اليتيمة " قصة "
أتت من قرية تبعد عن وادي السقا ربما 5 كلم وجلست أمام باب خيمة الوادي
المبنية بالحجارة والمسقوفة بأخشاب العرعر , كان شكلها وهيئتها ولباسها
تدعو للشفقة والرحمة , فعيناها شاخصاتان محمرتان وأدمعها تتساقط على وجنتيها
لاتكف ولاتجف , تمسح أدمعها بشيلتها البالية , اللتي يعلوها على الراس
معصب ذو لون أصفر ولباسها من الساتان القديم أطرافه السفلى مما يلي القدمين
مشقوقة ومهترئة من قِدمها , قامتها غارقة بغبار ووحل السنين
والجوع المهين , يداها وأقدامها مملؤه بالتششقات والبثور المزمنة
ولا يوجد بأقدامها حذاء ومن أين لها ياحسرة ؟
وسنها يقارب الأربعين سنة
جلست الى جواري وسألتني : من أنت ولده ؟
وماذا تفعل هنا ..؟
أجبتها : أحمي عذوق الخريف من الطير وغيره كما تشاهدين
أحتزم بالمرجمة أرابط في هذا المكان من الصباح وحتى المغرب
وأستعمل المرجمة لطرد الطير بقصد الحفاظ على محصول الذرة
سألتني : ماشاء الله عليك كم عمرك ..؟
أجبتها : عمري 10 سنوات .
قالت : والله ياولدي إني جوعانة فهل تتكرم عليّ ببعض عذوق الحميصة
من ركيبكم ..؟
أجبتها : نعم ياوالده , انتظري وسأحضر لك المطلوب
نزلت الى الركيب , كان ذلك قبل الظهر .
وقصعت لها ماقدرت على حمله
كان الخير الكثير بذلك الركيب , فهو مزروع بحب الدفين
المشهور قديما .
إذ بعض عذوقه يصل وزنها الى نصف كلغم .
عدت اليها وقدمته لها وهو ملئ حثلي .
فما كان منها إلا أنة قامت وقبلتني على جبهتي ودعت لي دعاءً من القلب
ويعلم الله أنه انتابني شعور بوخز الضمير لرؤية هذه المسكينة على هذه الحالة .
رغم أن سني لايتجاوز الـ 10 أعوام , وتعاطفت معها من واقع انساني
سألتها : لماذا أتيت الى هذا المكان , وقريتك تبعد عنّا وليس لك أملاك بهذا الوادي ..؟
قالت : ياولدي سأسرد عليك قصتي , وأسأل الله لك العافية وألا يريك مكروه .
سألتني : هل والداك احياء ..؟
أجبتها : نعم .
قالت : الله يحفظهم لك , أنا يا ابني لم أذق طعم الطفولة والحياة حيث تربيت يتيمة
عند أعمامي ذلك أن والدي توفى وعمري 10 سنوات ووالدتي توفت وعمري 12 سنة
وبقيت عند اعمامي وحينما بلغت من العمر 18 عاما زوجوني من أحد رجال قريتي
فأنجبت منه ابن وابنتين لكنه توفى الى رحمة الله ولم يبلغ أكبر أبنائي 15 عاما
وكافحت بعد موته في تربية أبنائي لكن العين بصيرة واليد قصيرة .
كنت أستجدي الجيران وأطلب منهم بعضاً من الدقيق وبقايا أطعمة ضيوفهم
أستعملها لتغذية أبنائي وأحرص أن احتفظ ببقايا الشحوم ومن ثّم استعمالها في بلال العشاء أو الغداء
وقد كبر ولدي وصار عمره 18 عاما فطلب مني السماح له بالسفر الى مكة
لعل الله يرزقه من واسع فضله وهكذا سافر ولدي وله سنتين بمكة .
وقد حضرت هنا حينما سمعت نداء أحد الأخوات من قريتكم تدعوني لمقابلة ولدي
عند حصن السقا وأنا أتيت لهذا السبب وسأنتظره هنا حتى غروب الشمس .
هل عرفت قصتي ياابني ..؟
أجبتها : نعم , وإذا لم يأتِ ولدك فأرجوك تذهبين معي الى بيتنا عند والدتي وتباتين عندها .
انهمرت دموعها فجأة وصاحبها أنين وزفير يرتجف له البدن ويصعق القلب والأعصاب
لمن كان له قلب حي , وعواطف ثكلى
وبينما الوضع كذلك وإذا بهذا الشاب القادم الى الخيمة من جهة الغمده
وهو مفتول العضلات حسن الهيئة والجمال قادم الينا من مسافة لاتتعدى الـ 50 متر
ويبدو أنه عرف والدته فقد صاح بصوت عالِ : يا أمه يا أمه يا أمه يا أمه
كان يحمل فوق أكتافه كيس مملوء كما أعتقد ببعض الحاجيات التي جلبها لأمه وأخواته
هرعت الأم مسرعة وهي تصيح : يالله حي ولدي عبدالله ودموعها ونواحها ينسمع من القرى
لقد شاهدت ذلك المشهد وأنا غير مصدق بتلك العاطفة من الأم وحنانها وصوتها الصارخ من الفرح النادر
وهو فرح الأم بسلامة ابنها .
ودعتهم بعد أن سلمت على ابنها ثم ضمتني الى صدرها بحنان وطلبت مني ابلاغ سلامها لوالدتي
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ..... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .