ساحات وادي العلي

ساحات وادي العلي (http://www.sahat-wadialali.com/vb/index.php)
-   ساحة الأدب الفصيح (http://www.sahat-wadialali.com/vb/forumdisplay.php?f=87)
-   -   بين سماعتين (قصةقصيرة) (http://www.sahat-wadialali.com/vb/showthread.php?t=13096)

سعيد راشد 01-08-2011 08:44 PM

بين سماعتين (قصةقصيرة)
 


بين سماعتين

قصة قصيرة
للقاص :عبدالعزيز مشري* ( يرحمه الله)


رفع الطبيب كفه في الهواء موازياً لمستوى عينيه، كأنما يزيح موجاً هابطاً من الشعر عن وجهه. مشيراً للمريض بأن يفرد جسمه على مرتبة بيضاء، ترتفع قليلاً عن الأرض.
لمملم الرجل اطرافه المتراخية، وأخذ يقيم ظهره الثابت فوق عجيزة بدأ أنها عانت طويلاً من تحمل الجسم الذي أفرد في الحرارة والعرق.. ثم رمى بسعلتين قصيرتين في قبضة يمينه، خلع نعليه، وانحنى ليجرد جوربين خمل مطاطهما ، وصعد على الأريكة البيضاء .

كان الطبيب قد وضع قلمه على دفتر عريض الصفحات فوق طاولته، وتأكد من سماعة الكشف التي تدلت من جانبي الرقبة لتلتقيا بتدليهما على الصدر كخطام بعير، ونهض، لم يكن المريض في وضع يليق بالتعرف على محتويات الغرفة المرطبة بهواء المكيف المركزي، الذي عجز عن مغالبة الحرارة المتعاضدة بالعرق.. غير أن المريض المستلقي بعمامته الحمراء وعقاله المبتسم، أدرك بأذ نيه أن الطبيب يقف إلى جانبه وحينما التفت رآه يدخل ملزمتي السماعة في فجوتي أذنيه، وقال : افتح أزرار ثوبك.

كان الأمر الجاف الذي اندلق كماء ساخن على سمع المريض يدفع بيدين مرتعشتين إلى أول أزرار الثوب على العنق ويفكه بتراخ جعل الطبيب ينفخ نفساً طويلاً ، وجاء رنين قوي من جرس الهاتف مرة ومرتين، وفي الثالثة استدار الطبيب وعمد إلى موقع الهاتف على الطاولة، وكأنما ينتزع شيئاً ثقيلاً .. رفع سماعة الهاتف:
آلو .. نعم ، أهلاً ، أهلاً .. حياك الله ، لا .. ولا يهمك ، أنا البارحة انتظرتك لكنك تأخرت .. قل لي بكم كانت البيعة، إن شاء الله تكون أحسن من بيعة الأرض الأولة ؟ .

نعم سحب السماعة من على رقبته، بعد أن نزعها من أذنيه وقتما شد السماعة كما يشد طفل عاص من أذنه، وشرع يتكلم مع محدثه بكثير من الضحكات المختلطة بـ لا .. يا شيخ و أفا و يا سلام وبعدد لا يحصى من الله يسلمك وبارك الله فيك يا بو علي .

أحس المريض أن صدره المكشوف برغم حرارته، يصطدم ببرودة تأتي من كل الجهات، فآثر أن يجمع فتحة الصدر من ثوبه.. لكنه أرجأ الحركة لتوقع موقن بمجيء الطبيب .

سمع عجلات الكرسي المتحرك، فعرف ان الطبيب اقتعده، وأن المكالمة ستطول.. فعدل من استلقائيته، وجذب ساقيه إلى فخذيه ، فبدتا مرتكزتين إلى الركبتين، وأهمل يديه على صدره ثم قذف سعلة واحدة قوية وطويلة، وتحفز لمجيء الطبيب .

كان الطبيب، كما جاء في صرير المقعد.. يدور يمنة ويسرة، وجاء الفرج بأن صوت الارتطام الذي احدثته السماعة على الجهاز قد ارتطم أيضاً بأذني المريض .

