عرض مشاركة واحدة
قديم 10-30-2008, 11:24 PM   رقم المشاركة : 28
Berightback


 

تبخر حلم الدكتوراه


وذهبت الأحلام أدراج الرياح



( الحلقة الثانية )

دخل معلم اللغة العربية إلى فصل الصف السادس وكعادته سلّم على طلابه وكتب على السبورة :
بسم الله الرحمن الرحيم
التاريخ : ؟ /4/1385 هـ .
المادة : تعبير .
الموضوع : رحلة مدرسية .

وضع الطباشير في المجرى المخصّص لها أسفل السبورة ، وأزال غبارها من على كفه بثلاث نفخات متتالية .
استقر المعلم أمام طلابه واقفاً وقال : هذه أولى حصص التعبير ولذا سأترككم تكتبون عن رحلة مدرسية إلى أحد الأودية المجاورة . فما هي العناصر التي تقترحونها لتستعينوا بها على التعبير بسهولة ؟

بعد مناقشة بسيطة .. كتب المعلم بعض العناصر على السبورة ، وترك لهم ما بقي من زمن الحصة للتعبير تحريرياً في كراساتهم وجمعها منهم بعد سماع صفارة انتهاء الحصة ليصححها في حصة فراغه أو عندما يعود إلى منزله .

وبالمناسبة ( أعطى الموجّه سعيد فلحوط – سوري الجنسية – الذي زار المدرسة في العام السابق تعليمات الإشراف التربوي لطريقة تصحيح واجبات اللغة العربية لمعلميها ووعدهم بمتابعة الالتزام بتطبيقها في زياراته التالية ومنها :-
1- ممنوع تصيح الواجبات داخل الفصل .
2- توزع الكراسات بعد تصحيحها نهاية الحصة حتى لا ينشغل الطلاب عن الدرس .
3- لا يصوّب المعلم أخطاء طلابه بنفسه ؛ بل يترك لهم التصويب بأنفسهم بعد ملاحظة رموز التصحيح التي يضعها المعلم ليسترشد بها المخطئون ومنها :-
أ / إذا كان الخطأ نحوياً يضع المعلم خطاً أحمرَ تحت الكلمة الخطأ ويكتب تحتحه حرف ( ق ) .
ب/ وإذا كان الخطأ إملائياً فيضع تحت الخط الأحمر حرف ( م ) ، وغيرها من التوجيهات .......الخ.

( أعلنت إدارة المدرسة عن رغبتها في القيام برحلة مدرسية لطلابها إلى وادي العطفين ، فلم أكد أسمع الخبر حتى بادرتُ بتسجيل اسمي ضمن الطلبة المشتركين . . . ) .
المقدمة الاستهلالية السابقة استحوذت على إعجاب المعلم أثناء قيامه بتصحيح إحدى الكراسات ، فعاد لغلاف الكراسة ليتأكد أن صاحبها هو من طرح سؤال القواعد المحرج . لأنه لم ير في النجابة مثله ... تأكد أنه الطالب نفسه ..
( يا سلاآآآآآآآآآآآآآآآم )! كلمة درج على ذكرها _ بمد الألف أكثر من اللازم _ إذا تملّكه الإعجاب.
ولو لم يكتب الطلاب الموضوع في الحصة أمام ناظريه لظنّ أن الطالب استعان بغيره لانتقاء هذه الكلمات الرائعة ...
( معقول ؟!! ... طالب في الصف السادس يتمتع بهذا الخيال الإبداعي وبهذه القدرة اللغوية الفائقة ؟!!...لا أكاد أصدِّق ) ، هكذا حدّث نفسه في صمتٍ .
أكمل المعلم قراءة الموضوع وأُعجب أيما إعجاب بترابط الصور الوصفية وسلاسة العبارات وسلامة الأسلوب ، ولكن نظره وقف على الخطأ الإملائي البسيط كلمة الفعل ( أكد ) ، فشك في صحة إملائها ،فهو يعلم أن الفعل المضارع هو ( أكاد ) أي أوشك وليس ( أكد ) ؛ فالمفروض أن يكتبها ( لم أكادْ ) فكيف كتبها الطالب ( لم أكد ) ؟!!...
وأقنع نفسه بأن ذلك خطأً إملائياً يجب لفت انتباهه له ، لأنه نسي الألف ، فوضع خطاً أحمرَ تحت الخطأ وكتب تحته حرف ( م ) . ليترك للطالب فرصة التصويب .

