عرض مشاركة واحدة
قديم 08-22-2011, 12:04 PM   رقم المشاركة : 34

 

أيها المسلمون:
هلا وقفتُم عند فرح الله بتوبة عبده؟! «للهُ أفرحُ بتوبة عبده من رجلٍ أضلَّ راحِلَته في فلاة وعليه متاعُه وطعامُه وشرابُه، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش، فنام نومةً، ثم رفع رأسَه فإذا راحِلتُه عنده».
ألا يبهَرُ الصالحين هذا الترحابُ الغامِر؟ أتُرى سرورًا يعدِلُ هذه البهجةَ الخالصة؟ توبةٌ وأوبةٌ يفرحُ الله بها، فهي انتصارُ العبد على أسباب الضعف والنفس الأمَّارة بالسوء والشيطان الرجيم، إنه فرحُ الله البرِّ اللطيف المُحسِن الكريم الجواد الرحيم.
الله أكبر - عباد الله -؛ لقد جعل الله التوبةَ وسيلةً لمحبته وسبيلاً لفرحه، ولم يكن هذا الفرحُ من الله في شيءٍ من الطاعات غير التوبة، فرحُ إحسانٍ من العليِّ الأعلى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[البقرة: 222]، ربُّنا - عزَّ شأنه - يحب التوابين؛ لأن التائب المُوفَّق يكون في حالٍ من الوَجَل والإشفاق والانكسار والتذلُّل والتضرُّع والرجاء بأن يقبل الله توبتَه، ويغفِر زلَّته، ويتجاوز عن ذنبه، ويغسِل حوبَته، ويمحو خطيئتَه.
وهذه الأحوال من أفضل أحوال العبد التي يحبُّها الله، فالله يحبُّ من عبده أنه كلما أحدثَ زلَّةً أحدثَ لها توبةً، وهذا هو العبدُ التواب، والله التواب هو الحليم الكريم العفوُّ الغفور الجوادُ الرحيم.
توابون أوابون يشعرون بحب الله ومعيَّته؛ لأنهم لا يشعرون أنهم مُنفرِدون بهمِّهم، ولا وحيدون بمُصابهم؛ بل يأوون إلا ركنٍ شديد، ويلجئون إلى كنَفِ رحيم.
معاشر الصائمين والقائمين:
ووقفةٌ أخرى مع مظاهر هذه المحبة الإلهية والفرح الربَّاني، إنه تبديلُ السيئات حسنات: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[الفرقان: 70]، فأيُّ جودٍ من ربنا أعظمُ من هذا؟ وأيُّ كرمٍ أوسع من هذا؟
نعم - عباد الله -؛ التوبة لا تمحو الذنب فقط؛ بل تُحوِّله حسنات تُضاف إلى رصيد الحسنات، الربُّ يتحبَّبُ إلى عبده وهو الغنيُّ، والعبدُ يُقدِمُ على التقصير وهو الفقير، «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطَعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت».
ومن لُطف الله ورحمته وفرحه بتوبة عبده: أن العبدَ إذا كان له حسنات ثم عمِل سيئاتٍ استغرقَت هذه الحسنات، ثم تابَ بعد ذلك، فإن حسناته الأولى تعود إليه، يقول حكيمٌ بن حزام - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسول الله! أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنَّثُ بها - أي: أتعبَّدُ بها - في الجاهلية؛ من صدقةٍ، وعِتاقٍ، وصلةِ رحِم؛ فهل فيها أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ»؛ متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: "لا مانع أن يُضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صدر منه في الكفر تفضُّلاً وإحسانًا".
معاشر الأحبة من أهل الصيام والقيام:
حين يمُنُّ الله على العبد بالتوبة ويُبدِّلُ الله سيئاته حسنات كيف يكون حالُه وحالُ من حوله وحالُ المجتمع؟
تأمَّلوا في حال عاقِّ والدَيْه حين يمُنُّ الله عليه بالتوبة فيصلُح حالُه، ويعزِمُ على التوبة النَّصوح، فيُقيمُ على أنقاض العقوق صروحَ البرِّ والإحسان، فيبَرَّ والدَيْه ويصِلَهما، ويُغدِق عليهما، ويُحسِن حديثَه إليهما، ويخفِضَ الجناحَ لهما، ويدعُو لهما، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا[الإسراء: 25].
وحين يمُنُّ الله على قاطع الرحِم، فتزول عنه الغِشاوة، فيرى تفريطَه في قرابته، وقطيعتَه لأهله فيفِرّ - بعون الله - إلى التوبة، فلا يقف عند الندم والاعترافِ بالخطأ والاستغفار؛ بل يُسارِع إلى وصلِ رحِمِه، ويُؤسِّس لعهدٍ جديدٍ مع الأقربين في الزيارات والاتصالات والمساعدات وقضاء الحوائج قدر المُستطاع.
وما أجمل حُسن المتاب للمُغتاب؛ فبعد أن كان يتتبَّعُ السلبيات وكشفَ العورات وبثَّ الأخبار المُغرِضة، والشائعات الكاذِبة، والازدراء والانتقاص يتوبُ إلى ربه، ويؤوبُ إلى فضل الله ورحمته، فلا يكتفِي بكفِّ لسانه عن الحرام والممنوع؛ بل ينتقل إلى ذكر المحاسن، ونشر الفضائل، والتماسِ الأعذار، وسدِّ النقائص، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[الحجرات: 12].
وما أجمل من ابتُلِي بنشر الرذائل؛ كلمةً، وصوتًا، وصورةً، ذكرًا أو أُنثى، حين يُزيِّنُ الفواحِش، ويُحبُّ أن تشيعَ الفاحِشةُ في الذين آمنوا، في قصصٍ وأفلامٍ ورواياتٍ وتمثيليات وكتاباتٍ ومقالاتٍ ومُنتجات؛ نعم، منَّ الله عليه فتابَ وآمنَ وعملَ عملاً صالحًا، أعمالاً صالحة تدفِنُ الماضي الذين أفنى فيه زهرَة عُمره، فيدعو إلى الخير والفضيلة والالتزام بقِيَم الإسلام؛ في مُؤلَّفاتٍ ومُنتجاتٍ، هذا خيرٌ ممن يقتصر على سلوك مسلك الاعتزال عن ماضيه، وإن كان هذا الاعتزالُ حسنًا وخيرًا ولكن أن يمُنَّ الله عليه فيكتُب ويُؤلِّف ويُبيِّن مواطن الخطأ، ويصدُّ عن مسالك الغواية، ويرسمُ مناهج الحق، فهذا خيرٌ وأولَى وأصلَح.
وما أجمل صاحب المظالم وقد منَّ الله عليه بتوبةٍ نصوحٍ وندمٍ عريض، فيرجعُ إلى ربه، ويردُّ المظالمَ إلى أهلها، ويُعيدُ الحقوقَ إلى أصحابها ماديةً ومعنوية، ماليةً وسياسية وفكريةً وغيرها.
وبعدُ، عباد الله، وبعدُ، معاشر الإخوة:
فهذه هي قوافل التائبين ومراكب الناجين؛ فهل شممتَ ريحًا أطيبَ من أنفاس التوابين؟ وهل رأيتَ أعذبَ من دموع النادمين؟ وهل شاهدتَ أجملَ من لباس المُنكسِرين؟ بل هل سمعتَ نداءً أجمل وألطفَ وأرقَّ من نداء رب العالمين: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر: 53]، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا[النساء: 110].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 

 

   

رد مع اقتباس