عرض مشاركة واحدة
قديم 07-22-2011, 11:44 PM   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فقد ذكر جمعٌ كثيرٌ من أهل التفسير: أن بعض الصحابة سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ما بالُ الهلال يبدو دقيقًا، ثم يزيد حتى يستويَ ويستدير، ثم ينتقِص حتى يعود كما كان؟ فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ[البقرة: 189].
ولنا وقفةٌ مع هذه القصة؛ لأن فِئامًا من الناس ممن لم يبلُغ نورُ الوحي مبلغَ اليقين في نفوسهم، فادَّعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حادَ عن الجواب في ذكر تفاصيل الهلال وولادته وتكوينه، وأن سبب ذلك كونه أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتُب، فلم يذكر من الجواب إلا أنها مواقيتٌ فحسب.
والأدهى من ذلكم - عباد الله - أن هناك من الْتاثَ بدخَنٍ من هذه اللَّوثَة فرأوا أن الرؤيةَ الشرعيةَ لا تتفق مع الحساب، وأنها ظنٌّ ونقصٌ أمام الوسائل العصرية، في حين إن الحساب يقينٌ في الدقة والصحَّة!
والجواب: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عاجزًا عن التفاصيل وإن كان أُمِّيًّا، فهو يُوحَى إليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يُخبِر بما هو أعظم من ذلكم، فقد وصف السماوات السبع ومن فيها من الأنبياء في قصة الإسراء، ونعتَ المسجدَ الأقصى كما هو.


وإنما كان جوابُه - صلى الله عليه وسلم - مُختصرًا؛ لكون رسالة أمته وحاجتها للعبادة والطاعة، وللأثر الفعلي للأهِلَّة لا النظري كانت الإجابة أنها مواقيت للناس والحج، فهذا هو ما ينفعهم فيها.
ومن ادَّعى أن في جوابه مخالفةً لما في علوم الفلك فقد أعظمَ على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الفِرية، فكتابُ الله - جل وعلا - أكبرُ من أن يكون كتابًا فلكيًّا أو كيميائيًّا أو فيزيائيًّا، كما يُحاول بعضُ المُتحمِّسين أن يقصُروا همَّتهم في الخوض فيها بعيدًا عن كونه هدايةً ونورًا ونجاحًا، ولربما وقعوا بسبب ذلكم في محاذير ثلاثة:
أولها: التراجُع النفسي الذي يُخيِّل إليهم أن العلم هو المُهيمِن على القرآن، وأن القرآن تابعٌ له، فيُحاولون تثبيتَ القرآن بالعلم وإن كان القرآن خلافه، وهذه طامَّةٌ كبرى.
وثانيها: سوء الفهم لحقيقة القرآن ورسالته، وأن حقيقته نهائيةٌ لا تقبل التغيير والفحصَ؛ لأن قائلها هو الذي لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.
وثالثها: الوقوع في التأويل المُتعسِّف، والتكلُّف في توجيه نصوص القرآن بمعلوماتٍ ونظرياتٍ مُستجِدَّة قد تنسخُها أخرى لاحِقة، وهذا لا يعني بداهةً عدم الانتفاع بالمُستجدَّات العلمية في توسيع مدلول الآيات وإظهار إعجازها؛ لتكون هي تابعةً للقرآن لا العكس.
كما أنه ينبغي لنا بهذه المُناسبة أن نُؤكِّد على سعة الصدر فيما يتعلَّق بالحديث عن الأهِلَّة، وألا يكون اختلافُ المطالع سببًا للتنازُع والتدابُر، وأن يُؤخَذ الأمر على العفوية والاجتهاد المُوصِل إلى الهدف المنشود، وأن نتَّقِيَ الجدالَ العقيمَ دون لغطٍ أو تناوُشٍ مذموم؛ فالرؤيةُ أصلُها شرعي، وينبغي ألا يكون هذا الأصل مانعًا من أي استفادةٍ من المُستجدَّات التي لا تنقُض ذلك الأصل ولا تُعارِضُه؛ كالمُكبِّرات البصرية، والحساب المُعين على تحقيق الرؤية، وبذلكم تتفق وجهاتُ النظر، ويقلُّ الخلاف، وتقصُر المسافة.


وقد روى مسلم في "صحيحه" عن كُريبٍ، وفيه: أنه رأى الهلالَ بالشام ليلةَ الجمعة، ثم لما قدِم المدينة في آخر الشهر سأله عبدُ الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن الهلال فأجابَه بما رأى، ثم قال ابن عباس: "لكنا رأيناه ليلةَ السبت، فلا نزالُ نصوم حتى نُكمِل ثلاثين أو نراه"، ثم قال: "هكذا أمرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
فللهِ ما أحكمَ أولئك، وما ألطفَهم مع بعضهم البعض؛ فقد اختلفَت الرؤيةُ لديهم فلم تختلف قلوبهم، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ[الأنعام: 90].
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم بلِّغنا شهر رمضان، اللهم بلِّغنا شهر رمضان، اللهم ارزُقنا صيامَه وقيامَه وتلاوةَ كتابك آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة : 201].
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

   

رد مع اقتباس