عرض مشاركة واحدة
قديم 01-08-2011, 08:44 PM   رقم المشاركة : 1
بين سماعتين (قصةقصيرة)


 



بين سماعتين

قصة قصيرة
للقاص :عبدالعزيز مشري* ( يرحمه الله)


رفع الطبيب كفه في الهواء موازياً لمستوى عينيه، كأنما يزيح موجاً هابطاً من الشعر عن وجهه. مشيراً للمريض بأن يفرد جسمه على مرتبة بيضاء، ترتفع قليلاً عن الأرض.
لمملم الرجل اطرافه المتراخية، وأخذ يقيم ظهره الثابت فوق عجيزة بدأ أنها عانت طويلاً من تحمل الجسم الذي أفرد في الحرارة والعرق.. ثم رمى بسعلتين قصيرتين في قبضة يمينه، خلع نعليه، وانحنى ليجرد جوربين خمل مطاطهما ، وصعد على الأريكة البيضاء .

كان الطبيب قد وضع قلمه على دفتر عريض الصفحات فوق طاولته، وتأكد من سماعة الكشف التي تدلت من جانبي الرقبة لتلتقيا بتدليهما على الصدر كخطام بعير، ونهض، لم يكن المريض في وضع يليق بالتعرف على محتويات الغرفة المرطبة بهواء المكيف المركزي، الذي عجز عن مغالبة الحرارة المتعاضدة بالعرق.. غير أن المريض المستلقي بعمامته الحمراء وعقاله المبتسم، أدرك بأذ نيه أن الطبيب يقف إلى جانبه وحينما التفت رآه يدخل ملزمتي السماعة في فجوتي أذنيه، وقال : افتح أزرار ثوبك.

كان الأمر الجاف الذي اندلق كماء ساخن على سمع المريض يدفع بيدين مرتعشتين إلى أول أزرار الثوب على العنق ويفكه بتراخ جعل الطبيب ينفخ نفساً طويلاً ، وجاء رنين قوي من جرس الهاتف مرة ومرتين، وفي الثالثة استدار الطبيب وعمد إلى موقع الهاتف على الطاولة، وكأنما ينتزع شيئاً ثقيلاً .. رفع سماعة الهاتف:
آلو .. نعم ، أهلاً ، أهلاً .. حياك الله ، لا .. ولا يهمك ، أنا البارحة انتظرتك لكنك تأخرت .. قل لي بكم كانت البيعة، إن شاء الله تكون أحسن من بيعة الأرض الأولة ؟ .

نعم سحب السماعة من على رقبته، بعد أن نزعها من أذنيه وقتما شد السماعة كما يشد طفل عاص من أذنه، وشرع يتكلم مع محدثه بكثير من الضحكات المختلطة بـ لا .. يا شيخ و أفا و يا سلام وبعدد لا يحصى من الله يسلمك وبارك الله فيك يا بو علي .

أحس المريض أن صدره المكشوف برغم حرارته، يصطدم ببرودة تأتي من كل الجهات، فآثر أن يجمع فتحة الصدر من ثوبه.. لكنه أرجأ الحركة لتوقع موقن بمجيء الطبيب .

سمع عجلات الكرسي المتحرك، فعرف ان الطبيب اقتعده، وأن المكالمة ستطول.. فعدل من استلقائيته، وجذب ساقيه إلى فخذيه ، فبدتا مرتكزتين إلى الركبتين، وأهمل يديه على صدره ثم قذف سعلة واحدة قوية وطويلة، وتحفز لمجيء الطبيب .

كان الطبيب، كما جاء في صرير المقعد.. يدور يمنة ويسرة، وجاء الفرج بأن صوت الارتطام الذي احدثته السماعة على الجهاز قد ارتطم أيضاً بأذني المريض .

قليل من الوقت كان يمضيه الطبيب مع مفكرة صغيرة، ذهبت أصابعه الدقيقة بين أوراقها الملونة .. ثم نهض وجاء إلى المريض :

قلت لي ، عندك حرارة مرتفعة في الليل وأنفاسك متقطعة ، طيب .. خليني أشوف صدرك . كان يبدو على المريض تحمل واضح ، من أن له سابق تجربة طويلة، وقال :

أرجوك يا دكتور ، شف لي حل .. صدري وأسفل ظهري، وحرارة مثل النار تسري بكل جسمي

علق الطبيب سماعة الكشف من طرفيها بمثاقب أذنيه، ووضع طرفها على صدره ، وكالمعهود أمره :

قول آه .

وكذلك أجلسه، ووضع خرطومها ظهرها.. طالباً منه نفساً عميقاً متكرراً، ثم أ فلت طرفي السماعة من أذنيه على الرقبة ودون أدنى مقاومة، كان يصطدم بقوائم الطاولة ملبياً جرس الهاتف :

هلا أبو علي .. إيش تم في الموضوع ؟

لم تسلم النصف ساعة التي فاضت به الآه والإيه من قهقهات اخترقت باب الغرفة إلى الدهليز المرصوص بمقاعد المنتظرين .

كان المريض قد رغب في لبس جوربيه والنهوض لسؤال يريد له جواباً من الطبيب ، عما إذا كان هناك ورقة عليها نوعاً من الدواء، يصلح للحرارة والسعلة والإسهال وإبادة الصراصير.
_____________

* عبد العزيز المشري(يرحمه الله) :
الاسم : عبدالعزيز بن صالح بن محمد مشري
مكان الولادة وتاريخها : ولد في قرية محضرة بمنطقة الباحة عام 1374هـ

نبذه مختصرة عن سيرته الإبداعية:
تفرغ للقراءة الذاتية والرسم والكتابة الإبداعية مبكرا ، وحيث أعاقته ظروفه الصحية عن استكمال دراسته أو الانتظام في عمل وظيفي.
ـ تميز بغزارة الإنتاج وتنوع الاهتمامات إذ صدرت له الأعمال التالية:
1ـ باقة من أدب العرب ( مختارات تأسيسية من نصوص التراث العربي )
2ـ المجموعات القصصية التالية : ( موت على الماء ـ أسفار السروي ـ بوح السنابل ـ الزهور تبحث عن آنية ـ أحوال الديار ـ جاردينيا تتثاءب في النافذة )
3ـ الروايات التالية : ( الوسمية ـ الغيوم ومنابت الشجر ـ ريح الكادي ـ الحصون ـ في عشق حتى ـ صالحة )
4ـ " مكاشفات السيف والوردة " كتاب يضم سيرته الإبداعية والثقافية.
5ـ مخطوطات :
أ ـ المغزول ـ رواية .
ب ـ القصة القصيرة في المملكة ـ دراساته وتأملاته فيها.
6ـ عدد من اللوحات الزيتية والرسومات والمخطوطة بالحبر .
ـ شارك في تحرير الملحق الدبي لجريدة المربد من عام 75 ـ 85م .
ـ كتب في كافة الصحف السعودية .

مرضه:
ـ أصيب بمرض السكري وأدت مضاعفات هذا المرض وعلاجه مع مرور الزمن إلى تأثير على البصر واختلال في التوازن والمشي والفشل الكلوي مما اضطره للغسيل عن طريق ( الديلزة ) ، وكذلك تعرضه لضغط الدم.
ـ زرعت له عملية كلى عام 1993م بجدة وقد تمت العملية بنجاح مما ساعده على السطوع مرة أخرى ، إلا أن ( الغرغرينا ) راحت تأكل أطرافه فبترت إصبع من يده اليسرى ثم بترت قدمه اليمنى وبترت الساق اليسرى كاملة.

وفاته:
ـ توفي رحمة الله عليه بمشفى الملك فهد بجدة يوم الأحد عند الساعة السادسة إلا ربعا مساءً بتاريخ 7/5/2000م بحضور أخيه أحمد مشري وصديقه سعد الدوسري ، ووري جثمانه في مقبرة الفيصلية بجدة.

منقول
يرحم الله الكاتب القاص المبدع عبد العزيز مشري رحمة الأبرار.

يمكن للجميع المشاركة هنا بنقل بعض الإنتاج الأدبي المنوّع لعبدالعزيز مشري .






دمتم بود ولكم الورد.




 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس