الموضوع: ألأم مقال
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-15-2013, 01:40 PM   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
عضو ذهبي
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
عبدالله أبوعالي is on a distinguished road

ألأم مقال


 

عبدالسلام الوايل

٢٠١٣/٩/١٥


أَلأَمُ مقال كتبته العرب

ولع العرب بالشعر جعلهم يتركون تراثاً في المفاضلة و المنافسة بين القصائد أبيات الشعر. ومن أشكال هذه المفاضلات، اختيار بيت شعرٍ بوصفه أحسن ما قالته العرب في مجاله، حسب أغراض الشعر. فمن المعروف أن هناك أربعة أغراض رئيسة للشعر هي الفخر والهجاء والمديح والنسيب (الغزل). ولغرض المديح، مثلاً، اختار كثير من النقاد بيت جرير في مدح عبدالملك بن مروان الذي يقول فيه:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راحِ
بوصفه أمدح بيت قالته العرب، أو أفضل بيت شعرٍ قيل في المديح. وهكذا جرى المنوال في أغراض الشعر الأخرى. فيقال: «أهجى بيت قالته العرب»، و«أغزل بيت قالته العرب»، و«أفخر بيت قالته العرب». بل إن الأمر تعدى أغراض الشعر ليتم اختيار أفضل الأبيات في أغراض أخرى، كالرقة والوصف والصدق والكذب. فيقال: «أرق بيت قالته العرب»، و «أوصف بيت قالته العرب»، و «أصدق بيت قالته العرب»، و«أكذب بيت قالته العرب».
تذكرت هذا التراث التصنيفي قبل أيام، حين دلني صديق عمري أحمد الحناكي الأسبوع الماضي على مقال كتب قبل تسع سنوات وجدت بعد أن قرأته أنه يستحق وبجدارة لقب «ألأم مقال كتبته العرب». وكلمة «ألأم»، صيغة أفعل لكلمة «لؤم»، كما هو الحال مع كلمات أمدح و أهجا وأغزل…الخ.
المقال لصالح الشيحي. كتبه في جريدة الوطن بتاريخ2004/12/7 بعنوان «أكاديمية كحيلان 2-2». كتب الشيحي المقال من جزءين. خصص مدخل الجزء الأول من المقال للاحتفاء والاستبشار بـ«أكاديمية الأمير سلطان لعلوم الطيران» المفتتحة توّاً. و الموصوف بـكحيلان في المقال هو سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز- رحمه الله- الذي تحمل الأكاديمية اسمه التي سماها الشيحي أكاديمية كحيلان. أما الجزء الثاني من المقال وهو الذي يستحق جائزة «ألأم مقال»، فقد خصصه الشيحي لمهاجمة الاحتفاء المجتمعي بافتتاح مدرسة متوسطة تبرع ببنائها عبدالكريم الجهيمان. يستكثر الشيحي المدح المُزجى لذلك المشروع، فيصفه بـ«بربرة ليس لها داع، ومقالات وإعلانات مخجلة». ويعتبر الشيحي ذاك الاحتفاء دلالة على «مجتمع يعشق التنظير والكلام كثيراً.. كثيراً». واعتراضه كان على توجيه المديح لرجل مثل عبدالكريم الجهيمان، أو لمشروع يحمل اسمه.
ما يجعلني أرشح هذا المقال للفوز بجائزة اللؤم هو استكثاره الاحتفاء بأنموذج إنساني فريد هو عبدالكريم الجهيمان. وحين أقول أنموذجاً إنسانياً فريداً، فإني أعني ما أقول. يمكن التدليل على ذلك بتأمل المسلك الفريد لعبدالكريم الجهيمان- رحمه الله- حيال إنفاق المال. فالرجل كان على المستوى الشخصي يعيش حياة أقرب للكفاف والتقتير على النفس من ناحية. وفي نفس الوقت كان كريماً إلى حد التبذير في إنفاق ذلك المال في وجوه الخير. دعوني قرائي الأعزاء أقدم لمحات من وجهي إنفاق المال لدى الراحل الكبير.
سأنقل ملامح العيش المتواضع للجهيمان مما كتبه الاستاذ محمد القشعمي عن رفقة جمعته لأسابيع بعبدالكريم الجهيمان في رحلة مشتركة لهما إلى سوريا قبل حوالي العشرين عاماً، وثق القشعمي جزءا من تفاصيلها في كتابه «عبدالكريم الجهيمان: رحلة العمر والفكر». كان الجهيمان يلبس في تلك الرحلة جاكيتاً عتيقاً أسرّ للقشعمي الذي ربما استغرب تقادم الجاكيت، أنه اشتراه إبان الحرب العالمية الثانية وظل يلبسه على مدى الخمسين سنة اللاحقة. وكان يفاخر أنه ظل يلبس زوج الحذاء الذي معه لمدة عشر سنوات دون أن يغيره. ويذكر القشعمي أنه اشترى مجلة روز اليوسف في رحلتهما تلك. وحين لاحظ أن الجهيمان يطالعها بين الفينة والأخرى، اشترى، أي القشعمي، العدد اللاحق من المجلة ليتسلى بها رفيقه. فما كان من الجهيمان إلا أن نهره على تبذيره وسوء إدارته للمال، فالعدد السابق من المجلة كان سيستغرق أسبوعين منه ليكمله بالنظر إلى عمره المتقدم وقتها حيث كان قد جاوز التسعين. لقد كان الجهيمان مثالاً على التقتير على النفس! صحيح؟ إن كنتم أجبتم بنعم أعزائي القراء فتأملوا الوجه الثاني للرجل حيال إنفاق المال.
يذكر الدكتور حمود البدر أنه حين كان وكيلاً لجامعة الملك سعود زاره الجهيمان في المكتب وأعطاه مبلغ مائتي ألف ريال، وهو مبلغ كبير بحسابات ذاك الزمان، وطلب منه أن يساعد به الطلبة المحتاجين كيلا تضطرهم الحاجة لترك الدراسة. وأكد عليه أن يبقى أمر هذا التبرع سرياً لا يعرف به أحد. و في إحدى السنوات تجمع لديه مبلغ نصف مليون ريال فتبرع به كله لمركز الأمير سلمان لرعاية المسنين. وينقل القشعمي في مقالة له في مجلة العربية عن الراحل فهد العريفي «إنه، أي الجهيمان، قد افتتح مكتبة صغيرة بالرياض لبيع الصحف والمجلات والكتب، وكان يستوفي من رواد مكتبته قيمة مشترياتهم قرشاً قرشاً، ولكنه لا يجمعها في صناديق مغلقة، أو في صرر يدفنها في الدار للعمر الطويل؛ إنما ليتبرع بها عن آخرها لعمل خيري إنساني».
أمّا حكاية بنائه للمدرسة المتوسطة التي ساء الشيحي الإشادات التي لقيها ذلك المشروع فتصلح مثالاً ليس على العطاء للمجتمع فقط بل حتى بلورة لمفهوم التعالي على وشائج المناطقية لصالح وشيجة أعلى هي الوطن. فعندما تجمع مبلغ مليون ونصف لدى الجهيمان، وهو على أعتاب المائة من عمره، فكر في أن يوجهها لعمل خيري دائم بدلاً من طريقته التي دأب عليها طوال عمره وهي التبرع للمحتاجين. وفكر أن مجال التعليم هو المجال المناسب بالنظر إلى الصورة الذهنية الشائعة أن ذلك من مهمات الدولة وحدها. وقرر ألا يكون تبرعه هذا مؤطراً بالانحياز لقريته، غسلة، أو منطقته شقراء، فكل مناطق الوطن لديه سواء. لذا، وقع اختياره على مدينة الخرج التي تربطه بها رابطة التعليم أيضاً، إذ سبق له أن درّس بها. حين تبرع ببناء المدرسة وكان يسكن فيلا في حي الروابي يبلغ ثمنها ربع المبلغ المتبرع به. كان يمكنه ببساطة أن «يتوسع» في بيت أكبر لو كان تفكيره نمطياً. كان الجهيمان، ليس حسب أعماله الفكرية فقط بل بسبب سيرته الذاتية أيضاً، أنموذجاً إنسانياً يستحق كلا من الاحتفاء و التأمل. حين يوصف مديح هذا البهاء الإنساني بـ»بربرة ليس لها داع» فإن هذا هو اللؤم بعينه.
الغريب أن لؤم كتابة الشيحي لا تتوقف على استكثار الاحتفاء المجتمعي بمشروع الجهيمان المجرد من القوة، والسالف ذكر أمره مع كيفيات إنفاق المال، وعده ذلك الاحتفاء «بربرة» فاضية، بل تتعداه للتعامل مع ردود الفعل على ذلك المقال، فكانت نزقة متعالية. وسيزول العجب وربما يزيد، حين يُعرف سبب تفاوت لغة الشيحي في الرد على محمد السيف. فالكاتب محمد السيف كان يمثل نفسه والمواطنين أمثاله.
هل رأيتم مقالاً ألأم من هذا؟ بالنسبة لي، هذا ترشيحي لـ«جائزة» ألأم مقال كتبته العرب.

 

 

   

رد مع اقتباس