عرض مشاركة واحدة
قديم 11-10-2011, 03:46 PM   رقم المشاركة : 18

 

من يفتش في أوراق الأستاذ الكبير مطهر الإرياني وما كتب عنه، لا يجد الكثير، باستثناء كتابتين إحداهما للدكتور الأستاذ عبد العزيز المقالح في تقديمه لديوان "فوق الجبل" والأخرى للأستاذ الراحل عبد الله البردوني. وهذا يدل على أن هناك كتبا قيمة، وجهدا يبذل ويخرج إلى الوجود ولا يلتفت إليه أحد، إلا قلة من هنا وهناك. وهذه خصيصة عربية، وخصيصة يمنية بامتياز، فتصبح ثرواتنا الفكرية كما يقول صاحب المثل "يا راقصة في الغدرة، ما احد يقول لك ياسين". لكن ما يطيّب خاطر الكاتب انه أوجد فكرا يخدم الناس، وهذا الأهم*.
"بالات" الإرياني:

"البالة والليلة البال" طقس غنائي جماعي راقص ينشر الفرح والبهجة في المناسبات الاجتماعية والدينية، كالأعياد والأعراس والمواسم الزراعية للخير – "علان"، وتفاصيل الحياة اليمنية، ريفاً وحضرا.
استطاع مطهر الإرياني بحسه الفطري الجمالي أن يستلهم تفاصيل الحياة الريفية اليومية، وأن يحاكي قضايا أوسع للإنسان اليمني وصراعه مع القوت، أكان داخل الوطن أم خارجه.
بكرت مثله مهاجر، والظفر في البكر
وكان زادي –مع اللقمة– ريالين حجر
وابحرت في ساعية تحمل جلود البقر
والبن للتاجر المحظوظ والطاغية
"بالاته المتنوعة" عدسة فوتوغرافية لاقطة يتتبع بها كل حركة لأي كائن: إنسان، حيوان، ظواهر طبيعية؛ وظفها شاعرنا المغموس بالطين الملامس للهم الأعمق والأكبر والأقسى في تاريخ الإنسان اليمني رجالاً ونساء وأطفالاً: الغربة والاغتراب.
لم يكتفِ بذلك من نحت صور بليغة لجملة من: التعابير والأمثال الشعبية، والدندنات والأهازيج، بل وأن يغوص في الداخل: نفسية اليمني، تفاصيله الحميمية، الأحاسيس الثائرة من: تسلط "العكفة" (العسكر) وجفجفة الأدياك؛ حتى صوّب وجهه نحو "الساعية" (الباخرة)، ثم تفاصيل الحياة الشاقة على متن المركب "الاجريكي" (الاغريقي)، واحتراق وجه العامل مثل "المدخنة"، وتنقلاته في مدن الغربة الشهيرة: أرض الحبش، عصب، "مريكن (أميركا) و"مرسين" (مرسيليا)...الخ.
بحثت عن شغل في الدكة ومينا "عصب"
وفي الطرق والمباني وما وجدت الطلب
شكوت لاخواني البلوى وطول التعب
فقالوا البحر، قلت البحر واساعية
بجانب الأعمال الشاقة في وطن الغربة في البحار، جسد الإرياني في أبيات "البالة " لوحة الزمن/ الجلاد، الزمن الطويل "خمستعشر" سنة، ذلك الزمن الذي يخلف الإحساس بالوحشة والوحدة، خصوصاً في الأعياد؛ "والليلة العيد وأنا من بلادي بعيد".
وعشت في البحر عامل خمستعشر سنة
في مركب اجريكي اعور حازق الكبتنة
وسود البحر جسمي مثلما المدخنة
ذاكرة المكان في الداخل الذي يحيط به الموت (الفنا) والطاعون، ليس فقط من "العكفة"، عسكر الإمام، الذين يمتصون عرق الناس، بل من ذاكرة الفناء والطاعون، كحقيقة واقعة عاشها ولمسها الكاتب – الأديب؛ إنه الموت الفعلي الذي يترصد الأطفال، يطرق بيتا بيتا، يفتش عن اللحم اللدن والأسنان اللبنية. والفرار منه إلى عالم البحار أو عالم "الغدرة".
ذكرت اخي كان تاجر أينما جاء فرش
جوا عسكر الجن شلوا ما معه من بقش
...
خرجت انا من بلادي في زمان الفنا
أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا
صور تراجيديا مأساوية تحاكي وضع الإنسان اليمني الذي كتب عليه أن يكون "سيزيف"، يغلق أبوابه على "الفنا" والطاعون. إنها اللوحة الفحمية من الداخل والخارج، سخام حياة "الفنا" السرمدية.
"يا الله لا هنتنا"
هذه الدعوة التي ننطق بها يومياً، ونسمعها من الناس أجمعين، حتى لو حملت لغات مختلفة، الدعوة الإلهية التي ستوقف آلة الدمار العمياء؛ "فنا" الداخل من شظف العيش والعزلة والفقر والعسكر الذين يتعشقون الأدياك، حتى آخر بقشة، و"فنا" الغربة التي أوصلته حتى إلى بلاد "الدناكل" (الاجانب).
"يا الله لا هنتنا": تعويذة، قفلة للحياة الفحمية، الألم المتشظي في ذاكرة ليلة العيد، "الليلة العيد وانا من بلادي بعيد"؛ فتصيّره –قطعاً– بـ"لا"، و"لا" إلى عيد مؤانسة، عيد للملة، الأهل والبيت والزوجة، والبيت الدافئ، ومواويل البالات الراقصة التي لا تتعايش مع النقيض: إهانة الإنسان.
غنيت في غربتي: ياا لله لا هنتنا
ومزق الشوق روحي في لهيب الضنى
حياة البالات في"وادي بنا"، جنة الأرض، تقول: "يا لله لا هنتنا" و"يا ليت والبحر الأحمر ضاق ولا وصل". تعبيران يتماثلان بإن الإهانة توجد بفتح البحر الأحمر ووسعه، وانعدامها مشروط بضيق هذا البحر، حتى لا تمتد داخله قدم يمني يعيد مأساة "مراكب الاجريك" التي تحمل جلود البقر، تشوي الروح قبل الأجساد الهزيلة، لترجع حياة إنسانية يحن لها مطهر، وكل مطهر في اليمن، حياة بها مسحة من الريف والبالات التي تشق عنان السماء وعيون الشمس.
والليلة البال ما للنسمة السارية
هبت من الشرق فيها نفحة الكاذية
فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية
عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية
نبذة عن الأستاذ الكبير مطهر الإرياني:
– ولد الشاعر مطهر علي الإرياني عام 1933 في حصن إريان بلواء إب.
– تلقى تعليمه الأول على يد أخيه الأكبر الذي يعده أستاذه الأول.
– تلقى تعليمه الجامعي في القاهرة، حيث تخرج عام 1960 في كلية دار العلوم.
– عمل في التعليم، والإعلام، ومصلحة الآثار.
– خبير باللغة اليمنية القديمة والنقوش، وله منشورات من النقوش اليمنية القديمة (المسند).
– له دواوين في الشعر العمودي الفصيح لم تنشر بعد.
– اشترك في تأليف كتاب "صفة اليمن عبر العصور".
– أصدر عددا من الأعمال الغنائية والمسرحية وعدة أعمال في المسرح الغنائي.
– أهم إصداراته: "نقوش مسندية"، "المعجم اليمني في اللغة والتراث"، ديوان "فوق الجبل".
* يعتزم بيت الموروث الشعبي في أجندة برامجه المستقبلية –إذا ما تعاونت جهات مهتمة بقضايا الفكر– أن يحتفي بمطهر الإرياني، عبر محاور بحثية عدة تتبع حياته المختلفة: إنساناً، وكاتباً في التاريخ وقضايا اللغة واللهجات وقضايا التراث الشعبي... نتمنى أن يتحقق لبيت الموروث الشعبي حلم كهذا.

نتابع من هنا وهناك روائع الأرياني
معك أخي عبدالرحيم قسقس

 

 

   

رد مع اقتباس