يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

اهداءات ساحات وادي العلي







العودة   ساحات وادي العلي > ساحات الموروث والشعر والأدب > ساحة الموروث وشعر المنطقة الجنوبية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
المشاركة السابقة   المشاركة التالية
قديم 05-29-2010, 05:58 PM   رقم المشاركة : 1
ملحمة غامد الهيلا للشاعر الكبير مسفر الصفا / ودراسة نقدية للدكتور محمد بن سعد الغامدي


 


الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله اما بعد::

•فان شُعراء المَبنَى مُجِيدي الوزن والقافية مُتَّخِذِي الشعر مقصوداً وغاية هم كثير, ولذلك يأتي كثيرٌ من شِعْرهم فارغاً أو شِبْهِه, لأنهم يُطَوِّعُون المعنى للمبنى لا العكس, خاصةً إذا طال عليهم الطريق أو ضاق, كما لو (شاب المقراع) أو كان موضوع القصيدة ضيقاً أصلاً أو كانت بضاعة أحدهم قليلة أو نحو ذلك, ولهذا فقد تجد قصيدة أحدهم محتوية على معانٍ لم يكن يقصد منها قبل إنشائه للقصيدة إلا معْنَى بيتٍ أو بيتين, وأما المعاني الباقية فتجده التقطها مما وجده على طَرِيقِهِ وهو يسير, مما جاء على لسانه ! وهم لم يتشاعروا إلا لِيَبْرُزوا, ظناً منهم أن المكانة والقدر يكونان في الشِّعر, وما علموا أنَّ كون الإنسان شاعر لا يرفعه ولا يخفضه, وأن صفة الشِّعر لوحدها ليست محلاً للمدح ولا للذم, وأنَّ الشِّعْر هو كلام عادي حسنه حسن وقبيحه قبيح, بل قد تكون هذه الصفة سبب انحطاطه لو احتوى شعره على ما لا يليق, وإنما يرفع قدره ويعلي مكانته ما يُقال في الشِّعر من المعاني الصالحة وما يَتَضَمَّنه من الفوائد, ولكن شعراء المعنى - إضافةً إلى حبكهم للمبنى - هم قليل, الذين لا يعدو الشعر عندهم كونه وسيلةً لما يريدون التعبير عنه من المعاني حتى يكون لها وَقْعُها وتأثيرها ولهذا تأتي أشعارهم ملئة وثقيلة, فالشعر عندهم كالماعون للعسل أو اللبن المُرَاد إيصاله للناس, فالغاية هي ما في الوعاء وهو العسل وأما الوعاء فلا يعدو كونه وسيلة, والمقصود بالمعنى الموصوف به القسم الثاني من الشعراء هو المعنى الراقي كإِيراد الحِكَمِ, والأمثال الجميلة, والدعوة إلى الفضائل, والتنفير من الرذائل, وذِكْر العِبَر, مع الجزالة, والانتقاء, وصِحة الدليل, وحُسْن التعليل, وغيرها, ومع اتصافهم بالصدق, والأدب, والتواضع, والكلام عن علم, وحساب العواقب, ونحو ذلك, ولا يَطْرقون غير المواضيع الحسَنة .. وشاعرنا في هذه القصيدة قد جمع كثيراً من هذه الصفات الحميدة, فَصَحَّ لسانه ولا فَضّ الله فاه.

• موضوع هذه القصيدة - وهو الدفاع عن القبيلة وبيان مفاخرها - من أخطر المواضيع التي يتطرق إليها الناس, خاصةً الشعراء, وذلك لِحَسَاسِيَّتِه وكثرة مَزَلَّات الأقْدام فيه, وذلك لِمَا قد يحصل فيه من التعارض مع الرابطة الدينية والأُخُوَّة الإسلامية كما هو الحال - على سبيل المثال - في الحركة القومية, ولِمَا قد يسببه من إثارة الفتن والعَداوات والنَّعَرات كما هو الحال في العصبية القبلية, ولا تكاد تجد مَن طَرَقَ هذا الموضوع من الشعراء قديما وحديثاً إلا وقد وَقَعَ في شيء من تلك المحاذير, لكنَّ هذا الشاعر الموفق باذن الله - فيما ظَهَرَ لي - كان حاذقاً ومتنبهاً أثناء خَوْضِه غِمار هذه اللُّجَّة . وبما أن الكلام في هذه القصيدة جادٌّ ويتناول مواضيعاً اجتماعية بالغة الأهمية فلا بأس أنْ بسطتُ الكلام قليلاً في بيان ما قدَّمتُ من الخطورة ومَزَلات الأقْدَام, فأما القومية العربية فلن أتعرض لها لبعدها عنَّا ولأن المسلم لا يقع فيها ورغبةً في عدم الإطالة, وأما العصبية القبلية فأقول : كان بالناس في الجاهلية قبل أن ينقذهم الله بالإسلام من الشقاء والضلال والظلم والهضم ما لا يعلم حَدَّه إلا الله, ومن ذلك ما كان يحصل بينهم من كثرة التقاتل والتغالب خاصة على مستوى القبائل في الجزيرة العربية, وفي كثير من الأحيان كانت تحصل بينهم الحروب بسبب أمور تافهة لا تساوي شيئاً مما ينتج عن تلك الحروب من إراقة الدماء, واستباحة الأعراض والديار, ونَهْب الأموال وفقدان الأمن .. وكان السبب الرئيس لتلك المآسي هو التعصب للقبيلة والحمية الجاهلية والمجاراة العمياء لهم في حال الصواب أو الخطأ كما قال شاعرهم أخو هوازن :
وهل أنا إلا من غزيَّة إن غوت *** غويت وإن ترشد غزيَّة أرشد .
ومن مظاهر العصبية: "الحَمِيَّة الجاهلية", وهي الأَنَفَة والغَيْرة والغضب لعادات القبيلة وأعرافها, وهي من خلق أهل الجاهلية. ومن مظاهرها أيضاً "النعرة"، وهي الصياح ومناداة القوم بشعارهم طلبًا للغوث والاستعانة، أو لإهاجتهم في الحرب. ولَمَّا كان العرب أصحاب حِس مرهف، وعاطفة ذات حساسية شديدة؛ فقد لعبت النعرات فيهم دورًا خطيرًا في إثارة الفتن بينهم، وكانت سببًا لحدوث حوادث مؤسفة في العرب وخاصة عند القبائل . وتلزم العصبية وإجابة الصارخ بالعصبية جميع أبناء القبيلة، وليس لأحدهم أن يسأل عن السبب، ولا أن يعتذر عن تلبية النداء، وإنما عليه أن يعمل بقول شاعرهم ( قريط بن أنيف ) : قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زُرافاتٍ ووِحْدانا , لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا . فالواحد منهم يهبُّ إذا سمع نداء العصبية, حاملًا ما لديه من سلاح لينصر أخاه، لا يسأله: لِمَ ؟ فليس من العصبية والأخوة القبلية أن يسأل أحدهم صاحبه، بل عليه تلبية ندائه وتقديم العون له، معتديًا كان أو معتدًى عليه . نَشَبَتْ الحربُ بين قبيلة عبس وقبيلة ذُبيان بسبب أن سبقت واحدة من خيل إحدى القبيلتين الأخرى, داحس لرجل من عبس سبقت الغبراء لرجل من ذبيان, ودامت الحرب بينهم أربعين سنة حتى كاد يفني بعضهم بعضاً, يا للعَجَب !! وكذلك حرب الوقيط بين بني تميم وبكر بن وائل, وحرب شويحط وكانت بين اليمن ومضر في الجاهلية والحروب التي كانت بين بكر وتغلب ومنها يوم عنيزة ويوم واردات ويوم الحنو ويوم القصيبات وقضة وتحلاق اللمم, وغيرها, وما وقع بين القحطانيين والعدنانيين من أيام كثيرة، منها يوم طخفة والسلان وخزاز وحجر وخيف الريح والكلاب الثاني, وما وقع بين القحطانيين من أيام شهيرة منها ما وقع بين الأوس والخزرج مثل بُعاث والسرارة وفارع والبقيع, وما وقع بين العدنانيين فيما بينهم وأشهرها أيام البسوس ... إلى غير ذلك , وبقوا كذلك بينهم من العداوات والأحقاد والثأر الشيء الكثير حتى جاءهم الإسلام فألف بين قلوبهم وجعلهم إخواناً مُتحابين فلله الحمد والمِنَّة, فهل يريد من يُثِيْر العصبيات والنَّعَرات القبلية في الأشعار وغيرها من خلال هذه القنوات الفضائية والمواقع والمنتديات والمهرجانات أن يَرُدُّونا إلى تلك الجاهلية الجهلاء !؟ قَتْلٌ وسَلْبٌ ونَهْبٌ لا عِوَضَ له ولا رِبْح فيه, إذْ لا شيء منها في سبيل الله .. بعد أمْنِ الإسلام وإِخائه !؟ في حين أن دول الكفر في أنحاء العالم تتربص بنا الدوائر!؟ . وههنا نختصر بذكر بعض ما وَرَدَ فيها مِن نصوص الشرع إذ هي الحجة وعليها التعويل, فمِن ذلك ما أخْرَجَهُ أبو داوُد عنْ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : « لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَليْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» وَرُوِيَ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَصَبِيَّةُ ؟ قَالَ : « أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ » . وقال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ دعَا بدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم » فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ؟ قَالَ: « وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ» رواه أحمد والطيالسي والترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ رَأَيْتُ رَجُلًا تَعَزَّى عِنْدَ أبي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ افْتَخَرَ بِأَبِيهِ فَأَعَضَّهُ بِأَبِيهِ وَلَمْ يُكَنِّهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَمَا إِنِّي قَدْ أَرَى الَّذِي فِي أَنْفُسِكُمْ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ إِلَّا ذَلِكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيْهِ وَلَا تَكْنُوا » أخرجه أحمد وصححه الألباني من أحاديث مشكاة المصابيح . ومعنى التَّعَزِّي : الانْتِمَاء والانْتِسَاب إلى القوم, والعَزَاء والعِزْوَةُ : اسمٌ لدَعْوى المُسْتَغيث, وهو أن يقول : يا لَفُلان ونحوه . وقوله: « فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا » . أي قولوا له اعضَضْ بأير أبيك أي بِذَكَرِه, وصَرِّحُوا بلفظ الذكر ولا تَكنوا كناية, فالهَنُ والهَنُّ بالتَّخفيف والتشديد : كناية عن الشيء لا تريد أن تذكره باسْمِه, وقد استعمل هنا كناية عن الذَّكَر ( عُضْو الرَّجُل ) , وأمُره عليه الصلاة والسلام بذلك فيه أبلغ ذم وتنفير وزجْر عن التداعي بدعوى الجاهلية والتعزي بعزائها, وما ذلك إلا لخطورتها وما تفضي إليه من الفساد . وعن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري يالَلأنصار وقال المهاجري يالَلمهاجرين, فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟» : قالوا: يا رسول الله رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإِنها منتنة» وفي رواية: «دعوها فإنها خبيثة». رواهما البخاري . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( إنا قومٌ أكرمنا الله بالإسلام ،فمن يلتمس العزَّ في غير الإسلام يذله الله) . والاتكال على مجرد الانتساب في الحقيقة أنه لا يُغني الإنسان شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة, بل الأمر كما قيل: كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب, وقوله: إن الفتى من يقول هأناذا ** ليس الفتى من قال كان أبي, وكذلك قوله: لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه ** فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب , فقد رفع الإسلام سلمان فارس ** وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب . لكنْ مع ما مضى كُلّه فإن مُجَرَّد الإنتساب إلى القبائل ليس من العصبية إذ لا يعني ذلك أن الإسلام يرفض الانتماء إلى بلد معين أو أسرة معينة أو قبيلة أو عشيرة من باب التعريف والتمييز، لا من باب الفخر والتعالي . وكذلك ليس الاهتمام بشؤون القبيلة وإسداء الخير لهم وحُبَّهم وتشجيعهم على فِعْل الخِصال الحميدة كما فَعَل شاعرنا مسفر في هذه القصيدة ليس ذلك من العصبية القبلية الممقوتة, حيث روى البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه عن بنت واثلة بن الأسقع أنها سمعتْ أباها رضي الله عنه يقول سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أَمِن العصبية أن يحب الرجلُ قومَه؟ قال: « لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم» . وختاماً لهذه المسألة؛ لو نظرنا لمسوغات وجود العصبية والأعراف القبلية في الجاهلية نَجِدْ أنها قد نشأت بسبب انعدم وجود دين أو قانون يكون التحاكم إليه وعدم وجود هيئات حاكمة قوية تقوم بتطبيقه فنشأت العصبية والأعراف القبلية للحدَّ من انفلات المجرمين وتقليل الفوضى مع أن العصبية في بعض الأحيان كانت تُسَبب ما هو أشد ضرراً كما مضى من إيراد بعض الأمثلة ككثرة التقاتل بين القبائل, ولكن إذا نظرنا لمسوغات وجود العصبية والأعراف القبلية بعد الإسلام فإننا نجد عجباً إذ لا شيء من تلك المسوغات التي كانت في الجاهلية موجود, فهذا هو الدين قد مَنَّ الله به علينا فيه من الأحكام والنظام ما أذهل علماء القانون في العالَم وهذه هي الدول والحكومات تتتابع منذ مجيء الإسلام إلى يومنا هذا خاصة الحكومة السعودية التي عُرفت بالقوة والصلاح ! فلماذا هذه العصبية والقوانين القبلية !؟

