عرض مشاركة واحدة
قديم 11-10-2011, 03:37 PM   رقم المشاركة : 16

 

ولنتابع قراءة عبدالباري طاهر

إن تجلي قيم العامل والفلاح والبحار والجندي ــ حارس البن ـ ليست ترفاً إبداعياً ولا موقفاً تأملياً ولاتقمصاً واهناً ـ لعيشة الفلاح ما أحلاها ـ وإنما هي ممارسة واقعية لفلاح حقيقي خبر حراثة الأرض،وترويض المدرجات ومكابدة المعايشة الواقعية للنزاع منذ البذار وحتى الحصاد ،وهو إلى جانب ذلك موقف اخلاقي،وانتماء فكري،ترفده الممارسة اليومية والالتزام السياسي،وقاموس الشاعر قاموس الحياة اليمنية بالمعنى الواسع للحكمة.
لقد ربط المفردة «العامية» بجذرها الحضاري اليمني وسندها الحميري وميز بينها وبين المفردة ذات البيئة المالحة ،القاسية،فالمفردة عنده شاهدة ازدهار الفن المعماري والبناء الهندسي المتطور ومعطى من معطيات الخصب الزراعي والتطور التجاري ،والبنيان المعرفي.
والقارئ لقصائد الشاعر يدرك التجديد في القصيدة العامية ،والحفاظ على تقاليدها في الوزن والعروض وتخليد المفردة«الحميرية» التي أهملتها المعاجم العربية التي حصلت من البداوة والتبدي سندها الوحيد وشرعيتها الاحتجاجية.
اللافت أن عمق معارف الإرياني لم تشكل عائقاً أو عقبة إزاء ابداعه الشعري المتعارف عليه بين النقاد،إن المتعمق في التعقيد والالتزام الدقيق بالتقاليد المتوارثة للشعر غالباً ما يكون على حساب الابداع والتجديد وقد استطاع الشاعر توظيف خبرته بالقواعد،ومهارته بتقاليد القصيدة العربية الفصحى والعامية المزج بين اساليب وتراكيب القصيدة ليخرج بفاكهة من الابداع مختلفة الألوان والأكل.


مطهر الإرياني عالم آثاري لغوي
درس الاستاذ/مطهر خط المسند الحميري على يد مفكر وعالم جليل من أفضل المؤرخين اليمنيين وعلماء اللغات، إذ كان يتقن خمس لغات حية وعدداً من اللغات الميتة ومنها خط المسند الحميري والعبرية وغيرهما ألا وهو العلامة الدكتور /فضل الله الهمداني ،كما أن اهتمامه الرفيع بالآثار ومواقعها وتتبع كل ما اكتشف منها والقيام بزيارات متكررة للمواقع الاثرية والكشف عن كنوزها،والقيام بقراءات علمية وتاريخية ولغوية لخط المسند وتدوين ما اكتشف من هذه الكنوز على يد المستشرقين والمنقبين والباحثين أمثال «ألبرت جام» ووليم فولبرايت وكونتيني روسيني وأحمد فخري وريكمانس وأحمد شرف الدين والكهالي ،إضافة إلى النقوش التي اكتشفها بداية حبه،منذ الطفولة وإبان زيارته لألمانيا بنصف العام 70وتتبع قوائم الدارسين لملوك اليمن القدماء: أمثال فون فيسمان دريكمانس وهوبل وفلبي وغيرهم.
لقد قام الباحث والعالم اللغوي والمؤرخ بقراءة العشرات من هذه النقوش،وقد مكنه تخصصه واحترافه وحبه للتاريخ اليمني من تكوين رؤية عميقة عن التاريخ اليمني القديم معززاً ومسنوداً بأدلة وشواهد علمية صادقة.لقد قام الإرياني بالترحال عشرات ومئات الكيلو مترات في أنحاء شاسعة من الأرض اليمنية وطوف بالبلاد ماشياً وراكباً مختلف وسائل الركوب ابتداءً من الحمير والبغال والسيارات، وقرأ التاريخ اليمني بعمق ليضيف إلى عمره الذي لايتجاوز السبعين عاماً أزمنة وأحقاباً متطاولة تمتد من القرن الواحد والعشرين إلى بواكير فجر الحضارة والتاريخ اليمني.وتتسم قراءات الإرياني للنقوش بالإطلاع الواسع ومعرفة عميقة بمختلف مراحل خط المسند،وبالسياسات التي تمثل جذور العربية،ويستعين الشاعر بموهبته الشعرية،والدينية واللغوية في إضاءة النصوص والآثار التي يستقرئها بحصافة ودقة.لقد تابعت منذ كنت في اليمن الجديد مطلع السبعينات جهود عالمنا في قراءة هذه الاكتشافات التي تعيد الاعتبار لحضارة سامقة رفدت الحضارة العربية الإسلامية، ولايزال عطاؤها غزيراً تنتظر الكشف والقراءة والبحث ويقدم كتابه«نقوش المسند وتعليقات» جهداً علمياً ومبحثاً للدارسين عن اليمن: حضارةً وفكراً وتاريخاً،ويحتفظ الاستاذ/مطهر الإرياني بروائع من هذه الكنوز لكن نتمنى أن يتمكن من نشرها لإثراء المكتبة اليمنية والفكر والتاريخ اليمني بهذا الزاد المعرفي.


الإرياني والمعجم اليمني
تتميز جهود الإرياني المعرفية بالغنى والتنوع ،فهو كما أسلفنا عالم آثاري وعليم بحرف المسند ،خبير بالتراث الشعبي «الفلكلور» ومطلع على مواسم الزراعة وكل مايتعلق بها.كما أنه متمكن من العروض والقوافي؛ بل هو منظر لبناء القصيدة الشعبية،إضافة إلى أنه شاعر من ألمع شعراء العامية اليمنية ،وقد تتبع اللهجة العامية في منطقته بصورة خاصة وفي اليمن بصورة أعم،وقد أصدر المعجم اليمني في اللغة والتراث «حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية» وفي مقدمة الكتاب «القيم» والريادي يؤكد اللغوي أن اهتمامه بالنقوش المسندية وتاريخ اليمن القديم قد بدأ منذ أكثر من ثلاثين عاماً،وأثناء تدارس هذه النقوش مع المستشرق الألماني الكبير البروفيسور «فالترو» وكان توافقاً بين آراء الباحث ورغبة المستشرق في تدوين المفردات اليمنية التي أهملتها المعاجم والقواميس العربية.
وكعالم رائد في المعجم اليمني يحدد بمهارة ودقة الظواهر السلبية التي اعتورت عملية تدوين البنية التراثية العربية منذ البداية ويحددها بالانحصار والاجتذاذ والانقطاع والبدونة.
ويقيناً فإن الجهد اللغوي الذي قام به فقيهنا لايكشف عن كل الكنوز التي أغفلها عصر التدوين للأسباب التي أشار إليها،ولكنه وهذا هو الأهم يفتح ثغرة في الجدار السميك الذي أقامته عصور من القهر والتخلف والاستبداد والبدونة.
لايتصدى فقيهنا المبجل لعميد الأدب العربي طه حسين الذي اتكأ على قول عمرو بن العلا«مالسان حمير بلساننا،ولالغتهم بلغتنا»وإنما يتصدى لما هو أكبر من هذه المقالة،إنه يتصدى لعصر التدوين كله،وعصر الاحتجاج الذي حصر الحجية «اللغوية» في المناطق الأكثر بداوة وتصحراً،أو بالأحرى في القبائل المبرأة من اقتراف خطيئة التحضر والتمدن ،لذا فهو يرى بمجهر أبعد وأغزر وأعمق،وهذه القصة التي يحجم حتى اليوم فقهاء اللغة والنقاد من إعادة قراءتها ونقدها لأنها حرمت الأمة العربية والإسلامية من كنوز معرفية هي بأمس الاحتياج إليها.
وتتجلى القراءة الأعمق في إدراك هذا الفقيه المعاصر لوظيفة عالم اللغويات الذي يغوص في الأعماق الروحية والنفسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فيعيد صياغة هذه البنى التي تمثل جوهر الإنسان وكنهه الحضاري.
ويمثل تحقيقه إلى جانب زملائه د.حسين العمري والدكتور يوسف محمد عبدالله لمعجم«شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم» لنشوان بن سعيد الحميري انجازاً حضارياً ومعرفياً قل نظيره في عصرنا.
وكم نتمنى لو تهتم جامعة صنعاء ومراكز البحث لإلزام بعض طلاب اللغة القديمة «المسند» وطلاب التاريخ والآثار وبعض الباحثين من التتلمذ على هذا المفكر والأديب ،والمؤرخ لإحياء الدارس من حضارة وتاريخ اليمن السعيد إن شاء الله.

 

 

   

رد مع اقتباس