء أجوبة معيارية مضادة، ومقنعة.

***


ثمة محترفات أخرى في العالم، وربما هنا أيضاً، وعلى مقربة، تعكف على "تعليم" تقنيات الكتابة. حبّذا لو تُدرِج المناهج التعليمية، المدرسية والجامعية، هذه المهمة في صلب عملها، لتكون المؤسسة الأكاديمية جزءاً لا يتجزأ من عملية الخلق الأدبي والنقدي، لا محض مكان للتلقين والتدريس وحيازة الشهادات.
كنتُ قبل أشهر قليلة، قد أشرتُ في مقال لي، هنا ("الملحق" عدد 940) الى المحترفات التي "تعلّم" الكتابة الأدبية، هنا وفي العالم، مشدداً على أن هذه المحترفات لا يمكنها أن "تخلق" الكاتب.
مرةً ثانية أقول، هنا أيضاً، لا أحد يخلق أحداً.
هناك موهبةٌ ما، تنتظر، أو تنام، في كواليس الرأس الخلفية، لا أعرف ما هي، وليس لأحدٍ، في اعتقادي، يدٌ فيها.
ليس على صاحب الموهبة، سوى أن "ينتبه" الى شقاء موهبته هذه، المنتظرة أو النائمة.
نحن أيضاً، كتّاباً ومحترفين وناشرين، ليس علينا سوى أن نفتح الباب لهذه الموهبة الشقية، أو نوقظها من سبات البحيرة، لكي تصبح "خليقة"، وجسماً "يتخلق" بأخلاق الحبر، مواهبه، عطوره، وتقنياته.
هذا الفعل، فعل "الانتباه" الشقي، أو فعلُ فتحِ الباب، أو الإيقاظ، لا يمكنه أن يصنع "شيئاً عظيماً"، في ما بعد، بدون ذلك "الشيء العظيم جداً" الذي ينتظر أو ينام في كواليس الرأس الخلفية.
هذا "الانتباه" الذاتي، ما ألذّه، ما أطيبه، ما أهنأه، ما أسعده، ما أنبهه، ما أصعبه، وما أكثر شقاءه.
بل أكاد أقول: يا لشبه استحالته! إيماناً مني بأن الكتابة الأدبية الخلاّقة هي فعلٌ شبه مستحيل... يتحقق.
ثمة بالتأكيد، مَن يجعل هذا الفعل شبه المستحيل، فعلاً واقعياً. هنا وفي العالم.

***


الكتابة، أعني الكتابة الأدبية، هل هي لذةٌ أم مشقة؟ موهبةٌ أم تعلّم، فنّ أم علم؟ طبعٌ أم تطبّع؟ والكاتب، هل يولد الكاتب كاتباً أم يصير؟
مرةً ثانية أقول: خلال فعل الكتابة الأدبية، لا تعود هذه الأسئلة تعني الكاتب، لأنه يكون في عين العاصفة الخلاّقة، وتكون هي، أي الأسئلة، وراءه.
على كل حال، هناك حاجات ماسة في مدارسنا وجامعاتنا وأدبياتنا ومحترفاتنا الى الأسئلة، الى هذه الأسئلة وسواها.
وهناك حاجات ماسة، موازية، الى احتمالات الأجوبة، أسرارها وتقنياتها.
أقول "حاجات ماسة"، نعم. بل أكثر: كحاجة الموهبة الى أن تعبر الانتظارات والنوم. كحاجتي الى أن أخلق شخصاً ليس أنا. كحاجتي الى أن تخلقني الكتابة كما لم أُخلَق من قبل.
بل أكثر: كحاجة الكتابة الى أن تخلق الكتابة.

*********************

 

 
























التوقيع



   

رد مع اقتباس