
" لا يَخلو جسدٌ من حسد "
الحسن البصري
الإنسانُ مظهرٌ و جوهر ، و مبنى و معنى ، و ذاتٌ و صفاتٌ ، و جِسْمٌ و وَسْمٌ ،
و امتيازُه بتحقيقِ الحقيقة الإنسانية ، و الأخلاقُ تلك الحقيقة ،
سواءً كانتْ أخلاقاً باطنةً أو أخلاقاً ظاهرةً ،
فليسَ الشأنُ إلا في جوهرية الأخلاقِ و في سِرِّ إيجادها ،
و لم تكنْ من جملة المناقبِ إلا بذلك .
فمن الأخلاق ما يكون غريزةً في نفسِ الإنسانِ محاسنها و مقابحها ،
و يزدادُ النعتُ بهما عند التوظيفِ ،
فكما هي مفطوراً بها الإنسانُ كصفةٍ و خُلُقٍ كذلك مفطوراً بوصفها ،
و ذاك عند أغلب الناسِ ، و ليس شيئاً مُطَّرِدَاً في كل حالٍ و لكلِّ أحدٍ .
كذلك من الأخلاق والصفاتِ ما هو مكتَسَبٌ ،
يُنالُ بالدُّرْبَةِ و الممارسة ،
فعندما يأخذُ الإنسان بصفةٍ _ ليكون مُتَّصِفاً بها و موصوفاً عند الذكرِ بها _
ممارساً لها في أحواله بعد معرفته بها
يجعلُها مُصْطَبِغَةً فيه فيرتقي إلى أن يكون موصوفاً بها و كأنها فِطرةً فيه ،
يُرَقِّيْهِ ارتقاؤه إلى حقيقة الصفة أن يكون غائصاً في أعماقها و أسرارها ،
فيُدركُ بذوقِ الحالِ ما لا يكادُ يكون مُصَدَّقاً عند أحد ممن لم يَصِلْ إلى ما وصَل إليه ،
و ذا في كلِّ صِفة ، فليسَ إلا تعلُّقٌ ثمَّ تخلُّقٌ ثُمَّ تحقُّقٌ ثمَّ تَعَمُّقٌ ثمَّ تذوُّقٌ .
و قد يُدركُ أسرارَ الصفاتِ و الأخلاقِ بالاكتسابِ من لم يُدركها بالغريزة و الجِبِلَّة ،
حيث الاعتبارُ بالفعلِ الظاهرِ ببعثِ الباطن ،
فلا تنبع عينٌ إلا بدفع باطن الأرض ،
و لا تبدو أخلاقٌ حِسان و لا صفاتٌ كاملة إلا بصناعة باطنِ الإنسان إياها ،
و على ذلك كان التعويلُ .
جاءت الأديانُ مُتَمِّمَةً حِسان أخلاقِ الناسِ ،
و ذاك في صناعتها توظيفياً مُترتِّباً على باعثِ الدينِ ،
و باعثُ الدينِ الأخلاقي جاءٍ من استجمالِ الناسِ محاسِنَ التوظيفِ الخُلُقي ،
و إقرارُ الأديانِ محاسِن الأخلاقِ لم يَكنْ
إلا لِما أدركتْه من جمالٍ في بناءٍ للذاتِ الإنسانية
و لما تقوم به من تحقيقِ مقاصد الشرائع ،
و ذاك الجمالُ المَرْضي به عند الناسِ قَبْلَ الأديانِ
من وَحي الغرائز الصحيحة السليمة ،
و غرائز النفوسِ لا تصِحُّ إلا بِصِحةِ النفسِ و الروحِ ،
و القلبُ حادٍ و حاكمٌ .
فأخلاق الإنسانِ لا تَميلُ إلى سُوءٍ أو حَسَنٍ في ذاتها ،
بل هي شيءٌ صِرْفٌ لا تحملُ شيئاً ،
و لا تصطبغُ فيها صِبْغةٌ إلا من جرَّاءِ توظيفِ الإنسان ،
فإن كان توظيفه إياها في المحاسن و المحامد كانت محمودة ،
و إن كان في المقابح و المذامِّ كانت مذمومة ،
فغالبُ العيبِ في الصفاتِ من قِبَلِ وضعِ الإنسان لها في غيرِ موضعها ،
و كذا المدح من وضعها في موضعها اللائق بها .
كثير من الأخلاق يَميلُ وصفها إلى الحُسْنِ ،
و لا تقبلُ إلا وضعها في المحاسن ،
حيثُ كانتْ ميَّالةً نحوَ ذلك ،
و يتَّصِفُ بها الكثير من الناس لدواعيها هيَ لا لطلبِ الإنسان التخلُّقَ بها ،
و صفات أُخَر في منأىً عن الحُسْنِ و ميلٍ نحو السوءِ
و لو سَعى إلى تحسينها في توظيفها الإنسان لعاد خاسئاً و هو حسير ،
و تُمدَحُ بالحُسْنِ مجازاً و ووصفاً للحالِ لا للذاتِ .
يَصنع الإنسان الأخلاقَ بتوظيفها لا بالنعتِ بها ،
فليس الصبورُ ممدوحاً بذاتِ الصفةِ و الخُلُقِ إذا كان واضعاً إياه في غيرِ محلِّه ،
و يُمدَح الجَزِعُ بالصبرِ إذا تصبَّرَ في محلِّ الصبرِ ،
كذا الشجاعةُ فليس شجاعاً من أظهرها على ضَعيفٍ و ليس جباناً من جبُنَ عن قَوي ،
فكان الأولُ متهوِّراً أو شجَّعَه ضَعفِ الخصم ،
و الآخرُ شُجاعاً لعدم أهلية الحالِ ،
و الشجاعةُ إدراك الشجاعِ الربحَ و الفوز لا القوة .
كلُّ خُلُقٍ لا بُدَّ من صناعته في مناسبته الحالَ التي يقتضيها ،
فلكلِّ خُلُقٍ وظيفة لا تكون إلا في وقتٍ يتطلَّبُها الحالُ ،
و فواتُ وظيفةُ وَقْتِ الخُلُقِ سُوءُ خُلُقٍ ،
و أسرارُ الأخلاقِ تكمُنُ في وظائفها ، و لكلِّ وقتٍ وظيفته .
تصنُّعُ الأخلاقِ يقتضي من المُتَخَلِّقِ أن يكون فَطِناً لأهليته للخُلُقِ ،
و أن يأخذ الخُلُقَ بِحقِّه ،
و يَعهدَ إلى نفسِهِ حفظَ الوظيفة العملية للخُلُقِ ،
فالأخلاقُ أمانات مُستودَعَةٌ ، و تضييعها جريمةٌ كونية .
فسِرُّ الأخلاقِ الحسَنةِ في حُسنِ توظيفها لا في تحسينِ توصيفها ،
فالوصائفُ عابراتُ دورٍ ليس لهُنَّ قرار و لا عليهنَّ تعويل ،
و الدعوى الخُلُقِيَّةِ لا تقوم إلا على برهان اليقين .
أعجبني فنقلته
تحياتي
...........