عرض مشاركة واحدة
قديم 07-09-2011, 12:07 AM   رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّالِ لما يُريد، أحمده - سبحانه - يخلقُ ما يشاء ويفعلُ ما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله صاحب الخُلق الراشد والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن النقص والتقصير والخطأ لا ينفكُّ عنه إنسان، ولا يسلمُ منه إلا من عصمَه الله، ولذا جاء الأمرُ بالتوبة للناس جميعًا بقوله - سبحانه -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31].
والتوبة - يا عباد الله - من أعظم أسباب التزكية للنفس والإصلاح للقلب؛ فإن عبودية التوبة - كما قال ابن القيم - رحمه الله - من أحبِّ العبوديات إلى الله وأكرمها عليه، فإنه - سبحانه - يحبُّ التوابين، ولو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتَلَى بالذنبِ أكرمَ الخلق عليه، فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يُوجِبُ وقوعَ محبوبه من التوبة، وزيادة محبته لعبده.
فإن للتوبة عنده - سبحانه - منزلةً ليست لغيرها من الطاعات، ولهذا يفرحُ - سبحانه - بتوبة عبده حين يتوبُ إليه أعظمَ فرحٍ يُقدَّر، كما مثَّله النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرَح الواجِد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض الدويَّة المُهلِكة، بعدما فقدَها وأيِسَ من أسباب الحياة، ولم يجِئ هذا الفرح في شيءٍ من الطاعات سوى التوبة.
ومعلومٌ أن لهذا الفرح تأثيرًا عظيمًا في حال التائب وقلبه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه، وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد؛ فإن العبد ينالُ بالتوبة درجةَ المحبوبية، فيصيرَ حبيبًا لله، فإن الله يحبُّ التوابين، ويحبُّ العبدَ المُفتَّن التواب، ويُوضِّحُه: أن عبودية التوبة فيها من الذل والانكسار والخضوع والتملُّق لله والتذلُّل لله ما هو أحبُّ إليه من كثيرٍ من الأعمال الظاهرة وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة؛ فإن الذل والانكسار روح العبودية ومخُّها ولبُّها، يُوضِّحه: أن حصول مراتب الذل والانكسار للتائب أكملُ منها لغيره، فإنه قد شاركَ من لم يُذنِب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
ولأجل هذا فإن أقربَ ما يكون العبدُ من ربه وهو ساجد؛ لأنه مقامُ ذلٍّ وانكسار بين يدي ربه، ويُوضِّحُه: أن الذنبَ قد يكون أنفعَ للعبد إذا اقترنَت به التوبة من كثيرٍ من الطاعات، وهذا معنى قول بعض السلف: "قد يعملُ العبدُ الذنبَ فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعةَ فيدخل بها النار". قالوا: وكيف ذلك؟ قال: "يعمل الذنبَ فلا يزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشى ذكر ذنبَه، فيُحدِثُ له انكسارًا وتوبةً واستغفارًا وندمًا، فيكون ذلك سببَ نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشى، كلما ذكرَها أورثَته عُجبًا وكِبرًا ومنَّةً، فتكون سببَ هلاكه.
فيكون الذنبُ مُوجِبًا لترتُّب طاعاتٍ وحسناتٍ ومعاملاتٍ قلبية؛ من خوف الله، والحياء منه، والإطراقِ بين يديه، مُنكِّسًا رأسه خجِلاً باكيًا نادمًا مُستقيلاً ربَّه، وكل واحدٍ من هذه الآثار أنفعُ للعبد من طاعةٍ تُوجِبُ له صولةً وكبرًا وازدراءً بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
ولا ريبَ أن هذا المُذنِبَ خيرٌ عند الله وأقربُ إلى النجاة والفوز من هذا المُعجَبِ بطاعته، الصائلِ بها، المانِّ بها وبحاله على الله - عز وجل - وعباده، وإن قال بلسانه خلافَ ذلك فالله شهيدٌ على ما في قلبه، ويكادُ يُعادِي الخلقَ إذا لم يُعظِّموه ويرفعوه ويخضَعوا له، ويجدُ في قلبه بُغضةً لمن لم يفعل به ذلك، ولو فتَّش نفسَه حقَّ التفتيش لرأى فيها ذلك كامنًا". اهـ.
هذا؛ ويجبُ التنبُّه - يا عباد الله - إلى ما في تفسير كثيرٍ من الناس للتوبة من قصورٍ ونقصٍ عن فهم المعنى المُراد؛ فإن كثيرًا من الناس - كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "إنما يُفسِّر التوبةَ بالعزم على ألا يُعاوِدَ الذنبَ، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي، وإن كان في حقِّ آدمي فلا بد من أمرٍ رابعٍ هو التحلُّل منه، وهذا الذي ذكروه بعشُ مُسمَّى التوبة؛ بل شطرُها، وإلا فالتوبةُ في كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما تتضمَّن ذلك تتضمَّن أيضًا: العزمَ على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يُوجَد منه العزمُ الجازمُ على فعل المأمور والإتيان به.
فإن حقيقة التوبة: الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يُحبُّ وترك ما يكره، فهي رجوعٌ من مكروهٍ إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزءُ مُسمَّاها، والرجوعُ عن المكروه هو الجزءُ الآخر، ولهذا علَّق - سبحانه - الفلاحَ المُطلقَ على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31]؛ فكل تائبٍ مُفلِح، ولا يكون مُفلحًا إلا من فعل ما أُمِر به، وترك ما نُهِي عنه، وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الحجرات: 11]، وتاركُ المأمور ظالم، كما أن فاعلَ المحظور ظالم، وزوالُ اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة من الأمرين معًا؛ أي: من ترك المأمور ومن فعل المحظور".
فاتقوا الله - عباد الله -، وتوبوا إلى الله ابتغاءَ رضوان الله، وتأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوبُ في اليوم إليه مائةَ مرة»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه؛ حيث قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطغاة والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، يا من إليه المرجع يوم التناد.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعَ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس