هذه القصيده لها قصة تركت في قلب الشاعر ذكرى أليمة ..
وجدت هذا الشرح حسب رؤية المحلل ( عبدالله الجابري الزهراني) وأحببت أن يطلع عليه محبي طرق الجبل .. وليسمح لي أخي الجابري في نقله هنا ..
الشاعر حُميد المحضري الغامدي المشهور بـ (أبو سحّاب ) له في أدب شعر الغزل والنساء أبياتٌ لا تنسى , اخترنا له في هذه الوقفة العابرة قصيدة من رواية الأستاذ : عبدالله بن رمزي الغامدي ( علمٌ في رأسه نار أشتهر بحفظ وتوثيق ورواية الشعر الجنوبي ) .
البدع / حميد المحضري
ازفر زفير إللي نهب من غير نوياه
واصبح بعد الوجد معسور
جو له على شعل الذلايل والعفر قوم
زمّوا أمواله زمامي
بخيل ماتصهل وعيسٍ ماتحنّا
الرد / حميد المحضري
بأ سباب ذا كنّا كما الأخوان أنا وياه
ذا عليه الجعد معسور
إن كان فرقانا يضيمك عف من ارقوم
والخواتم والزمامي
وإما تشاري الصدق كنّك ماتحنّى
***
ازفر زفير إللي نهب من غير نوياه
واصبح بعد الوجد معسور
الزفير هنا ليس بذلك الهواء المسمى ثاني أكسيد الكربون , بل هو هواءٌ حار مشابهٌ لهواء تهامة في أواسط القيض , عندما يتحول هوائها من عليل النسوم إلى غليل السموم .
وتلك الزفرة التي أطلقها أبو سحّاب ليست بالعادية , فهي تشابه في ألمها ألم ذلك الإنسان الضعيف الذي نُهبت أموالهُ , واغتصبت أملاكُهُ في وضح النهار , حتى أصبح من بعد الغنى والقوة معسوراً فقير المال , ضعيف الحال.
ولنُمعن النظر قليلاً إلى هذا الوصف الشعري ذو الدلالات العجيبة للشاعر حميد عندما قال ( بعد الوجد ) ولنقف قليلاً مع أنفسنا عندما نزفر بصورة قوية , فالإنسان بعد عملية الزفير الغير طبيعية ( الزفير القوي ) تجده مباشرةً ينطق بصورة غير إرادية بلفظ ( أوووه ) تألماً وتحسراًً وتأوهاً على شيء في نفسه.
جو له على شعل الذلايل والعفر قوم
زمّوا أمواله زمامي
(جو له ) بمعنى أتوا إليه الناهبون ( على شُعل الذلايل ) وهي الإبل الحمراء التي تميل إلى البياض ( والعُفر ) وهي الإبل الحمراء التي تميل إلى اللون الترابي الداهم , ثم أخبر عن عددهم فقال ( قوم ) والقوم في لغة العرب عددٌ تجاوز العشرة , وفي لهجة أهل المنطقة عددٌ تجاوز الثلاثين رجلاً , وانظروا معي أيها الأحبة إلى قوة التصوير والربط الموضوعي في سلسبيل هذا الشاعر , فهو في مستهل بيته يُرسل رسالة خفية إلى الأذهان مثبتاً فيها بأن الناهبون والغاصبون كُثر ( قوم ) , وذلك عندما بدأ في وصف إبلهم وقال : بعضٌ من إبلهم أشعل اللون والبعض الآخر أدهم العفر يميل إلى لون التراب البني , واختلاف ألوان ابل الغزاة دلالةُ على كثرتهم , ولذلك كله نجد الشاعر مصيباً بدرجة التفوق عندما وصف عددهم بلفظ ( قوم ) .
(بخيل ماتصّهل وعيسٍ ماتحنّا )
هنا تعليل خفي لسؤالٍ يشغل الأذهان !
فالبعض قد يسألُ مستغرباً لماذا لم يحاول صاحب ذلك الزفير النجاة والهرب عندما أحس بقدوم القوم ؟
أجاب حمُيد قائلاً : لم يكن بمقدوره النجاة والهرب , فـ " خيل " أولئك القوم لا تصهل كغيرها من الخيول التي تستخدم الصهيل دليلاً على إقدامها عند بداية اللقاء , ثم أضاف حميد قائلاً : وإبلهم الشعل والعُفر لا تحنّ , بمعنى لا تُرغي بالصوت كغيرها من ابل القتال عندما يحاول أصحابها حثها على سرعة المسير , وأمام تلك المفاجآت الصامتة أنىّ لحُميد المحضري أن يدافع عن نفسه , أو أن يحاول الهرب والنجاة على أقل تقدير .
( وفي هذا البيت العجيب رسالةٌ خفية بأن الشاعر حُميد المحضري قد تعرض لمؤامرة أليمة , ومكيدة عظيمة لم يكن يتوقعها )
لكن ما الذي حدث..!!
أخبر حميد المحضري في خفاءٍ عجيب , بأن أهداف تلك المكيدة والمؤامرة إنما هي إبعاده عن :
( ذا كنّا كما الأخوان أنا وياه )
ثم أراد إخبارنا عن صفته ووصفه وعلامته فقال :
( ذا عليه الجعد معسور )
أي صاحب الجعد وهو الشعر الكثيف المتراكم بعضه فوق بعض ( معسور ) له درجات من اللون فـ" بالإضافة " إلى لون الشعر الأسود تجد إلى جانبه اللون الأحمر الداكن والخفيف وتلك الألوان الأخرى ( غير الأسود ) إنما هي ألوانٌ مكتسبة من أثر الحناء.
بعد ذلك انتقل حميد المحضري في تصويره الشعري المتسلسل بتوجيه خطابه إلى تلك المرأة صاحبة الجعد المعسور عندما قال لها بتحسرٍ وألم عجيب في اشارة مخفية : لم أرضى الفراق , ولم أفضل الأبتعاد , ولكن حسبي أن أزفر وأتوجد على تلك الأيام عندما كُنّا ( كما الأخوان ) وإن كان ذلك الفُراق , وذلك الأبتعاد , يؤلمك ويُضيمك ففي ليلة عرسك :
( عف من أرقوم ) الرقوم هي خطوطٌ جميلة تستخدمها النساء قديماً زيادةً في جمال الوجه , حيث تُرسم عادةً في المسافة الواقعة بين الفم وأسفل الوجه .
( والخواتم والزمامي ) أرني حُزنك على ذلك الفراق , ودعْ عنك لبس خواتم الفضة , وتناسى لبس (الزمام) : وهو قطعةُ من الذهب الخالص توضع على جانب الأنف زيادةً في الجمال والزينة .
( وإما تشاري الصدق ) بمعنى إذا كنت صادقاً تمام الصدق , (كنّك ماتحنّى ) بمعنى لا تضع الحناء على يديك دلالة على صعوبة الفراق وصدق المحبة السابقة .
تحياتي الجـــابري