عرض مشاركة واحدة
قديم 05-10-2011, 10:35 PM   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

ومما يدلُّ أيضًا على رعايةِ الشريعة وحَضِّها للوقايةِ والمُبادرة والحَذر ما جاء من قول النبيِّ : ((لا يُورِد مُمرِضٌ على مُصِحّ)) رواه الشيخان، وعند مسلم في "صحيحه" أنّه كان في وفدِ ثقيف رجلٌ مجذوم، فأرسلَ إليه: ((أنِ ارجع؛ فقد بايعناك)). وفي ذلك دليلٌ -عباد الله- على الوقاية من جُذامه بالاكتفاء بالمُبايعة عن بُعدٍ دفعًا للعدوى.
إذا عُرِف ذلكم -عبادَ الله- فإن مبدأ "الوقاية خيرٌ من العلاج" مبدأٌ شاملٌ لكلّ شؤون الحياة، وإنّ من الخطأ الصريح قصرَه على المجال الصحيّ فحَسب؛ بل إنه يمتدّ إلى المجالِ الغذائيِ والعلميِ والفكريِ والإعلاميِ والاقتصاديِ والسياسيِ على حدٍّ سواء، وإنَّ الجهدَ الذي يُبذَل في الوقاية في ذلكم كلِّه ينبغي أن يكون أسبق، وأن ينالَ اهتمام جميع الفئات في المجتمع بِصورةٍ أكبَرَ ممّا يُبذَل في العلاجِ، وهنا مَكمنُ شعور كلّ فردٍ مسلم وإدراكه للعواقب والتوجُّس من المُدلهِمَّات.
وإذا كانت الشَّريعةُ الغرَّاءُ قد حضَّت على المُبادرة بالأعمال فإنَّ هذا التحضيض لم يكن قاصرًا على جهةٍ دون أخرى؛ بل إنه يشمل الفردَ والأسرة، والعامِّيَ والعالِم، والسياسيَّ والمُفكِّر، وأمثالهم ممّن هم صورةُ المجتمع وتكوينه؛ إذ منَ الخطأ قصرُه على جِهةٍ دون أخرى؛ كأن يُقصَر على القيادةِ فقط، أو العلماءِ فحسب؛ كلا، فلُحمة المجتمع والشّعور بالواجب تجاهَه مهمَّةُ الجميعِ، والحرصُ على حمايتِه من أيِّ داخلةٍ فيه انتماءٌ إيجابيّ يدلُّ على الأمانةِ الحقَّةِ في سبيلِ الاجتماع على الحقِّ والخير، والتعاوُنِ على البرِّ والتقوى، لا علَى الإثمِ والعدوان؛ ليتمَّ السيرُ بسفينةِ المجتمَع الماخِرةِ إلى برِّ الأمان بعد الخروجِ بها من ظُلماتِ البحرِ اللُّجِّي الذي يغشَاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ.
وبعد: يا رعاكم الله، فإنَّ ذهولَ الكثيرين منا تجاهَ ما يقَع في هذه الآونةِ من مُستجدَّاتٍ وغِيَرٍ لم يكن عائِدًا إلى تدنٍّ في مستوى ذكاءِ عموم المجتمعات، أو لِضعفٍ في آلياتِ الإنذار المُبكِّر بقدرِ ما كان سببَ إهمال مبدأ الوقاية وتوفير أسبابها واستِحضار حُكمها؛ لأنَّ الإفراطَ في الأمنِ منَ المُتغيِّرات هو مَكمنُ الخوفِ والخطَر، كما أنَّ الحذر المُفرِط أيضًا مَكمنٌ للجُمود والبَلادة وتأخُّر المسير. وخيرُ الأمورِ في ذلكم الوسَط، وقد قيل:
إن التوسُّط في الأمور سلامـــةٌ كي لا ضِرارَ ينالُ منك ولا ضَرَر
قد يُهلِكُ الإنسانَ أمنٌ مُفرِطٌ أو يعتَريــــه الســــوءُ من فرطِ الحذر
إنَّ عدمَ الوعيِ التامّ بقيمةِ الوقايةِ من قِبَل العمومِ ومدَى تقديرِهم لحجمِ وطبيعة مُتطلَّبات الوقاية لهُوَ سببُ تحمُّل وقوع الشيء، ومن ثَمَّ علاجُه، وكِلا الأمرين بُعدٌ عن الواقِع وبرودٌ في التّعامل مع المُتغيِّرات بما من شأنهِ دفعُ عجلة المُدلهِمَّات عن الوقوع، أو على أقلِّ تقديرٍ الإبطاءُ بها إلى حينِ وضعِ السياج الآمِن الذي يحمِي من خطر وقوعها إن هي وقعَت؛ فضلاً عن أنَّ الشعورَ بوجودِ عصًا سحريّة لديها الاستعداد على دفعِ كلِّ شيء إنما هو شعورٌ مُتولِّدٌ من لا شُعور؛ لأنَّ الفائدةَ من الوقاية هي التطلُّع إلى وضعٍ أفضَل، أو التخلُّص من وَضعٍ أسوأ؛ لأن أيَّ أحدٍ منَّا لن يَستطيع إصلاحِ عجلة الطائرة بعد إقلاعها، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53].
وبما أنَّ الشيءَ بالشيءِ يُذكَر فإنَّ هذه البلاد -حرسها الله- قد ضربَت مثلاً في الصلة والتلاحُم بين قيادتها وعلمائِها وأفرادِها، ووقفَت في خِضَمِّ الأحداثِ موقف المسؤوليّة والشعورِ بالخطر، فيما لو أهمَل كلّ واحدٍ منا مسؤوليته، فكان ذلك البيانُ الشافي من هيئة كبارِ العلماء في هذه البلادِ حرسها الله، وكانت تلكم القراراتُ المشهودة الصادرةُ عن وليِّ أمرنا حفظه الله، والتي أكَّد من خلالها أنَّ الشريعةَ الإسلامية هي قدَرُ هذه البلاد، وأكَّد من خلالها أيضًا مكانةَ العلماءِ وأثرَهم في المجتمَع بقيادتهم العلميّة الداعِمَة للقيادة السياسيّة، كما لامَسَت تلك القراراتُ احتياجات المجتمعِ والمواطنَ التي تفتقِرُ إلى إصلاحٍ وتجدُّد.
جعَل الله ذلك في ميزانِ الحسنات، ووفَّق هذه البلادَ قيادةً وعلماءَ وشَعبًا إلى البرِّ والتقوى، ووقاهم كلَّ سوءٍ وفتنة، ووقى جميعَ بلاد المسلمين شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صوابًا فمِن الله، وإن كان خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفر الله إنَّه كان غفَّارًا.

 

 

   

رد مع اقتباس