بعد نهاية حصة اللغة العربية في اليوم التالي وزّع كراسات التعبير المصحّحة على طلابه وخرج من الفصل ، ولم يكد ينتصف الطريق إلى الإدارة حتى سمع طالباً يدعوه أستاذ ..أستاذ . فألتف إليه متسائلاً : ما بك ؟!
الطالب – صاحب السؤال المحرج ــ يهرول إليه مسرعاً وبيده كراسة مفتوحة .
الطالب : لماذا وضعت خطاً أحمرَ تحت كلمة أكد وتحته حرف ميم يا أستاذ .
معلم التعبير : (هات الكراسة. . أرني .)

( تبادر إلى ذهن المعلم سؤاله المحرج في حصة القواعد فحدّث نفسه بعد أن رأى المشكلة أن لا يستعجل في الرد عليه فقد يكون الطالب على حق .)

معلم التعبير : (اعذرني . . فقد صححتُ الكراسات في ساعة متأخرة من الليل وكنت مستعجلاً ؛ والآن عندي حصة . اترك كراستك معي وسأراجع تصحيحها في حصة الفراغ إن شاء الله ) .
الطالب : شكراً يا أستاذ .
انتهى الموقف ، وانصرف الطالب .
وعاد معلم التعبير مع زميليه الساكنين معه إلى البيت المستأجر بعد انتهاء اليوم الدراسي وبعد ازدراد لقيماتٍ من الغداء علق بعضها في حلقه ليتبعها بقليل من الماء ؛ هبّ مسرعاً إلى كتبه ومراجعه المتواضعة ليبحث بين صفحاتها عن ضالته ، وركّز على المواضيع التي لها علاقة بالأفعال ، وتعرّف على الأفعال المعتلة وأقسامها وعلم أن :

( الفعل المضارع الأجوف - الذي ما قبل آخره حرف علة - يحذف منه حرف العلة إذا سبقه جازم لالتقاء الساكنين )

معلومة لأول مرّة تمرُّ على معلم التعبير المسكين ، قام بتطبيقها على ( لم أكد ) فعرف أن حرف العلة ( الألف ) الموجود قبل آخر حرف في الفعل المضارع ( أكاد ) حُذِفَ منه لالتقاء الساكنين عندما دخل عليه حرف الجزم ( لم ) .
( يا الله !!) قالها بتؤدة ، والتعجب يشل فكره وألم الحسرة يعتصر فؤاده ، كيف لا وطالبه يتفوّق عليه – بالسليقة .. بالتعلم .. بأي طريقة .. لا يهم - ؛ المهم أنه أفضل منه وكفى .
عندئذٍ انتابه شعور رهيب بالضعف والدونية وباحتقار الذات ، وكاد أن يُصعَق ؛ فالطالب على صواب وهو على خطأ . .
قال وبصوت عالٍ : غير معقول ... غير معقول الطالب هذا ( بيجنني ). . ألتفت إليه زميلاه باستغراب واندهاش متسائلين : ( إش فيك الله يشفيك ) ؟!!! . قال : أحرجني الأسبوع الماضي بجملة صلة الموصول التي لا محل لها من الإعراب واليوم بحذف حرف العلة من الفعل الأجوف لالتقاء الساكنَين إذا سبقه جازم ، شي غريب وعجيب !! . . . طالب بالصف السادس أشطر مني؟!!
أكيد أشطر مني . .تلفظ بها بصوتٍ تخنقه الحسرة . ثم أردف قائلاً : بس الغريب كيف عرف هذه الأشياء وهو بالصف السادس ؟!. . .لالالالالا سأترك مواصلة دراستي وأتفرغ لدراسة اللغة العربية حتى أخارج نفسي مع هذا الطالب وأمثاله .
أمثاله ؟!! وهل يوجد في المدرسة مثله ؟!!... مستحيل .

فتح كراسة الطالب ، وبموس الحلاقة التي كان يمررها المعلم يوم بعديوم على شاربه وذقنه الذان لم يكتمل نموهما ، لحثهما على التسارع ، فهو بحاجة ماسة لنموهما بكثافة ،
بتلك الموس حك وبرقةٍ ذلك الخط الأحمر وحرف الميم من تحت ( لم أكد ) .ثم أعادها للطالب في اليوم التالي معتذراً ؛
المعلم : كما قلت لك بالأمس أنني صححتها في آخر الليل وكنت مستعجلاً ، وتصحيحي خطأ وقد عدّلته . ولكن قل لي : هل تعرف السبب في حذف حرف العلة ( الألف ) من الفعل ( أكاد ) عندما سبقه جازم ؟ . .
الطالب : نعم يا أستاذ السبب هو التقاء الساكنين ؛ حرف الدال عليه سكون بفعل الجازم وحرف العلة بطبيعته ساكن فيحذف الألف ، والشواهد من القرآن كثيرة . كقوله تعالى ( ما لم تستطع عليه صبراً ) في سورة الكهف حُذِفتْ الياء من الفعل المضارع ( تستطيع ) عندما سبقه حرف الجزم ( لم ) .

وقف المعلم صامتاً في ذهول حتى انتهى طالبه من الحديث .
المعلم : ( بعد أن اصطنع نحنحة باهتة ) نعم . . نعم . . ممتاز . . بارك الله فيك .
ولسان حاله يقول الحمد لله أننا على انفراد وليس أمام زملائه في الفصل ، وأقسم في أعماق نفسه أن يترك مواصلة دراسته منتسباً للحصول على الدكتوراه نهائياً ويهتم بدراسة اللغة العربية من أبجدياتها .
وترك المسكين مواصلة دراسته وبدأ بجدٍ في مراجعة كل ما يتعلق بالمواضيع التي سيعلِّمها لطلابه ، ويسهر الليالي ليحضِّر دروس اللغة العربية ،وكتبه ، وألفية أبن مالك ، وشرح ابن عقيل وغيرها أمامه لدرجة أنه حفظ أكثر من ثلاثة أرباع كتاب ألفية ابن مالك ، ولم يقف أمام طلابه ليلقي درساً إلا وقد ألمّ بكل شيء يتعلق به من قريب أو بعيد ويَفترِضُ الاحتمالات التي يمكن لذلك الطالب أن يسأل عنها .
وللأمانة والإخلاص ؛ هذا ما يجب أن يقوم به المعلم ، عليه أن يطوّر ذاته دائماً وباستمرار بقراءة كل جديد في مجال التربية والتعليم وطرق التدريس المناسبة ، وأن يَحضُر الدورات والندوات التي تقيمها الجهات المتخصصة ويطّلع على النشرات ويتقيد بتوجيهات المشرفين التربويين ، من المؤكّد أن المؤهل العلمي له دور ولكن قد يستعاض عنه بالثقافة والتطوير الذاتي ، واليوم - والحمد لله – ثورة تكنولوجيا المعلومات تحقق كل شيء .

ضاعت آمال المعلم ..وذهبت أدراج الرياح ، وتحطّم طموحه على صخرة الطالب النجيب ، واكتفى المسكين بكفاءة معهد إعداد المعلمين الابتدائي ردحاً من الزمان ، ثم طوّر نفسه قليلاً بدبلوم مركز الدراسات التكميلية عام 1390 هـ ، وبدبلوم مركز العلوم والرياضيات عام 1406 هـ ، وحمد الله واقتنع بما قسمه له ؛ فالقناعة كنز لا يفنى .

هل تريدون أن تتعرفوا على ذلك المعلم المسكين ؟
وهل ترغبون في معرفة اسم ذلك الطالب النجيب ؟
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
*
المعلم المسكين هو : الفقير إلى ربه أخوكم : سعيد راشد .
والطالب النجيب هو : فضيلة الشيخ الدكتور سفر عبد الرحمن الحوالي ( حفظه الله وشافاه )

آسف على اقتطاع جزءٍ من وقتكم الثمين وكلي شوق إلى قراءة انطباعاتكم وإضافاتكم التي ستثري الموضوع وأستمد منها العون بعد الله لكتابة الحلقة الثالثة والتي ستكون بعنوان :

وفاء الشيخ الدكتور : سفر الحوالي لأستاذه المسكين ؛ فترقبوها قريباً إن شاء الله تعالى .

أتمنى لكم الصحة وطول العمر ، ولأقلامكم التألق والتميز المستمر.
وأهديكم أطيب ســــــــــلام ، وأزكى عبير الاحــــــــترام

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس