عرض مشاركة واحدة
قديم 12-12-2008, 07:30 PM   رقم المشاركة : 9

 

.

*****

الجمعـة 17 صفـر 1427 هـ

ثريا قابل.. صوت جدة
«من بعد مزح ولعب» بالمفردة الحجازية


جدة: اميمة الفردان

حملت الهم الإنساني من خلف «رواشين» البيوت العتيقة لحارة الكندرة التي كان يقال في الغناء الشعبي انها عاصمة جدة، المدينة المرتمية على الساحل الغربي للسعودية، تلك المدينة التي شهدت نشأتها الأولى قبل أن تعتقها آيات التلاوة لساكني حارة المظلوم ولتجوب الدنيا في محاولة للخروج من عنق العادات والتقاليد. هي التي تقول في قصيدة ابدع في غنائها المرحوم فوزي محسون «نسيتنا ونحن في جدة.. ونسيت ايامنا الحلوة» الى ان تقول «سبحانه وسرتو كبار.. وسار ينقلكم اشعار».
ثريا قابل الشاعرة السعودية التي حفرت كلماتها الحجازية في ذاكرة ابناء البلدة القديمة، ونسجت كلمات نصوصها الشعرية من حنين الذكريات التي يمتلئ بها شارع قابل وحكايا الأزقة الضيقة المعطرة بروائح البخور المنبعثة من دكاكين العطارة.. ثريا التي قالت الصعب، بمفردة بسيطة قريبة من كل انسان، فهي التي تقول «من بعد مزح ولعب اهو صار حبك صحيح».

من بين سطور الألبوم الذي خطت عليه أنامل تلميذة المدرسة الأهلية في بيروت أطلت أبيات ثريا الشاعرة الصغيرة في ثوب من الخواطر المعجونة بصدى ألم غرسه رحيل الأب في لبنان، لتلعب الأقدار لعبتها من خلال مصادفات صغيرة شكلت منعطفا مهما في حياتها، وبحسب ما قالت ثريا عن نفسها «حياتي صدفة كبيرة لم أسع لشيء، وجدت نفسي فجأة مصهورة داخل بوتقة الشعر ومعجونة بهم إنساني كبير».

صالون الأربعاء البيروتي الذي عرفت منه ثريا الشاعرة والذي كان بمثابة نافذة أطلت من خلالها قصائد التلميذة الحالمة ببساطة الكلمات التي كانت تكتبها، ومنه انطلقت لتطرق أبواب الصحافة البيروتية بدعم الصحافية جاكلين نحاس التي أتاحت لها الطواف «حول المدينة» ليقرأها القاصي والداني، ومنها بدأت تشرع لها أبواب النشر من خلال جريدة «الأنوار» وغيرها من الصحف اللبنانية.

لقاء الأربعاء لم يكن إلا القطرة في أول الغيث التي ساهمت في تحول رذاذ شعر التلميذة إلى سيل جارف جمعته في وادي الأوزان الباكية الديوان الشعري الأول والوحيد باللغة الفصحى، الذي صدر في بيروت، بكاء الأوزان كان الحدس الذي سبق هبوب العاصفة التي هبت رياحها الموسمية في السعودية أمام أول محاولة لإعادة طبع ونشر الديوان، وكون الإسم الذي ذيل به صدر الديوان مشفوعا بلقب شاعرة، فقد كان منع طباعته ونشره سببا وجيها حينها.

إلا أن الأيادي البيضاء للملك الحكيم «فيصل» كانت حاضرة لتساند ظهور أول ديوان شعري نسائي، تجاوزت ثريا في تفكيرها الحرص على كتابة تاريخ شخصي يجسد الرحلة الصعبة في دهاليز الصحافة التي كانت حينها قاصرة على أرباب المجتمع الذكوري، إلا أن ثقل العامود الصحفي الذي وقع على فكر توهجت أنواره في لبنان ـ الحرية بتهمة نقصان العقل والدين العارية من الصحة، استطاع أن يشعل نيران الغضب في قلب الشابة اليافعة ليحول قلم الشاعرة إلى سيف سنته رياح الجرأة والحدة في الطرح عبر جريدة «قريش» المكية ولتبدأ منها التجاذبات الصحفية من خلال الردود التي ساهمت في تقديم الكاتبة ثريا قابل للقراء.

«ناقصات عقل ودين» الحجة الحاضرة وبقوة في كل حين لتقف حجر عثرة أمام المرأة في كل المجالات حولتها قابل إلى صهوة خيل امتطتها من خلال إشرافها على ملحق النصف الحلو في جريدة «البلاد» الذي أثار حولها الجدل وسخط المشايخ أواخر الستينات الميلادية، إلا أن إرادة التغيير في مجتمع منغلق مقابل الوهج الثقافي الذي كان يمد جسوره عبر بوابات العالم العربي فتح شهية ثريا وأثار حماستها لتعتلي الموجة السائدة كيما تنال نساء بلادها نصيبا منها، وكما قالت هي عن نفسها «حماسي كان كبيرا كوني قدمت من مدينة منفتحة ووجدتني أتعامل مع عقليات تحكمها العادات والتقاليد».

النصف الحلو الذي أثار حفيظة التقليديين وألّب الأقلام على ثريا جعلها تعمل على تغييره لتوجه هذه المرة خطابها لـ«النصف الآخر» من خلال جريدة «عكاظ» في محاولة لتغيير طريقة التفكير التي كانت مهمة شاقة بأسلوب يمتهن تجييش الأقلام المضادة ويعمل على استقطابها، إلا أن طرح آراء مخالفة لما اعتاد عليه الناس لا بد أن يوجد في الأفق من يحاربه لذلك كانت هناك أياد بيضاء أحاطت بصاحبة الأنامل الذهبية ممن آمن بعدالة ما تطرح، وربما كان أبرزهم كما ذكرت للسيد حسن قزاز الذي كان رئيس تحرير «البلاد»: «فله فضل كبير علي بالرغم من أنني تسببت له في كثير من المتاعب، إلا أنه تحمل جرأتي ورزالتي».

تقاطع الألم في حياة ثريا، التي تقول في احدى قصائدها «يا عيني حظنا تعبان.. دا مهما نسوي ما بيبان» مع بصيص الأمل الذي كانت تجسده أحلامها وطموحاتها التي لا تنتهي، في وسط عائلي لم يكن راضيا تمام الرضى عما وصلت له شهرة ثريا بين الخطوات التي خطتها في دهاليز الصحافة والخطرات على خميلة الكتابة الغنائية، إلا أن وجود العمة عديلة قابل، التي كانت بحسب ثريا «الوصية علي انا وأخوتي بعد وفاة الوالد»، كان الداعم الأكبر والشخص الذي تركن إليه ثريا لمباركة أعمالها ومشاريعها الفكرية.

محاولة استنطاق الحارات القديمة، والتجوال في شارع قابل، كانا الرسالة التي بعث بها الشاعر صالح جلال بعد أول نص غنائي تغنى به فوزي محسون، لتبدأ منها جديلة الثنائية التي كونتها ثريا مع فوزي من خلال بساطة الكلمة الحجازية الدارجة التي كانت تكتبها وتقاسيم اللحن المحسوني المطعم بالشجن الساكن في حكايا الناس وما يكتنفها من يوميات تتأرجح بين الوصل والصد والعتب المستحب الذي تغنى به قيثارة الشرق طلال مداح من الحان محمد شفيق «بشويش عاتبني» والتي حققت صدى كبيرا بين الناس كما جاء على لسان قابل، ولم تكتف ثريا بعتاب الحبيب لها بل حلقت فوق أجنحة الحلم لتعلن على الملأ «لا يا حبيبي لا لا وربي.. اصحك تصدق.. لا لا يسلاك قلبي.. عززك عندي وغلاك الغرام.. ونزهك قلبي بتكذيبه الكلام.. ماني مصدق فيك.. كيف في تصدق»، وفي زمن الصمت المطبق والأبواب المغلقة لم تكتف الأوزان بالبكاء فقد جاهرت الأصوات خاصة تلك التي تسكن بيت قابل في محاولة أخرى وللمرة الثانية لتثني الشاعرة هذه المرة عن انطلاقة أخرى.

ومن خلال كلمات تفردت بروح الحياة المطعمة بشقاوة أبناء وبنات الحارات الحجازية، بين اللعب والمزح مسافة زمان كادت أن تسقط إسم ثريا قابل، إلا أن فرادة المفردة التي خطتها أناملها وتميزها جعلت كبار الفنانين في ذلك الوقت من أمثال الراحل طلال مداح ومحمد عبده وغيرهم يحرصون على التغني بنصوص استطاعت أن تحفر في ذاكرة الأغنية السعودية مع أجيال ما زالت تحاول أن تحافظ على ذاكرة المكان والبيئة التي انبثقت منها تلك النصوص مرددة «حاول كدى وجرب.. وأنسى على كيفك.. ابعد ولا تقرب.. قنعان أنا بطيفك.. بكرة تجيك لحظات تذكرك بي.. تتعنى بالآهات في الروحة والجية».

وعلى الرغم من أن حياة ثريا كونتها صدف صغيرة تواطأت خلسة لتقدم للناس شاعرة بحجم الأمل في القلوب المنكسرة ومكثفة بقوة الألم الذي تركته أصابع القدر على شخصيتها، إلا أن وجود «حنان» وقوة «الحسام» اللذين كانا بمثابة المعين الذي تستلهم منه ثريا قوتها بين كل أزمة وأخرى والتي لم يكن آخرها انفصالها عن زوجها ولسان حالها يقول «ورب البيت والكعبة.. ظروفي يا حبيب صعبة.. إذا أوعدت وما جيتك.. أو أتشوقت وما لقيتك.. لا تحسب انا نسيتك.. وآخ من حبنا لعبة».

ثريا قابل.. صوت جدة، والتي تقول في قصيدة لها «انا الذي كنت اهرج والكل حولي سكوت.. صرت اتلام واسكت واحسب حساب كل صوت» جزء من تراث سعودي غني، لكنها تقف اليوم على مسافة من فن الكلمة، تاركة المفردة الحجازية المغسولة بمياه البحر الاحمر تطل في وحشة من رواشين الحارات القديمة بدون ان تجد من يدللها.

*****

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس