عرض مشاركة واحدة
قديم 07-31-2010, 06:25 PM   رقم المشاركة : 4

 

(5)



أبجديات مفقودة

بقيت كلمات لابد أن تقال أو يشار إليها ولو إشارة عابرة, لكن لا غنى عنها, ومع أنها من البدهيات والمسلمات الأولى, غير أنك تفجع حقا حين ترى هذه المسلمات الأولى, والتي هي كالأبجدية مفروغ منها, تجدها غائبة مفقودة, وغيابها وفقدها يجعل كل الكلام بعدها بلبلة بلا معنى.

* فمن تلك الأبجديات الأولى أن الإسلام والقرءان دين وشريعة ومنهاج حياة متكامل , وأن الله تعالى الذي خلق البشر وذرأهم في الأرض هو وحده العزيز الحكيم الجليل الباقي الذي يرد إليه الأمر كله, والحكم كله, فهو سبحانه صاحب التشريع, ولا يتصور في العقل أن خالقا عظيما كاملا, متفردا بالخلق والإيجاد, والعزة والعلو, يترك خلقه هملا لا يشرع لهم ويبين لهم ما يتقون , ومن الانتكاس المزري حقا أن تتنكب جموع البشرية المستكبرة في الأرض بغير الحق إلى علمانية مبتدعة, تترك فيها كل ما أتاها من ربها الذي أوجدها ظهريا وتنبري لتشرع وتخطط, وتحذف وتوقِّع, بسفاهة أشبه بالجنون... ثم تأتي أمة الرسالة الوسطى لتتنكب في الأرض كل متنكب وتنتكس خلف كل منتكس, وتترك ما كتبه الله عليها, وتتخلى عن شرفها الذي شرفها الله تعالى به, خابت الهمم وخارت العزائم وتعست العقول ..
وليس في الإمكان قبول بعض من دين الله تعالى وترك بعض, ادخلوا في السلم كافّة, بل الاستسلام الكامل هو الشرط الأول في تحقيق شهادة الاسلام , فمن استبدل من دين الله شيئا فقد استبدل الكفر بالإيمان..



* ومن تلك الأبجديات التي تضيع وسط النقاش والجدل حول هل تكشف المرأة وجهها أو تستره فرضا أم ندبا أم درءا لفتنة, إحدى تلك البدهيات المفقودة هي روح التشريع في أحكام الحجاب, والتي يتم تهميشها في خضم الخلاف المضروب على ساحة المتكلمين, والذي يندس وسطه ويتسلل لاستغلاله فئة مجهولة الهوية تقدح ناره جدلاً وخلطاً وتدليساً على عباد الله, فتصبح نتيجة هذا التوهان هي نسيان روح الإسلام في مفهوم الحجاب..

والمنقب في كلام المختلفين فيه يحسب أن كشف الوجه وستره هو العقبة الوحيدة في توحيد الرؤى فيفترض أن من ستأخذ برأي الكشف ستكون ساترة لسائر بدنها عدا الوجه والكفين لكنها ملتزمة بنفس ضوابط الحجاب الشرعي: جلبابها واسع ساتر لايصف ولا يشف ولا يجتذب عين المتطلعين إليها, وحشمتها وحياؤها يقطعان تطاول الطامعين فيها. لكن الناظر في واقع أحوالنا وأحوال بناتنا ونسائنا ليأسف ويأسى مما وصلن إليه... وأهل الجدل لايلتفتون ولا يلقون نظرة إلى السفح ليروا أين وصل ببناتنا الحال ولو أبصرت قلوبهم لكفوا عن مزايدات الكلام ولالتفتوا لرأب الصدع في أصل البنيان.

فليس هناك خلاف في أي مذهب أن حجاب المسلمة الشرعي لابد أن يكون فضفاضا ساترا ليس بثوب شهرة وليس زينة بذاته ولا يسفر عن جسدها وصفاته , لكن المشاهَد أن السواد الأكبر من بناتنا بتن تتفنن في تزيين عباءاتهن بعناقيد الخرز وفصوص اللؤلؤ اللامعة والرسوم المطرزة, والعباءة ضيقة وشفافة لا تخفى من تحتها ملامح زينة ولا تصد عينا عن حصينة, لم تعد العباءة عباءة... هذا لمن لبسن العباءة, أما المصيبة التي عمت في أغلب أقطارنا فهي خلع العباءة بل خلع الخمار والجلباب, والنزول إلى طرقات المدائن بالتنورة الضيقة والبنطال المضغوط على الجسم وقد برزت الأرداف والخصور, والنهود والنحور, وانكشفت السواعد والسوق, وانحسر غطاء الرأس عن ناصية الشعر, فظهرت ناصيتها المصبوغة والمسرحة بعناية من يحسب لكل شيء حساب, وطاله الجزر من الخلف ليكشف عن أعناق تعرت مع كل هبة نسيم لاح, ثم تتالت العقود والسلاسل والأساور والخواتم والأصباغ والألوان من كل ماتستحليه العيون وتتوق إليه الأنفس, من الأصفر الكناري إلى الوردي المتواري إلى الأخضر القاني والأحمر الناري... فمن الذي يتحدث عن مشروعية كشف الوجه أو فرضية غطاءه في كل هذا الغياب... أين روح الحجاب من كل ما تشهده العين هنا أو هناك؟

أضحى يزخرفهن نوع ملابس *** في شكل عري فاضح فتان
وملابس أخرى تحدد جسمها *** في وصف تفصيل على الأبدان

ولعل أحدا لا يجهل أن الكثرة من بناتنا الصالحات لا يكدن يظفرن في كل أسواقنا المترامية الأطراف بغطاء أو جلباب يناسب حجابهن الشرعي فكل العباءات على الموضة وكل جلباب قد امتدت له أصابع "الفن الحديث" بالتطريز البراق والترقيع النشاز, مع فتحات وحركات تجعله لائقا بالمتبرزات المستعرضات, وكأنه لباس شهرة وتبرج لا لباس ستر واحتشام وعفة, وكل أغطية الرأس صفيقة متبهرجة الألوان مشذبة الحواف والأكناف.. حتى عباءاتنا وألبسة حجابنا يصممها لنا مصممون من إيطاليا وفرنسا وتغدق الصين بها على الأسواق دون تقصير أو إملاق.. فهل هناك سعة لنسأل أنفسنا كيف وصلنا لهذا وكيف عرفوا عنّا هذا؟ لو رفضناها لكسدت وبادت ولردت بضاعتهم إليهم, غير أنها... قد لاقت منا عيونا راضية وأيد متلقفة وأنفسا ضعيفة مهزومة وهمما خانعة فسادت وعم بها الفساد..

* لكن... لعل أصل الإلتباس أن كثيرا من الناس لم يعد للإسلام شيئا فيهم, إنهن لم يخلعن الحجاب, بل الدين, لم يعد لهذا الدين القويم حظ من أنفسهم, فما يغني عنهم لو توشحوا بكل حجاب, ولا يبدأ صلاحهم من ها هنا بل من حيث غاب عنهم الإيمان فيما غاب .. ولا يغني عنا لو استعادوا الحجاب ولم يستعيدوا نور الكتاب.. حين تيبس الأغصان لا يجديها ريها أي نفع مهما تعهدتها بالإصلاح, ليس إلا أن تتعهد جذورها الضاربة في الأرض فتصلحها وترويها حتى يمتد منها إخضرار الحياة رويدا رويدا لموات الفروع و الأغصان فتربو وتزهر.. كل محاولة في غير ذلك هي محض عبث لن يلبث أن تنثره الريح..



* انظرن هنا لكلام عائشة الصديقة ابنة الصديق خريجة مدرسة النبوة رضي الله عن أبيها وعنها , كيف تفهم الحجاب وتفهِّمه للمؤمنات بسلاسة وإحسان وشمول وفصل بيان, وقد دخل عليها نِسْوَة مِن بني تميم عليهن ثِيَاب رِقَاق , فَقَالَتْ عائشة : إِنْ كُنْتُنَّ مُؤْمِنَات فَلَيْسَ هَذَا بِلِبَاسِ الْمُؤْمِنَات , وَإِنْ كُنْتُنَّ غَيْر مُؤْمِنَات فَتَمَتَّعْنَهُ . وَأُدْخِلتْ اِمْرَأَة عَرُوس عَلَى عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَعَلَيْهَا خِمَار قُبْطِيّ مُعَصْفَر , فَلَمَّا رَأَتْهَا قَالَتْ : لَمْ تُؤْمِن بِسُورَةِ " النُّور " اِمْرَأَةٌ تَلْبَس هَذَا ...

فلله درك ياأم المؤمنين, أتسمع بناتنا هذا, إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات, وإن كنت غير مؤمنات فتمتعنه...

فأيكن تختار التمتع به؟ وتتركن إيمانكن, أو يترككن؟..

لم تؤمن بسورة النور إمرأة تلبس هذا...

فأيكن قد ءامنت بسورة النور قلباً؟..

و بـ النـُّـور اسْــتـَنِـيـْري إنْ أرَدتِ*** سَـوَاءَ صِـرَاطِ رَبـِّـكِ فـَـاسْــلـُـكِــيْـه ِ



* في دين الله تعالى, ليس ثمة سعة للمفاصلة, وليس في وسع أحد أن يبقى بين بين... من ءامن لزم ومن لم يؤمن فلا يزعم ذلك, ولا يسعين في نزع حياء بناتنا بإرجاف لكل فتنة بعد ذلك, ولا تتبعنه بناتنا ويفتتن بدعواه إن كن قد ءامنّ بما أنزل الله عزوجل على نبيه, عليه الصلاة والسلام..

في الحقيقة , إننا قد وصلنا إلى حال لا توصف, حال بئيسة مزرية, مريبة مخزية, وتقطعت في سطورنا أنفاس الكلمات, وقد انتشرت الفتن وعمّ التفلت وتلك حال تمنح الإمام حق إلزام الناس بما لا يلزم لسد هذا الباب الذي ءاذن الناس بالخراب.

فلنقرأ هنا في تفسير الإمام القرطبي عند ءاية الحجاب من سورة الأحزاب : وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ يَجِب السَّتْر وَالتَّقَنُّع الْآن فِي حَقّ الْجَمِيع مِنْ الْحَرَائِر وَالْإِمَاء . وَهَذَا كَمَا أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعُوا النِّسَاء الْمَسَاجِد بَعْد وَفَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْله : ( لَا تَمْنَعُوا إِمَاء اللَّه مَسَاجِد اللَّه ) حَتَّى قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : لَوْ عَاشَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَقْتنَا هَذَا لَمَنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد كَمَا مُنِعَتْ نِسَاء بَنِي إِسْرَائِيل .

رحم الله أم المؤمنين عائشة ورضي عنها, وهذا في وقت الرعيل الأول من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وخير القرون طرا, "لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم لمنعهن من الخروج"... فكيف بزماننا .. والله إن تلك لآيات لمن كان له قلب منيب ليقف ويستعبر قبل أن يمر ويعبر سادرا في هوى العصر منفلت الزمام وراء كل ناعق بدعاية وكل مترصد لغواية..



يتبع إن شاء الله ..

 

 
























التوقيع

،



..



   

رد مع اقتباس