قهوة الناسك
من جديد الشاعر الكبير / علي الدميني
قد كنت أعرفني
وأدركُ أنني بابٌ بلا أبوابْ
قد كنت أعرفها
و أهجس أنها ماءٌ بلا أكواب.
قد كنت مكتفياً بحمائي
فما ألقيتُ بُردتي النديةَ، في شتاء القريةِ المطريِّ،
فوق جنونِ كفّيها
ولم يرني الصباحُ مضرجاً
ببياض خديها
وما سرَقَت عيوني من نداء عيونها
عشباً
يؤجُّ النار في أحطاب ليلتنا
وما سِلنا إلى الوديان
كالمطرِ الذي طرِبَتْ له الساحاتُ
و الطرقاتُ
منحدِراً إلى ظمأ الحقولِ
و شاحباتِ اللوزِ
و الشّيحِ اليماني.
لم أعطها ورقاً لتكتبني
ولا قدحاً لتشربَني
ولا مفتاح أدراجي لتسحرني
ولا نظارتي
حتى تراني.
لم أعطها
إسماً يلائمني
ولا صفةً تشابهني
لأني ناسكٌ في وحدتي
أسهو عن الدنيا
ويجهلني مكاني.
لم أهدها شجراً لتعلو فوق نافذتي
ولا شبكاً تصيدُ به العصافيرَ الصغيرة َ
قرب مشكاتي
و لا ريحاً لتعصفَ بيْ ،لأنّي
أخشى على قلبي من الحسناء :
إن رقَصَت ستأسرني
و إن جمَحَت ستكسرني
و إن هجَرَتْ
سيهطل جمر "وحشتها"
على شوق السريرِ
و في السلالمِ
و الأواني.
لم أعطها باباً لتطرقَهُ
ولا جرساً تعلّق فيه صورتها
ولا دَرَجاً يقود إلى رنين الصمتِ
في أطراف صومعتي، التي
علّقتها نجماً على باب السماوات البعيدة
حيث لا جنٌّ تؤانسني
ولا أنسٌ تشاغبني
ولا امرأةٌ تحلّ إزارها
بالقرب من نومي
ولا مطرٌ
يشاركني الأغاني.
لم أعطها شمساً تداعبني قبيل الفجرِ
حتى يصطلي جسدي بقبلتها
ولا " شالاً " تُجمّع فيه ألوان الغروبِ
لترسم الذكرى على طُرُق الطفولةِ
كيفما شاءتْ، وإني
يوم افترقنا ما التفتُ إلى نوافذها
و ما سرّحْتُ عيني صوب قامتها، على الباب الكبيرِ
وما مدَدْتُ أصابعي لحرائق التوديعِ ،
كنتُ محمّلاً بوعود أسفاري
و بالشوق الكفيف إلى مدائنَ لم تكن تشتاقها مثلي
وقلتُ:
لسوف يُشفيها الزمان من النوى
وأنا سيُشفيني الهروبُ.
لم أعطها شيئاً
و لم أترك لها أثراً يدلُّ دَمَ القتيلِ
على بقايا الإثمِ في كفيّ قاتلهِ،
و ما شَهِدَ الغريبُ على فراري من جنازتها
ولا انتبه القريبُ.
وأنا بعيدٌ في أعالي نجدَ
يُسكرني الصَّبا إن زاع من أطراف ديرتها
و تُنكرني السهوبُ.
قد كنت أعرفني
وأعلم أنني عنبٌ بلا أعنابْ
و أنا طريدٌ في بوادي نجد، أنسى أنني قد كنتُ أعرفُها،
فكيف غدوتُ فنجاناً لقهوتها
وصرتُ - لمائها - الأكواب؟
فبأي حزنٍ أبصرَتْ ظلي
يفرُّ مكللاً بهزائم الأسفار
من جبلٍ إلى رملٍ
ومن أفقٍ إلى شفقٍ
و خيمتُه الهُبوبُ؟
و بأي سرٍّ أشعلت مصباح بسمتها على بابي،
وحلّت في ضباب العمرِ، بين يباس أمتعتي
لتوقدَني نواقيسُ البريدِ
" بطيفِ صورتِها "،
و تقتلـَني الذنوبُ!!
الظهران 2012/ 2013م