امتازت هذه الملحمة عن غيرها - إضافة إلى ما ذُكر - بأن قائلها لم ينشئها ابتداءً وتهجُّماً وتطاولاً وتفاخراً كما يفعل البعض, وإنما هي بمثابة الدفاع عن النفس لدحض الزيف, ورفع الظلم, حيث اقتضاها الموقف الذي ذكره الشاعر, وهنا تتقبلها النفوس وتصغي لها الآذان أكثر من غيرها وإن كان فيها نوعاً من الفَخْر, وقد استثنى الله عزَّ وجل من الشعراء الغاوين فقال: « إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » آية (227) سورة الشعراء.

• البدء والانتهاء بِذِكر الله كثيرا والثناء عليه بما هو أهله, وكذلك ذِكْر مصير العباد بإسهاب وذِكْر بعض مواقف القيامة في مطلع القصيدة وما ينتظرهم من أهوال الآخرة يدلان على وَفْرَة حَضّ الشاعر من الإيمان وعلى عدم غفلته, نحسبه كذلك.

ترابط أجزاء القصيدة ووحدة موضوعها مع كونها طويلة, يدلان على غزر شاعرية صاحبها, وعلى صدورها عن مشاعر صادقة وهدف حقيقي.

يُلاحَظ أنَّ الشاعر في هذه القصيدة لم يُشِر إلى نَفْسه وقُدُراته الشِّعرية, مع طول قصيدته وأهمية موضوعها, وما ذلك إلا مِن الأَنَفَةِ وكرامة النفس, في حين أنك ترى عكس ذلك من بعض الشعراء إذْ لو لم تكن قصيدة أحدهم غير بيتين لوجَدْتَ أنَّ أحدهما في مدح نفسه وتوصيف قدراته الشعرية وحُكْمه لِنَفْسِه بالصواب ونحو ذلك مما تَنْفُر منه الطِّباع السَّلِيمة, وهذا داخل في عموم النهي عن تزكية النفس كما في قوله تعالى: « فلا تزكوا أنفسكم » الآية. (32) سورة النجم.

إنزال الناس منازلهم وعدم بخسهم حقهم - ولو كان وقْتَ إِساءة فَهْم أو حصول خطأ منهم - سجية أهل العدل والوفاء, كما فَعَلَ الشاعر هنا, خاصة مع كثرة أخطاء الشعراء في الشعر الارتجالي الوقتي السريع كما هو الحال في المحاورة والعرضة ونحوها.

• ذِكْر الشاعر لمحاسن الناس والإعراض عن معايبهم ولو صَدَرَ من بعضهم شيء من الإساءة يدلان بوضوح على رجاحة عقله وبعد نظره وطيب معدنه وأنه معتبراً للرابطة الدينية نابذاً للعصبية القبلية.

• قيام الشاعر بالتِماس العذر للمخطئ وتذكيره به, وعدم قطع طريق الرجعة عليه اسلوب راقٍ, يفعله الحكماء من الناس.

• التفريق بين الأخيار وكذلك المعروفين بعدم الزلل ومَن هم عكس ذلك في التغاضي عن الخطأ والتجاوز عن الزلل هو فعلٌ من أفعال الأوفياء وأصحاب الفطرة السليمة, كما فَعَلَه شاعرنا مُحسناً للظَّن مع الشاعر الآخر, وقد جاء الشرع به كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم » وفي لفظ « زلاتهم » ومن ذوي الهيئات الذين لا يُعرفون بالشر, لا كما يفعله بعض المنكوسين الذين يعكسون الأمر ثم يقولون ( غلطة الشاطر بعشر ) !

طلبُ الشاعر للنِّـزال, وبروزه في ساحة المعركة الأدبية فيه دلالة واضحة على تمكُّن الشاعر وثقته بنفسه وبقبيلته, وحِيْنَها تَجَلَّت فروسية شاعر الملحمة واتَّضَحَتْ أثناء جَوَلانِهِ وَصَوَلانِه وكَرِّهِ وفَرِّهِ الأدبيان, وذلك من خلال تسلسل أفكاره وابتعاده عن التعابير غير اللائقة, ومن خلال تَفَنُّنِهِ في استعمال آلة النِّزَال الأدبي, المتمثل في اللجوء إلى المنطق وسرد الدليل التاريخي المُلجِم وغير ذلك مما سيأتي الكلام عن بعضه في النقاط المستقلة التالية, وبهذا استطاع الشاعر بكل جدارة توضيح ما أراده من المعاني بألفاظ دالةٍ وجزلة أوصلته إلى هدفه من غير حياد عنه.

التلميح والكناية والإشارة الخفية لبعض المعاني مما لا يَحْسُن أدباً التعبير عنها بشكل صريح والتي يرى الشاعر نفسه مضطراً أحياناً لذكرها هو اسلوبٌ أدبيّ راقٍ , لا كما يفعله بعض الشعراء من الكلام الفاحش أو التعْيـِير الواضح الجارح المفهوم لكل أحد والذي لا يفعله إلا الجهلاء والسفهاء من الناس
.


.

 

 

   

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:16 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir