قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله - فى اللقاء المفتوح
السؤال : فضيلة الشيخ ! ثبت في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
( من مات وليس في عنقه بيعة لأحد مات ميتتة جاهلية ) ،
ومعلوم : أنه في أكثر بلاد المسلمين اليوم لا يتحقق هذا الأمر ، وأنه ليس في عنقهم بيعة ،
لأسباب كثيرة منها : الإضطرابات السياسية ، والإنقلابات وغيرها ،
فكيف يخرج المسلمون في تلك البلاد من هذا الإثم ؛ وهذا الوعيد - جزاك الله خيرًا - ؟
الجواب :
المعروف عند أهل العلم : أن البيعة لا يلزم منها رضى كل واحد ،
وإلا من المعلوم أن في البلاد من لا يرضى أحد من الناس أن يكون وليًا عليه ،
لكن إذا قهر الولي وسيطر وصارت له السلطة فهذا هو تمام البيعة ، لا يجوز الخروج عليه ،
إلا في حالة واحدة استثناها النبي - عليه الصلاة والسلام - ،
فقال : ( إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان ) .
فقال : ( إلا أن تروا ) ، والرؤية إما بالعين أو بالقلب ، الرؤية بالعين بصرية ، وبالقلب علمية ،
بمعنى : أننا لا نعمل بالظن أو بالتقديرات أو بالإحتمالات بل لابد أن نعلم علم اليقين ، وأن نرى كفرًا لا فسوقًا ،
يعني مثلاً : الحاكم لو كان أفسق عباد الله ، عنده شرب خمر ، وغيره من المحرمات ،
وهو فاسق لكن لم يخرج من الإسلام ؛ فإنه لا يجوز الخروج عليه وإن فسق ؛
لأن مفسدة الخروج عليه أعظم بكثير من مفسدة معصيته التي هي خاصة به .
الثالث : قال : ( بواحًا ) البواح يعني : الصريح .
والأرض البواح : هي الواسعة التي ليس فيها شجر ولا مدر ولا جبل بل هي واضحة للرؤية .
لابد أن يكون الكفر بواحًا ظاهرًا ما يشك فيه أحد ،
مثل : أن يدعو إلى نبذ الشريعة ، أو أن يدعو إلى ترك الصلاة ، وما أشبه ذلك من الكفر الواضح الذي لا يحتمل التأويل ،
فأما ما يحتمل التأويل ؛
فإنه لا يجوز الخروج عليه حتى وإن كنا نرى نحن أنه كفر وبعض الناس يرى أنه ليس بكفر ،
فإننا لا يجوز لنا الخروج عليه ؛ لأن هذا ليس بواحًا .
الرابع :( أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان ) ،
فإن لم يكن عندنا برهان أي : دليل واضح ، ليس مجرد اجتهاد أو قياس ،
بل هو بين واضح أنه كفر ، حينئذٍ يجوز الخروج .
ولكن هل معنى جواز الخروج أنه جائز بكل حال ، أو واجب على كل حال ؟
الجواب : لا .
لابد من قدرة على منابذة هذا الوالي الذي رأينا فيه الكفر البواح ،
أما أن نخرج عليه بسكاكين المطبخ ، وعواميل البقر ، ولديه دبابات وصواريخ ،
فهذا سفه في العقل وضلال في الدين ،
لأن الله لم يوجب الجهاد على المسلمين حين كانوا ضعفاء في مكة ما قال : اخرجوا على قريش وهم عندهم ،
ولو شاءوا لاغتالوا كبراءهم وقتلوهم ، لكنه لم يأمرهم بهذا ، ولم يأذن لهم به ، لماذا ؟
لعدم القدرة .
وإذا كانت الواجبات الشرعية التي لله عز وجل تسقط بالعجز ؛
فكيف هذا الذي سيكون فيه دماء ، يعني : ليس إزالة الحاكم بالأمر الهين ،
أو مجرد ريشة تنفخها وتروح ، لابد من قتال منك وقتال منه ،
وإذا قتل فله أعوان ،
فالمسألة ليست بالأمر الهين حتى نقول بكل سهولة : نزيل الحاكم ونقضي عليه وينتهي كل شيء .
فلابد من القدرة : والقدرة الآن ليست بأيدي الشعوب فيما أعلم ،
والعلم عند الله عز وجل ،
ليس في أيدي الشعوب قدرة على إزالة مثل هؤلاء القوم الذين نرى فيهم كفرًا بواحًا ،
ثم إن القيود التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - قيود صعبة ، من يتحقق من هذا الحاكم مثلاً ،
علمنا أنه كافر علم اليقين ، نراه كما نرى الشمس أمامنا ، ثم علمنا أن الكفر بواح ما يحتمل التأويل ،
ولا فيه أي أدنى لبس ، ثم عندنا دليل من الله وبرهان قاطع ؛ هذه قيود صعبة ،
أما مجرد أن يظن الإنسان أن الحاكم كفر ، هذا ما هو صحيح أنه يكفر ، لابد من إقامة الحجة ،
وأنتم تعلمون أنه ما ضر الأمة من أول ما ضرها في عهد الخلفاء الراشدين إلا التأويل الفاسد ، والخروج على الإمام .
الخوارج : لماذا خرجوا على علي بن أبي طالب ؟
قالوا : لأنه حكَّم غير القرآن .
كانوا في الأول معه على جيش معاوية ولما رضي بالصلح والتحاكم إلى القرآن قالوا :
خلاص أنت الآن حكمت آراء الرجال ورضيت بالصلح ؛ فأنت كافر ، فسوف نقاتلك .
فانقلبوا عليه بماذا ؟
بالتأويل ، وليس كل ما رآه الإنسان يكون هو الحق ، قد ترى أنت شيئًا محرمًا ، أو شيئًا معصية ، أو شيئًا كفرًا ،
وغيرك ما يراه كذلك ، أليس نرى نحن أن تارك الصلاة كافر ؟
نرى ذلك لا شك ، يأتي غيرنا ويقول : ليس بكفر .
والذي يقول : ليس بكفر علماء ليس ناس أهل هوى ، علماء لكن هذا الذي أدى لهم اجتهادهم ،
فإذا كان العلماء من أهل الفقه قد يرون ما هو كفر في نظر الآخرين ليس بكفر ؛
فما بالك بالحكام الذين بعضهم عنده من الجهل ما عند عامة الناس .
فالمهم أن هذه المسائل مسائل صعبة وخطيرة ،
ولا ينبغي للإنسان أن ينساب وراء العاطفة أو التهييج ،
بل الواجب أن ينظر بنظر فاحص متأنٍ متروي ، وينظر ماذا يترتب على هذا الفعل ؟
ليس المقصود أن الإنسان يبرد حرارة غيظته فقط ، المقصود إصلاح الخلق ،
وإلا فالإنسان لا شك أنه يلحقه أحيانًا غيرة ويمتلئ غيظًا مما وقع ،
أو وقع من بعض الولاة ، لكن يرى أن من المصلحة أن يعالج هذه المشكلة بطريق آخر غير التهييج .
وكما قلت لكم : إن بعض الناس يظن أن هذا سببٌ يقتضي الضغط على ولي الأمر حتى يفعل ما يرى هذا القائل أنه إصلاح ،
ولكن هذا غير مناسب في مثل بلادنا .