قليل من الوقت كان يمضيه الطبيب مع مفكرة صغيرة، ذهبت أصابعه الدقيقة بين أوراقها الملونة .. ثم نهض وجاء إلى المريض :

قلت لي ، عندك حرارة مرتفعة في الليل وأنفاسك متقطعة ، طيب .. خليني أشوف صدرك . كان يبدو على المريض تحمل واضح ، من أن له سابق تجربة طويلة، وقال :

أرجوك يا دكتور ، شف لي حل .. صدري وأسفل ظهري، وحرارة مثل النار تسري بكل جسمي

علق الطبيب سماعة الكشف من طرفيها بمثاقب أذنيه، ووضع طرفها على صدره ، وكالمعهود أمره :

قول آه .

وكذلك أجلسه، ووضع خرطومها ظهرها.. طالباً منه نفساً عميقاً متكرراً، ثم أ فلت طرفي السماعة من أذنيه على الرقبة ودون أدنى مقاومة، كان يصطدم بقوائم الطاولة ملبياً جرس الهاتف :

هلا أبو علي .. إيش تم في الموضوع ؟

لم تسلم النصف ساعة التي فاضت به الآه والإيه من قهقهات اخترقت باب الغرفة إلى الدهليز المرصوص بمقاعد المنتظرين .

كان المريض قد رغب في لبس جوربيه والنهوض لسؤال يريد له جواباً من الطبيب ، عما إذا كان هناك ورقة عليها نوعاً من الدواء، يصلح للحرارة والسعلة والإسهال وإبادة الصراصير.
_____________

* عبد العزيز المشري(يرحمه الله) :
الاسم : عبدالعزيز بن صالح بن محمد مشري
مكان الولادة وتاريخها : ولد في قرية محضرة بمنطقة الباحة عام 1374هـ

نبذه مختصرة عن سيرته الإبداعية:
تفرغ للقراءة الذاتية والرسم والكتابة الإبداعية مبكرا ، وحيث أعاقته ظروفه الصحية عن استكمال دراسته أو الانتظام في عمل وظيفي.
ـ تميز بغزارة الإنتاج وتنوع الاهتمامات إذ صدرت له الأعمال التالية:
1ـ باقة من أدب العرب ( مختارات تأسيسية من نصوص التراث العربي )
2ـ المجموعات القصصية التالية : ( موت على الماء ـ أسفار السروي ـ بوح السنابل ـ الزهور تبحث عن آنية ـ أحوال الديار ـ جاردينيا تتثاءب في النافذة )
3ـ الروايات التالية : ( الوسمية ـ الغيوم ومنابت الشجر ـ ريح الكادي ـ الحصون ـ في عشق حتى ـ صالحة )
4ـ " مكاشفات السيف والوردة " كتاب يضم سيرته الإبداعية والثقافية.
5ـ مخطوطات :
أ ـ المغزول ـ رواية .
ب ـ القصة القصيرة في المملكة ـ دراساته وتأملاته فيها.
6ـ عدد من اللوحات الزيتية والرسومات والمخطوطة بالحبر .
ـ شارك في تحرير الملحق الدبي لجريدة المربد من عام 75 ـ 85م .
ـ كتب في كافة الصحف السعودية .

مرضه:
ـ أصيب بمرض السكري وأدت مضاعفات هذا المرض وعلاجه مع مرور الزمن إلى تأثير على البصر واختلال في التوازن والمشي والفشل الكلوي مما اضطره للغسيل عن طريق ( الديلزة ) ، وكذلك تعرضه لضغط الدم.
ـ زرعت له عملية كلى عام 1993م بجدة وقد تمت العملية بنجاح مما ساعده على السطوع مرة أخرى ، إلا أن ( الغرغرينا ) راحت تأكل أطرافه فبترت إصبع من يده اليسرى ثم بترت قدمه اليمنى وبترت الساق اليسرى كاملة.

وفاته:
ـ توفي رحمة الله عليه بمشفى الملك فهد بجدة يوم الأحد عند الساعة السادسة إلا ربعا مساءً بتاريخ 7/5/2000م بحضور أخيه أحمد مشري وصديقه سعد الدوسري ، ووري جثمانه في مقبرة الفيصلية بجدة.

منقول
يرحم الله الكاتب القاص المبدع عبد العزيز مشري رحمة الأبرار.

يمكن للجميع المشاركة هنا بنقل بعض الإنتاج الأدبي المنوّع لعبدالعزيز مشري .




فراشة وادي العلي 01-09-2011 07:28 AM

http://sahat-wadialali.com/vb/upload...1294543080.bmp

سعيد راشد 01-09-2011 08:13 PM



فراشة وادي العلي

شكرًا على الحضور، دام لك السرور.

نزهة المشتاق 01-12-2011 12:55 AM

رحم الله المشري
سيبقى إبداعه خالداً مابقي الشرفاء يتناقلونه في كل محفل
ويتدارسونه

يعطيك ألف عافية أستاذ سعيد على جمال الوفاء
بنقل قصة من جماليات عبدالعزيز مشري رحمة الله عليه
ورد وود وتحايا طيبة

سعيد راشد 01-22-2011 02:13 PM



نزهة المشتاق


الإنتاج الأدبي الراقي يفرض نفسه على الذوّاقة،
ولذا سيبقى اسم عبدالعزيز مشري عنوان التميز والإبداع،
وتأكدت أخيرًا من ميلك الأدبي لما يُطرح بساحة الأدب،
وكنت أتوقع أن تدبّج مشاركتك بشيء من إنتاج المشري كإضافة.

على كلٍ يمكنك أن تشارك في موضوعي هذا ببعض إبداعاته الأدبية.

دمت بود ولك الورد.

http://sahat-wadialali.com/vb/upload...1293988027.jpg

http://sahat-wadialali.com/vb/upload...1287680346.gif




نايف بن عوضه 01-22-2011 08:40 PM


احسنت الاختيار لهذا الموضوع ولهذه الشخصيه العلم رحمه الله واسكنه فسيح جناته 0 فقد كان ذو اراده وقد تجلى في ابداعه في مرضه جزاك الله خير في تذكيرنا به 00

سعيد راشد 02-28-2011 11:36 AM

[read]
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نايف بن عوضه (المشاركة 126925)

احسنت الاختيار لهذا الموضوع ولهذه الشخصيه العلم رحمه الله واسكنه فسيح جناته 0 فقد كان ذو اراده وقد تجلى في ابداعه في مرضه جزاك الله خير في تذكيرنا به 00


شكرًا أبا صالح على مرورك، وإضافتك المدعومة بالدعاء الطيّب لعبدالعزبز بن مشري.
رحمه الله وغفر له وجزاه الله خيرًا على ما قدمه لأدبنا العربي.

لك أطيب سلام ، وأزكى احترام.
[/read]

طارق بن سعيد آل شويل 03-02-2011 01:46 AM

قصة ، من : عبدالعزيز مشري

الطريق المتثني على حافة الوادي وصخور الجبل.. يحلم في أحشائه المدهوكة بالحجارة والتراب وبصمات أظلاف المواشي مع بقايا تتسلق الأنوف من الروث .. تحمل صبياً يبعثر خطواته ، فتصطك قدماه بكل قوامها في النعلين البلاستيكيتين ؛ بالحجارة الصغيرة، ويربض بشراسة غبار التراب على الأصابع .
انحنى الصبي الماضي في الطريق فالتقط حجراً بحجم القبضة ، وقذف به المنحدر.. فطار طائر صغير نحو الفرار، وتسرب حلم جميل مع الجناحين الهاربين .
أما ذلك القماش الملفوف كالذراع الطرية في يد؛ فقد نالته مع هزة البدن وقت إذ رمى بالحجر؛ هزة أطاحته في القريب ، حيث انحنى جذع الصبي مرة أخرى على قيد فينة، فالتقط القماش، وكان بلون يفيح في القلب الصغير سروراً، ويقابل اخضرار الشجر والأحلام والحلوى المغلفة وعيون القطط في الظلام.
العيد على مرمى أيام قليلة ، وفرحة الصبي لا تليق بدون ثوب جديد، والأب اشترى هنداستين من البز الأخضر الذي يصلح لحركة البدن الصغير بين نزو الأنف على الكم ، وحبر قلم الجيب على الصدر .
وحيث إذ تلمس الصبي ريالين هامدين في جيب الصدر، من يد الأب .. نقلته النشوة المجنحة إلى العم أبو صالح خياط القرية من أقصاها إلى أقصاها .
عندما ولج الصبي من باب الدار .. مد بلفافة القماش ، وفرط ريالين مرهقين من كثر التداول، وقال:
قبل العيد .. يا عم
ابشر يا ولدي .. وسأل عن أبيه .
كان العم أبو صالح يؤرجح موطئ قدميه فوق لوح حديدي كبير الفتاح، يدير عجلة تهرهر بسير يلزم عجلة لماعة من عنقها .. تلمسها أصابع اليد اليمنى فتتناسق مع ضغط القدمين المتأرجحتين، وتذهب عيناه بين مكان الإبرة، وموضع السيجارة الرابضة في المنفضة الملزقة على خشب طاولة مكنة الخياطة .
نظر الصبي إلى المقص الكبير الأبيض بممسكيه الأسودين .. يخشخش في القماش الذي نال قياساته السريعة، وتمنى لو أنه يملك مثله ولو ساعة من نهار .
وألقى نظره مراراً إلى وجه العم أبو صالح ، وهو ينفض رذاذاً خفيفاً من بين شدقيه، ويخرج كلمات ثقيلة ومدعوكة برائحة السجائر، وقال كلاماً اعتيادياً عن العمر والمدرسة وأحوال الأب، وسأل :
قل لي .. إنت رجال ، وإلا رجرجة ؟
احتار الصبي كيف يجيب ، واستحي، وبالغ في التردد، وحار في الاختيار ، فالرجال مقصد ما يريده كل صبي أن يكون، والرجرجة ربما كانت بقايا خوضة اللبن إن كان على ما يعتقد ورد :
أنا رجال
بارك الله .. بارك الله .
دعا العم الخياط زوجته .. فجاءه صوتها الملبي من الداخل، وطلب منها شيئاً لم يبن للصبي إلا بعد أن قبض عليه في يده الصغيرة، ومضى يدخل خطواته في أمعاء الطريقة التي جاء منها، ويقذف بنوى التمرات المعدودات التي نالها دون توقع من زوجة العم أبو صالح الخياط . كان العيد يزحف بجناحين أخضرين، وكانت فرحة الثوب الجديد تتأهب لتعقد أياماً في صدر الصبي.. أما ما عدا هذا فلتذهب الجبال الثقيلة بما حملت .


الاستاذ سعيد راشد
دمت بصحه و عافية

طارق بن سعيد آل شويل 03-02-2011 01:49 AM

( لقد ولدت – قبل أن أكون كاتباً – مسلماً وتربيت في بيت ومجتمع قروي مسلم وأموت مسلماً انكح مسلماً وأذري مسلماً )
عبدالعزيز مشري .

طارق بن سعيد آل شويل 03-02-2011 01:50 AM

يقول عنه الشيخ مسفر الدميني :
"مع أنني أكبر منه بأربع سنوات إلا أن معرفتي (بعبد العزيز مشري) قديمة منذ أيام الدراسة الابتدائية ، فقد كنتُ أذهب إليه في غرفته فلا أجده إلا وهو يقرأ في كتاب فقد كان نهم القراءة ، وأول مرة أُشاهد (مجلة العربي) كانت معه ، وكان سعرها في ذلك الوقت ريالان ولم يكن بالسعر الهين وكان ذلك في حدود عام 1386هـ .

ومن الطرائف أنه في أحد الجلسات قال لي خذ هذا الكتاب ففيه نصائح لمرضى السكر واقرأ الصفحة الأخيرة
فوجدت أن مؤلف الكتاب من ضمن نصائحه يقول : أن مرضى السكر أُناس عصبيي المزاج ، فقال لي عبد العزيز : لازم تاخذ في بالك إنك ما تزعل مني لما أعصب أو أتكلم عليك فاهم ".

ثم يواصل الشيخ مسفر الدميني قائلاً :
"واستمرت علاقتي به حتى بعد أن التحقت بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض مع أنه بقي في الباحة ، وفي تلك الفترة أهديته عدد من الكتب وإذا كانت مكتبته باقية على حالها فلا بد أنها موجودة من ضمن موجوداته ، وبالمثل أهداني عدد من الكتب مثل كتاب (جواهر تاريخ الأحقاف) .

واستمرت العلاقة معه حتى عام 1390هـ حيث ذهبت في الصيف لمدينة جدة للعمل في جامعة الملك عبدالعزيز في فهرسة مخطوطات مكتبة الحرم ، وكان معي الأستاذ علي الدميني حيث كان يعمل في أحدى الشركات فاستأجرنا غرفة في حي الشرفية ؛ ولحق بنا عبد العزيز مشري وسكنا نحن الثلاثة معاً ، وكنا في أوقات كثيرة نذهب للبحر بصحبة صالح بن علي بن متعب .

طارق بن سعيد آل شويل 03-02-2011 01:51 AM

قصة أول مؤلف له :
كان أول مؤلف له بعنوان (باقة من تاريخ أدب العرب ( وهو عبارة عن مختارات من قراءاته في كتب التراث العربي ؛ وهذا المؤلف هو أول كتاب قام بنشره ، وقد قام بمقابلة أمير منطقة الباحة في تلك الفترة الأمير سعود السديري ــ رحمه الله ــ حتى يقوم بمساعدته بطباعة الكتاب ، فوافق على ذلك ، وقد نُصح ــ عبد العزيز مشري ــ ألا يقوم بطباعة الكتاب وكان غرض الناصح أن يؤجل الطبع حتى يكون هناك كتاب من نتاجه الشخصي لا مجرد نقولات ؛ ولكن عبد العزيز مشري رفض حتى مجرد مناقشة الفكرة ، فقد كان همه أن يخرج له كتاب باسمه ، وهذه تُحسب له ــ رحمه الله ــ فشخص بمثل صغر سنه في تلك الفترة ويكون هذا اهتمامه فمن النوادر .

طارق بن سعيد آل شويل 03-02-2011 01:54 AM

الزهور تبحث عن آنيـة


بقلم: عبدالعزيز مشري

يا للحب.. يا للعذاب .. يا للخجل
قل لنفسك الآن :
أين تضع هذه الزهور المخنوقة داخل هذه اللفافات الورقية؟
قل لي بصدقك .. من أين تأتي لها بآنية ؟ إنها سوف تمرض وتموت، وإلا فانقذها . قلت للممرضة ياسيستر لو سمحت.. هل لديك آنية تصلح لهذه الزهور ؟

يبدو أنها لم تفهم من أنجليزيتي المكسرة .. توقفت برهة ثم نفخت :

أوه .. زهور جميلة .. لحظة .

عادت بعد أن خرجت من الغرفة المزدحمة بأربعة أسرة (كلها بمرضاها، كنت أنا الخامس) خرجت لا أدري إلى أين ، ولكنها عادت ومعها إناء بلاستيكي معوج وله قاعدة تشك في أنها تصلح للثبات، اعتقد أنها ستطلب مني بولاً للتحليل كالعادة.. آسف لا يوجد غيره ، لكن يصلح للزهور ، لقد ملأته بالماء النقي .

بالطبع ، قالت :

شكراً، وذهبت تقص سيقان الزهور عن أسفلها وتقحمها بلا عناية في الإناء الخبيث .

لا عليك أيتها الزهور .. كم في السجن من مظاليم ..

كنت أتمدد على طولي فوق السرير حاشراً انفي في هواء الغرفة المختلط بأنات المريض المقابل(يقول الأطباء.. إن حالته ليست في وضع سيء ، وأن الأنات التي لا يريح بها نفسه ولا الجيران، ما هي إلا وهم تنامت عادته ليلاً ونهاراً) .

أما ظهري فكان قد يبس كالخشبة.. فكل ثقلي كان يربض على فقراته.

فمنذ خمسة أيام وفي يدي أنبوب طويل يمنع كلي من الحركة يميناً أو يساراً .

لم أكن لآبه بكثير من المضايقات أمام الممرض الذي وقف كالشوكة في حلقي .. صباحاً ومساء، وكأنه قد وظف لعذابي فقط .

في الصباح الباكر جداً يأتي بعربية ويطلب مني الذهاب معه إلى الحمام ليغسلني من رأسي إلى قدمي، بحذائي وسراويلي.. يقول لا زم النزافة .. ده مستشفه .

طبعاً تأكد لي من لهجته .. أنه من مصر ، ولكن – مع احترامي لمهنته – فإن هيئة صلعته، وأسلوبه في عمله، يوحيان لي بأن له سابق خبرة بـ الجزارة والله أعلم .

يظنون .. إني أرى عندما أبحلق بعيني المجردتين من نظارتيهما ..

يقول لي جاري الملاصق لسريري في كل ربع ساعة على الأقل عبد العزيز .. يا خوك وأراك ما نمنت لها لحين؟

أرد عليه بشفة ملوية العنق :

بارك الله فيك يا بوسالم.. بانام إن شاء الله .

يقول بلهجة بدوية خالصة :

يا خوك ، لا تتفكر في النما .

عرفت منه أنه يعني الأطفال، فقد كذبت عليه، وقلت إن لدي طفلين .. أكبرهما – عادل ثلاث سنوات، وكان يدعوني مراراً بـ أبو عادل يا مصيبتي لو دعاني بها أمام أحد أصدقائي من الزوار .

حكي لي بغير مناسبة قصة حياته .. قال : تزوجت بمئتي بارة ، وقال : زوجتي أكبر مني باثنتي عشرة سنة، وأنجبت لي ثلاثة أولاد.. أكبرهم في البحرية برتبة ضابط، والثاني في شركة أرامكو، والثالث طالب في جامعة العلوم (ولا أدري أي علوم) .

قال : إن نفسه نهقة أبو زيد منذ اعوام طويلة، ويرغب في الزواج.

قال : إنه شاب، ولو أن عمره يتجاوز الخمسين (كنت أسمع لأسنانه الصناعية قرضاً كقرض الفأر في الليل.. بعد أن نهج جميعاً في الغرفة ، وكل يوم يقرر الطبيب الذي يدعوه الدختور بتأخيره يوماً آخر .. نظراً لظهور السكر المرتفع في تحاليل المختبر – اعتقد لأنه يأكل أشياء محظورة في الليل) .

لقد كان يتهم الدختور والمستشفى بالغفل والبلادة. فهم كما يقول يتعلمون ويقررون فيه بلاء السكر!

يقول، وهو يستوي جالساً متربعاً كأنه على باب خيمة، وأمامه كرقاب الإبل نار تشتعل يا عبد العزيز .. الدنيا ما ريحتني ويعود بعد شيء من الشكوى، يحمد الله الذي هداه فاشترى أرضاً كبيرة على طريق الميناء وبنى عليها ثلاث فلل عام ثلاثة وسبعين (كنت أظنها بالتاريخ الميلادي عدة أيام فصححها لي) .

قال إنه كان يملك عبداً وعبده (أي زوجها) فهرب العبد، وبقيت العبدة ومعها ثلاثة أطفال.. جاء يوم فباعها لكنها خرجت أمام الجيران، ودعت الله أن يشتت شمله، لأنه فرقها عن أولادها.. قالت الناس، هذا حرام. يتمتها من أولادها، فرد الثمن وأعادها .. قال إنه باعها هي وأولادها بعد تردد طويل، واشترى بالثمن غنماً، فجاء الخير، وانتشرت البركة، وباع واشترى في الغنم حتى صار مالكاً فحلاً .

كنت أحاول مراعاة انفعالاته في سرده لقطيع الأحداث، فأومىء برأسي، وأفعل مثل قعدته، وأردد :

عجيب ، يا سلام الله أكبر وهكذا .

بعد أن فرغت من عذاب الممرض المصري ذاك الصباح .. دخل الغرفة شيخ كبير اللحية نقيها، وكان يهمهم بكلام لم يتبين منه شيء لكنني تبين أنه من أهل المنطقة ، قال لي بوضوح أخيراً :

قالوا لي .. خبز ما تأكل .. جام ما تأكل .. عسل ما تأكل .. طيب وش تأكل ؟

قلت له وكأن الأمر يهمني .

طول بالك يا حجي .. كله لأجل مصلحتك .

فجأة قلب الموضوع ، وحوله بعيداً.. قال :

عمري ضاع ، وأنا أراجع الدوائر والمحاكم .. أدور أرضي أو قرض .. ويا ليتني حظيت بشيء.. أطفالي مشردون، ما عندي سكن، ولا راتب ، ولا زوجة .. حتى الماء مقطوع في حارتنا .

وفجأة أخرى قلب الموضوع الذي كان يتحدث عنه، قال عندك ورقة وقلم ؟

قلت ، نطلب الممرضة (وكنت أخاف أن يطلب مني شيئاً أكتبه له فأقول إنني لا أرى الخط، فلن يصدق.. سيقول أنه يهزأ مني أو يتهرب) .

لكنه جال بنظرة غامضة كل الأسرة في الغرفة، ثم استدار وخرج . الزهور لا تزال في تلك الآنيـة، ولا تزال على ما اعتقد أنها تتوجع، لا تزال تنتظر ماءً جديداً أو عناية ملائمة .

في الممر الطويل .. كان هناك جرس الهاتف يرن ، ويرن .. لم ترفع سماعته يد ، أما الممرضات فكن في صخب لغة غير مفهومة على الإطلاق.. وكنت أترك كل ثقلي على ظهري المنكسر و أغفو .

طارق بن سعيد آل شويل 03-02-2011 01:55 AM

نوادر أبو سالم مع الحيوان: القطـة
بقلم : عبدالعزيز مشري


لم يكن السبب الذي جعل من هدوء أول الليل، وتهيؤ كبير العائلة وصغيرها، للعشاء المنتظر، جديراً بحاصل ما حصل .
فها إن أبو سالم يدفئ يديه المطهرتين بماء الوضوء.. على خفوت النار المتهالكة أمام قعدة جسده الملموم كالقبضة، وإلى جانبيه : الزوجة التي هتكت طاقتها منذ صلاة العصر، تعجن في قدر متوسط أسود.. الطحين والماء والملح ، وتسوط بهراوة قصيرة عصيدة الذرة .

وثلاثة أولاد ، أثنان بزوجتيهما، وكلاهما ينتظران مولوداً ، وبنت في التاسعة .

كانت قطة رمادية هزيلة كالخرقة .. تموء، وتلف بمكان الجمع، وحيناً تهرهر، وتمسح برأسها .. ثم بذيلها على ركبة القاعد .. نهرتها زوجة الأبن الكبير :

هيا انقلعي .. ما تشبعين يا مسعورة ؟!

نظر أبو سالم : إليها مؤنباً بنظرته الرخوة :

لا .. لا ، رزقها من رزقنا .

أمتدت يد سالم إلى ذيلها وجذبها كأنما يشد دلواً فارغاً، فتشبثت القطة بركبة أخيه، وغرزت مخالبها الأمامية ، فصعق من الوجع .

حينمـا فزعـت القطـة.. كانت تلقي بخوفها وهشاشة عودها حيثما التجأت .. في صحن العصيدة والمرقة تنضح ببخار حارق، وتندلق .. وحيث أن أبو سالم قد هذب لقمة أولية ، وحفف أطرافها ، وجعل حفرتها على هيئة فنجان القهوة الصغير، ولم يهيأ لها أن تغمس في المرقة.. هزها بين أصابعه، وقذف بها، فجاءت دون عمد في وجه زوجة الابن الصغير، وكانت هي الأخرى، تجهز لقمتها، وظنت أن القذيفة اللينة تلك .. جاءت من يد الزوج، ولسبب ما دحرجت لقمتها أمام يدها ، فوقعت مع الغضب في جبين سالم .

قال الناس :

عيال أبو سالم تحاذفوا العصيدة .

الله يكثر العيش غداً ينتقم منهم رب الأرزاق .

تحفرها أصغر الثيران ، وتطيح فيها أكبر الثيران .

الله لا يضلنا العقل نعمة .. حسدوا القطة .. فأكلت حتى انتفخت .

كانت القطط تحوم في المناسبات حول دار أبو سالم ثم تنصب آذانها، وتجري كالريح، فبعد ضحية عيد الحج، جلس أبو سالم يقطع اللحم إلى فتافيت صغيرة ، تحفظ مع الملح والبهار الأسود، بعد طبخها ادماً لليالي الآتيات، إذ امتد رأس القطة فاجتز سالم أنفها بحد السكني، وقذف بها إلى الساحة.

طارق بن سعيد آل شويل 03-02-2011 01:57 AM

نوادر أبو سالم مع الحيوان: العنـز

بقلم : عبدالعزيز مشري

للشاعر في القرى مقام المحسود، وله الموضع المذكور عند الصبايا ، وله مناعة القول، وله في شدة المناسبات حكم الفصل وطاعة القاضي.. فلم لا يكون أبو سالم شاعراً ؟
ولم لا يفرط في هذه الأمنية بين يدي الجماعة بين حين وحين ؟

قالوا، نتسلى بإيهامه .

وقالوا علها تصيب، وعلها تخيب، فإن صابت فما أسهلها علينا ن وإن خابت فما أصعبها عليه.

أشاروا عليه ، أن شياطين الشعر لا تأتي كل من يرغبها .. لكنها قد تجيء لمن يطارح وحدته معها في الليل بقفر بعيد عن المساكن، على أن يذبح لها عنـزة ، يمرغ دعوتها بدمها .. يخلع جميع ملابسه ويقعد إلى جانبها .. عاريا كما خلقه الله .

تناطحت الظنون بخاطر أبو سالم ، ووازن بين الرغبة والمخاطرة ، وكان الخوف من جن الليالي المغدرة ، ينمو مع كل الأهالي منذ الطفولة، وكذا نما مع أبو سالم إلى جانب عشقه للشاعرية .

غيرة أنه عزم ، وكان إذا عزم قبض على دلدول لحيته ، وجذبها بعنف بسيط حتى تنجذب انفرادة الشفة السفلى .

فاختار عنزة سوداء من بين القطع ، وأركبها كتفيه، فتدلت أطرافها عن اليمين، وعن الشمال، وبدأ رأسها بقرنيه وأذنيه الهاطلتين كالخرق الخاملة .

وعلى حين نوم الناس بعد صلاة العشاء، وهب قدميه للفيافي البعيدة التي لا يحدها سوى شبح الجبال في الظلام .

أنزل العنـزة عن كتفيه على مهل ، وكأنه يسكب سمناً من القربة، لكن هدوء انسيال السمن في القرب، ليس كالزمامير النافرة من لسان العنـزة وسط الفيافي في الليل .

شحذ سكينه على حافة صخرة بارزة، وفرك بحدها رقبة العنـزة فخرخر الدم، وتدافعت أطرافها الأربع في الفضاء الرحب طويلاً .

لم يفصل الرأس عن الجسد؛ حتى استوى منتصباً كالجذع، وخلع ملابسه واحدة بعد واحدة، .. ثم قعد متكئاً إلى الصخرة منتظراً شياطين الشعر حتى الصباح .

علم الأهلون أن الغداء على ذبيحة عند أبو سالم وقالت زوجته، أنه جاء بها مذبوحة، وتعب في سلخ جلدها الذي برد على لحمها في الليل، وأن الحمى تهز أوصاله .

وكان أبو سالم يمضغ قطعة متجلدة من لحم العنـز، يبتلعه كما الحنظل في صمت جارح لا يعرف معناه إلا هو .


الساعة الآن 02:11 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir