الموضوع: المعلامة
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2010, 11:01 PM   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
عضو فعّال
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
سعيد الفقعسي is on a distinguished road


 

المعلامة

الجزء التاسع:


السفر إلى مدينة الطائف أمنيه لايعادلها شيء ونحن في تلك المرحلة من العمر وكان بعض أهلنا في الجنوب مازالوا يقولون عن الطائف, ومكة, وجدة (الشــــام) وقد يطلقون على أهل هذه المدن مسمى (المكاكوة) نسبه الى مكة المكرمة كما يطلقون أهل هذه المدن كلمة (الحجز... حجازي) على أهل الجنوب عامة, ولقد رأيت – فيما بعد– في سجل قيد الطلاب الدارسين في المدرسة التي درست بها أمام كل اسم, الجــنــســيـــة: (حجازي) يا لسعادتي حين قرر والدي رحمه الله أن أسافر معه في سيارة لنا يقودها شقيقي (أحمد), وهي لوري موديل 1952م, فكان عمي (أحمد عقيل) يقيم في الطائف ويقتني عدد من السيارات ومعه عمي (عقيل) يرحمهما الله, كانوا ينقلون المسافرين الحجاج الى اليمن, والبضائع وصفيحات وبراميل والكاز إلى خميس مشيط وجيزان وصنعاء وكذلك ممن أعرفهم وأسمع عنهم في ذلك الحين (آل حجر, والمروة, وال ملّة, والعريكة, والعبيدالله, آل محفوظ, الرامي .... الخ) ثم تكاثرت الأسر والأسماء في كل قرية كبني جرّة وخيرة.....
قبل تلك الفترة بسنوات قليلة لا تصل السيارة إلى المنطقة (قرى غامد وزهران) فكانت تقف في (بطحان, بيدة), ويواصل المسافرون السير على الدواب, ثم شق طريقان عبر (عرق بني يسار في زهران) و(الصنة) في (بني عبدالله), وقد ساهم الأهالي من الجهتين في توصيل الطرق بجهود تعاونية مع الدولة, من أصحاب الأراضي التي فيها هذا الطريق الترابي, مع إسهام عدد من الرجال المتنورين ومن أصحاب السيارات الذين يقدرون أهمية شق الطريق إلى كل قرية, وأذكر منهم (سعد بن شيبان وأحمد عقيل) وبالتأكيد هناك رجال آخرون في زهران وغامد أسهموا في هذه المهمة التعاونية بتنافس وأريحية.


* * * * *
سافرت لأول مره عام 75 أو 1376هـ إلى الطائف في صبيحة يوم الاثنين (اليوم المعتاد في السفر) فكان معنا في السيارة عدد من الركاب المستأجرين عن طريق (عرق بني يسار) ثم (بطحان وبيده) ثم توقفنا في السويسية لتناول الغداء والعشاء والنوم في (شقصان) ثم وصلنا إلى مدينه الطائف اليوم التالي (الثلاثاء). كان الطريق ترابيا لا يخلو من عوائق رملية وحجرية وأودية, ومن شدة الشوق إلى رؤية مدينة الطائف.. كنت في كل مره اسأل والدي: (متى نصل الطائف)؟؟ فيحدثني أنه قد سافر عدة مرات على (رجله) مشياً أو على حمار أو جمل, فيقطعون المسافة في مدة (سبعة أيام) ولا يسافرون إلا جماعات خوفاً من مخاطر السفر وقطاع الطريق, وحين العودة يتزايد احتمال النهب والسلب, ومن لديه نقود كسبها من العمل يفضل أن يحولها إلى (جنيه ذهب) كنت أتشوق إلى هذه الحكايات والقصص الواقعية فأستزيده بإلحاح, فيقول:
(عملت في مكة المكرمة وهي المدينة المباركة التي يجد الناس فيها أعمالاً مختلفة وعلى الأخص في موسم الحج.. (صبياناً) في المنازل (لصغار السن) أو مع مطوفي الحجاج أو في دفع عربات السعي للحجاج أو حمل (الشبرية) في الطواف أو في السقاية والتحميل.. يقول: (ولقد عملت صبيا في دكان صائغ يسمى: (عبدالغني) وازددت مهارة ومعرفه بعد أن علمني (فرج).. مهنة الصياغة،وكسبت أجرا كثيراً, حولته إلى (جنيهين اثنين), وفي عودتي إلى الديرة/الحجاز, مررنا بالطائف, وجدناهم يبيعون الأراضي حول مستشفى الملك فيصل الحالي بسعر المتر (أربع قروش), وقد كان في مكان المستشفى حين ذاك (المجزرة) كان يمكن شراء مساحات شاسعة بمبلغ بسيط لكننا ورفاقي رفضنا مستنكرين على من يشتري أرضاً في ديرة غير ديرته!!).
يقول: (قررنا أنا ومن معي ممن لديه (جنيها ذهبياً) أن نقوم ببلعها مع حبة تمر أو طعام, ونفذنا ذلك, ونظل نبحث عن (الكنز) الذي في بطوننا كلما ذهبنا إلى الخلاء لئلا نفقده دون أن نشعر..., كنا متعاونين في السراء والضراء, ولا نسير على الأخص في السفر إلا جماعات ومتحزمين با السلاح, ثم يقول: يا الله لك الحمد اليوم أمان وطاعة رحمان.., ثم يعقب –يرحمه الله– وبأسلوب طريف قائلا : (كيف لو عشتم ما عشناه.. كان الواحد منكم مات من الجوع, أو هرب وخلى الجمل بما حمل لو بدا بادي أو عادي...) كان يحدثني يرحمه الله عن أشياء ومواقف عجيبة, وهي اليوم أعجب, ولا نكاد تُصدق أو يستوعبها جيل هذا العصر.. فيما يتعلق بعادات الزواج أو طريقة الختان. ومقاومة (النمور) في مناطق تهامة... يقول: نشأنا أيتاماً صغاراً ومكثت فترة أسكن مع خالي (هادي) في بيشة وكان ابنه (محمد) (نديدي)، وافتقد خالي (ربع قرش) فقال لنا (أنا وابنه): من أخذها؟ فحلف كل منا بالنفي، وأخيراً قال: والله لئن لم تعترفا (لألحسكما) وحين لم يصل إلى نتيجة، قام بتسخين سكين عريضة في النار حتى احمرّت، ثم بدأني فلحستها، فوالله لم أشعر بشيء بإذن الله _لأنني بريء_ وحين جاء دور ابن خالي انطلق هارباً، وكان هو الذي اختلس (ربع القرش)...
فينسيني بهذه الأحاديث سؤالي المتكرر عن الطائف ومتى نصل إليها؟! كنت متذمراً من طول السفر, بالرغم من حبنا لامتطاء السيارة وعلى الأخص حين نتسابق على الجلوس (فوق البرندة) وعلى السيارة (اللوري) مع ما نتعرض له من غبار واهتزاز وشمس وهواء شديد, وكأننا على كفوف الراحة والمتعة وذلك لحداثة العهد بركوب السيارات وقلة وجودها.
حين اقتربنا من ضاحية الطائف الجنوبية (ليّة), قال: والدي (مازحاً).. هذا هو الطائف.. فأخذت أشرئب متأملاً منازلها الصغيرة البيضاء, ونوافذها الجميلة, يحيط بها ألوان بيضاء أو زرقاء, وتكاد تغطي البيوت مزارع وبساتين كثيفة.. (كدت أصدق أنها الطائف) ثم توقفت السيارة, وطلب من الركاب دفع (الحساب) أجرة الركوب, وهي (أربعة ريالات عربي فضه), أو دفع عشرة ريالات ورقية (إصدار عام 1373هـ) مع دفع تكاليف طعام الغداء والعشاء بين الركاب المشتركين..
وصلنا الطائف ضحى اليوم الثاني, حين رأيت الطائف ــأول مره سافرت إليهاــ أحسست أنني في حلم كل شي بالنسبة لي غريب وعجيب ومذهل, تلهتم نظري المرئيات وأندهش أمام كل صغيرة وكبيرة.. المنازل بأشكالها وألوانها، المحلات والدكاكين.. المقاهي.. الناس وهيئاتهم, وأحاديثهم المختلفة عن فهمي أو ما اعتدت عليه في الكلام.. , وما أكثر أسئلتي التي لا تنقطع, حتى ذلك المنادي كل صباح بائع اللبن المتجول, اسمعه يقول: (.. بون.. بون) فأسأل والدي عن (بون.. بون) فيجيبني مبتسماً: هذا بائع اللبن يقول : ( لبن .. لبن ) ومع تنغيم نداء البائع فإنني أسمعها وأفهمها هكذا. وآخر ينادي (فريينيا.. فريينيا) بمعنى (ملابس فرقنا) والماء يأتي إلى منزل عمي بواسطة الزفة في برميل كبير يجره الحمار كنت أرافق والدي في جميع تحركاته, وعند ذهابه من حي الشهداء الذي يتوقف العمران بها قبل سوق ودكاكين (منشية خان با فيل) القائم الآن. فأرافقه إلى (سوق البلد) سيراً فأجد متعة في مشاهدة ما حولي, وتلك السيارات القليلة جدا والمختلفة الأشكال.., ويجيبني والدي –يرحمه الله– على أسئلتي المستمرة الساذجة أو المضحكة.
كان عمي أحمد عقيل يرحمه الله, لديه سيارة (فورد موديل 46) فأشعر بسعادة كبيرة حين أركب وأبناؤه معه, فيأخذنا مرة في كل أسبوع للتنزه إلى جهة المثناة قريباً من مسجد (عداس) ومسجد (الخبزة ), ويرافق عمي صديقه (عبدالرحمن مجحود) يرحمه الله.
نشاهد المزارع وبساتين العنب وأشجار السدر المحملة بالنبق على جانبي الوادي (وادي وج).
كان عمي أحمد حازماً مهاباً يخافه أبناؤه إلى درجة كبيرة ولا نسلم من عقابه لأي خطأ. وأتذكر حين قدم إلينا في الحجا/رغدان, وعلم بأنني وابنيه ذهبنا إلى الوادي الذي يتدفق بالمياه طوال العام, وسبحنا في بئر يسمى (بئر الحبل), مكثنا (نتشرّع في البئر) فترة طويلة, فعاقبنا بربطنا في المكان الذي تربط فيه الحمير في الساحة أمام البيت بجوار ( مذود الحمير) استنجدت بوالدي لينقذنا من هذا العقاب فردعليّ قائلاً: (تستاهلون..) ثم أطلق سراحنا بعد أن همس له والدي بإطلاقنا، فالزوار لا يكادون ينقطعون عن منزلنا لقضاء حاجاتهم عند والدي لصياغة حلي الفضة وصناعة الخناجر والسيوف وإصلاح البنادق وللاستماع إلى (ألرادي) المذياع الوحيد, الذي جلبه عمي معه من (الشام) الطائف ومكة. كان يجتمع الرجال والنساء من القرية للاستمتاع ومشاهدة هذا (الصندوق) الذي كنت أحسب أن الذين يتحدثون منه هم أناس بداخله..!
أذكر في تلك الرحلة إلى الطائف أو في سفره بعدها.. أن رجلاً من سكان الطائف حين راني برفقه والدي في طريقنا إلى (سوق البلد) نادي والدي قائلا: (.. الواد يجاود)؟ فأجابه والدي بالنفي ثم قال: هذا ما يجاود.. عنده شهادة سادسة. لم أعلم ماذا يعني بقوله (يجاود) و(الواد) شرح والدي كلام الرجل وهو يضحك: ( يعني تشتغل عندهم في البيت.. صبي.. وتكنس وتنظّف البزورة...) وسألته عن معنى البزورة؟
قال: ( السفان الصغار.. تنظفهم) وقهقه ضاحكاً، فما كان مني إلا أن غضبت من ذلك الرجل الذي يسأل والدي هذا السؤال، ويعتبر هذا السؤال عاديّاً من أهل مكة أو الطائف المتحضرين حين يشاهدون رجلاً من خارج المدينة يرافق ولداً صغيراً في العاشرة.
فكان أبي وعمي يمازحاني فيقول لي أحدهما: (.. ياواد تجاود..) فأنصرف غاضباً, ويضحكون مني..


يتبع .....................

 

 
























التوقيع

قال تعالى :
"ومن احسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين"

فصلت (33)


   

رد مع اقتباس