الموضوع: حتى لا أنسى ...
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-28-2012, 08:15 PM   رقم المشاركة : 10

 

البعد السير ذاتي في كتاب "حتى لا أنسى" للدكتور سعيد الملَّيص

بقلم: د. محمود شاكر سعيد*



يحدد نقاد الأدب فن السيرة الذاتية بأنه: فن قصصي نثري يجمع بين التاريخ والأدب يعرض كاتبه سيرته الذاتية أو جزءًا منها؛ معبرًا عن واقع وجوده الخاص، ومركزًا فيه على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة في إطار بيئته العامة وتاريخها بصفة عامة.
وإن كتاب " حتى لا أنسى" الذي أضاف إلى عنوانه الدكتور سعيد محمد المليص عبارة "الصفحة الأولى" مؤكدًا في مقدمته أنه حين سطر بعض المواقف التي مرت في حياته فإنه لا يسجل تاريخًا ولا شيئًا خاصًّا بشخصه ؛ لأن كل أبناء المجتمع الذين عاشوا الحقبة التي تحدث عنها هم شركاء في تلك الأحداث ومثيلاتها مع اختلافٍ في الدرجات والمناشط؛ قد استطاع أن يستدعي أجزاءً من التاريخ وأن يوظفها في إطار سردي مستفيدًا من خبرته التربوية والإدارية بعرض الحقيقة بروح متسامية عن الصغائر، مع إبراز المرارة التي تملأ نفسه والتي سببتها له بعض الأحداث والمواقف، مؤكدًا أن الحياة يجب أن تعاش بقوانينها لا من خلال تصوراتنا المسبقة لها، ولا من خلال مشاعر أفلاطونية في تصورها؛ فكان بذلك موضوعيًّا إذ عرض تجربته الخاصة بتواضع جم، وبشفافية بالغة، وبمصداقية واضحة؛ حيث كنت أحد شهود تلك المرحلة ، وكنت قريبًا من كثير من الأحداث والمواقف التي تناولها المؤلف في كتابه، وشاركت معاليه في بعض البرامج والأنشطة التي عرضها في كتابه.

وإن بدا كتاب المليص أقرب إلى التقرير الإخباري عن حالة ماضوية أكدت حضورها عبر عدسة مقرِّبة جدًّا وبخاصة لمن عايش تلك الأحداث أو تابع مسيرتها؛ فقد تميز الكتاب بالرصد المكثف للأحداث التي جسدت تجربة المؤلف التي مالت إلى الوثائقية وعرضت مجموعة من الأحداث بأسلوب فن المتواليات المنفصلة/ المتصلة التي رسمت الواقع باحثة عن الجمال والصفاء من خلال حياة خشنة فقيرة؛ حيث سرد المؤلف مسيرة حياته الاجتماعية والتعليمية والوظيفية في إطار الحياة العامة التي عاشتها ربوع ومناطق المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك المؤسس –رحمه الله-وحتى عهد النماء والرخاء في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.
وإن كان كتاب "حتى لا أنسى" يقترب من مفهوم تقريب الفكرة الواحدة من خلال طرائق فنية مختلفة، وصياغات جمالية متنوعة؛ حيث كرر المؤلف ذكر بعض الأحداث أحيانًا؛ فقد انصهرت نصوصه لتشكل مزيجًا من الأنواع الأدبية كالقصة والمقالة العلمية والتاريخية والخاطرة والسيرة الذاتية والمذكرات والمواقف التربوية والطرف التي استذكرها للتسلية حينًا وللعبرة حينًا آخر .... إلى غير ذلك ما يجعل هذا الكتاب محاولة جادة لاستكشاف معاني الأشياء والأحداث المسكوت عنها في الحياة التعليمية والإدارية التي عاشها المؤلف، مؤكدًا أهمية العودة إلى قراءة الواقع ثم رسم خارطة طريق واضحة تتلاءم مع قيمنا وتقاليدنا وتراثنا الذي نعتز بالانتماء إليه، وأن نعيد النظر في الإستراتيجيات المتبعة في تسيير أمورنا الخاصة والعامة أحيانًا.
وما من شك في أن كتاب "حتى لا أنسى" صورة مشرقة للعصامية والتضحية والإخلاص في العمل، وما يترتب عليها من النجاح والتوفيق والسداد، وهو يعيد القارئ إلى سنوات وحقب تاريخية تحمل كثيرًا من الذكريات التي تجمع بين الفرح والأسى، ويرسم صورة الجد والاجتهاد لجنود نذروا أنفسهم لبناء هذا الوطن المعطاء من خلال سيرة ذاتية لابن إحدى القرى النائية الذي نشأ في منزل محدود الحجرات تضيؤه الشمس نهارًا والقمر ليلاً، لا أثر فيه لرياش، النبع معينه، والحصير فراشه، وتردد الأصوات في الجبال والوديان وسيلة الا تصال به، الذي حصل على درجة الدكتوراه من جامعة "إنديانا" بالولايات المتحدة مُصَدِّرًا أطروحة الدكتوراه بقوله تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" والذي قدمه عمله ليكون أستاذًا جامعيًّا فمديرًا عامًّا فوكيلاً للوزارة ثم عضوًا في مجلس الشورى فمديرًا عامًّا لمكتب التربية لدول الخليج فنائبًا لوزير التربية والتعليم ثم عضوًا في مجلس الشورى مرة أخرى؛ حيث تركت كل مرحلة من مراحل حياته العلمية والعملية بصماتها الواضحة التي رسمها في كتابه "حتى لا أنسى" مؤكدًا أهمية الاستفادة من هذه التجارب والممارسات في حياة أبنائنا في هذا العصر الذي تتلاطم فيه المعارف والعادات بشكل يثير القلق على مستقبل أجيالنا القادمة.
كما أن كتاب "حتى لا أنسى" قد رسم صورة واضحة لحقب تاريخية متعاقبة، وأرخ لجهود شخصيات متعددة من أبناء هذا الوطن المعطاء وأبناء الدول العربية الذين أسهموا في النهضة التعليمية والتربوية التي شهدتها المملكة خلال ستة عقود؛ ما يؤهل هذا الكتاب للقراءة الماتعة؛ لأنه جاء استجابة لشعور بأن النقلة الاجتماعية والتعليمية والثقافية والمادية التي عايشها المؤلف في هذا الوطن المعطاء لم يكتب عنها ما فيه الكفاية؛ فأراد أن يضع أمام القراء الكرام وخاصة أبناء الجيل المعاصر صورًا عاشها الآباء والأجداد مؤملاً أن تنفعهم في مسيرتهم لبناء مستقبل مشرق، وليستخلص منها القارئ التجارب والمعاناة التي مر بها المؤلف، وما حفلت به أيامه من مصاعب وتحديات، والآثار التي تركتها مسيرته العلمية والعملية والتربوية والإدارية على روحه وجسده، وكيف تجاوزها بحيادية ومصداقية.


د/ محمود شاكر سعيد

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس